إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

حياة القديس أنطونيوس البدواني – الجزء الثالث

0 1٬137

الفصل الأول:

في رحيله عن بادوا وذكر موته السعيد

يقول سيدنا يسوع المسيح له كل المجد “كونوا مستعدين لأنه يأتي ابن البشر في ساعة لا تعلمونها” (متى 44:24)،. أي ساعة الدينونة ساعة الموت التي عليها تتوقف سعادة الإنسان أو تعاسته الأبدية.

هذه الوصية الإلهية نادرًا ما يستمع إليها محبوا العالم وشهواته وملذاته، أما أصحاب التقوى والعبادة فيرحبون بها لأنها تطلقهم من “جسد الموت هذا” ( رومية 24:7)، و”تريحهم من سائر أتعابهم” (رؤيا 13:14).

هذا السهر والاستعداد لتلك الساعة الأخيرة يزداد أضعافًا إذا ما تعطف الخالق فأوحى إليهم بوقت رحيلهم عن هذا العالم، فعندئذ يبلغ تجردهم من حطام هذه الدنيا ومن زخرفها الكاذب درجته القصوى.

من جملة هؤلاء المغبوطين الموحى إليهم من لدن الله الرؤوف بيوم نجاتهم من هذه الحياة الموجعة كان قديسنا أنطونيوس البادواني، وعليه فاستعدادًا كليًا منه لتلك الساعة الأخيرة رأى أن ينقطع عن الكرازة في شهر آيار “مايو” فيلحق بإخوته الرهبان المقيمين في منسك كمبوسبنيارو غير البعيد عن بادوا، ليعيش أيامه الأخيرة في زهد ونسك وسيرة روحية.

ولكي يتم ذلك مع ثواب الطاعة المقدسة كتب رسالة بهذا المعنى إلى الرئيس الإقليمي يستأذنه فيما قصد أن يفعله، ثم أقبل إلى الدير فسأله أن يسمح له بإرسال مكتوبة إلى رئيس الأقليم، فلم يرفض وطلب أن يحضره حتى يرسله بنفسه … على أن بقية القصة أعجوبة جديدة في الأيام الأخيرة لقديسنا الحبيب.

ذلك أنه ما أن رجع مار أنطونيوس إلى حجرته، لم يجد رسالته فظن أن الله تعالى غير راض عن مغادرته بادوا. وعليه فقد عاد إلى رئيسه يعتذر إليه ويقول له أنه ما من حاجة في الوقت الحاضر إلى إرسال الرسالة. لم تمض سوى بضعة أيام وفيما هو داخل إلى حجرته، أبصر رسالة في الموضع الذي كان قد ترك فيه رسالته الأولى، وعندما فض خاتمها، وجدها من الرئيس الإقليمي يأذن له فيها بالذهاب إلى منسك كمبوسبنيارو والإقامة به.

كانت تلك الحادثة المعجزية مردها إلى ملاك الله الذي حمل الرسالة وجاء بردها، إكرامًا للقديس الذي طالما تغنى بالفضائل الملائكية وأوشك أن يلحق بهم في المظال الأبدية.

فلما نال الأب أنطونيوس الإجازة من رئيسه، وعيَّد عيد العنصرة الواقع عامئذ في 11 آيار “مايو”، خرج خفية من بادوا إلى المنسك المشار إليه، بصحبة رفيقيه لوقا ورجريس، فكان لقدومه هناك فرح شامل للرهبان والكونت تيزون السابق الإشارة إليه.

وفي اليوم الثاني أو الثالث لوصول مار أنطونيوس ورفيقيه أبصر قديسنا في وسط غابة قريبة شجرة جوز عملاقة راقت له كثيرًا وقال أمام إخوانه الرهبان يا ليت لو تسنى عمل كوخ علي فروعها الضخمة.

والشاهد أن الرهبان أبلغوا الكونت تيزون برغبة قديسنا، فبادر في الحال إلى تنفيذ ثلاثة مساكن أو أكواخ على تلك الجوزة، الأول هو الأعلى والأكثر إتقانًا لمار أنطونيوس والاثنان الآخران في موضع تالي لرفيقيه.

