إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

القديسة أنجيلا من فولينيو

0 1٬012

القديسة أنجيلا من فولينيو

هي متصوّفة كبيرة من العصور الوسطى عاشت في القرن الثالث عشر. عادةً ما تجذبنا ذروة تجربة الاتّحاد مع الله التي وصلت إليها، لكنّنا نعير ربّما القليل من الاهتمام لخطواتها الأولى وتوبتها والدرب الطويل الذي قادها من نقطة الانطلاق، “الخوف الكبير من الجحيم”، إلى الهدف، إلى الاتّحاد التامّ بالثالوث. فالجزء الأوّل من حياة أنجيلا ليس بالتأكيد حياة تلميذة متّقدة بالربّ. ولدت حوالي العام 1248 من عائلة ميسورة، وبقيت يتيمة الأب فربَّتها أمّها بِشكلٍ سطحيّ نوعًا ما. تعرّفت باكرًا إلى أوساط مدينة فولينيو الدنيويّة، حيث تعرّفت إلى رجل، وتزوّجته في سنّها العشرين، وأنجبت منه أطفالاً. كانت حياتها فارغة البال، حتّى أنّها سمحت لِنفسها باحتقار ما يسمى بِـ “التائبين” – المنتشرين جدًّا في تلك الحقبة – الذين كانوا يبيعون ممتلكاتهم من أجل اتّباع المسيح ويعيشون في الصلاة والصوم وفي خدمة الكنيسة وأعمال الخير.

أثّرت بعض الأحداث، كالزلزال العنيف الذي وقع عام 1279 وأحد الأعاصير والحرب الطويلة ضدّ مدينة بيروجّا وعواقبها الوخيمة، على حياة أنجيلا، التي أصبحت تدريجيًّا على بيّنة من خطاياها، حتّى الخطوة الحاسمة: فقد ابتهلت إلى القدّيس فرنسيس، الذي تراءى لها، لِتطلب مشورته من أجل اعتراف عامّ جيّد تقوم به: نحن في العام 1285، واعترفت أنجيلا لدى أخ في سان فيليتشانو: وبعد ثلاث سنوات، عرفت طريق التوبة تحوّلاً آخر: تفكّك أواصرها العاطفيّة، حيث فقدت في بضعة أشهر والدتها ثمّ تبعتها وفاة زوجها وأولادها جميعهم. حينئذ باعت كلّ ممتلكاتها وانضمّت عام 1291 إلى الرهبنة الثالثة للقدّيس فرنسيس. وتوفّيت في فولينيو في 4 كانون الثاني/يناير 1309.

يروي “كتاب الطوباويّة أنجيلا من فولينيو”، الذي يجمع الوثائق حول طوباوّيتنا، هذه التوبة؛ فيُشير إلى الوسائل اللاّزمة: التكفير عن الذنب، والتواضع والمحن، ويروي الخطوات، وتسلسل خبرات أنجيلا، التي بدأت عام 1285. وقد حاولت وهي تتذكّرها، بعد أن عاشتها، أن تُخبرنا عنها من خلال الأخ المعرِّف، الذي نقلها حرفيًّا بإخلاص مُحاولاً فيما بعد تنظيمها على مراحل، وصفها بِـ “الخطوات أو التحوّلات”، ولكن دون أن يتمكّن من ترتيبها بشكلٍ كامل (راجع Il Libro della beata Angela da Foligno, Cinisello Balsamo 1990، ص 51). وذلك لأنّ تجربة اتّحاد الطوباويّة أنجيلا هي إشراك كامل للحواسّ الروحيّة والجسديّة، وممّا “تفهمه” أثناء النشوة يبقى، إذا ما جاز التعبير، شبه “ظلّ” فقط في ذهنها. واعترفت القدّيسة بعد اختطاف تصوّفي قائلة: “لقد سمعتُ هذه الكلمات حقًّا، ولكن ما رأيته وفهمته، وما أظهره لي تعالى، لا أعرف بأيّ وسيلة يمكنني البوح به، رغم أنّني كنت سأكشف بِطيبة خاطِر ما فهمتُه من الكلمات التي سمعتها، ولكنّها كانت هاوية لا توصف على الاطلاق”. تعرض أنجيلا من فولينيو “ما عاشته” بشكلٍ تصوّفي، دون معالجته عن طريق العقل، لأنّها عبارة عن استنارات إلهيّة تتواصل مع نفسها بِشكلٍ مفاجئ وغير متوقّع. حتّى أنّ الأخ المعرِّف يجد صعوبة في نقل هذه الأحداث كتابيًّا، “ويعود ذلك جزئيًا إلى تحفّظها الكبير والمدهش بخصوص العطايا الإلهيّة” (المرجع نفسه، ص 194). وتُضاف إلى صعوبة أنجيلا للتعبير عن تجربتها الصوفيّة صعوبةُ فهمها من قبل مُستمعيها. وهي حالةٌ تُظهر بوضوح كيف أنّ المعلّم الحقيقي الوحيد، يسوع، يعيش في قلب كلّ مؤمن ويبغي امتلاكه بالكامل. وهكذا في أنجيلا، التي كتبت لأحد أبنائها الروحيّين: “يا بنيّ، إذا رأيت قلبي، سوف تكون مُجبرًا حتمًا على القيام بكلّ الأشياء التي يريدها الله، لأنّ قلبي هو قلب الله وقلب الله قلبي”. وهنا يتردّد صدى كلمات القدّيس بولس: “فلستُ بعد أنا الحيّ بل المسيح هو الحيّ فيَّ” (غلاطية 2، 20).

