إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

أنت على ركبتيك أمام الله

0 1٬316

نحتفل اليوم بالنذور الرهبانية الدائمة لثلاث من شباب المكرسين. في رتبة النذور الدائمة يرتل الكورال “طلبة جميع القديسين” فيركع جميع الرهبان ووجوهم إلى المذبح  في حين ينطرح الناذرين على الأرض في مشهد مهيب، في وضع كثيرًا ما يطرح اسئلة عن معنى هذا الطقس؟ لماذا يقع الشخص ووجهه إلى الأرض أمام المذبح ولماذا يسجد الجميع؟

في الحدث الإنجيلي الذي سمعناه يطلب المسيح من بطرس والتلاميذ الدخول إلى العمق والقاء الشباك للصيد، فيجيب بطرس: “يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً”. لكن بعد أن تحدث المعجزة يرتمي بطرس على الأرض عند ركبتي يسوع ويقول: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ». بدل بطرس كلامه من “يَا مُعَلِّمُ” إلى “يا رب”. كان يصفه بالمعلم.. هناك معلمين كثيرين، لكن أمام قوة المعجزة يرتمي بطرس على الأرض صارخًا قائلاً: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ».

 أمام الله أنت على ركبتيك

أمام الله ينبغي السجود. عندما رأى يوحنا ابن الإنسان، يقول الكتاب: “فلَمَّا رَأَيتُه ارتَمَيتُ عِندَ قَدَمَيه كالمَيْت، فوَضَعَ يَدَه اليُمْنى علَيَّ وقال: لا تَخَفْ، أَنا الأَوَّلُ والآخِر”.

سجود الرهبان على الأرض أمام المذبح ليست تمثيلية، بل تعبير عميق بالجسد عن رغبات الروح. نحن كائنات من لحم ودم، تشترك حواسنا جميعها في عبادة الله وتعبر عن عما تحمله الروح. التواصل مع الله لا يكون فقط بالكلمات التي ننطق بها في الصلاة. يقول البابا بندكتوس: “الإيمان الذي لا يعرف الركوع هو إيمان مريض، لا وجود لحياة روحية دون الركوع أمام الله”.

لا يمكن معرفة الله دون أن نثنِ الركبتين. عندما سئُل يسوع عن ما هي الوصية الأولى في الوصايا كلها، أجاب: «اِسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد. فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ». من كل القلب والنفس والعقل والقوة أي من كل الكائن الحي، شامل جسده. عندما تستخدم جسدك لمدح الله وتمجيده عندها تعبر عن محبتك له.

السجود أمام المذبح هو تعبير عميق بالجسد عما يرغب في الأخوة الناذرين اليوم. يقفون أمام المذبح، أمام الله الخالق ليعقدوا اتفاق نهائي على اتباعه، يعلنون عن قبولهم دعوة يسوع التي وجهت إلى التلاميذ بأن يكونوا صيادي بشر. لا تكفي الكلمات، بل الإنسان باجمله يعبر عن هذه الرغبة بالسجود.  نقرأ في المزمور 95: 6 قائلا: “هَلُمُّوا نَسجُدُ ونَركعُ لَه نَجْثو أَمامَ الرَّبِّ صانِعِنا”. يتكرر الفعل ثلاث مرات لتأكيد إنه أمام الله، الكلمات لا تكفي فهي لا تمثل أكثر من 7% من طرق التواصل، في حين أن حركة الجسد ونبرة الصوت هي التي تكشف لنا ما بداخل الإنسان حتى لو يتكلم صراحةً. يلزم أن نعبر بكل كياننا، جسدًا ونفسًا وروحًا. وليس هناك وسيلة للتعبير سوى السجود.

لا وجود لحياة روحية دون التعبير عنها بالجسد

ثني الركبتين كان أسلوب المسيح في الصلاة والتعبير عن محبته للأب: “ابتَعَدَ عَنهُم مِقدارَ رَميَةِ حَجَر وَجَثا يُصَلِّي” (لوقا 22: 41). وعند وداع بولس لأهل أفسس يقول الكتاب: “ثُمَّ جَثا فصَلَّى معَهم جَميعًا” (أعمال 20: 36). هكذا إيليا ودانيال واسطفانوس وبطرس: «يَقولُ الرَّبّ: بِحَقِّي أَنا الحَيّ، لي تَجْثو كُلُّ رُكْبَة، ويَحمَدُ اللهَ كُلُّ لِسان» (رومية 14: 11).