لما رأي القديس أنطونيوس هذا العمل أثنى على تقوى الكونت تيزون ومحبته، ثم لجأ إلى هذا المنسك – الكوخ الغريب الشأن المنقطع النظير فيما بين مناسك أهل الزهد والرهبان. فلزمه ليله ونهاره لم يكن يتخلف عنه إلا للضرورة القصوى، ولهذا قال عنه أحد معاصريه من كتاب سيرته “إن عيشته كانت أحرى بأن تدعى ملائكية لا بشرية، فهنا كان مسكنه الأخير في هذه الأرض المتدنية، وهنا أعرب بفعل إرتقائه إلى هذه الشجرة وتخليه فيها عن متقد تشوقه وتقربه إلى المنازل السماوية”.

على أنه وقبل موته بخمسة عشر يومًا وفيما هو على تلة تشرف على مدينة بادوا، سرح بطرف نظره وإمارات الفرح تلوح على محياه، فأثنى عليها كثيرًا، وحياها بالسلام مرارًا مستدعيا لها الخيرات والبركات.

ثم التفت إلى رفيقه الطوباوي “لوقا” فقال: “إن بادوا لتجوز عن قريب كرامات عظيمة”. ثم سكت ولم يضيف إلى ذلك أي جملة أخرى، غير أنه في أعقاب موته ونقل جسده إلى بادوا فطن الطوباوي المذكور إلى تلك الكلمات فعلم أن الكرامات التي سبق معلمه القديس فأخبره إياها ليست  هي إلا ذخيرة جسده الطاهر، وضريحه المتلالئ بالعجائب التي لا عدد لها، الضريح الذي يؤمه إلتماس بركات ونعم أناس من كل بلدة ومقام، وهو الذي طوق جيد بادوا بمجد لا يذوي وفخر لا يزول له.

لم تكن تلك النبؤة تختص بمستقبل بادوا فقط، ولكنها دلت أيضًا على أمر آخر قد توخاه مار أنطونيوس وأشار به إلى رفيقه المذكور، وهو قرب أجله ودنو إنتقاله من هذه الحياة الفانية. فإنه بعد أيام قلائل من ذلك الحديث لما نزل إلى المائدة للطعام مع إخوته الرهبان، لم يشعر إلا وتخازلت رجلاه، وخارت قواه، فتداركه الرهبان حالاً، وأخذوه إلى حجرته وألقوه على الفراش.

لم يشاء مار أنطونيوس أن يثقل على رهبان الدير فهم بالانصراف مع رفيقيه إلى دير العذراء في بادوا، وإذ شعروا بالحزن لذلك، ورغبوا في خدمته، إلا أنه شكرهم وودعهم، لكن قبل ان يصل إلى هناك قابلهم راهب جاء خصيصًا لمداواة مرضه، وأشار عليه بالذهاب إلى دير الأرشلا القريب والبعيد عن ضوضاء العالم، بعكس دير العذراء في بادوا القريب من المدينة، حيث المريدين لمار أنطونيوس سيأتون ولا شك لزيارته، ما يزعج وحدته، وقد لقي هذا الكلام استحسانًا عند قديسنا الحبيب فاستمع من فوره لنصيحة الأخ الراهب.

بعد مدة وجيزة إنفرد الأب أنطونيوس بمرشده، فاعترف عنده ونال من لدنه الحل، ثم جعل يرتل نشيد العذراء التي تراءت له في تلك الساعة بحسب كتاب سيرته، وبدأه بالقول: “أيتها السيدة المجيدة، وباللاتينية  “يا أمجد العذارى”. بعد أن فرغ قديسنا المجيد من ترتيل هذا النشيد المريمي، رفع عينيه إلى السماء، فلبث هادئًا صامتًا، شاخص البصر مدة غير قليلة، يُبدى فيها البشاشة والحبور مرة والدهش والتعجب أخرى، حتى إنذهل كل من كان هنالك من الرهبان إخوته، وخصوصًا الراهب الذي كان يسنده بذراعيه، وسأله “هل تشاهد شيئًا يا أبت” فأجابه مار أنطونيوس نعم “إني لمشاهد سيدي”. فلقد شاهد ولا غرو حبيب نفسه الذي جاء في تلك الساعة ليدعوه إلى عشاء عرسه السري، في ملكوته الأبدي.