لِنراجع إذن بضع “خطوات” درب طوباويّتنا الروحيّ الغنيّ. الخطوة الأولى، في الواقع، عبارة عن مقدّمة: “لقد كانت معرفة الخطيئة، -كما تقول بدقّة – خافت بعدها روحي خوفًا عظيمًا من الهلاك؛ فبكت في هذه الخطوة بكاءً مرًّا” (كتاب الطوباويّة أنجيلا من فولينيو، ص 39). يُجيب هذا “الخوف” من الجحيم على نوع الإيمان الذي كان عند أنجيلا زمن “توبتها”؛ إيمانٌ لا يزال يفتقر إلى المحبّة، أي إلى محبّة الله. وتفتح التوبة والخوف من الجحيم والتكفير عن الذنب أمام أنجيلا إمكانيّة “درب الصليب” المؤلم الّذي سوف يحملها، من الخطوة الثامنة إلى الخامسة عشر، على “درب المحبّة”. يروي الأخ المُعرِّف: “قالت لي المؤمنة: لقد كان لي هذا الوحي الإلهيّ: «بعد ما كتبتموه من الأمور، اجعليه يكتب أنّ أيّ شخص يريد أن يحافظ على النعمة لا يجب أن يحوّل عينَيْ نفسه عن الصليب، أكان في الفرح أو في الحزن الذي أمنحه إيّاه أو أسمح به»” (المرجع نفسه، ص 143). لكنّ أنجيلا في هذه المرحلة، “لا تشعر بالمحبّة” بعد؛ وتؤكِّد قائلة: “تشعر الروح بالخجل والمرارة ولا تختبر المحبّة، بل الألم” (المرجع نفسه، ص 39)، وهي لذلك غير راضية.