سألنا الشباب: ماذا تريدون؟ اجابوا: “نريد أن نتبع تعاليم ربنا يسوع المسيح”، نريد أن نسير على خطي مار فرنسيس في اتباعه لنمط حياة يسوع. لكن الكلمات لا تكفي، هنا يأتي فعل السجود.

سينطرح الشباب على الأرض لأنهم في هذه اللحظة المهيبة يلبون دعوة الله لهم ويتركون شباكهم الخاصة، عائلاتهم، أصدقائهم، حياتهم وينطلقون ليكونوا صيادي بشر. عن طريق فعل السجود سيعلنون عن تسليم ذواتهم بالكامل، راغبين في العيش فقراء، لا يمتلكون شيء أبدا (سيوقع الرهبان على اقرار قانوني بأن كل شيء سيقع بين أيدهم هو ملك للرهبنة). راغبين في تسليم اجسادهم من خلال نذر العفة، معلنين عن محبة الله فوق كل شيء وكل إنسان. عازمين على طاعة الله في كل شيء من خلال نذر الطاعة على مثال المسيح الذي قال: “طعامي أنْ أعمَلَ بِمَشيئَةِ الذي أرْسَلني وأُتمِّمَ عَمَلهُ” (يو 4: 34).

يقول البابا فرنسيس: “إن فعل السجود هو أن نجعل الله هو الأول والمحور، فلا تبقى “الذات” فينا هي الأولى والمحور. هو أن نعيد الترتيب الصحيح للأمور، تاركين لله المكان الأوّل. السجود هو وضع خطط الله قبل وقتي وحقوقي وأماكني. هو قبول تعاليم الكتاب المقدس: “لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد” (متى 4، 10).

في السجود تواضع أمام الله

كانت الركبتين هي رمز لقوة الرجل، إن ثني ركبنا هو إذن ثني قوتنا أمام الله الحي، والاعتراف بأن كل ما نحن عليه هو منه. نسجد ولا نرغب في شيء، سوى أن نكون معه. عندما نسجد بتواضع أمامه، فنحن أصاغر أمامه، ونكتشف أن عظمة الحياة لا تكون فيما نملك، بل في المحبة. 

يجرب الشيطان يسوع: «أَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدُّنيا ومَجدَها، وقالَ له: «أُعطيكَ هذا كُلَّه إِن جَثوتَ لي سـاجداً». عندما ينطرح الشباب على الأرض يعلنون بكل واضح رفضهم للآلهة الغربية: إله المال، إله اللذة، إله الأنا بأن يكون كل واحد إله نفسه. سيرفضون اغراءات الشيطان قائلين: “لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد وايَّاهُ وَحدَه تَعبُد”.

هناك رواية طريفة في سيرة آباء الصحراء والتي فيها يجرب الله الشيطان أن يُظهر نفسه لراهب بسيط في دير أبولو. ظهر الشيطان في منظر مخيف للراهب، وأطرافه طويلة ورفيعة بشكل مخيف، يلتحف بالظلام، لكن ما لاحظه الراهب إن دون ركبتين. عدم القدرة على الركوع هو جوهر الشيطان.

لا تكون بدون ركبتين، أو أقله تملك ركب مخلعة، كما يقول الكتاب: «لذلك قوّموا الأيادى المسترخية، والركب المخلّعة» (عبرانيين 12: 12-13) إن ارتخاء اليدين، وتخلّع الركبتين، يرمزان إلى ضعف روحى شديد. فالركبتان المرتعشة والمخلّعة، تفقد توازن الإنسان عندما يسير. إنها تمنعه من السير بخطوات ثابتة، بل تعرّضه للسقوط.

سجد بطرس أمام يسوع فقال له: «لا تَخَفْ! سَتَكونُ بَعدَ اليَومِ لِلبَشَرِ صَيَّاداً». ستكونون صيادي بشر فقط إذا تعلمتم السجود، إذا امتلكتم ركبا قادرة على السجود. «لذلك قوّموا … والركب المخلّعة»

قد يعجبك ايضا
اترك رد