ولما أشتد المرض على الأب أنطونيوس، قام الرهبان فأتوه بزيت المسحة المقدسة التي قبلها بورع وتقوى، ومن ثم جمع يديه على صدره فجعل يتلو مع إخوانه الرهبان مزامير التوبة إلى آخرها، حتى إذا احتضر نحو نصف ساعة، وكان احتضاره صلاة سامية واتحادًا وثيقًا بخالقه، إنفكت روحه الطاهرة من قيودهاالجسدية، فطارت إلى بارئها مركزها الوحيد ومنتهى كل رغباتها، في يوم الجمعة نحو المساء في الثالث عشر من حزيران “يونيه” سنة 1231م، وهو بالغ من العمر ست وثلاثون سنة إلا شهرين ويومين، خمس عشرة سنة منها قد مضت عليه في لشبونة عند أبويه وفي المدرسة، وسنتان عند الرهبان الأغسطينيين في دير مارمنصور في تلك المدينة، ونحو ثماني سنين في قلمرية بدير الصليب المقدس. وما بقي من عمره وهو عشر سنوات وعشرة أشهر وثلاثة عشر يومًا، فقد إنقضت وهو  راهب فرنسيسكاني.

أما عن شكل مار أنطونيوس فكما وصفه الاقدمون، ليس بالطويل ولا بالقصير، وقد كان مكتز البنية لا سيما في آخر حياته بسبب داء الاستسقاء الذي أصابه، ولونه كما عموم البرتغاليين مائل للسمرة، حاضر الطلعة، لم ينظر إليه أحد إلا توسم فيه رجلاً طابت صفاته، وخلصت نواياه، دائري الوجه، رحب الجبهة، عيناه كلسانين ناطقين، حسن الرواية، طيب المحاورة، دائم البشر، غير ضاحك، بل ظاهر الحياء، وافر الحشمة.

ومن وقت وفاته حتى خمسة أيام لدفنه، سرج الله وجهه فأبيض لونه حتى أضحى أبهى منظرًا وأحسن شكلاً. قسيمًا وسيما في الغاية. وقد خيل لمن نظره كأنه نائم لا ميت، وأعضائه كأنها لحي.

وقد كان ذلك ولا شك إشارات سماوية لنفسه المغبوطة التي لبست حلة المجد في السماء وأخذت تفرح بفرح ربها وتتمتع به تمتعًا بلا إنتهاء.

فسلام الله عليك أيتها النفس المجيدة السعيدة أنت التي وإن لم يتح لها الانفصال عن جسدها بواسطة الاستشهاد الذي طالما رغبت فيه وسعت وراء مجده، فإنك أعطيت علاوة على ثوابه استشهادًا غير دموي، استشهادًا روحيًا متواصلاً مدة غربتك فأنشأ لك ثقل مجداً أبديًا لا حد لسموه.

رحل الأب أنطونيوس عن عالمنا ولسان حاله يقول “فلتمت نفسي موت الصديقين، ولتكن آخرتي كآخرتهم” (العدد 10:23)، غير أن أمجادًا كثيرة ومعجزات وفيرة صنعها قديس العجائب بعد موته، ولا يزال حتى ساعتنا هذه.


الفصل الثاني

في الآيات التي جرت عقب وفاة الأب أنطونيوس

في الساعة التي انتقل فيها الأب أنطونيوس إلى ربوع السعادة الخالدة تراءى للأب توما دي فرشلي أحد معلميه اللاهوتيين وأصدقائه الأصفياء، وقصة ما جرى أن قديسنا قد دخل فجأة إلى حجرة معلمه توما فسلم عليه قائلاً: “هأنذا قد غادرت مسكني بقرب بادوا. فانطلق إلى الوطن”. ومع قوله هذا لمس بلطف حنجرة المعلم صديقه فشفاه للحال من مرض كان به.

وفجأة كما ظهر إتجه صوب الباب ليتوارى سريعًا عن الأنظار، فقام الأب توما وراءه حزينًا لقصر زيارته له، وأخذ يسأل رهبان ديره والعاملين هناك عنه، فقالوا جميعًا إننا لم نر قط راهبًا فرنسيسكانيًا دخل اليوم الدير أو خرج منه. عندها أدرك الأب توما معنى كلام صديقه القديس، ومنهم أن ظهوره له إنما جاء في أعقاب رحيله عن الأرض. وإن المسكن الذي تركه بجانب بادوا ليس هو الدير بل جسده. كما أن الوطن الذي انطلق إليه إنما الوطن السماوي لا البرتغال ولا لشبونة وطنه الأرضي.