تشعر أنجيلا بأنّه يجب عليها أن تقدّم شيئًا لله للتكفير عن خطاياها، ولكنّها تدرك ببطء أنّه ليس لديها ما تقدّمه إليه تعالى، لا بل “أنّها عدمٌ” أمامه، وتدرك أن إرادتها ليست هي التي ستعطيها محبّة الله، لأنّ هذه الإرادة يمكنها فقط أن تعطيها “عدمها”، “اللامحبّة”. كما سوف تقول: وحدها “المحبّة الحقيقيّة النقيّة، التي تأتي من عند الله، تكمن في النفس وتجعلها تعترف بِعيوبها وبالطيبة الإلهيّة […] هذه المحبّة تحمل النفس إلى المسيح وتفهم بالتأكيد أنّه لا يمكن أن تحدث أو تكون هناك أيّة خدعة. ولا يمكن مزج أيّ شيء ممّا هو في العالم مع هذه المحبّة” (المرجع نفسه، ص 124-125). يكفي الانفتاح كليًّا على محبّة الله، التي تجد تعبيرها الأقصى في المسيح: فتُصلّي “اجعلني يا إلهي مُستحقّة أن أعرف السرّ العليّ، الذي حقّقتْه محبّتك المتّقدة الفائقة الوصف، مع محبّة الثالوث، أي سرّ تجسّدك الكليّ القداسة الكبير من أجلنا. […]. أيّتها المحبّة غير القابلة للإدراك! فوق هذه المحبّة، التي دفعت إلهي لأن يجعل نفسه إنسانًا ليجعلني إلهًا، ليست هناك محبّة أكبر من هذه” (المرجع نفسه، ص 295). ومع ذلك، يحمل قلب أنجيلا دائمًا جراح الخطيئة؛ وحتّى بعد اعتراف قامت به بشكل جيّد، كانت تجد نفسها في الوقت نفسه مُسامَحة ومُتعبة بالخطيئة، حرّة من قيود الماضي وخاضعة لها، مغفورًا لها وبِحاجة إلى التكفير. وكان يراودها أيضًا التفكير بالجحيم لأنّه كلّما تقدّمت الروح على طريق الكمال المسيحيّ، كلّما أصبحت أكثر قناعة بأنّها ليست فقط “غير مستحقّة”، بل إنّها تستحقّ الجحيم.

وهكذا فهمت أنجيلا، في دربها الصوفيّ، بطريقةٍ عميقة الواقعَ الجوهريّ: إنّ ما يخلّصها من “عدم استحقاقها” و“استحقاق الجحيم” لن يكون “اتّحادها بالله” وامتلاكها “الحقّ”، بل يسوع المصلوب، “صلبه من أجلي”، محبّته. تقول في الخطوة الثامنة: “لكنّني لم أكن أفهم ما إذا كان خيرًا أكبر تحرُّري من الخطيئة والجحيم والتوبة والتكفير، أو صلبه لأجلي” (المرجع نفسه، ص 41). إنّه التوازن غير المستقرّ بين المحبّة والألم، والذي شعرت به طول دربها الصعب نحو الكمال. وهي لهذا بالتحديد تفضّل التأمّل بالمسيح المصلوب، لأنّها ترى في هذه الرؤية تحقّق التوازن المثاليّ: على الصليب هناك الإنسان الإله، في عمل سامٍ من العذاب هو علامة سامية للمحبّة. وتُشدِّد الطوباويّة في التعليم الثالث على هذا التأمّل مؤكِّدة: “كلّما كنّا نرى بِشكلٍ كامِل ونقيّ، كلّما أحببنا بِشكلٍ كامل ونقيّ. […] لهذا كلّما نظرنا أكثر إلى الله والإنسان يسوع المسيح، كلّما تحوّلنا أكثر بواسطته من خلال المحبّة. […] وما قلتُه عن المحبّة […] أقوله أيضًا عن الألم: حين تتأمّل النفس بالألم العظيم الذي عاناه يسوع المسيح الإله والإنسان، فهي تحزن كثيرًا وتتحوّل إلى ألم” (المرجع نفسه، ص 190-191). نحن أمام التماثل والتحوّل في محبّة المسيح المصلوب وآلامه، والتماهي معه. سوف تصل توبة أنجيلا، التي بدأت باعتراف عام 1285، إلى النضوج فقط عندما تظهر مغفرة الله لنفسها كَعطيّة مجانيّة من محبّة الآب، ينبوع المحبّة، حيث تؤكِّد أنّه “لا يمكن لأحد تقديم اعتذارات، لأنّ أيّ شخص يمكنه أن يحبّ الله، وهو تعالى لا يطلب من النفس البشريّة إلاّ أن تحبّه، لأنّه يحبّها وهي حبيبه” (المرجع نفسه، ص 76).

