إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (18): ما بعد المجمع التردينتيني

0 1٬052

الحياة النسكية ما بعد المجمع التردينتيني[1]

حدث ازديادًا ملحوظًا في المؤسسات الرهبانية في النصف الثاني من القرن القرن الثالث عشر. لم يكن بعضها جديدًا، بل تحديثًا وتكييفًا لرهبانياتٍ قديمة كالرهبنة الأغسطينية، وأخرى استوحت من الإخوة التسوليين، الدومينيكان والفرنسيسكان، فلاقت انتشارًا واسعًا، ونالت تأييد الكرسي الرسولي. جاءت الزيادة في أعداد الرهبانيات بسبب إلحاح الرسالة وحدث نوع من الانخفاض في عدد الرهبان المكرسين للحياة التأملية الصرفة. وبسبب تشابه أنماط حياة المؤسسات الرهبانية في حياتها ورسالتها، ألغى مجمع ليون في العام 1274 اثنتين وعشرين مؤسسة رهبانية لم يصادق عليها الكرسي الرسولي.

مع مرور الزمن، دفع هذا الأمر المؤسسات التأملية إلى موقع الدفاع، فظهرت حركة تجديد في الحياة النسكية التأملية، وتم تّدعيم اللاهوت التصوفي باعتباره له الأفضلية على اللاهوت النظري الفكري، فهو يُسهل الاتحاد مع الله، ويولد الصبر والتواضع، في حين يولد اللاهوت النظري العقلي التباهي. المقصود باللاهوت الصوفي هو معرفة الله الاختبارية عن طريق التأمل والمشاهدة التأملية، بعيدًا عن عمليات الانفعال الحسي والإرادة. قادت هذا الاتجاه مجموعة من المتصوفين مِثل:

  1. القديسة كاترينا السيانية

ولِدَت كاترينا بينينكازا في العام 1347، في أسرةٍ من خمسةٍ وعشرين ولدًا، دخلت في السادسة عشرة من عمرها، من جراء رؤيا للقدّيس عبد الأحد (دومينيك)، الرهبنة الدومينيكيّة الثالثة، فرع النساء المُسمّى بالكاسيات Mantellate. وثبَّتَت، وهي في أسرتها، نذرت العُذريّة التي قامت به بشكل إنفراديّ حين كانت لا تزال في سنّ المُراهقة، وكرّست نفسها للصلاة والتكفير عن الذنوب، والأعمال الخيريّة، خاصّةً لِصالح المرضى.

عندما ذاع صيت قداستها، أصبحت محطّ مشورة روحيّة كثيفة لجميع فئات الناس، من نبلاء ورجال سياسة وفنّانين وأُناس عاديّين ومكرَّسين ورجال دين، بمن فيهم البابا غريغوريوس الحادي عشر الذي كان يُقيم في ذلك الوقت في أفينيون في فرنسا وقد شجّعتهُ كاترينا بقوّة وفعاليّة على العودة إلى روما. وسافرت كثيرًا للحثّ على الإصلاح الداخليّ للكنيسة وتعزيز السلام بين البلدان. وبعد عددٍ لا يُحصى من النكسات، انتصرت كاترين، وعاد البابا غريغوريوس الحادي عشر إلى روما في يناير 1377. ولسوء الحظ كان انتصارها قصير الأمد، لأن انتخاب البابا أوربانس السادس قاد إلى انشقاقٍ آخر لم تحسب له حسابًا على الرغم من كل صلواتها توسلاتها.

في آخر سنةٍ من حياتها، كانت كاترين تذهب يوميًا إلى الفاتيكان لتصلي من أجل نهاية الانشقاق ووحدة الكنيسة. انتقلت من الحياة في أبريل من العام 1380. وأعلن البابا بيوس الثاني قداستها في العام 1461. إنّ عقيدة كاترينا، التي تعلّمت بصعوبة القراءة وتعلّمت الكتابة عندما كانت قد بلغت سنّ الرشد، مُحتواة في ”حوار العناية الإلهيّة”، أو ”كتاب العقيدة الإلهيّة”، وهو تحفة من تحف الأدب الروحيّ، وفي مجموعة رسائلها وصلواتها. لتعليمها غنىً لدرجة أنّ خادم الله بولس السادس أعلنها عام 1970 ملفانة “معلمة” للكنيسة، وهو لقبٌ يُضاف إلى لقب شفيعة إيطاليا، وفقًا لقرار المكرّم بيّوس الثاني عشر.

لعل أهم اسهامات القديس كاترين السينانية هو مراحل الاتحاد الصوفي للنفس مع الله. هناك ثلاث مراحل للحب في تقدم النفس على طريقة القداسة: الحب الخدميّ (حبٌ مصحوبٌ بالخوف من العقاب على الخطايا المرتكبة)؛ حب المرتزقة (حبٌ مصحوبٌ برجاء المكأفاة الأبدية)؛ الحب البنوي (حب الله لأجل ذاته، وهو كمال المحبة). في حالة الحب الكامل، يُسلبُ الفرد تمامًا من إرادته، ويستسلم بكليته للإرادة الإلهية.

وتصف القديسة كاترين الاتحاد الصوفي، التي نالت نعمة جراح المسيح – ولم يعلم بها أحد حتى وفاتها -، بوضوحٍ شديد ودقة: إنه خبرة وعي حضور الله في النفس، وهو يختلف تمام الاختلاف عن الاتحاد البسيط بالله من خلال النعمة المقدسة. ففي حالةالكمال، لا تفقد النفس البتة وعيها لحضور الله، فيصبح كل وقت ومكان هو وقت ومكان للصلاة من أجل الاتصال مع الله. المسيح بالنسبة للنفس كالزوج بالنسبة لها، تنشأ معه علاقة من الحميمية والشركة والإخلاص، إنه الخير المحبوب أكثر من أيّ خير آخر.