وفي تلك الساعة عينها جرت أيضًا آية نادرة لطيفة في مدينة بادوا، روى خبرها مؤرخو حياة مار أنطونيوس بأسرهم، وهي أن رهبان أرشلا قد أجمعوا فيما بينهم على عدم إذاعة خبر موت القديس أنطونيوس خوفًا من تدفق الناس على ديرهم وسلبهم راحتهم. غير أن الله تعالى كانت له طريقة أخرى في إعلان موت قديسه وتمجيده بطريقة غير مسبوقة، إذ أخذ صبيان وأطفال مدينة بادوا يجوبون المدينة فرقًا فرقًا ويصيحون قائلين: “مات الأب القديس … مات القديس أنطونيوس”. عندها ترك الأهالي أعمالهم، وهرعوا على الفور إلى دير الأرشلا، وللفور عهدوا إلى شبابهم بحراسة الدير خوفًا من أن يوخذ جسد القديس فيذهب به إلى موضع آخر.

كان المشهد مثيرًا، جماهير غفيرة، رجالاً ونساءًا، شبابًا وشيوخ، السادة مع التابعين، والجميع يبكون “أبا بادوا ومعلمها وملاذها، ذلك الذي ولدهم بكرازته ليسوع المسيح المخلص الصالح”.

كانوا يبكون ويتنهدون … إلى من تركتنا، ومن يقوم مقامك في وعظنا … من يهتم بشؤوننا الروحية من بعدك … أنظر أيها الأب الحبيب إلى شعبك، وأذكر تعلقهم بشخصك وحبهم لك … استمد لهم العزاء من الله تعالى، والبركات من لدن الرب القدير، الذي أنت الآن ناظره ومالك معه إلى أبد الدهور.

وقد جرى خلاف بين الأهالي والرهبان حول مكان دفن جثمان قديسنا العجيب، كان الأهالي من حول دير الأرشلا يريدون أن يظل جثمانه هناك، والرهبان يقولون بأن مار أنطونيوس كان يود أن يدفن في دير العذراء في مدينته بادوا.

على أنه ما من أمر قد حسم الخلاف إلا وصول الرئيس الإقليمي الذي تحدث أمام الجمع قائلاً: “لا يخفاكم أيها السادة أن الأب الفقيد قد أبدى إرادته قبيل موته في أن ينقل جسده باعتبار الطاعة المقدسة التي نذرها لرؤسائه كانت إذ ذاك ولا تزال حتى هذه الساعة منوطة بإرادتنا. وعليه فنحن نطلب ونريد أن يترك لنا جسده وينقل إلى كنيستنا التي هي في هذه المدينة”.

فللوقت حكم أسقف المنطقة بلا تردد لصالح الرئيس الإقليمي وأمر أن تجرى كل الأمور في هذا الشأن طبقًا لرغبته، وأعلم بذلك حاكم المدينة ليسهل نقل جثمان قديسنا الحبيب إلى كنيسة القديسة العذراء في بادوا.

وفي الغذ أي يوم الثلاثاء وهو اليوم الخامس لوفاة الأب أنطونيوس أتى إلى دير الأرشلا الأسقف وجميع الإكليروس وأهالي المدينة، وبعد أن رفعوا الجسد بموجب الطقوس المقدسة، وقف القوم في صفوف منتظمة، ينشدون النشائد والألحان والتسابيح الروحية، ويرتلون المدائح الإلهية، متهللين تهلل القائمين في عيد مبهج لا في قائم مفجع.

كان حاملو نعش قديسنا العجيب من أمراء المدينة وأشرافها يتراوحون حمله كل منهم بحسب رتبته، وهم جميعًا يحسبون ذلك شرفًا لهم باذخًا، ونعمة سابغة.

مر الموكب على الأحياء والقرى المجاورة التي كانت تريد أن يدفن القديس من حولها في سلام، ومنها إتجهوا إلى مدينة بادوا التي كانت بمثابة شعلة نار من الشموع الموقدة الفائقة العدد المحمولة لا من البادويين فقط، بل من كل جماهير المؤمنين المتقاطرين من القرى المجاورة لبادوا.