في مسيرة أنجيلا الروحيّة تحدث النقلة من التوبة إلى الذوق الصوفيّ، ممّا يمكننا التعبير عنه إلى ما نعجز عن التعبير عنه، وهذا من خلال المصلوب. إنّه “الإله الإنسان المتألّم”، الذي أصبح “معلّمها في الكمال”. فكلّ خبرتها الصوفيّة هي تتّجه نحو “التشابه” الكامل معه، من خلال تطهّرات وتحوّلات أكثر عمقًا وجذريّة. وتنخرط أنجيلا في هذا المشروع الرائع بكلّيّتها، روحًا وجسدًا، دون أن توفّر على نفسها أيًّا من التكفيرات والمحن، منذ البداية وحتّى النهاية، راغبةً في الموت مع كلّ الآلام التي عانى منها الإله الإنسان المصلوب كيما تتحوّل كليًّا فيه: فكانت توصي قائلة: “يا أبناء الله، تحوّلوا كليًّا إلى الإله الإنسان المتألِّم، الذي أحبّكم لدرجة استحقاقه الموت من أجلكم بِموت مُخزٍ للغاية ومؤلم يفوق الوصف وبشكلٍ شاقّ ومرير جدًّا. وهذا حبًّا بك فقط، أيّها الإنسان!” (المرجع نفسه، ص 247). يعني هذا التماثل أيضًا عيش ما عاشه يسوع: الفقر والاحتقار والألم، لأنّه – كما تؤكِّد – “بواسطة الفقر في الدنيا ستجد النفس ثروات خالدة؛ ومن خلال الازدراء والعار سوف تحصل على شرف عظيم ومجد كبير؛ ومن خلال القليل من التكفير عن الذنب، القائم على الألم والحزن، ستمتلك بعذوبة وعزاء لانهاية لهما الخير الأسمى، الله السرمديّ” (المرجع نفسه، ص 293).

من التوبة إلى الاتّحاد التصوّفي مع المسيح المصلوب، إلى ما لا يُمكن التعبير عنه. إنّه درب علويّ جدًّا، سرّه الصلاة المستمرّة: تؤكِّد القدّيسة أنّه “كلّما صلّيتَ، كلّما استنرت؛ وكلّما استنرت كلّما رأيت الخير الأسمى، الكائن الكلّي الصلاح، بشكلٍ أعمق وأقوى؛ وكلّما رأيته بِشكلٍ أعمق وأقوى، كلّما ازددت حبًّا له؛ وكلّما ازددت حبًّا له، كلّما أبهجك؛ وكلّما أبهجك، كلّما فهمته وأصبحت قادرًا على فهمه. ومن ثمّ سوف تصل إلى ملء النور، لأنّك سوف تفهم أنّك لا تستطيع أن تفهم” (المرجع نفسه، ص 184).

إخوتي وأخواتي الأعزّاء، لقد بدأت حياة القديسة أنجيلا بِحياة دنيويّة، بعيدًا بما فيه الكفاية عن الله. ولكن بعد اللقاء مع شخصيّة القديس فرنسيس، وأخيرًا، اللقاء مع المسيح المصلوب أيقظ نفسها إلى وجود الله. لأنّه وحدها مع الله تصبح الحياة حياةً حقيقيّة، لأنّها تصير، في الألم بسبب الخطيئة، محبّة وفرحًا. وهكذا تُكلّمنا القدّيسة أنجيلا. نحن اليوم جميعًا في خطر العيش كما لو كان الله غير موجود: يبدو بعيدًا للغاية عن الحياة اليوميّة. ولكن لدى الله ألف طريقة، لكلّ واحدٍ طريقه، كي يصل إلى نفسنا، لِيُبيِّن أنّه موجود وأنّه يعرفني ويحبّني. تريد منّا القديسة أنجيلا أن نتنبّه لهذه العلامات التي يمسّ الربّ بها أنفسنا، أن نتنبّه لحضور الله، لنتعلّم هكذا الطريق مع الله وصوب الله، بالشرِكة مع المسيح المصلوب. لِنصلِّ إلى الربّ كي يجعلنا نتنبّه إلى علامات حضوره، ويعلّمنا كيف نعيش حقًّا. شكرًا.

البابا بندكتوس السادس عشر

الأربعاء 13 أكتوبر 2010

قد يعجبك ايضا
اترك رد