إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

علم اللاهوت الرعوي (10): رعوية الواقع

0 1٬618

التوافقية (رعوية الواقع)

أنا هو الراعيّ الصّالح” (يو 1: 1). بهذا العنوان خاطب السيّد المسيح الرسل والجموع، والذي عبّر من جديد وبطريقة مختلفة، عن اهتمامه وحضوره وعنايته ورعايته للإنسان على مثال أبيه، الراعي الأعظم كما رأينا في تحليلنا للمزمور 23. هذا التأكيد “أنا هو الراعيّ”، ما هو إلاّ تثبيت لقدرة ابن الله المخلّص، الذي بذل ذاته من أجل أحبّائه. وهذا الشعار تحقّق وما زال في تجدّد دائم من خلال حضور المسيح المستمر وروحه القدّوس. هذا العنوان، هو ركيزة ومحور العمل الراعويّ للكنيسة؛ ومن خلاله، تستمدّ الكنيسة، مبادئ ومفهوم وروحانيّة العمل الرعويّ.

العمل الرعويّ هو الأعمال التي تقوم بها الكنيسة، وتعمل عليها كمؤسسة، من أجل إعلان الإيمان وعيشه، وذلك من خلال أفعال الإيمان وأعماله. كما التنشيط والمساهمة في تسهيل وتعميق، اللقاء بين الله وأبنائه، ضمن إطار إيمانيّ، روحيّ، ليتورجيّ، إنسانيّ، أخلاقيّ واجتماعيّ. تستند المؤسسة الكنسيّة بعملها الرعويّ، من خلال الممارسات والأعمال المنوطة بها، على الأسس والقواعد اللاّهوتيّة. تُمثل الأسس والقواعد المعيار الذي يَحكُم توجه الكنيسة وأعمالها وممارساتها الهادفة لتسهيل وتعميق ذلك اللقاء بين الله والإنسان. “أنا هو الراعيّ الصّالح” (يو 1: 1) إذن هو معيار العمل الرعوي الدائم للكنيسة في عصورها المختلفة.

الأعمال والممارسات التي يمكن للكنيسة إن تقوم بها ستصطدم بمجموعة متغيرة من التحديات الاجتماعية والثقافية التي تحيط بالكنيسة والمجتمعات اليوم. إن من واجب الكنيسة “التمييز الإنجيلي لعلامات الأزمنة”، بمعنى تحليل وتشخيص العوامل التي تُعيق وتلك التي تساعد العمل التبشيري الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات. فكل مجتمع من المجتمعات، وكل كنيسة مدعوة لتمييز علامات الأزمنة الخاص بها والعمل على استنباط مجموعة من الممارسات والأعمال التي تتناسب مع الواقع. يُعرف هذا المبدأ اليوم برعوية الواقع، أو التوافقية التي تسعى فيها الكنيسة لتتناسب مجمل أعمالها الرعوية مع  متطلبات الواقع الذي تعيشه الكنيسة في بيئتها المحلية.

جهدت الكنيسة وما زالت تعمل عبر الأجيال، من أجل المساهمة في خلاص البشر، لا سيّما المؤمنين بقدره الله وعظمته، كما بيسوع المسيح إله ومخلّص. “إنّ الكنيسة التي أرسلها الله إلى الأمم لكي تكون السرّ الجامع للخلاص، هي مشدودة إلى تبشير البشر بالإنجيل”[1]. إنّ تدبير الله هو خلاص الإنسان، لذا عمل الله طوال تاريخ البشريّة على إنجاح مشروعه. من هنا، تعمل الكنيسة بكدّ في خدمة المسيح، على مرّ العصور والأزمنة لتحقيق وإتمام قصد الله وتدبيره الإلهيّ. تهدف الكنيسة من خلال كافة أنشطتها وممارساتها على تحقيق هذا الهدف آخذة بعين الاعتبار، الأزمنة والأمكنة التي تعيش فيها، والمتغييرات والتطوّرات، التي تطرأ في كلّ عصر.