وحال وصولهم إلى كنيسة القديسة مريم، أقام الأسقف قداسًا احتفاليًا على نفس المتوفي، ثم وضع الجثة في ناووس من مرمر قديم العهد جدًا قائم على أربعة أعمدة من رخام وقد أكتشف بطريقة عجيبة، وتشير كتابات القدماء والمحدثين إلى أن صناع هذا الناووس هم الشهداء الأربعة المعروفين “بأربعة الشهداء الملكيين”. وأسماؤهم: “سفروس، وسفريانس، وقربوفوس، وفكتورينس”. وهم جميعًا إخوة أشقاء يقع تذكارهم وعيدهم في 8 تشرين الثاني “نوفمبر”، وقد ظفروا بإكليل الاشتشهاد في عهد الإمبراطور الروماني المضطهد لبيعة الله دقلديانوس، أي نحو ألف سنة قبل موت مار أنطونيوس. ولا يزال هذا الناووس قائمًا في كنيسة مار أنطونيوس في بادوا ويطلق عليه الأهالي هناك “أركا دل سانتو” أي “ناووس القديس”.

الفصل الثالث

في التكريم الذي أظهره المؤمنون للأب أنطونيوس بعد وفاته

لم يذكر لنا التاريخ يومًا من الأيام سواء كان في حياة مار أنطونيوس البادواني أو بعد موته تعطف فيه الرب القدير على تعظيم شأن هذا القديس بكثرة العجائب وضروبها، كاليوم الذي جرت فيه حفله دفنه، يوم الثلاثاء السابع عشر من حزيران “يونيو” سنة 1231م.

ذلك أنه في هذا اليوم توافد على الكنيسة التي تقام فيها الصلوات على جثمانه أعداد غفيرة من المصابين بالأمراض المتنوعة، فنالوا عن آخرهم وبسرعة تمام الشفاء باستحقاقات الأب أنطونيوس، فكان كل مريض تمكن من لمس الناووس المتضمن جسده، يرتد معافي البدن سليم النفس، وأما أولئك الذين لم يقدر لهم دخول الكنيسة من فرط الازدحام، وظلوا هناك في الخارج، شفيوا أو برئوا بدورهم كما جرى مع الذين داخل الكنيسة، فالأعمى عاد بصيرًا، وأنفتحت مسامع الأصم، وإنحلت لسان الأبكم.

وهناك تشددت ساقا المقعد ورجلاه فوثب وقام وطفق يمشي، ومن هناك أيضًا عاد إلى ذويه صحيحًا، فرحًا مسبحًا الله وشاكرًا لقديسه من كان مبتلى بداء المفاصل، أو كان ذا عرج، أو به حدب، أو حمى، أو غيرها من الأمراض والأوجاع.

كانت تلك المعجزات والعجائب مدعاة لأن يمجد الله في قديسيه كل ناظر، ومن يستمع إلى أخبارها كبيرًا كان أو صغيرًا، ما أنعش التقوى في الرجاء في قلوب العباد، ودعت إلى تكريم صاحبها، فتقاطرت الألوف من حول العالم إكرامًا له، وقد كان أهل المنطقة التي يقع بها دير الأرشلا حيث فاضت روحه في مقدمة مكرميه، وأبدوا خشوعًا وتقوى ومثالاً صالحًا لغيرهم من المؤمنين إخوانهم.

ذلك أنهم بعد أن اصطفوا بأحسن ترتيب ورفعوا راياتهم وبمقدمتها الصليب المقدس، سارو هم وكهنتهم وجميعهم حفاة مطأطى الرؤوس، ناظرين بأبصارهم إلى الأرض، ظاهري التواضع والخشوع، وعيونهم مغروقة بالدموع إلى أن وصلوا إلى كنيسة القديسة مريم حيث جسد الأب أنطونيوس كان مسجى هناك.

لم تنقطع زيارات أهالي مدينة بادوا إلى كنيسة العذراء هناك وكنت في بعض المرات ترى أسقف المدينة واكليروسه وجموع غفيرة من الأهالى، ومرات أخرى ترى سائر رهبان المدن والقرى التابعة للأبرشية وهم لابسو ثياب الصلوات الطقسية، في طريقهم لزيارة ناووس الأب أنطونيوس، أما أساتذة مدرسة بادوا وطلابها فقد ساروا حفاة من كليتهم بترتيب وخشوع يترنمون بالأناشيد الدينية ببهجة الروح وبالغ الورع إلى أن وصلوا إلى الكنيسة، وهم حاملون تقدمة تكريمهم عبارة عن شمعة ضخمة طويلة جدًا كانت توازي في ارتفاعها ارتفاع سقف تلك الكنيسة، فاضطروا إلى قطعها ونصبوها أمام ناووس القديس.