  1. الرهبنة الكرميلية

ان الرهبنة الكرملية هي الوحيدة بين سائر الرهبنات التي اختارت مؤسسها الذي سبقها بقرون طويلة. فهي تنتسب الى النبي ايليا الذي يذكره الكتاب المقدس في عهد الملك آحاب في القرن التاسع قبل الميلاد. الا ان هذا الانتساب ليس الا روحيا، اذ اختارت الرهبنة الكرملية ايليا كنموذج لحياتها وشاءت ان تواصل رسالته البعيدة وروحه الرامية الى ايقاظ سلالات النفوس تشعر مثله بسمو الله ومطلقه.

أخذت الرهبنة الكرملية اسمها من جبل الكرمل المشرف على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مدينة حيفا. لم يكن الكرمليون رهبانًا، كانوا علمانيين زهدوا في الدنيا وشرعوا يعيشون في مغاور او اكواخ متجاورة في سفح هذا الجبل، يجمعهم رابط روحي ورغبة مشتركة في الاقتداء بالنبي ايليا. يُرجح أن النساك الأولين كانوا حجاجًا من الغرب أقبلوا إلى الأماكن المقدسة، ثم فضلوا البقاء على سفوح الجبل للعكوف على حياة النسك والزهد.

في مطلع القرن الثالث عشر، حينما ازداد عدد هؤلاء النساك في جبل الكرمل، فكروا في تنظيم حياتهم الرهبانية فطلبوا من السلطة الكنيسة المحلية الاعتراف بوجودهم وإعطائهم قانونا أساسيا. سن لهم بطريرك أورشليم، القديس البرتس، في العام 1209 قانونًا موجزًا يتضمن ستة عشر بندا، وهو مجموعة من العادات الرهبانية ثبتها البابا هونوريوس الثالث في العام 1222، إلا الظروف السياسية العسيرة دفعت  الكثيرين من هؤلاء الكرمليين الى التوجه نحو الغرب. فشرعوا يغادرون الكرمل منذ سنة 1235، الى قبرص أولا، ثم توجهت فئة أخرى الى صقليا وغيرها الى القرب من مدينة مارسيليا الفرنسية. وقد أعجب ملك فرنسا، القديس لويس التاسع، لدى زيارته لجبل الكرمل سنة 1254، بحياة هؤلاء الرهبان وبروحانيتهم، فاصطحب ستة منهم الى باريس حيث أعطاهم موضعًا لإقامة ديرهم فيه.

مع الانتشار الكبير للفرنسيسكان والدومنيكان في أنحاء أوربا، وجد الكرمليون صعوبة في التواجد في الغرب ونيل صفة الشرعبة إلا بالانتساب إلى فئة المتسولين السائدة وقتئذ. لذا عمل رؤسائها الأولون على تحويلها إلى رهبانية متسولة رسولية لمواكبة التطور الحادث في الكنيسة. وتم تغيير القانون، في عهد القديس سيمون ستوك، بمساعدة الدومينيكان لتحويل الحياة الكرملية نحو الرسالة. فسمح للرهبان بالسكنى في المدن وشدد على الحياة الجماعية. فكانت ثمة أديرة منعزلة تواصل الحياة النسكية، وأخرى في المدن يعيش فيها الرهبان حياة جماعية مع العكوف على الرسالة. ولتهذيب الرهبان وتنشئة جيل مثقف من الكهنة والمرسلين، اضطرت الرهبانية الى انشاء معاهد للدراسة. وهكذا اصبح للكرمليين معاهد في أشهر المدن الجامعية آنذاك، مثل كمبردج (سنة 1249) واكسفورد (1253) وباريس (1259) وبولونيا (1260)، وبالإضافة الى ذلك، كان لكل اقليم رهباني معهده العام.

تصارعت فئة من الرهبان للعودة إلى حياة العزلة والنسك وايقاف التيار الرامي إلى الرسالة والسكنى في المدن والعكوف على تلقى الثقافة والعلم. فرُفع الأمر للكرسي الرسولي، الذي أيد في مجمع ليون في العام 1274، كون الرهبنة الكرميلية يزدوج فيها هدفان: أي ان النشاط الرسولي فيها اساسي، ولكنه يجب ان يخضع للتأمل وينبع منه. حاولت الرهبنة التوفيق بين العزلة والرسالة. فالرسالة في حدودها المعقولة تظل ضمانة لصفاء المثل العليا الكرملية.

حينما أصبح الطوباوي يوحنا سورث رئيسًا عامًا للرهبنة سنة 1451، حاول اجراء بعض اصلاحات فيها واعادتها الى صفائها الأول. فأسس الرهبنة الثالثة للعلمانيين والعلمانيات الذي يريدون اتباع حياة رهبانية في وسط العالم، وحصل على اعتماد البابا نقولاس الخامس لها.

إلا إن الاصلاح الكبير لرهبانية الكرمل جرى بعد قرن على يد القديسة تريزة الكبيرة الافيلية (1515- 1582). وقد شرعت بهذا الاصلاح في 24 أغسطس سنة 1562 للكرمليات في دير القديس يوسف في مدينة افيلا الإسبانية. ولقيت مساعدة فعالة من القديس يوحنا الصليبي (1542-1591) الذي ابتدأ مع اثنين من اخوته الرهبان حياة الكرمليين الحفاة في دير صغير في دورويلو في ديسمبر سنة 1568. ومنذئذ غدا الكرمل فرعين: الكرمليون التابعون للنظام القديم اي الكرمليون الملطّفون؛ والكرمليون الحفاة اي الذي تبعوا اصلاح تريزا الكبيرة ويوحنا الصليبي.

قد يعجبك ايضا
اترك رد