إن علم اللاهوت الرعوي يهدف بالأساس إلى استقراء حياة الكنيسة وعيشها للإيمان في الزمان والمكان الذي تعيش فيه، ويعمل، مستعينًا بسائر العلوم اللاهوتية والبيبليّة والاجتماعية، لعرض ووصف وقراءة واختبار تلك الممارسات والأعمال التي تقوم بها الكنيسة. كما يحلّل بطريقة نقديّة كافة الأسباب والدوافع والمعاني والمعطيات والخلفيات، التي تساهم في تطوير وتحديث إعلان البشارة وتفعيل التبشير الجديد بالإنجيل بصورة تتناسب مع البيئة والعصر التي تتواجد فيه الكنيسة[2].

1.2. رعوية الواقع

عالج البابا فرنسيس في إرشاده الرسوليّ “فرح الإنجيل” (2013) قضية التوافقية مع البيئة والعصر التي يتطلبها علم اللاهوت الرعوي. بأن حدد إن إعلان بشرى الإنجيل تتلخص في جعل ملكوت الله حاضرًا في العالم. إنّ مضمون الإنجيل، يحتّم على الكنيسة والمؤمنين، بأن يتفاعلوا مع تعاليم يسوع وتوجيهاته، من أجل الإنسان، كلّ إنسان لا سيّما الفقير والمريض والسجين والمعذّب. هذه الوصية الإلهيّة هي مسئولية أعمال الكنيسة وممارساتها الرعوية: “كلّ مسيحيّ وكلّ جماعة مدعوّان إلى أن يكونا أداة بين يدي الله لتحرير الفقراء ونموّهم[3]“.

إنّ الملكوت السماويّ الذي حققّه السيّد المسيح من أجل الإنسان، يتجسّد بالمحبّة والمصالحة والتوبة، لا سيّما بالتعاون والتضامن الإنسانيّ، الذي يُسهم في مسيرة ملكوت الله . يطلب الإنجيل من الكنيسة العمل  بطريقة فاعلة وجديّة، في سبيل إنماء القيم الإنسانيّة لا سيّما مبادئ الأخوّة والعدالة والسلام، وهذا لن يتحقق إلا بالقراءة الجيدة لعلامات الأزمنة التي تعيش فيها الكنيسة للتعرف على التحديات المناهضة لقيم الإنجيل والعمل على التغلب عليها. قدم البابا في بداية الإرشاد الرسولي قراءة لعلامات الأزمنة حتى يتسنى للكنيسة القيام بممارسات رعوية تتناسب مع العالم المعاصر الذي تعمل فيه الكنيسة، ولعل أهمها:-

  • نظامًا اقتصاديًا قائمًا على سياسة اقصاء الفقراء وعدم مساواة اجتماعية في المجتمعات المُعاصرة. كنتيجة لهذا الوضع يشعر الكثيرون بأنهم مهمشون منبوذون، دون عمل، ودون أمل في المستقبل. تحول الإنسان إلى “سلعة استهلاكية” يمكن استخدامُها ثم إلقاؤها. فالقوي يأكل الضعيف (بند 53).
  • وضعًا اقتصاديًا أفرز ثقافة اللامبالاة تجاه الشرائح الفقيرة في المجتمعات. ثقافة من اللامبالاة حيثُ لا يهتم فيها الرأسماليين بضحايا الأسواق، فهم غير قادرين على الاحساس بالشفقة أمام محنة الآخرين والبكاء أمام مأساتهم، في حين يخسر هؤلاء  هدوئهم إذا قدم السوق شيئًا لم يشتروه بعد، بينما يموت البعض بسبب نقص الإمكانيات (بند 54).
  • توقف البابا طويلاً أمام الأزمة الأنتروبولوجية العميقة التي ولّدتها تلك الثقافة: إنكار أولية الكائن البشري! وخلق أوثانًا جديدة كعبادة المال. تصل عبادة المال بالإنسان إلى مرحلة خطيرة تظهر في صورة تقلص احتياجات الكائن البشري وقصرها فقط على الاستهلاك، وتغيب باقي الاحتياجات وخاصة الروحية منها والإنسانية (بند 55-56).

إنّ العمل الرعويّ، يطال أيضًا تلك “الحالات”، التي عمل المسيح من أجلها وذلك من خلال الأعاجيب (إطعام الجياع، وشفاء المرضى، وقيامة الأموات). بالتأكيد، إنّ العمل الرعوي يهتم بكلّ شرائح وفئات الناس، و”حالاتهم” المتعدّدة، وبالأخصّ نقل الإيمان وإعلانه في ظل واقع الناس الموجهة إليهم البشرى السارة، لكي يحصل الناس بمعرفتهم بالسيّد المسيح، على الخلاص.

إنّ العمل الإجتماعيّ هو من صلب التبشير الرعوي الجديد الذي يحمل مضمون الإنجيل، ولكن بطرق متجدّدة، تحاكي أوّلاً وأخيرًا قلب الإنسان وفكره وإيمانه وحالته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ينطلق العمل الاجتماعيّ، أي العمل الإنسانيّ، المرتكز على المحبّة، والرحمة والعطف والحنان، من الإنجيل وباسم الإنجيل لتحقّق الكنيسة أعمال السيّد المسيح. فالكنيسة، في هذا الزمن، الذي يختبره الإنسان المؤمن، بشتّى تشعّباته السلبيّة وبعض الإيجابيّة، لا بدّ لها من أن تواجه التحدّيات، بتقديم روحانيّة متجدّدة، قولاً وفعلاّ، ضمن عمل “تمييزيّ إنجيليّ”، لعلامات الأزمنة، بمعنى استكشاف لأوضاع المؤمنين، من خلال التحليل والتشخيص العلميّ والروحيّ. وهذا يعطي رؤية واضحة عن مسيرة ومعوقات العمل الرعويّ والتبشيريّ. فالتحدّيات كبيرة، ولكن الأمل أكبر بكثير، لأنّ هؤلاء المؤمنين، هم أبناء الله، وأعضاء كنيسة السيّد المسيح. إنّ الرؤية المتجدّدة لعمل رعويّة الإنجيل، تطرح وتعرض مقترحات متقدمة من حيث المضمون والشكل والتعبير والأداء بوضع خارطة متجدّدة وآليات بسيطة لإعلان الإنجيل والتبشير به، الحامل الفرح والرجاء[4].

تحاول رعويّة الإنجيل أن تحدّ من “عولمة اللامبالاة”، من خلال حثّ المؤمنين على التعاضد والتعاون وحمل قضايا الآخرين، من أجل التماسك الإنسانيّ، بخلق مجتمع سليم مبنيّ على التوازن والمساواة والعدالة وتحقيق السلام، ورفض العنف والانعزال والتقاتل والحرمان. يُطلب من رعويّة الإنجيل المتجدّدة، أن تعمل على أكثر من صعيد وعلى جميع المستويات، لإبراز كلمة الله وقوّتها وفاعليتها، كما معرفة إعلانها وتجسيدها من خلال أشخاص يتكلّمون مع الله وبالتالي يستطيعون أن يتكلّموا عن الله، وذلك من خلال رسل مشبّعين من كلمة الله ومتحلّين بالفضائل الإلهيّة والإنسانيّة، وبعمق روحيّ وتجرّد إنسانيّ، باستعمالهم طرق ووسائل يقدّمون الإنجيل كعلامة رجاء وخلاص. عليهم العمل على خلق روح جماعيّة لا روح فرديّة وتفرّد، وهذا يعزّز روح الترابط والتكافل الاجتماعيّ والإنسانيّ وحتّى الروحيّ. فالحياة الروحيّة والإيمانيّة من خلال ممارسة الأسرار، تُعطي دفعًا وقوّتًا للعمل الراعويّ. فالإيمان المسيحيّ هو هبة وعطيّة من الله، من خلال الروح القدس، المجانية لكلّ إنسان يقبل حدث المسيح الخلاصيّ.

تؤكّد راعويّة الإنجيل المتجدّدة، هذا الحدث الخلاصيّ وتجسّده من خلال العمل الرعويّ، المبنيّ على مسارات جديدة لتبشير الإنسان بانتمائه الوطنيّ والسياسيّ والثقافيّ بالإنجيل، الحامل البشرى السارّة والحياة والخلاص للمؤمنين، بكلام الربّ يسوع. يحتاج التبشير اليوم إلى طرق تبشير غير تقليديّة، لا سيّما بخلق مساحات وساحات في المدن والقرى عبر التواصل المباشر والاتصال المستمر، من خلال الوسائل المتاحة والمتعدّدة والمتطوّرة، التي تجذب وتؤثّر بالناس. هذا كلّه يهدف إلى خلق مناخ مؤاتٍ لزرع الرجاء من جديد وإعطاء فرصة للعودة إلى الينبوع ألا وهو المخلّص والفادي السيّد المسيح. من هنا تثابر وتتابع رعويّة الإنجيل المتجدّدة، على عملها الدؤوب في إعلان الحقيقة ونشرها وإعطاء القوّة الضروريّة والفاعلة في مواجهة التحديات وتخفيف الألم والحرمان من خلال لقاء الآخرين ومن خلال لقاء الآخر مع أخيه الإنسان، من أجل خلق حياة روحيّة وشركة كاملة مع الله والكنيسة. وهذا يعزّز رفض خطر تغلغل روح العالم، الذي يحجب الحياة الروحيّة، ممّا يُبعد الإنسان عن الله والسيّد المسيح والكنيسة. كما يشكّل روح العالم، الخطر على وحدة المؤمنين وتماسكهم وتعلّقهم بإيمانهم ليشهدوا لكلمة الحقّ والحياة والحقيقة النابعة من تعاليم المسيح وحياته المتجسّدة على الأرض؛ ممّا يُسهم في نقل الإيمان ونشره وتحقيقه، بالرغم من كلّ الأشياء التي تُبعد الإنسان عن حقيقته. فالمؤمن المسيحيّ بطبيعته هو إرساليّ، كما الكنيسة (إكليروس وعلمانيين) عليها أخذ المبادرات من خلال الرعويّة المتجدّدة، التي تتطلّب الالتزام والمرافقة وحمل بعض الحلول الممكنة “لقضايا” شائكة. فالمؤمن بالمسيح وبالكنيسة عليه أن يلتزم بقضايا المجتمع وأن يعيش المحبّة للقريب والعمل على رفض اليأس والتقوقع والخوف والهروب إلى الأمام[5].

2.2. طرق تبشرية متجدّدة

تتطلّب رعويّة الإنجيل إذن الغوص من جديد في الإنجيل، والبحث عن طرق متجدّدة وأساليب جذابة والابتعاد عن “الأنماط المملّة”، والعودة إلى الينابيع، أي الإيمان العميق، واكتشاف طرق أكثر فاعلية لممارسة الأسرار، لا سيّما سِرَّي المصالحة والافخارستيّا. الأمر يتطلب التجديد في هيكلية الكنيسة كمؤسسة وأداء المبشرين وتصرفاتهم وشهاداتهم. كلّ هذا، تحت غطاء توبة وارتداد رسوليّ، يُسهم في راعويّة متجدّدة ومستمرّة[6].

تتمحور رعويّة الإنجيل حول الإنسان وتنطلق من السيّد المسيح، لتعود نحو الإنسان، ولا سيّما المؤمن بالمخلّص. تدعو رعويّة الإنجيل، إلى فتح الأبواب على مصراعيها، لتستقبل إنسانيّة الإنسان، بكلّ تركيبتها وتفاعلاتها. فهي تتوق إلى جعل الإنسانيّة مُبشَّرَة بالإنجيل، وجلاء قداستها كما خلقها الله على صورته ومثاله. فالإنسانيّة التي تشوّهت وانحرفت، بسبب فقد الإنسان لإنسانيته، من خلال الشرّ وما ينتج عنه: العنف، والصراعات، والخوف وعدم المساواة وعدم تحقيق العدالة بحاجة إلى تنقية جديدة حتى تعود إلى ذات المثال التي خُلقت عليه في البدء.

تُبشر الإنسانية بالإنجيل متى أُعيدت للإنسان المعاصر كرامته. لقد أعاد المسيح الكرامة الإنسانية للبشر عندما أخذَ طبيعة الإنسان وأعاد البهاء إلى الصورة التي خلقها الله. تُبشر الإنسانية بالإنجيل متى عرف الإنسان معنى حياته وهدفها وعبر عنه من خلال أقواله ومواقفه وأفعاله، لا سيًما في علاقاته بالآخرين. “ما من شريعة إنسانيّة تستطيع أن تحافظ على كرامة شخصيّة الإنسان وحريّته، مثلما يحافظ عليها إنجيل المسيح (…) فهذا الإنجيل يبشّر بحرّية أبناء الله ويعلنها ويرفض كلّ استعباد، (…) ويحترم هذا الإنجيل، كرامة الضمير والاختيار الحرّ، ويعلّم باستمرار استثمار كلّ المؤهلات البشريّة، لخدمة الله ولخير الناس، مستودعًا كلّ فرد محبّة الآخرين”[7]. إنّ تَبشير الإنسانية بالإنجيل لهو مشروع مستمرّ، وينبع من الكتاب المقدّس، أي من تعاليم يسوع المسيح، وشخصه. فالتبشير الجديد يبثّ الحضور الإلهيّ، في حياة الإنسان. من هنا، يدرك الإنسان، بأنّ الحرّية والمحبّة والحياة، تنبع من الله، الذي بذل ذاته من أجل الإنسان. لذا، يدعوه الله إلى الحرّية والمحبّة والحياة؛ ممّا يؤكّد، بأنّ حياة الإنسان، تتحوّل على صورة الله كمثاله. كما إلى بذل الذات من أجل الآخرين.

يُعيد التبشير الجديد بالإنجيل الإنسانيّة للإنسان المُعاصر. يُعيد إليه نقاءصورة الله، التي زرعها في الإنسان منذ البدء، كما يذكّر بأنّ القيم الإنسانيّة التي تخلق مع الإنسان (بالفطرة) أو التي يكتسبها، عليه المحافظة عليها، بالرغم من كلّ العراقيل، والصعوبات، والاغراءات، والتفلّت والصراعات، وحبّ السيطرة والهيمنة، والتعدّي على حقوق الإنسان وكرامته، واستعمال وسائل الغشّ، وغيرها من أوجه التعدى[8].

ينتظر العالم من الكنيسة أن تُعيد ممارسات يسوع بصورة تتناسب مع ثقافة الإنسان المُعاصر. لذا أظهر البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي “فرح الإنجيل” الحاجة إلى التوصل إلى طرق تبشير غير تقليدية تعمل على رفع الستار على الحضور الخفي لله في المدن الحديثة، وعلى إعلان الإيمان والتبشير به ونقله للآخرين، وذلك من خلال التعليم والشهادة الحيّة. فالرعويّة المتجدّدة تدعم توجّهات الكنيسة وتُسهم في تحقيق أهداف الكنيسة، ألا وهي التربية على الإيمان وعيشه وممارسته، الأمر الذي يتطلب إعادة تنشئة أو تعليمًا مسيحيًا يستلزم قراءة الإنجيل ثانيةً والمشاركة في حياة الكنيسة من خلال الليتورجيّا والصلاة والأسرار. تبشيرًا يعتمد على الصلاة وممارسة الأسرار وتطبيق وصايا الله والكنيسة، وتطبيق أعمال الإيمان وأفعاله، ممارسةً الرحمة والمحبّة مع الآخرين؛ وذلك بروح الإنجيل الذي يقدّم القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة: “التبشير الجديد بالإنجيل هو التذكير بإعادة قراءة الإنجيل بالعمق وذلك بنهج جديد وأساليب متطوّرة، تعبّر عن حماس رسوليّ، والطرائق الجديدة التي يجب أن تستعملها الكنيسة في فهم وعيش الإنجيل ونشره، ممّا يُسهم في تدعيم مواجهة التغييرات الجذريّة في العالم والتحدّيات العديدة والكبيرة”[9].

إن التربية على الإيمان هي عمليّة تثقيفيّة وتوعية أيضًا. من هنا، يأخذ التبشير الجديد منحى، أكثر انفتاحًا وإدراكًا للحياة الإنسانيّة وتشعّباتها. فالمسيح هو المُنقذ الوحيد للإنسان، وهو يجهد أن يلتقي جميع الناس الآب، الصورة الإلهيّة لسعادة الإنسان المطلقة. ويقدّم الله للإنسان الخلاص، أمّا السيّد المسيح فيطلب من كلّ مسيحيّ مؤمن وممارس لإيمانه أن يعلن البشارة “اذهبوا وأعلنوا البشرى للأمم وتلمذوهم”. نعم، الكنيسة، من خلال التبشير الجديد بالإنجيل تعلن وتعرض الإنجيل وتبشّر به، ولكن من دون أن تفرضه.

يدعو التبشير الجديد إلى اكتشاف فرح الإيمان المسيحيّ، والتعمّق بالحقيقة واستعادة المحبّة واستعمال جميع الوسائل الصحيحة، من أجل حياة كريمة “تقوم الأنجلة الجديدة على العمل الروحيّ العميق والمستمرّ ببثّ الإيمان والتقوى والمحبّة والغفران ضمن الجماعات المسيحيّة من أجل السير نحو القداسة[10]”.  هو عيش الكلمة، قبل التبشير بها. كما العودة إلى الذات والتوبة. ففهم الكلمة وعيشها، يتطلّب التواصل والإصغاء المتواصل المستمرّ، مع كلمة الله. هكذا تنمو المحبّة “بهذا يعرفون أنّكم تلاميذي إذا كنتم تحبّون بعضكم بعضًا” (يو 3: 35). يطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى، تكثيف الجهود من قبل الرعاة والعلمانيين، في زرع الرجاء والإيمان والمحبّة، في ضمائر المؤمنين وقلوبهم، وإعطاء المثل الصالح، من خلال التواضع والتجدّد، والحضور الفعّال في شتّى الميادين، كما العمل على تدعيم الروابط الاجتماعية، وحثّهم على عدم التقوقع بل على التكامل والتضامن. فليحافظ الإنسان على المبادئ والقيم وليسهر على تطبيقها، وليكن الجميع مسؤؤل تجاه الجميع.

3.2. معوقات التبشير الجديد

حَرصَ البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي “فرج الإنجيل” على إلقاء الضوء على المعوقات الأساسية التي تواجه التبشير الجديد بالإنجيل ولعل أهمها:

  • تنامي الروح الاستقلالية للعاملين الرعويين

أول هذه التحديات هو خطر سعي العاملين الرعويين، بما فيهم المكرسين، للحصول عن مساحات من الاستقلالية والاسترخاء تقودهم إلى عيش مهمة الرعوية والتبشيرية وكأنها شيء إضافي، مجرد حاشية، ملحق للحياة، لا تشكل جزءًا من هويتهم. لذلك يمكننا أن نلاحظ في الكثير من المبشرين، رغم أنهم يصلون، هناك تناقص الشغف بالتبشير بالإنجيل أمام الفردانية ونقص الحماسة الروحية وتصاعد أزمة في الهوية.

  • عدم الارتباط الشخصي للعاملين برسالة التبشير

بسبب نظرة الاعلام السلبية إلى الكنيسة، يعيش بعض المبشرين نوعًا من “عقدة النقص” تقودهم إلى اخفاء هويتهم المسيحية وقناعاتهم. تتولد بهذا الشكل حلقة مفرغة، لأنهم لا يجدون الفرح في ما يفعلونه، ولا يشعرون بأنهم مرتبطين شخصيًا برسالة التبشير، ينتهي الأمر بهم إلى إطفاء فرح الرسالة تحت تأثير هاجس أن يكونوا مثل الآخرين. يكفي ملاحظة العاملين في العاملين في مجال العمل العام، كالمدارس، واهتمامهم بالنواحي التعليمية وتمييز الخدمات التعليمية المقدمة منهم على حساب ارتباطهم الشخصي برسالة التبشير.

  • إنطفاء الحماس الإرسالي لدي العاملين الرعويين

ذيوع ثقافة ذاتية الفرد على حساب الجماعة أدي بالبعض إلى التصرف وكأن الله غير موجود، على أخذ القرارات وكأن لا وجود للفقراء، على العمل الكنسي وكأن جميع الذين لم يتلقوا البشرى غير موجودين. هؤلاء لديهم قيم إيمانية راسخة ولكن الرغبة في التمسك بمساحات تسلط على الآخرين، وللحصول على مجد بشري، أو بضمانات اقتصادية أدي بهم إلى التقوقع حول حياتهم الخاصة دون أدنى أعتبار للكرازة والتبشير.

  • عدم الرغبة في تطوير طرق التبشير “لامبالاة أنانية”

“المشكلة ليست دومًا كثرة المسؤوليات والنشاطات، بل خاصة المسؤوليات والنشاطات المعاشة بشكل سيء، دون الدوافع المناسبة، دون روحانية تنعش العمل وتجعله مرغوبًا”. والعديد من الأشخاص يفقدون التواصل المباشر والحقيقي مع الناس، وبالتالي يُفرغون العمل الرعوي من طابعه الشخصاني. هم يرغبون في صون مساحات استقلاليتهم، يعيشون في لامبالاة أنانية. من الصعب أن نجد معلمي تعليم مسيحي مكونين يواضبون على وظيفتهم لعدة سنوات. كذلك الكهنة والمكرسين الذين يتسلط عليهم هوس الانشغال بقوقتهم الشخصي. البعض يخطط لمشاريع غير قابلة للتحقيق، والبعض الآخر يرفضون تطور وتجديد المسارات التي يتبعونها، يؤدي كل هذا إلى الوقوع في شرك أن كل شيء ظاهريا يسير على ما يرام، ولكن الحقيقة أن أن جذوة فرح التبشير بالإنجيل قد خمدت وانطفأت.

  • التشاؤم العاقر من عدم النجاح

خطر آخر يحدق بالعامل الرعوي هو “التشاؤم العاقر”. وفي هذا الإطار يذكر البابا بأن الشر الموجود في العالم، لا يجب أن يخفف من التزامنا وحماستنا. فما من أحد يبدأ معركة ما إذا كان يعرف في الأصل أنه لن ينجح ولن ينتصر. يجب أن نذكر قول الرب لبولس، والذي يوجه اليوم إلينا: “تكفيك نعمتي، فالقوة تظهر في الضغف”. نعتقد باستحالة أو صعوبة تغير الوضع، فنخسر المعركة قبل أن تبدأ. هناك “تصحر” روحي ويصبح العالم المسيحي “عقيماً” في حين أن هذه هي علامات التعطش إلى الله يُعبر عنه بطريقة ضمنية أو سلبية. على الرعاة أن يندفعوا بحماس للكرازة واثقين من النصر، عليهم أن يكونوا قادرين على ارؤاء عطش الآخرين.

  • التأثير السلبي للاتصالات الحديثة

كما ويتحدث البابا عن تحدي وسائل الاتصالات الحديثة التي لا يجب أن تحل مكان اللقاء الشخصي بل يجب ترجمة زيادة امكانيات التواصل في زيادة بفرص اللقاء والتعاضد مع الجميع. “فالإنجيل يدعونا دومًا لأن نقوم بمجازفة اللقاء بوجه الآخر، مع حضوره الجسدي ومع ألمه وفرحه في تلاحم جسدي دائم”. يدعونا الإنجيل إلى تعلم لقاء الآخرين بتبني التصرف الصحيح، بتقديرهم وقبولهم كرفقاء طريق، بدون مقاومات داخلية.

التحدي اليوم ليس الإلحاد، بل هو أن نساعد الناس لكي لا يطفئوا عطشهم الروحي ويروه من خلال خبرات افتراضية خادعة. فإذا لم يجدوا في الكنيسة روحانية تشفيهم، تروي غليلهم، تحررهم، تملأهم حياةً وسلامً وتجعلهم يدخلون في شركة حياة، سيقعون عاجلاً أم آجلاً في أفخاخ خبرات لا تمجد الله.

  • الاهتمام الظاهري بالطقوس والعقائد والأعمال الإدارية

إلى جانب هذه التحديات والتجارب يتطرق البابا إلى خطر تغلغل روح العالم في العمل الروحي، حيث يضحي الأمر الأهم هو الإعتناء ظاهري باللتيورجيات والعقيدة وبجاه الكنيسة، دون الأهتمام بنفاذٍ حقيقي للإنجيل في وسط شعب الله، فتتحول الكنائس إلى قاعات للمتاحف، يرتداها قلة من الناس. هناك أيضَا الأهتمام بالنجاحات الاجتماعية وأشكال الظهور المختلفة في المجتمع، وبالإحصاءات والأعداد، حيث المستفيد ليس شعب الله بل الكنيسة المنظمة ونفقد التواصل مع الواقع الأليم الذي يتخبط فيه عامة المؤمنين. أنه فساد هائلٌ تحت ظاهر الخير. فمن الواجب تحاشيه بوضع الكنيسة في حركة انطلاق خارجاً عن الذات، وفي حركة ارسالية مركزة على يسوع المسيح والالتزام نحو الفقراء.

  • الصراعات الداخلية

وتحدث أيضًا عن الصراعات الداخلية في جماعة المؤمنين التي تناقض رغبة الرب بأن “يكونوا كلهم واحدًا، حتى يؤمن العالم”. فبدلاً من أن يكونوا ملكاً للكنيسة الجامعة، بتنوعها الثريّ، ينتسبون إلى هذا الفريق أو ذلك الذي يشعر بأنه مختلف أو خاص. هناك انتشار لأمراض الانقسامات المختلفة حتى داخل الكنيسة الواحدة. فكيف نريد أن نبشر بالإنجيل بمثل هذه التصرفات؟

[1] التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، المكتبة البولسيّة، لبنان، 1999، عدد 849

[2] نجيب بعقليني، راعوية الواقع، https://ar.zenit.org/

[3] فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل، عدد 187.

[4] نجيب بعقليني، راعوية الواقع، https://ar.zenit.org/

[5] المرجع السابق

[6] المرجع السابق

[7] المجمع الفاتيكاني الثاني: الكنيسة في عالم اليوم 41.

[8] نجيب بعقليني، راعوية الواقع، https://ar.zenit.org/

[9] فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ فرح الإنجيل

[10] نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة – الدائرة البطريركيّة المارونيّة – بكركي، لبنان.

قد يعجبك ايضا
اترك رد