وبما أن المسيحيين قد اعتادوا أن يأتون بشموع موقدة يحملونها بأيديهم في مسيرتهم لزيارة ضريح مار أنطونيوس، كانوا إذا وصلوا إلى الكنيسة المكتظة دائمًا بسبب الجموع يتركونها خارجًا فتشتعل هناك على الجدران، مضيئة ومرتبة بأحسن منظر، وعلى ضوءها يحيون الليالي بالصلوات الحارة والترانيم الخاشعة.

ومما يدعوا إلى العجب تواصل تلك الزيارات الإحتفالية وتواتر التقدمات والنذور، وإقامة الصلوات نهارًا وليلاً بلا اكتراث لشدة الحر أو قساوة البرد.

وإنما كانت كل إماتة ومشقة وعناء شيئًا زهيدًا بجوار النعم والمواهب التي كان شفيعهم مار أنطونيوس يقابلهم بها من لدن مراحم الله تعالى بواسطة العجائب التي تجري هناك.

هل أقتصر تكريم مار أنطونيوس على بادوا وما جاورها فقط؟ بالقطع لا فقد تعداها كلها بسرعة، فاجتاز إلى البندقية ولومبارديا، وكافة أقاليم إيطاليا، ثم إلى المانيا، وبولونيا، والمجر وغيرها من المدن الأوربية، فكان الجميع يأتون كحجاج للتبرك بضريحه، وإلتماسًا لخير حمايته، حتى لم يعد الكهنة يتوقفون عن سماع اعترافات الزوار الكبير عددهم. ومن الأمور غير العادية التي تحقق وقوعها غالبًا هنالك هو أن المرضى الذين كانوا في حالة الخطيئة المميتة، لم يكونوا ينالون الشفاء إلا بعد تقدمهم إلى منبر التوبة المقدس ونيلهم الحل من خطاياهم.

وعلى هذا النحو كان قديسنا الحبيب يؤتيهم وافر الخيرات في نفوسهم وأجسادهم، وفي زمنياتهم وروحياتهم، وفي هذا كله كان يعلي من شأن المذهب والإيمان الكاثوليكي في أعين أضداده أنفسهم بكثرة معجزاته الباهرة

الفصل الرابع

في السعي إلى إعلان قداسة الطوباوي أنطونيوس البادواني

بعد مرور أقل من شهر على وفاة مار أنطونيوس كانت العجائب والمعجزات التي نالها المؤمنون بشفاعته دافعًا قويًا لأعيان مدينة بادوا وشعبها وأسقفها لأن يطلبوا من الحبر الروماني، خليفة القديس بطرس، نائب المسيح على الأرض، إعلان قداسة الطوباوي أنطونيوس.

لهذا الغرض جهزوا وفدًا وأرسلوه إلى المدينة الخالدة روما، فوصلوا خلال أيام قلائل، وهناك التقوا البابا غريغوريوس التاسع وأعلموه بغاية حضورهم وسلموا إليه طلبهم، فرحب بهم كثيرًا، وسر لمسعاهم وغيرتهم، لا سيما وأنه كان قد بلغه قبل وصولهم إلى روما خبر العجائب والمعجزات التي كان صفي الله أنطونيوس يصنعها كل يوم، وما كان يظهره مؤمنو تلك الجهات من مظاهر التكريم والإجلال.

لم يلبث الحبر الأعظم أن التقى بأمراء الكنيسة الكرادلة وقد أخذوا معًا يقرأون ما كتبه أهالي بادوا ويبحثوا فيما اشتملت عليه أوراقهم، وقد رأى البابا ومعاونوه أن يوكلوا دعوى تفويض إعلان قداسة الطوباوي أنطونيوس إلى لجنة تؤلف من ثلاثة من الإكليروس الذين أشتهروا بعلومهم وفضائلهم. وهم السيد يعقوب كزادو أسقف بادوا، والأب فرساتى رئيس رهبان القديس مبارك في هذه المدينة، والأب يوحنا دي فنشنسا رئيس رهبان القديس عبد الأحد في البلدة نفسها.

التزم الآباء الثلاثة بأوامر الحبر الأعظم، وقبل أن تمضي عليهم سبعة أشهر أنهوا العمل الذي أنتدبوا إليه. فجمعوا كل ما أقتضى من الشواهد بشأن سيرة الأب أنطونيوس العجائبي والمعجزات التي صنعها بعد موته. وذلك بعد تدقيق الفحص، والتقصي البالغ حول الأحداث، وعبر لقاء رجال ونساء حصلوا بشفاعة قديسنا على معجزات حقيقية، وبعد أدائهم اليمين القانونية، غير مهملين ولا شك ظروف المكان الزمان وهلم جرا، وقد كتبوا تقريرًا شافيًا وافيًا وأرسلوه إلى الحبر الأعظم.

لم يكتف أهالي مدينة بادوا بهذا فقط، لكنهم جددوا طلبهم عند الحبر الأعظم مرات متجددة، لكي يعلن بسلطانه الرسولي قداسة شفيعهم في أقرب وقت، واستمرت زيارات الإكليروس والمؤمنين إلى روما، ومصحوبة ذات مرة بشهادة اثنين من كرادلة الكنيسة المشهود لهم بالتقوى والإيمان وهما الكاردينال أتون بيانك دي اليرانو، المعروف بكبير الكرادلة، والكاردينال يعقوب دي بكورايا، وكانا قد عرجا على بادوا وشاهدا العجائب التي كان يصنعها الله عز وعلا بشفاعة قديسه أنطونيوس.

لما أطلع البابا على كل تلك الرسائل عقد مجمعًا من الكرادلة فوض فيه فحص العجائب التي كتبها وأثبت حقيقتها وفد البابا الثلاثي السابق الإشارة إليه، وقد كلف البابا الكاردينال “يوحنا دي ابفيل” أسقف سابينا، فإنكب هذا الكاردينال المفضال على النظر في هذه الدعوى، وبعد بالغ التروي والتقصي أنهاها على ما أمكن من السرعة، مما جعل وفد مدينة بادوا يشعر بالسرور لغيرة الكاردينال وهمته.

وفيما كانوا على يقين من بلوغ غايتهم والحصول على ثمرة مساعيهم وأتعابهم، إذ قام أحد الكرادلة وكان معلمًا بارعًا معروف عنه مهاراته البارعة العلمية والفكرية، ومشهور باستقامة سيرته، فعارض كل المعارضة تعجيل المناداة بالأب أنطونيوس قديسًا.

كان سبب اعتراض الكاردينال المشار إليه هو أنه لم يمض عام واحد على وفاة الأب أنطونيوس وإعلان قداسته على هذا النحو لهو أمر مخالف لتقاليد الكنيسة المقدسة.لكن الله عز وجل لما أحب أن يمجد عبده عاجلاً لا آجلاً، وهو الذي بيده سبحانه قلوب بني البشر، فيغير متى شاء أفكارهم ومقاصدهم بدون إختيارهم، قد رأى ذلك الكاردينال رؤيا عدل من جرائها عن رفضه المسبق.

في  ذلك الوقت قال الكارادلة بإجماع الرأي: “أنه لا يليق بنا، يا صاحب القدسة، أن لا نؤدي على هذه الأرض كل ما ينبغي من التكريم والتبجيل للأب أنطونيوس الكلي الطوبي، الذي تعطف رب الجلال فآتاه إكليل المجد والكرامة في ملكوته، وأضافوا أن القول بأن تلك المعجزات التي جرت على يديه وبعد موته خديعة، ليس إلا ضربًا من الحسد من قبل البعض، ويعني رفض آداء الكرامة إلى مناقب قديس الله الذين هم أحقاء بها.

وبذلك أجتمع الحضور على رأي واحد، وعين الحبر الأعظم عيد العنصرة والواقع في الثلاثين من آيار “مايو” من تلك السنة 1232، لإعلان قداسة الأب الطوباوي أنطونيوس البادواني، وإدراج اسمه رسميًا في سجلات قديسي الله في كنيسته المقدسة.

في ذلك الوقت كان البابا وسائر أعضاء ديوانه في مدينة “أسبولاتم” إحدى مدن مقاطعة أومبريا الإيطالية، وفي عيد العنصرة دخل كاتدرائية المدينة المليئة بأهالي البلدة ومن سواهم من مسيحي تلك المقاطعة ليشهدوا إعلان قداسة الأب أنطونيوس، وإذ جلس الأب الأقدس على كرسيه، وقام على جانبيه كل حسب رتبته من لفيف الكرادلة والمطارنة والسادة الإكليروس، وكلهم بملابس الخدمة الكنسية، تقدم وفد مدينة بادوا وطلبوا إلى البابا المناداة بالأب أنطونيوس قديسًا، فابتهل الحبر الأعظم إلى الرب والتمس أنواره الإلهية ليستضئ بها في إعلان هذا الحكم المهم للغاية. ثم تليت بصوت عال صحيفة المعجزات التي ثبتت حقيقتها وقد صنعها عبد الله أنطونيوس، فوقعت في نفوس الحاضرين موقع العجائب والفرح معًا.

وإذ فرغ من تلاوتها قام نائب القديس بطرس، خليفة المسيح على الأرض عن كرسيه، فرفع ذراعيه نحو السماء، واستغاث بالثالوث الأقدس، ثم أدرج وعلامات الفرح ظاهرة على وجهه الأب الكلي الطوبي أنطونيوس في مدرج القديسين، تكريمًا وتمجيدًا لله الأب والابن والروح القدس، وإعلاء لمنارة الكنيسة الكاثوليكية.

ثم رسم الحبر الأعظم أن يقام له عيد في الثالث عشر من حزيران “يونيو” من كل عام، مانحًا غفران سنة لمن زار في ذاك النهار ضريحة بعد الاعتراف والتناول.

وفيما رتل الحضور تسبحة الشكر أخذ الحبر الأعظم يرتل الأنتيقونة الشهيرة ”Doctor optime” “أيها المعلم الفاضل”. ثم شفعها بالصلاة الخاصة بمار أنطونيوس وبعد أربعة أيام أرسل ببراءة إعلان القداسة إلى المطارنة والاساقفة ومن سواهم من السادة والرؤساء الكنسين، وأوصاهم جميعًا بإنعاش روح التقوى والعبادة في قلوب المؤمنين رعاياهم وحثهم على تكريم هذا القديس الجديد، واحتفالهم بعيده كل سنة.على أنه في ذلك اليوم جرى أمر عجيب في مدينة لشبونة مسقط رأس قديسنا العجيب، ذلك أنه رغم بعد المسافة الشاسع ما بين البرتغال وبين إيطاليا حيث يجرى إعلان قداسة الأب الطوباوي أنطونيوس، إلا أن أجراس الكنائس والكاتدرائيات في ذلك اليوم أخذت تقرع بأصوات مطربة دون أن تلمسها يد إنسان، وشعر أهالي لشبونة بحالة من الفرح والسرور غير العادي وبدون سبب في ذلك النهار، وقد أخذ الجميع الذهول مما يجري من خوارق من حولهم.

على أنه بعد فترة زمنية ليست بعيدة وردت إليهم رسائل بشأن القديس مواطنهم، وجاء وفد من الرهبان الفرنسيسكان من إيطاليا، فأخبرهم أنه في ذلك اليوم أعلن في بيعة الله اسم الطوباوي أنطونيوس قديسًا، فازداد فرحهم وانتعشت تقواهم، وشكروا الخالق سبحانه الذي شرف مدينتهم بهذا المجد العظيم، وأقاموا القديس الجديد مثالاً كاملاً لهم في التقوى والفضائل المسيحية وشفيعا خاصًا يقصدونه، في حاجاتهم الروحية والزمنية. أما وفد مدينة بادوا فبعد أن شملهم السرور وعمتهم البهجة بما رأوا وسمعوا في تلك الأيام، فبعد أن أعربوا عن خالص شكرهم للحبر الأعظم نيابة عن سكان بادوا، ونالوا بركته الرسولية، عادوا إلى مدينتهم، وقصوا على سكانها ما جرى من تكريم لهم واحتفاء بهم، حتى إعلان قداسة عبد الله أنطونيوس.

عند ذلك ازدادت مشاعر البهجة بين البادويين، وأخذوا بمزيد من الهمة والنشاط في الاستعداد لاستقبال يوم الثالث عشر من حزيران “يونيو”، ذلك لأنه كان التذكار السنوي الأول لقديسهم العجيب، وبذلوا كل جهد يؤول لإكرام القديس وزيادة ذلك العيد سناءً وبهجة.

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد