إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

سيرة القديس باخوميوس – الجزء الثالث

0 986

تأسيس أديرة جديدة:

  1. لما تزايد الأخوة، فى دير طبانيس، وأصبح لا يتسع للأعداد الوفيرة، بدأ آبا باخوميوس يطلب إلى الرب من أجل هذا الأمر. فأعلم فى رؤيا أن يذهب شمالا إلى إحدى القرى المهجورة، أسفل النهر وتدعى فابو، ويؤسس هناك ديرًا. وأعلمه الله أن هذا الدير سيصير مركزًا لأديرة الشركة، وستزيد سمعته من خلال هذا الدير. فقام الأب وأخذ معه بعض الأخوة وذهب إلى تلك القرية، وقضوا هناك أياما حتى بنوا حائط الدير، ثم بني مكانا للصلاة بموافقة أسقف ديوسبوليس، ثم بني البيوت التابعة له. وقام بتعيين المسئول عن كل بيت، ونائبًا له، وفقا لقوانين الدير الأول. وأصبح آبا باخوميوس مسئولا عن الديرين، يهتم بهما ويسهر على رعايتهما، معتنيًا بهما الليل مع النهار، كخادم أمين لله.
  2. حدث بعد ذلك، أن أرسل آبا آمون، وهو شيخ وأب لجماعة فى صانسيت، رسالة إلى آبا باخوميوس يقول له فيها: “أود أن يكون الدير الذى أتشرف بمسئوليته، تحت قيادتكم ليصير ضمن أديرة الشركة التى تقوم بخدمتها، كما أريد أن تعرفنا بقوانين الشركة التى صاغتها لك السماء.” فاستجاب آبا باخوميوس لطلبه، وذهب إلى هناك مع بعض الأخوة، فنظم لهم البيوت، وعين لكل منها مسئولا ونائبا عنه، وكان يتردد لزيارتهم كثيرًا، يشجعهم ويقوى همتهم، بما يتفق مع التعاليم الإلهية، وقانونية جهاد القديسين.
  3. كان هناك أب لجماعة فى طومسون يدعى يؤنس. هذا أرسل لآبا باخوميوس، يطلب مقابلته فلما حضر مع بعض الأخوة، استقبله بفرح وقال له: “إن رائحة القداسة قد فاحت وانتشرت، لذلك نود أن تكون لنا شركة فى عبير القداسة هذه.” فقبل آبا باخوميوس أن يكون هذا الدير ضمن أديرة الشركة، فنظمه لهم وفقًا للقوانين المعمول بها فى الأديرة الأخرى. وكان آبا باخوميوس يفتقدهم كثيرًا لاسيما لتدبير أمورهم الروحية والجسدية.

ثم لم يلبث بعد ذلك أن ضم الدير الذى كان يقطنه حين كان علمانيا وقبل رهبنته ويدعى دير باسترسون. وبدأ يعتني به، لا سيما أشجار النخيل الموجودة هناك، وهكذا أصبح واحدًا من أديرة الشركة.

  1. بعد ذلك ظهرت له رؤيا تقول له: “عليك أن تنظم جماعة للشركة فى تيكاسمين لتجمع لى شعبا هناك. فقام للحال وأخذ معه لفيفًا من الأخوة، وهناك بني الدير والقلالي، وعين لهم المسئولين عن البيوت ووكلاءهم. ورتب لهم كل أمورهم واحتياجاتهم بحسب قوانين الشركة المعمول بها فى بقية الأديرة. وكان آبا باسو هو المسئول عنهم جميعا. وكان آبا باخوميوس يحضر لزيارتهم، حتى يدبر حاجتهم ويرشدهم وفقا لكلمة الله.
  2. حدث أن أحد الحكام الأتقياء، فى مدينة قوص، أرسل قاربا كان يمتلكه، مملوءًا قمحًا، ومعه رسالة إلى آبا باخوميوس يقول له فيها: “لقد سمعت عن عظم محبتك، وتقواك، كما سمعت أيضا عن كثرة تنقلاتك شمالا وجنوبا لافتقاد أولادك. لذلك فأنني أرسل لك يا سيدي، هذا القارب، لكى تستلم الشحنه التى عليه، لأجل احتياجات الأخوة، وأيضا لكي تستخدم القارب فى زيارتك للأديرة، ويبقى عندك دائما. وأرجو أن تصلى لأجلي حتى يتراءف علي الملك السمائي ويرحمني. علما بأنني لست أنا الذى قدمته، بل ذاك الذى تخدمه أنت وكل جماعتك.”
  3. فى يوم آخر، أرسل له أسقف مدينة سمين، وهو شيخ ناسك إلى آبا باخوميوس رسالة تقول: “أتوسل إليك أن تأتى إلى، لتنظم لى ديرًا فى المنطقة، فتحل بركة الرب فى المكان بسببك.” فقام آبا باخوميوس ومعه بعض الأخوة والشيوخ وأبحروا شمالا، حتى وصلوا إلى ذلك الأسقف، ففرح بهم وعين لهم المكان وأعطاهم مركبًا أخرا تقدمة لهم، لكي يستعملونه فى وقت الحاجة. فبدأوا جميعا فى بناء الدير، وكان آبا باخوميوس يحمل الطين على ظهره، كبقية الأخوة دون تمييز. ولكن حدث أثناء ذلك، أن قام بعض الرجال الأشرار، بدافع من الغيرة والحسد لكى يهدموا بالليل ما يكون قد بناه الأخوة فى النهار. لكن الله ألهم آبا باخوميوس الصبر وطول الأناة، وأخبره فى رؤيا أن ملاكا سيحرس الدير، ويمنع الأشرار من المضي فى هدفهم. وفعلا استمر فى العمل حتى أكمل بناء الدير، ثم عين المسئولين عن البيوت ووكلاءهم.
  4. حضر مرة بعض الفلاسفة إلى الموضع الذى يقيم به آبا باخوميوس لكى يمتحنوا أقواله، فأرسلوا إليه يطلبون مقابلته. فأدرك رجل الله الشباك التى نصبها له الشيطان عن طريقهم فأرسل واستدعي كرنليوس (أحد تلاميذه)، وقال له: “أذهب وجاوب هؤلاء الرجال عديمي الحس الذين لا يفكرون إلا فى الجسديات، بما يضعه الله فى قلبك.” فذهب إليهم كرنيليوس مع اثنين من الأخوة. فلما رأوهم الفلاسفة سألوهم: “أين أبوكم؟” أجابهم كرنيليوس بلطف: “ماذا تريدون منه؟ إن روحه موجودة فينا. والآن تحدثوا بما عندكم.” فتكلم أكبرهم وسأل قائلا: “كيف وأنتم رهبان وتتمتعون بالسمعة الطيبة، والحكمة الحسنة، تبيعون الزيتون فى منطقة أسمين فأجاب آبا كرنليوس: “إن الزيتون الذى يبيعه الرهبان هو بمثابة الملح لكل زيتون آخر، مثل الرهبان أنفسهم الذين يعتبرون ملح العالم، لا سيما لكم أنتم الفلاسفة الذين تتفاخرون بعلمكم وهو لا يزيد عن كونه مجموعة كلمات عقيمة بلا ثمر، الأمر الذى جعلكم بلا طعم ولا نكهة.” فلما سمعوا ذلك خجلوا واحمرت وجوههم إذ لم يستطيعوا بعلمهم الكاذب أن يقاوموا حكمة الله الحقيقية التى تسكن قلوب هؤلاء البسطاء. ولكن على الرغم من ذلك لم يردعوا بل رجعوا مرة أخرى يطلبون آبا باخوميوس لكى يسألوه وتباحثوا معه. فأرسل لهم هذه المرة تلميذه تواضروس ومعه اثنين آخرين. فلما رأوهم الفلاسفة، قام واحد منهم وهو مملوء عجبًا وكبرياء وقال لهم: “أنا أريد أباكم لكى أسأله وأتناقش معه بخصوص ما ورد فى كتابكم المقدس”. فأجابه تواضروس باتضاع: “إن خادم المسيح آبا باخوميوس مشغول بما هو أهم، والآن قل ما عندك واسأل كما شئت، والذى عنده منا إجابة بحسب ما يمليه الروح يجيبك.” فقال الفيلسوف: “أنتم تفتخرون بأنكم تعرفون الكتاب المقدس جيدًا وتفهمون تفسيره، فقل لى من هو الشخص الذى مات مع أنه لم يولد؟ ومن هو الإنسان الذى ولد ولم يمت؟ ومن هو الإنسان الذى مات ومع ذلك لم يتحلل جسده؟”. أجابه تواضروس: “إن الذى مات ولم يولد هو آدم، والذى ولد ولم يمت هو أخنوخ أما الذى مات ولم يتحلل جسده فهي امرأة لوط لأنها تحولت إلى عمد ملح. وحينما سمع هذا الفيلسوف كلمات الحكمة الخارجة من فم تواضروس اضطرب جدًا وقال له:” قل لأبيك إنك قد بنيت بيتك على الصخر الذى لا ينكسر، لتكن أنت مباركا وكل أولادك الذين تقودهم لأن الله قد منحك عقلا مستنيرًا يفوق كل الخليقة ولن يستطيع أحدا أن ينكر ذلك، وانك سوف تنتصر وتتقوى وتصل سمعتك إلى أقاصي الأرض”. وبعد أن قال هذه الكلمات انحنى لآبا تواضروس ورجع مع بقية الفلاسفة الذين أتوا معه. وحين سمع آبا باخوميوس ما حدث من أمرهم، تعجب جدًا وبارك الله قائلا: “مبارك أنت أيها الرب إلهي الذى قهرت جليات وكل مبغضي صهيون.”
  5. فى مدينة قوص التابعة لأبروشية هاو، كان هناك رجلا تقيًا، يدعى باترونيوس، مملوءا بروح الله، وهو من عائلة غنية تملك ثروة عظيمة لكنه مع ذلك عزم فى قلبه أن يترك العالم وينصرف عنه، لكى يتفرغ للعمل الروحي. فهجر أسرته، واعتزل العالم، وبني ديرا فى منطقة تابو، وجمع معه كل من يريد أن يحيا للمسيح. ولما سمع بأخبار أديرة الشركة التى تحت إرشاد آبا باخوميوس. أرسل له خطابا يقول فيه: “هل أكون مستحقًا، أن تأتي إلى هنا، لنعيش تحت ظل قيادتك التى منحها لك الرب يسوع المسيح.” فأخذ آبا باخوميوس بعض من تلاميذه وذهب إليه، ونظم لهم كل شئ، مثل الأديرة السابقة. وكان لباترونيوس أب يدعى سنتابو وأخ يدعى سناباهى، وكانا يخافان الله، هذان لما تحدث معهما باترونيوس بكلمة الله، تاقت نفساهما إلى حياة الرهبنة، فجعلهما راهبين معه. فعاشا فى حياة موت وتجرد كلى عن العالم، حتى أن أباه قد وهب كل ما يملك من أغنام وماعز وماشية وجمال وحمير وعربات وكل ماله، لأديرة الشركة.
  6. بإرشاد من الله، ذهب آبا باخوميوس مع بعض الأخوة، شمالا إلى قرب منطقة تاسمين فبني هناك ديرا، وأطلق عليه دير تاسمين. وبعد أن أكمل بناءه، أخذ آبا باترونيوس المسئول عن دير تابو وأقامه أبا على هذا الدير ليرعاه ويقود الأخوة، وفقا لروح الله الذى يملأه، علاوة على رعايته لديرين آخرين بالقرب منه، حتى يجبر الأخوة، بكلامه المملوء نعمة، حسب قول الكتاب: “ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلحا بملح لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل واحد. كما أقام آبا باخوميوس أبا آخر على دير تابو بديلا عن باترونيوس يدعى أبولونيوس، وهو شيخ فاضل مملوء بالتقوى والإيمان حتى يقود الأخوة فى طريق القديسين كما كان سلفه.
  7. وفى رؤيا أخبر آبا باخوميوس أن يذهب ويؤسس ديرًا فى الجنوب فذهب مع عدد من الأخوة، إلى جبل إسنا، فى مكان يدعى فانوم، ولما بدأ فى بناء حائط الدير، حضر أسقف المنطقة ومعه رهط من الرجال، وطلبوا من آبا باخوميوس ومن معه، أن يتركوا المكان ويرحلوا. ولكن رجل الله تصرف بحكمة، وبنعمة الرب أقنعهم، فانصرفوا وتركوه وشأنه فأكمل بناء الدير وأحسن تشطيبه، وكان الدير كبيرًا جدًا، وبعد أن نظمه بحسب قوانين الشركة التى لبقية الأديرة، وأقام فيه أبًا وقورًا يدعى سوروس، قام ورجع إلى مكانه. وقد اعتاد آبا باخوميوس أن يزور الأديرة التى أسسها لكى يفتقد الأخوة الذين فيها ويعزيهم بكلمة الله مثل المرضعة التى تغذى أولادها.

زُهد باخوميوس:

  1. فى إحدى المرات عزم آبا باخوميوس على زيارة دير فى منطقة طومسون لكى يفتقد الأخوة هناك، فقام مع اثنين من الأخوة واستقلوا جميعا قاربا لكى يصلوا به إلى هناك. وفى المساء على المركب بينما هم يتناولون طعامهم الزهيد المكون من الخبز والجبن والزيتون وبعض الخضروات، أحنى آبا باخوميوس رأسه وأكل خبزًا فقط، والدموع تنساب من عينيه. وبعد الأكل لاحظ أحد الأخوة دموعه فسأله: “يا أبى لماذا لم تتناول سوى الخبز فقط؟ وما الذى أبكاك؟” أجابه الأب: “إن الذى أبكاني هو عدم وجود خوف الله فى قلوبكم لأنكم لم تزهدوا فيما وضع أمامكم، بل أكلتم من كل الأصناف الموضوعة، لأن من يهتم بالسماويات عليه أن يكون زاهدًا جدًا فى الجسديات وفقا لكمات بولس الرسول:”وكل من يجاهد يضبط نفسه فى كل شئ.
    أما أنا فقد كنت قانعا بالخبز المبلل بالماء فقط.”

ثم بعد ذلك قال لهما: “هل ترغبان فى أن تمارسا السهر الليلة معي؟” فلما أجابا: “نعم.” قال لهما: “لقد تعلمت من أبينا الشيخ القديس بلامون، ثلاثة طرق للسهر، أنا أخبركم بها، وأنتما تختاران إحداهما، الطريقة الأولى أن نصلى من المساء حتى منتصف الليل ثم ننام حتى وقت صلاة المجمع. والثانية أن ننام حتى منتصف الليل ثم نقوم للصلاة حتى الصباح، أما الطريقة الثالثة فهي أن ننام قليلا ثم نقوم للصلاة، ثم ننام قليلا ثم نقوم للصلاة وهكذا من المساء حتى الصباح.” فاختار التلميذان الطريقة الأخيرة، وهى أن يقضوا جزء من الليل فى الصلاة وجزءًا فى النوم وهكذا بالتناوب، فنظم لهما آبا باخوميوس وقت الصلاة ووقت النوم. ووقفوا جميعًا للصلاة، ولكن أثناء ذلك غلب النوم أحد الأخين فذهب ونام بينما استمر الأخر فى الصلاة مع آبا باخوميوس، ولما حن وقت الصلاة المجمع أيقظ الأخ النائم ليصلى مع الشيخ وذهب هو لينام، وهكذا حتى وصولوا جميعًا إلى طومسون.

وهناك لما وصلوا إلى الدير، قبل آبا باخوميوس جميع الأخوة وكذلك آبا كرنيليوس مدبر الدير وسأل آبا كرنيليوس الراهبين اللذين كانا فى رفقة الشيخ، كيف قضى آبا باخوميوس ليلته بالأمس فى المركب، فأخبراه بأنه فى تلك الليلة قد أعطاهما درسا فى السهر، فتعجب كرنيليوس وأنبهما قائلا: “كيف وأنتم الشباب تنامون بينما تتركون هذا الشيخ الضعيف يتفوق عليكم.”

وفى المساء، ذهبوا جميعًا لتناول الطعام، وبعدها قال آبا باخوميوس لكرنيليوس: “هل ترغب فى الوقوف معي للصلاة؟” فأجابه: “نعم.” فوقفا يصليان، واستمرا فى الصلاة حتى وقت صلاة المجمع، وكان أنه حينما أعطيت إشارة بدء صلاة المجمع، ترنح آبا كرنيليوس وقال لآبا باخوميوس: “ماذا فعلت يا أبى حتى تلقنني درسا مثل هذا؟ إنك لم تعطني آيه فرصة حتى أشرب ولو كوب ماء، منذ أن تركت المائدة فى المساء حتى الآن.” فأجابه قائلا: “وكيف تترك هذا الشيخ الضعيف يتفوق عليك؟” حينئذ أدرك كرنيليوس أن آبا باخوميوس قد علم بالروح ما قاله للأخين مؤنبا أياهما فانحني وسجد له قائلًا:”إغفر لي يا أبي لأنني أخطأت إذ تكلمت بما لا يليق.”

  1. ولما تركوا طومسون، اتجهوا إلى فابو، حيث زاروا الأخوة وافتقدوهم وحين وصلوا إلى هناك، قام آبا باخوميوس بتعيين آبا بفنوتيوس شقيق تواضروس وكيلًا عامًا لتدبير شئون كل الأديرة، إذ كان رجلا كاملا فى الفضائل، حسن المنطق، دائب العمل.
  2. مرة، مرض آبا باخوميوس، ورقد طريح الفراش، فأعدوا له مرقا لكى يأكل. ولكنه عندما رأى ذلك، قال لتواضروس: “احضر لى وعاء ماء.” فأحضر له، فقام وصب منه على المرق حتى أفسد طعمه ومذاقه. وبعد ذلك قال لتواضروس: “صب لي قليل ماء حتى أغسل يدي.” فلما غسل يديه، قام آبا باخوميوس بدوره وصب ماءًا وغسل رجلي تواضروس، ولما سأله تواضروس: “لماذا فعلت هكذا؟” فأجابه قائلا: “إنني سكبت من الماء على مرقه الخضار حتى أفسد لذة التذوق، فلا أسقط فى شهوة الجسد. وحين صببت لى الماء لأغسل يدي، قمت أنا بدوري لأغسل قدميك حتى لا تدينني أفكاري أنك خدمتني. إذ يجب على أن أكون خادمًا للجميع.

زُهد تواضروس:

  1. كان هناك أخ، دأب آبا باخوميوس على توبيخه من أجل سوء فعله، وكان ذلك لأجل تقويمه وإصلاح نفسه. فلما ضاقت نفسه التوبيخ، فكر فى أن يترك الرهبنة تمامًا. فشكى حاله لتواضروس قائلًا: “إننى لا أستطيع أن أعيش مع هذا الشيخ القاسى علىَّ دائمًا.” عندئذ أراد تواضروس بحكمته أن يخفف عنه وطأة آلامه، المثقل بها، فسأله: “وهل حزن قلبك من أجل هذه المعاملة.” أجابه: “نعم.” فأردف تواضروس قائلًا: “إننى أنا أيضًا أعانى منه، بل وأكثر منك، والآن دعنا نختبره مرة أخيرة، فإذا أحسن معاملتنا، فإننا نبقى وإلا فلنترك المكان ونذهب إلى مكان آخر.”

فلما سمع الأخ هذا الكلام هدأت نفسه وارتاحت روحه. وأما تواضروس فقد توجه إلى آبا باخوميوس وأخبره بأمر هذا الأخ وما دار بينهما. فقال له: “حسنًا فعلت، فحين يأتى الليل، أحضر هذا الأخ معك، وتظاهر أنت بأنك توبخنى، وأنا سوف أطيب خاطره، بما يضعه الرب فى فمى من كلام.” وفعلًا فى الليل قام تواضروس وذهب إلى ذاك الأخ وقال له: “هيا بنا إلى الشيخ لنرى كيف تكون معاملته؟” فلما وصلا إليه وتبادلوا الحديث قال آبا باخوميوس: “إغفر لى يا أخى لأنني أخطأت إليك، وأنتم كأولاد مباركين تحتملون ضعفى.” حينئذ أخذ تواضروس يوبخ الشيخ، وتظاهر كأنه هو أيضًا ساخط على هذه المعاملة القاسية. إلا أن الأخ عنف تواضروس قائلًا: “كف يا تواضروس عن هذا الكلام. كفى لقد ارتاحت نفسى من نحو أبينا الشيخ.”

  1. ظل أحد الأخوة يلح على آبا باخوميوس أن يسمح له بزيارة أسرته، ولما تعب الأخ من كثرة الإلحاح، قال له: “إذا لم تسمح لى بالذهاب لزيارة أسرتي، فسوف أترك حياة الرهبنة وأرجع إلى العالم، وأصير علمانيًا.” عندئذ استدعي آبا باخوميوس تواضروس وقال له: “أنا أعرف حكمتك فى معالجة الأمور، ومدى عطفك على مثل هؤلاء التعابى، والآن أنا أريد منك أن ترافق هذا الأخ لتصير مسئولا عنه فى أثناء زيارته لأسرته، وعليك أن تكون شفوقا عليه فى كل شئ، حتى تستطيع أن ترجعه إلى هنا ثانية، فهو على كل حال إنسان لا يخلوا من الفضيلة، وفوق ذلك أنها إرادة الله أن نكون لطفاء مع جميع الناس حتى نستطيع أن نخلص أرواحهم من قبضة الشياطين والرب قادر أن يعوضك عن تعبك.”

فأطاع تواضروس بكل تواضع، وذهب مع ذلك الأخ. وكان أنهما لما وصلا، قال الأخ لأسرته:
“أعدوا لنا طعاما رهبانيا زهيًا، فى مكان بعيد ومنعزل حتى نأكل.” ولما أعدوا الطعام قال ذلك الأخ لتواضروس: “هيا لنأكل.” ورغم أن تواضروس كان متضايقًا جدًا أن يأكل عند علمانيا لأنه لم يتعود على ذلك قط، إلا أنه قال فى نفسه: “إن لم أخضع لهذا الأخ فى كل شئ فلن أقدر أن أرجعه إلى الدير ثانية، وبما أننا سنأكل فى مكان منعزل لن يبصرنا فيه أحد، علاوة على أن الأكل المعد هو ما يأكله الرهبان عادة، إذن فلا مانع.” وعندئذ أكل قليلًا وظل لطيفًا معه حتى عاد به إلى الدير ثانية. ولما رجعا أخبر تواضروس آبا باخوميوس بكل ما حدث، فلم يلومه قط، إذ كان يعلم أنه فعل ذلك من أجل الله ومن أجل خلاص نفس هذا الأخ.

وكان بعد ذلك أن تواضروس أراد أن يقنع ذلك الأخ بعدم تكرار مثل هذه الزيارة فانتحى به جانبا وسأله قائلا: “كيف تفسر قول الإنجيل: “إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه فلا يقدر أن يكون لى تلميذا. فأجاب الأخ: “إن الإنجيل قد وضع هذه الوصية كدرجة كمال عليا، نحن لا نستطيع أن نصل إليها بالتمام، ولكننا ندرك جزءا منها فقط، لأنه كيف يمكننا أن نبغض والدينا؟” فقال تواضروس: “هل هذا إيمان رهبان طبانيس، أن يقول الإنجيل شيئا، وأنت شيئا أخرًا، بالحق إن كان هذا هو إيمانك، فإنني أترك الدير، وأذهب إلى الدير الصغير الذى جئت منه، لأن الرجال الشيوخ الذين هناك لم يخالفوا الإنجيل قط.” وتظاهر بأنه سيغادر المكان ففعلًا. فجاء الأخ وأخبر آبا باخوميوس بما حدث، فقال له: “ألا تعلم أن تواضروس، ما زال راهبا مبتدئا، بينما أنت شيخ مختبر؟ فالآن أسرع وابحث عنه لأنه لو ترك الدير، فإننا سنفقد سمعتنا الطيبة.” فذهب وبحث عنه حتى وجده، وحاول الأخ أن يثنيه عما عزم عليه من أمر ترك الدير، ولكن تواضروس أصر على موقفه وقال له: “إذا أردت أن أمكث معكم هنا، فعليك أن تعاهدني أمام الله والأخوة، أ، تحفظ وصية الإنجيل ولا تكرر الزيارة لأسرتك مرة أخرى.” عندئذ عاهده الأخ على ذلك. ولم يعد يطلب زيارة أسرته ثانية. وهكذا كان تواضروس يسلك بحكمة مع الأخوة حتى يقودهم إلى كمال الإنجيل .

  1. فى أحد الأيام ظهر ملاك الرب لأبينا باخوميوس، وأمره بأن يعلم أحد الأخوة بما هو نافع لخلاصه، لأن هذا الأخ كان يمارس أعمالا نسكية شديدة، ولكن ليس من أجل الله بل من أجل المجد الباطل. فذهب آبا باخوميوس وتحدث مع الأخ على انفراد وقال له: “إنه مكتوب “لأنني نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذى أرسلني”. والآن عليك بالطاعة لما سآمرك به، متى أعطيت إشارة الأكل فى منتصف النهار، أذهب وكل قليلا من الطعام الذى يقدم لك دون أن تملأ بطنك وكذلك حين تعطى الإشارة فى المساء ـ اذهب أيضا وكل.”

وفعلًا أطاع الأخ وقبل الوصية التى أعطيت له، فكان حينما تعطى الإشارة لبدء الأكل يقوم ويذهب ويأكل مع الأخوة. ولكن لم يمض على ذلك طويلا حتى سقط فى خداع الشياطين، وقال فى نفسه: “أين الموضع الذى كتب فيه لا تصوموا؟” وخضع لرأيه، ولم يعد يذهب ليأكل مع الأخوة. فلما سمع آبا باخوميوس ذلك، حزن على الأخ واستدعى تواضروس وأوصاه قائلا: “أذهب لترى ماذا يفعل الأخ، وإذ وجدته يصلي، أوقفه عن الصلاة حتى أجئ، وعندئذ سيكشف الله عن روح المجد الباطل الذى يملأه.” فقام تواضروس وفعل كما أمره آبا باخوميوس، وحين وصل إلى ذلك الأخ وجده مشغولا فى الصلاة، فأوقفه، عندئذ غضب ذلك الأخ جدًا وأصبح مثل الشيطان ، وأمسك بحجر يريد قتل تواضروس، وتكلم الروح الشرير على فم ذلك الأخ قائلا: “ألا تعلموا أننى أعمل مع أولئك الذين يرنمون بعجب؟” وإذا لم تصدقوا فأنصتوا إلى ذلك الأخ الذى يرنم كل آية تسع مرات ولما حضر آبا باخوميوس وقف مع تواضروس وصليا معًا على ذلك الأخ، فشفاه الله وفتح عيني قلبه ليفهم كيف يسلك “لا كجهلاء بل كحكماء. فأخذ يمجد الله على حسن صنيعه معه.

  1. ذهب آبا باخوميوس مرة مع بعض الأخوة، لكي ينظفوا صهريج الدير وكان يوجد أخ متقدم فى السن عاش غالبية حياته فى العالم ولكنه أخيرًا حضر إلى الدير وصار راهبًا، ولم يكن قد مر على رهبنته سوى فترة وجيزة، بدأ هذا الرجل يتذمر فى نفسه ويقول: “هل أخذ الشيخ أولاد الناس ونزل بهم إلى الصهريج لكي يقتلهم؟” ولكن حدث أنه فى تلك الليلة رأى حلما، وإذ به كأنه يقف فوق الصهريج، ولما نظر إلى أسفل وجد رجلًا مضيئا بالمجد موجودا وسط الأخوة الذين يعملون، ويقول لهم: “خذوا أنتم روح الطاعة والقوة، أما أنت( يقصد الرجل الذى تذمر) فنصيبك هو عدم الإيمان، لأنك تذمرت على الشيخ.” فلما جاء وقت الصباح، وقف هذا الرجل فى المجمع وسط الأخوة وسجد أمامهم واعترف بكل شئ، طالبا الصفح والمغفرة.

أثناء رحلة لجمع الأغصان:

  1. فى إحدى المرات بعد أن فرغ آبا باخوميوس من قطع الأغصان مع الأخوة، وفى طريق العودة سار باخوميوس خلفهم وهو يتلو فى قلبه ما يحفظه من الكتاب المقدس، وبينما هو فى منتصف الطريق إلى المركب، نظر إلى السماء وإذ به يرى رؤيا، فألقى الأغصان التى كان يحملها واستمر فى الصلاة. وظل فى حالة ذهول واختطاف مدة طويلة. عندئذ سجد واستمر فى البكاء بغزارة وقتًا طويلًا حتى أبكى معه الأخوة. وحينما نهض من سجوده، سأله الأخوة أن يخبرهم بما رأى، فجلس وتحدث إليهم قائلًا: “لقد رأيت كل جماعة أديرة الشركة فى ألم عظيم، بعضهم محاط بنار عظيمة لم يقدروا أن يتخلصوا منها، والبعض الآخر فى وسط الشوك التى تنخسهم وهم لا يجدون طريقًا للخلاص منها، والبعض الثالث ساقط فى قاع هوة عظيمة كأنها واد ضيق شديد الانحدار، وهم يجاهدون ليتسلقوا تلك الهوة ولكنهم غير قادرين، لأن الجرف شديد الانحدار وكذلك لم يقدروا أن يلقوا أنفسهم فى النهر لأن هناك تماسيحًا تنتظر ابتلاعهم. والآن يا أولادى الويل لى لأن ذلك مزمع أن يحدث بعد موتى، لأنهم لن يجدوا من يقودهم ويعزيهم.” ثم قام وصلى وأخذ الأغصان، وكذلك حمل الأخوة وهم يلهجون فى كلام الله حتى وصلوا المركب.
  2. لما وصلوا الدير، حضر أحد الشيوخ النساك، لزيارة آبا باخوميوس والأخوة، فاستقبله آبا باخوميوس وقبله، ثم نادى على تواضروس وقال له: “إذهب واعد لنا طعامًا لهذا الأخ الزائر.” فذهب تواضروس ولم يفعل ظانًا أنه قال له: “انصرف ودعنى أتحدث مع الأخ على انفراد.” وبعد ذلك طلب نفس الشئ من أخ آخر. إلا أنه مضى فى طريقه ولم يفعل شيئًا. عندئذ فهم آبا باخوميوس أن هذا من عمل الشياطين فقام وأعد الطعام بنفسه، وقدم لهذا الأخ الزائر، ثم ودعه بسلام. ثم استدعى تواضروس وسأله قائلًا: “إذا طلب منك أبوك الجسدى شيئًا، فهل يمكن أن تخالفه؟ لماذا خالفتنى إذن ولم تعد طعامًا لذلك الأخ الزائر لكى يأكل؟” فأجابه تواضروس: “إغفر لى يا أبى، فإنى ظننت أنك قلت لى: انصرف لأنى أريد أن أتحدث مع الأخ.” ولما نادى الأخ الآخر وعاتبه قال نفس الكلام. عندئذ تنهد آبا باخوميوس وقال: “إنها حرب من الشيطان لكى يعوقنا عن تكميل الأعمال الصالحة، ولكن مبارك هو الله الذى يعطى صبرًا وحكمة لأولئك الذين يحبونه، وأكمل قائلًا : “إنى سمعت الأرواح الشريرة وهى تتحدث مع بعضها عن الوسائل الشريرة التى تستعملها لمحاربة الإنسان، فقال أحدهم للآخر: “أنا اليوم مشغول فى محاربة أحد الأخوة، ولا أقدر أن أغويه بسهولة، لأننى كلما اقترح عليه بعض الأفكار الرديئة، فإنه يقوم ويصلى إلى الله بدموع، ولذلك فإننى لا أقدر على الصمود أمامه بل أتركه وأنا محترق”. فرد الشيطان الآخر: “أما أنا فإن كل مشورة اقترحها على الأخ الذى أحاربه فإنه يقبلها بل ويفعل أكثر مما اقترحه””. عندئذ نصح آبا باخوميوس أبنائه قائلًا: “من أجل ذلك علينا أن نحرس أفكارنا جيدًا، لأنكم تخيلوا معى الآن منزلًا كبيرًا به مائة حجرة. إذا استأجر أحد حجرة واحدة منها، هل يستطيع أحد أن يمنعه من الدخول إلى المنزل، هكذا الحال مع الإنسان فلو كان يملك كل ثمار الروح، ولكنه أهمل فى إحداها، فإنه سيصير ضعيفًا فى مواجهة العدو، وإذا لم يسرع ويصحح طريقه فإن العدو قد يهزمه ويحرمه من الثمار الأخرى. واعلموا أنه لا توجد درجة واحدة فى الحياة الروحية، بل درجات متعددة، فهناك قائد خمسين وآخر قائد مائة، وثالث قائد ألف، وايضًا هناك الملك الكامل مثل أبينا إبراهيم الذى قيل عنه أنه كان كملك من الله وقد قال آبا باخوميوس هذا الكلام حتى يزرع خوف الله فى قلوبهم لاقتناء خلاص نفوسهم.
  3. فى اليوم التالى ذهب آبا باخوميوس مع الأخوة ليجمعوا مزيدًا من الأغصان لحاجتهم إليه. وكان يوجد بين الأخوة شيخ يدعى آبا ماؤو، وقد كان مسئولا عن أحد البيوت، فى ذلك اليوم لم يذهب للعمل مع الأخوة بل مضى واستراح متظاهرا بأنه مريض وفى حقيقة أمره كان متذمرًا على حديث آبا باخوميوس فى اليوم السابق قائلا فى نفسه: “لماذا كل هذه المحاضرة التى ألقاها علينا الشيخ بالأمس؟ هل يظن أننا فى خطر- إلى هذه الدرجة- من أن نسقط فى أية لحظة؟” وفيما هو يتفكر فى ذلك، أراد الله أن يخلصه ويرده إلى صوابه. فقد حدث فى ذلك الوقت أن أرسل الأسقف خطابا إلى آبا باخوميوس ومع حامل هذا الخطاب أحد الأخوة الذين عليهم ثياب الرهبنة، وفى الخطاب يقول: “أنا أرسل لك هذا الشيخ الذى كان يسلك فى درجة روحية عالية، وقد امسكناه متلبسًا بالسرقة. وها نحن قد أرسلناه إليك حتى تحاكمه، لأنه راهب.” فلما جاء حامل الخطاب ومعه الراهب الذى ارتكب السرقة ليسأل عن آبا باخوميوس لم يجده، ولكنه وجد آبا ماؤو الذى تذمر على آبا باخوميوس، فاستقبلهما وقدم لهما طعاما إلى حين وصول آبا باخوميوس. ولما جاء المساء حضر آبا باخوميوس مع الأخوة حاملًا الأغصان. فرحب بالزوار وأخذ الخطاب الذى أرسله الأسقف، وما أن قرأ رجل الله الخطاب، حتى بدأ ـ بالحكمة المعطاة له ـ يوبخ ذلك الأخ على خطية السرقة التى أرتكبها، فبكى الأخ نادما، وفى تواضع اعترف بخطيته، فقال له آبا باخوميوس: ” فى أشياء كثيرة نعثر جميعا ولكن دعنا نصلى إلى الله الرحوم وثق أنه لو سهرنا على أنفسنا فالله قادر أن يشفى أوجاعنا.” عندئذ تعزى الأخ كثيرا، وقد وضع عليه آبا باخوميوس قانونا للتوبة.

ولما رأى ماؤو ما حدث، تعجب جدًا وقدم المجد لله على الكلمات التى سمعها بالأمس من آبا باخوميوس، الذى قال له عندئذ: “يا ماؤو هل لأنك أنت ثابت على الصخرة، تظن أن كل الناس هكذا؟ ليتنا نصلى إلى الله المملوء رحمة وتحننا لكى ينقذنا من هجمات عدو الخير ومن حيله الشريرة.” فأجاب الشيخ ماؤو: “إغفر لى يا أبى، يا رجل الله لأنه بجهالة قلبي قد تجاسرت وأحزنت روح الله الساكن فيك.”

  1. حدث فى يوم من أيام الآحاد، أن آبا باخوميوس استدعى تواضروس وقال له: “حين ينتهي الأخوة من الأكل فى المساء، أعط مسئوليتك لآخر وتعال أنت إلى المكان الذى نجتمع فيه لسماع الإرشادات.” ففعل تواضروس هكذا. ولما حضر إلى حيث اعتاد آبا باخوميوس أن يحدث الأخوة بكلمة الله. أخذه من يديه وأقامه فى الوسط وقال له : “قف هنا وحدثنا بكلمة الله.” فابتدأ تواضروس على غير إرادته يتحدث إلى جميع الأخوة الواقف أمامهم بما فيهم آبا باخوميوس الذى كان ينصت إليه مثل بقية الأخوة. إلا أن بعض الشيوخ غضبوا وتذمروا على آبا باخوميوس ورجعوا إلى قلاليهم دون أن يسمعوا كلمه الله قائلين: “كيف وهو أصغرنا سنا، يسمح له بأن يعلمنا نحن الشيوخ؟” وفى الحقيقة مع أن تواضروس كان له من العمر وقتئذ ثلاثة وثلاثون عامًا، إلا أن آبا باخوميوس كان يعلم أنه متقدم فى الحياة الروحية عنهم. ولما رأى آبا باخوميوس أن هناك بعضا من الأخوة قد انصرفوا دون أن يسمعوا كلمة الرب من فم تواضروس، جلس وتحدث إلى الأخوة قائلا: “ما هذا الهرج الشديد الحادث فى وسطكم؟ هل بسبب أنني أقمت شابا لكى يحدثنا بكلمة الرب، يحدث كل ذلك الحمق والغباء؟ ألم تكن كلماته هى كلمات الرب؟ ألم نسمع ما قاله الرب فى الإنجيل عن الصغار: “من قبل ولدًا واحدًا مثل هذا بأسمى فقد قبلني؟ ألم أكن أنا جالسا بينكم أستمع كواحد منكم؟ والحق أنني لم أكن حاضرا فقط بل كنت منصتا له بكل قلبي كمن هو عطشان فى الصيف إلى الماء البارد. إن كلمة الله دائما تستوجب القبول. وعموما فإنه مكتوب: “من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه، ولذلك فالويل لأولئك الذين رجعوا للخلف، لأنهم بإرادتهم قد ابعدوا أنفسهم عن رحمة الله وعطفه. وأنا أؤكد لكم أنهم ما لم يتوبوا فإنهم سيهلكون لا محالة، لأنه مكتوب: “قريب هو الرب من المنكسرى القلوب ويخلص المنسحقى الروح وبعد أن أكمل الأب حديثه قام وصلي وصرف الأخوة ورجع كل واحد إلى قلايته.

تعيين تواضروس وبفنوتيوس:

  1. ولما وجد آبا باخوميوس أن تواضروس قد أصبح مملوءا من الروح القدس، عينه مسئولا عن دير طبانيس، حتى يقود الأخوة هناك بينما استقر هو فى دير فابو حيث باشر مسئولية إشرافه على الأديرة الأخرى من فابو. وكان تواضروس يسلك بعد تعيينه، بكل تواضع كأنه لم يعين فى هذا المنصب قط. إذ لم يكن فيه أى شهوة للمراكز، لأنه مكتوب أن “قول الرب أمتحنه وأصبح يهتم ” بما فوق لا بما على الأرض وكان شغله الشاغل هو”أن يحب الرب من كل قلبه وذلك عن طريق ثباته فى تنفيذ وصاياه التى أعطاها لنا فى الإنجيل. وقد بذل قصارى جهده لمنفعة الأخوة بكلامه المملح بالنعمة كل حين.
  2. ثم قام آبا باخوميوس بتعين بفنوتيوس شقيق تواضروس وكيلا عاما فى دير فابو، وكان مسئولا عن استلام كل إنتاج العمل اليدوي من جميع الأديرة، ومقابل ذلك يقوم هو بتزويدهم بكل ما يحتاجونه.

وكان الأخوة من جميع الأديرة يلتقون فى دير فابو للاجتماع، مرتين كل عام. الأولى للاحتفال بأسبوع الآلام، حيث يلتفون حول كلمة الله. والثانية فى 20 مسرى( 13 أغسطس) لكى يقدموا حسابا على كل أعمالهم للوكيل العام، وفى هذا الاجتماع أيضا يتم إعادة توزيع المسئوليات والمهام المختلفة، ثم يرجع كل واحد إلى ديره بسلام.

حدث سرقة في طبانيس:

  1. فى إحدى المرات، ذهب آبا باخوميوس لزيارة دير طبانيس، لافتقاد الأخوة هناك وإصلاح أحدهم. فلما وصل، بدأ فى ضفر الخوص قبل أى أحد فى الدير، وبينما وهو يعمل فى الضفير دخل أحد الأخوة الشباب وكان مسئولا عن الخدمة خلال ذلك الأسبوع، هذا لما وجد آبا باخوميوس يعمل (ولم يكن يعرفه) قال له: “ليست هذه هى الطريقة التى نعمل بها. لأن آبا تواضروس قد علمنا طريقة أخرى للعمل تصير بها الضفيرة أقوى وأمتن.” فقام آبا باخوميوس وقال للأخ: “تعال أجلس وعلمني كيف.” وبعد أن علمه الأخ استمر آبا باخوميوس يعمل فى الضفيرة بفرح، ولم يغضب قط إذ كان قد أخمد فكر الكبرياء بالاتضاع، ولم يؤنب ذلك الأخ على ما فعله حيث أنه تحدث خارج حدود عمله. وحينما انتهى من ضفر الخوص، جلس وتحدث إلى الأخوة بكلمة الله، وفى نهاية حديثه قال لهم: “لقد حضرت إلى هنا من أجل منفعة أحد الأخوة ولخيره، ومن أجل حرب الشهوة الواقع فيها.” ولما بدأ آبا باخوميوس يوبخ ويؤنب بشدة، كان هناك أخ يدعى إيليا وهو بسيط جدًا، كان قد جمع خمس تينات وخبأها لكى يأكلها بعد انتهاء الصوم. ولكنه لما سمع الكلمات المرعبة التى قالها آبا باخوميوس علم أنه هو المقصود بذلك، فذهب وأحضر الوعاء الذى به التين ووضعه أمام الأخوة وقال فى حضور الجميع: “أغفر لى يا أبي عثرتي. الله يعلم أن كل ما أخذته هو هنا فى الوعاء، وها أنا قد كشفت لك خطيئتي.” فتعجب الأخوة من روح الإفراز الذى يملأ آبا باخوميوس، ومن نقاوة بصيرته. ثم قام بعد ذلك وصلى ورجع إلى دير فابو دون أن يأكل أو يشرب شيئا.

رؤية في السينيكس:

  1. بعد أن تم تعيين تواضروس مسئولا على دير طبانيس، اعتاد كل يوم أن يحضر إلى دير فابو بعد انتهائه من العمل اليدوي لكى يستمع إلى كلمة الله على فم آبا باخوميوس ثم يرجع فى نفس اليوم إلى طبانيس حتى يعيدها بدوره على مسامع الأخوة هناك. وقد ظل على تلك الحال مدة من الزمن. وفى إحدى المرات حضر كعادته لسماع آبا باخوميوس، ولما لم يجده صعد إلى أعلى فوق سقف السينيكس حتى يتلو مزاميره وكان آبا باخوميوس يصلى فى حجرة الاجتماعات، ولم يكن تواضروس يعلم ذلك. وفيما هو يصلى ظهرت له رؤية، وفجأة بدأت حجرة الاجتماعات تهتز بشدة، ولما أحس تواضروس بأن سقف الحجرة بدأ يهتز، اضطرب وأسرع بالنزول، وعندما دخل السينيكس لكى يصلى حتى يهدأ من الخوف الذى انتابه. ولم يستطع الوقوف لأن الرهبة كانت تملأ المكان. ومن شدة خوفه جلس فى مكان كمن هو محشور بين حائطين، لذلك أسرع بالهرب خارجًا، وفى كل ذلك لم يعلم أن آبا باخوميوس بداخل الحجرة.

أما عن الرؤيا فقد رأى آبا باخوميوس حائط الهيكل وكأنه من الذهب الخالص، وعليه أيقونة لرب المجد وعلى رأسه إكليل من المجد وحوله زينة بالألوان المختلفة وكأنها جواهر ثمينة جدًا وهى تشير إلى ثمار الروح القدس التى هى: “محبة ، فرح، سلام، طول أناة، لطف ، صلاح، إيمان ، وداعة، تعفف وكانت الصورة مضيئة ومتألقة جدًا وظهر أمامها ملاكان بهيان يقفان بلا حراك ويتأملان فى هيئة الرب البهية. وبينما كان آبا باخوميوس يتأمل تلك الرؤيا صلى إلى الله وطلب منه قائلا: “يارب ليت مخافتك تملأنا دائما حتى لا نخطئ إليك طيلة أيام حياتنا.” وظل يردد هذه الصلاة مرات عديدة. عندئذ قال له الملاكان: “إنك لا تقدر أن تحتمل خوف الله كما تطلب.” فأجاب: “بمعونة الله أنا أقدر.” وللحال بدأ شعاع الخوف مثل شعاع الشمس عندما تشرق على العالم، يقترب منه تدريجيا، وكان هذا الشعاع أخضر جدًا ولكن رؤيته مخيفة للغاية، ولما لمسه ذلك الشعاع بدأ يحس بضغط شديد على قلبه وعقله، ولعدم احتماله سقط على الأرض وهو يرتعش من شدة الخوف، وساءت حالته حتى اقترب من الموت. وكانت الملائكة تلاحظه دون أن تحول نظرها عن الرب المعلن لباخوميوس. وقال له أحد الملائكة: “ألم نقل لك إنك لا تقدر أن تحتمل لمسة الرب لك بالتمام؟” عندئذ صرخ قائلا: “إرحمني ياربى يسوع المسيح.” فرجع ذلك الشعاع تدريجيًا حتى استقر فى موضعه، وامتلأ باخوميوس من نعمة الله، وغمره السلام الكامل. فقام ومجد الله ثم استراح قليلا حتى وقت صلاة السينيكس.

وبعد صلاة السينيكس الصباحية، سمع تواضروس آبا باخوميوس يحكى كل ذلك على انفراد لبعض الشيوخ وكان يقول لهم فى حزن ودموع: “إن روحي بالأمس كادت تفارق جسدى، وحينما كنت فى ضيق نفسي من هول ما رأيت إذ بأحد الأشخاص يدخل على فى الحجرة وكان هو أيضا على وشك أن يغشى عليه من الخوف.” فقال تواضروس: “هذا الشخص هو أنا يا أبي، لأنني حينما حضرت بالأمس ولم أجدك، صعدت إلى سقف حجرة الاجتماعات، وفيما أنا مستغرق فى التأمل، وجدت أن سقف الحجرة يهتز من الخوف ونزلت، ودخلت الحجرة، ولكن لما أرتجف جسدى من هول ما رأيت، أسرعت بالخروج وأنا مملوء رعدة.” فقال له آبا باخوميوس: “إن الله لكثرة مراحمه جعلك تهرب سريعًا من ذاك المكان.” وحينما سمع الشيخ ذلك، امتلئوا جميعًا بالخوف وقالوا: “إن هؤلاء القديسين (باخوميوس وتواضروس) يشبهون أولئك الذين فى السماء فى برارة أفكارهم ونقاوتها نحو الرب يسوع المسيح.”

تواضروس وباخوميوس:

  1. حدث فى أحد الأيام أن تواضروس حضر إلى فابو لزيارة آبا باخوميوس الذى كان فى ذلك الوقت مريضا. حينما وصل قال له فى الحال: “إذهب وحقق كم عدد الذين كانوا يتكلمون بالأمس وقت الخبيز؟” فذهب تواضروس واستعلم عن الأمر ووجد أن خمسة من الأخوة كانوا يتكلمون. فرجع وأخبر آبا باخوميوس بذلك. عندئذ قال له: “يا تواضروس هل يظن أولئك الخمسة أن هذه الأمور عالمية؟ أنا أؤكد أن أى أمر يعطى ولو كان بسيطا فهو مهم ويجب طاعته كأنه شئ ضروري جدًا. فبنى إسرائيل حينما أعطيت لهم أن يطوفوا حول أريحا سبعة أيام فى صمت، صمتوا طاعة للوصية. ففي كلا الحالين نفذوا مشيئة الله المعلنة على يد رجاله الذين أعطوا الأوامر والوصايا. لذلك على الأخوة أن يكونوا حريصين، والله يسامحهم على ما فعلوه. ولو لم تكن هذه الوصية (الصمت أثناء العمل) نافعه لأرواحهم ما أعطيتها لهم.” وكان القديس باخوميوس كثيرا ما يرسل تواضروس لزيارة الأديرة الأخرى وافتقادها. وكثيرا ما أعلن وسط الأخوة قائلا: “إن تواضروس يكمل نفس الخدمة الإلهية التى أقوم أنا بها فى الرعاية والاهتمام بالأديرة، وله نفس السلطة كأب ومسئول عن الأخوة.”
  2. حدث مرة أن ذهب تواضروس لزيارة أحد الأديرة، فقدموا له هناك أحد الأخوة كانوا قد اتهموه بالسرقة حتى يقوم بطرده من وسطهم، وكانت حياة ذلك الأخ مملوءة بالإهمال والتواني، على أنه فى الحقيقة لم يكن هو السارق بل آخر. ولما أدرك السارق الحقيقي أنه بسببه سوف يطرد ذلك الأخ، ذهب واعترف لآبا تواضروس على انفراد قائلًا له: “إغفر لى يا أبي لأنني أنا الذى فعلت ذلك.” فقال له تواضروس: “الرب يغفر لك هذه الخطية التى ارتكبتها لأنه واضح براءة الأخ الذى في وسطنا.” ثم استدعى الأخ الذى اتهموه ظلمًا وقال له: “أنا أعلم أنك لم ترتكب هذه الخطية، وإذا كان الأخوة قد اتهموك ظلمًا، فلا تنتفخ لكونك بريئا فى هذه المرة، لأنك بلا شك فد أخطأت إلى الرب فى أمور كثيرة أخرى. لذلك عليك أن تشكر الله وتحيا فى مخافته كل أيام حياتك.” وعندئذ قال للأخوة: “إذا كنتم تثقون فى وفى الحكم الذى سأصدره بخصوص هذا الأخ، فأنا أرى أن إرادة الله هى أن نسامح هذا الأخ، لأننا كلنا فى الواقع فى حاجة إلى مراحم الله الوفيرة.”
  3. فى وسط جماعة طبانيس، كان هناك أخ مجرب بالمرض من الشيطان، هذا كان قد اركبه تواضروس على حمار وأتي به إلى آبا باخوميوس فى فابو حتى يصلى من أجله. وكان آبا باخوميوس فى ذلك الوقت يتحدث إلى الأخوة بكلمة الله. فلما رآهما ترك الأخوة وقام ليستقبل تواضروس. فتذمر بعض الشيوخ (الذين تذمروا من قبل على آبا باخوميوس عندما أقامه فى الوسط لكى يعظ الأخوة) وقالوا : “كيف يتركنا نحن الشيوخ ويذهب لمقابلة تواضروس الشاب حديث السن.” ولما استقبله قال له: “قبل أن تصل إلى هنا وأنا عندي كلام لك من الله. فالآن دع هذا الأخ المريض فى رعاية أحد الأخوة، وتعال أنت حجرة الاجتماعات.” وعندئذ صلى آبا باخوميوس للأخوة وصرفهم ورجع كل واحد إلى قلايته. ولما رجع تواضروس، أخذه آبا باخوميوس من يده وذهبا معا إلى حجرة الاجتماعات. وهناك ظلا واقفين للصلاة من الساعة الثانية حتى التاسعة. وعندئذ أبصر كلاهما عرشا عظيما يجلس عليه الرب يسوع المسيح، وكان هذا العرش يرتفع أحيانا إلى فوق حتى يصبح من العسير عليهم أن يروه وأحيانا أخرى ينزل ويقترب منهم جدًا حتى يصبح من السهل عليهم أن يلمسوه بأيديهم. واستمر هذا العرش فى صعوده وهبوطه مدة من الزمن حوالي الثلاث ساعات.

وكان حينما يقترب إليهم العرش، أن آبا باخوميوس يخر ساجدا ويمسك تواضروس كمن يحمله بين يديه، ويقدمه إلى الرب قائلا له: “أيها الرب تقبل منى هذه التقدمة.” واستمر هكذا يردد تلك الكلمات مرات عديدة. حتى سمع صوتا يقول له: “صلاتك قد قبلت، فتشدد وتشجع.” ثم قاما بعد ذلك وصليا على ذلك الأخ المريض حتى شفاه الله، وعوفي تماما كمن لم ير المرض من قبل، فقام تواضروس ورجع معه جنوبا إلى طبانيس.

  1. مرة كان آبا باخوميوس مع الأخوة فى طبانيس لأجل أعداد خبز العام كله لدير فابو حيث لم يكن به خبازون. وقد أوصاهم بألا يتحدث أحد منهم أثناء الخبيز بل يردد كل واحد ما يحفظه من الكتاب المقدس. ومتى احتاج العجانون إلى ماء للعجين فعليهم فقط أن يضربوا بأيديهم على العجين فيأتي لهم المسئولون بالماء. ولكن حدث بينما كانوا يعجنون أن أحدهم تكلم قائلا: “أريد كمية ماء.” وكان آبا باخوميوس يقف بعيدًا ولكن ملاك الرب أشار له على الأخوة الذين يتكلمون مع بعضهم بعضا وقال له: “انظر كيف يسلك هؤلاء الرجال، لقد كسروا الوصية التى أعطيتها لهم. والآن هل لو جاء تواضروس ورفع يديه معتذرا، هل ستقبل اعتذاره؟” فأجاب آبا باخوميوس: “لا.” ولما رجع تواضروس وهو خجول مما حدث ورفع يديه يطلب المغفرة، تذكر حينئذ آبا باخوميوس قول الملاك، فغضب من تواضروس جدًا وأشاح بوجهه. فحزن تواضروس وبكى. ولما سأل بعض الأخوة آبا باخوميوس عن سبب بكاء تواضروس قال لهم: “اتركوه يبكى من أجل توانيه أمام الله.” عندئذ أسند تواضروس مسئولية الخبيز إلى آخر، واعتزل هو فى مكان بعيد حسب تعليمات آبا باخوميوس وظل هناك يبكي ويصلى بدموع إلى الله لأجل ما ارتكبه الأخوة. ولما أكمل ثلاثة أسابيع قال له آبا باخوميوس: “يكفيك هذا، ومن الآن فصاعدًا عليك أن تكون حذرًا ولاتكن مهملا حتى لا يحدث مثل ذلك وسط الأخوة فتدان أنت أمام الرب يسوع المسيح.”

تواضروس في فابو:

  1. لما رأى آبا باخوميوس أن تواضروس يتقدم جدًا فى النعمة وفى عمل الرب، قام بنقله من طبانيس وعين محله أخ يدعى آبا سوروس الصغير ليكون أبا للأخوة مكانه وأتى بتواضروس إلى دير فابو ليكون مساعدا له. متشبها فى ذلك بموسى الذى اختار يشوع ليكون مساعدا له وعلى ذلك كان يرسله كثيرا إلى الأديرة لافتقاد الأخوة وتشجيعهم بكلمة الرب. كما كان مسئولا عن قبول الأخوة الجدد فى كل دير. كما كان على عاتقه أيضا أن يقوم بطرد الأخوة الذين لا يصلحون للرهبنة، متى دعت الضرورة لذلك، ولكن بموافقة آبا باخوميوس الذى كان يتمم مشيئة الله فى كل أمر.
  2. فى أحد الأيام كان تواضروس يعمل مع الأخوة فى أحد الأماكن وبعد انتهائهم من العمل جلسوا جميعًا للأكل. فلاحظ تواضروس أن أحد الأخوة يأكل كثيرًا من الكرات، وكان هذا الأخ قوى البنية حديث العهد بالرهبنة. وحينما انتهى تواضروس من خدمة الأخوة وإعداد الطعام، ذهب واستند على الحائط، إذ كان يصوم يومين يومين وكان الجو شديد الحرارة. وقال للأخوة: “لا ينبغي للراهب أن يأكل كمية كبيرة من الكرات، لن ذلك يجعل الجسد قويا ويحارب الروح.” وفيما هو يتكلم حضر آبا باخوميوس لكى يرى حال الأخوة فى العمل. ولما رأى أن تواضروس يسند ظهره على الحائط، وقال له: “هل هذا الحائط عمل لكى تسند ظهرك عليه؟” عندئذ سجد تواضروس باتضاع لآبا باخوميوس وكان ذلك حاله على الدوام إذ كان يسلك باتضاع فى كل شئ، حتى يصل إلى كمال الوصايا. وعلى أثر ذلك حزن جدًا لأنه وبخ الأخ الذى أكل كثيرا من الكرات إذ حسب أن هذا التأنيب ربما لم يكن حسب مشيئة الله، وقال فى نفسه: “لماذا لم أنتظر وأصبر عليه؟ فقد كان ممكنا أن الله يحرك إرادته نحو الصواب، كما كان ممكنا أيضا أن يتعلم من الأخوة الذين يمارسون حياة الفضيلة، الطريقة المثلى لضبط الجسد.” ولما عرف تواضروس أن ذاك الأخ من وقتها لم يأكل كراتا قط، امتنع هو أيضا عن أكله إلى وقت رحيله حتى لا يدينه الله لأنه لم يحفظ نفسه من الشيء الذى ووبخ الآخرين عليه.
  3. مرة رجع أحد الأخوة من الخارج واضعًا عباءته على كتفه بعد قضائه أمرا ما كان المسئول قد كلفه به. وعند عودته سأله تواضروس: “من أين جئت؟” فلما سمع آبا باخوميوس من بعيد سؤال تواضروس لهذا الأخ، قال له على انفراد: “يا تواضروس كن ضابطا لنفسك ولا يكن لديك حب الاستطلاع بأن تسأل كل أحد أين كنت. بل فقط أسألهم عما يخص خلاص أنفسهم.” عندئذ انتبه تواضروس إلى هذه الكلمات وحفظها كل أيام حياته وكان دائما يقول لنفسه: “سواء كان هذا الأمر كبيرًا أو صغيرًا فلن أكرره ثانية.

رؤية باخوميوس وتواضروس:

  1. فى يوم ما نحو الساعة السابعة من النهار، حيث كان الجو خارج الأبواب شديد الحرارة استدعى آبا باخوميوس تواضروس وقال له: “تعال لنأكل قليلا من الخبز لأننا سنذهب إلى دير طومسون لافتقاد أحد الأخوة الموعوظين لأنه على وشك الموت.” فقال له تواضروس: “أمرك يا أبي.” فذهبا إلى حجرة المائدة ولم يكن بها غيرهما. ولما وضعا الخبز فى الماء لكي يبتل، قال له باخوميوس: “هيا نقوم ونصلى.” وعندما وقفا للصلاة، شاهدا شخصا يلمع جدًا بالنور ويمد يده نحوهما قائلا: “أعطياني هذه الصلاة لكي أصعدها رائحة ذكية أمام الله.” فسجد كلاهما إلى الأرض وتضرعا إلى الرب قائلين: “أيها الرب إلهنا فلتدركنا مراحمك.” واستمرا فى الصلاة حتى المساء. وكان آبا باخوميوس يطلب كثيرا من أجل ذاك الأخ الموعوظ لكى يطيل حياته حتى يذهبا ويرياه قبل أن ينتقل. وفى المساء جلسا وأكلا ثم قام بسرعة وذهبا إلى ذلك الأخ، فوصلا إلى هناك فى منتصف الليل، وفور وصولهما دخلا إلى الأخ المريض. فقال الأخ المسئول لآبا باخوميوس: “إنه مريض منذ يومين وقد خفنا أن ننقله جنوبا لكى يعمد فيموت معنا فى الطريق. عندئذ قال له آبا باخوميوس: “ومادمت قد رأيت حالته متأخرة، لماذا لم تقم بعماده هنا؟” أجاب المسئول: “لا يوجد كاهن هنا.” وفيما هم يتحاورون وقبل أن يسلم الأخ روحه إذ بأعين باخوميوس وتواضروس تنفتح ويريان الملائكة وقد جاءت لتحمل الأخ سرًا إلى فوق.
  2. كان لفرط فضيلة آبا باخوميوس أن أعلن الله له رؤيا فى طريقة افتقاد ملائكة النور للأرواح الصالحة. فكشف له أن الأخ الذى يموت إن كان صالحا، يأتى ثلاثة ملائكة من نور ذوى رتبة روحية تتناسب مع قامة الأخ الروحية، لتأخذه إلى موضع النياح. وإن كانت قامته أقل تأتي ملائكة من ذوى الرتب الأقل. وقد رتب الله أن يكون الأمر هكذا حتى تفارق الروح جسدها فى هدوء واطمئنان كاملين. ولا تتعامل الملائكة مع أرواح البشر كما يتعامل سلاطين الأرض الذين يأخذون بالوجوه ويتأثرون بالغني والمجد الباطل، ويعاملون أولئك الفقراء والمحتقرين بحسب حالتهم من الفقر والحقارة، ولكن العدالة الإلهية قضت بأن يكون الحكم فى جميع الأحوال بحسب ما تممه الشخص من وصايا إلهية وما أنجزه من أعمال صالحة. وأولئك الملائكة يطيعون بعضهم بعضًا، فالملاك الذى فى درجة أقل يطيع ذاك الذى فى درجة أعلى. وفى اللحظات الأخيرة للإنسان يقف أحد الملائكة بجوار رأسه، وآخر عند قدميه فى مواجهة الشخص حيث يدهنه بزيت مقدس، بينما يبسط الملاك الثالث ثوبا روحيا واسعا ليستقبل فيه تلك الروح بكرامة عظيمة. وتكون تلك الروح ذات جمال ونقاء فائقين. وبعد أن تخرج الروح وتلف فى هذا الثوب الروحى، يمسك أحد الملائكة طرفي الجزء العلوي من الثوب ويمسك الآخر الطرفين السفليين أما الثالث فيقوم بالترتيل أمام تلك الروح بلغة لا يعرفها أحد قط. وحتى آبا باخوميوس لم يسمع منها إلا الكلمة الأخيرة التى كان الملائكة يرددونها وهى”هللويا” ثم يصعدون بالروح ناحية المشرق ويتقدمون بها عبر الهواء بحركة أنسيابية، مثل الماء المنساب، ويرتفعون بها إلى أعلى حتى أن الروح فى تلك الحالة تستطيع أن ترى المسكونة بأجمعها وجميع الخليقة فتعطى المجد لله خالق أما الثالث فيقوم بالترتيل أمام تل

كل تلك الخليقة. وبعد ذلك يعينون لتلك الروح المكان الذى خصصه الله لها لكى تستريح فيه. علاوة على أنها تريها أماكن العذاب التى تخلصت منها عن طريق بر وصلاح ربنا يسوع المسيح. وإذا كانت هذه الروح قد تتلمذت على يد أحد القديسين، يأخذونها الملائكة إلى رجل الله الذى علم تلك الروح مخافة الرب وقادها فى طريق الوصايا الإلهية، فيأخذ بدوره هذه الروح ويقدمها كتقدمه طاهرة عند أقدام الرب، ثم يبارك الله ويقول: “أبارك الرب إلهي وأسبحه فى جميع قديسيه.” وبعد ذلك تقود الملائكة تلك الروح إلى مكان الراحة المعين لها من قبل الله، وقد تكون هذه الروح قريبة من الرب أو بعيدة عنه، وفقا لما أكملته من جهاد على الأرض، ومتى دخلت تلك الروح إلى الفردوس فإنها تعيش مرنمه ومسبحة الله فى كل حين. وهناك بعض من الناس حين يرون الله، يسبحونه ويشكرونه من أجل نقاوة قلوبهم قائلين:”طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله أما من يحيا بإهمال فإنه لن يستحق أن يعاين مجد الله لأن قلبه ليس نقيا أمامه. ولكن متى عاش أحد فى بساطة الإيمان فإنه يرى طبيعة ابن الله الرب يسوع المسيح متحدًا بالناسوت بلا افتراق. وكذلك وفقا لاستحقاق من يموت، فإن القديسين أيضا يحضرون لمقابلة تلك الأرواح، ويقتربون منها ويقبلونها. كما أن هناك أرواحًا أخرى يحيوها من بعيد فقط. وأيضا حسب استحقاق كل إنسان فإنه يكلل فى الأبدية بالأكاليل التى يستحقها. وحينما تقترب أرواح الأبرار من باب الحياة، يضع الرب فى فمها كلمات داود النبى فتقول:” افتحوا لى أبواب البر لكى أدخل وأمجد الرب فيجيب الملاك الواقف على الباب قائلا: “هذا هو باب الرب والصديقون يدخلون فيه وإذ كانت تلك الأرواح من تلاميذ رجال الله القديسين فإن الملائكة المصاحبة لهم نهتف قائلة: “افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة. ذو الرأي الممكن تحفظه سالمًا لأنه عليك متوكل.

هذه الرؤيا العظيمة، قد رآها آبا باخوميوس فى دير طومسون بمناسبة انتقال ذلك الإنسان الموعوظ. وبعد رؤية كيفية عبور الأرواح البارة. سأل آبا باخوميوس الملاك عن كيفية عبور الأرواح الشريرة وكيف تترك أجسادها. فقال له الملاك: “متى كان الإنسان شريرا أثناء حياته على الأرض، فإنه عند موته، يحضر ملاكين بلا رحمه، ويقف أحدهما عند رأسه والآخر عند قدميه، ويبدآن فى ضرب هذا الإنسان وإثارة رعبه حتى تخرج روحه البائسة، ثم يضعان شيئا مثل السنارة فى فمه ويجران تلك الروح من الجسد التى فى حال خروجها تكون مظلمة جدًا وقاتمة، فيجرونها إلى أماكن الظلام والعذاب أو إلى أعماق الهاوية حسب ما اقترفته من أعمال شريرة.

فى الواقع هناك بعض من رجال الله القديسين الذين يسمح الله بعذابهم فى مرضهم الأخير فيجربهم ويمتحنهم فى أواخر أيامهم حتى يتنقوا من كل شائبة ويصيرون أكثر نقاوة وطهارة أمام الله. وكذلك من جهة أولئك الأبرار الذين جازوا الآلام الكثيرة قبل موتهم مثل اسطفانوس وكل الشهداء وأيضا أيوب، وداود وكثير من القديسين الذين تحملوا العذابات والضيقات من أجل الحياة الحقيقية. وإذا كان هناك كثير من الخطاة قد ماتوا دون أن يتألموا أو يعانوا من ضيق فى هذا العالم، فهذا إنما لأجل الضيق والعذاب الذى ينتظرهم هناك كما هو مكتوب: “أن الشرير محفوظ ليوم الشر. وهذا هو السبب الذى من أجله يتألم الصديقون وكما يقول الجامعة أن” حادثة واحدة للصديق وللشرير وللصالح وللطاهر وللنجس. للذابح والذى لا يذبح. كالصالح الخاطئ. وفى الحقيقة أن رب المجد ذاته قد تألم بل وعلق بين لصين واحد عن اليمين والآخر عن اليسار.

تلك الأمور جميعها قد كشفها الله لآبا باخوميوس فى دير طومسون إذ قد فرح جدا حين رأى الأخ الموعوظ قد دخل إلى أماكن الراحة مع القديسين. وكان أنهم بعد أن حملوا ذلك الأخ ودفنوه فى الجبل بجوار الأخوة. رجع آبا باخوميوس ومعه تواضروس بسرعة إلى دير فابو جنوبا وهم يمجدون الله ويشكرونه.

  1. فى أحد الأيام كان تواضروس جالسًا فى حجرة الاجتماعات، فسمع الملائكة وهى ترنم ترنيمًا عذبًا فقام للحال وذهب لآبا باخوميوس، الذى قال له: “إنها روح بارة، تركت الجسد ومرت علينا فى طريقها إلى السماء، ونحن قد أعطينا نعمة سماع أولئك الملائكة الذين يرافقونها.” وبينما هما يتكلمان نظرا إلى فوق فرأيا روح ذلك الأخ الذى انتقل وعرفاه من هو. وكان الرب كثيرًا ما يفتح أعينهما فينظران ملاك الرب فى الهيكل مع الكاهن وهو يوزع الأسرار.
  2. فى يوم آخر، كان آبا باخوميوس يجلس مع أحد الأخوة خارج الدير يتحدثان معًا فى الأمور الروحية. وكان قد أوصى تواضروس أن يهتم برعاية الأخوة حتى يرجع. ولما قام تواضروس فى منتصف الليل ليطمئن على الأخوة، وقف بعيدًا ليصلى وفيما هو يصلى، صار فى نشوة روحية ورأى رؤيا، وهى أن الأخوة جميعًا يرقدون مثل الغنم التى تستريح وملاكًا فى وسطهم يحرسهم، ولما حاول تواضروس أن يقترب من الملاك؛ إذ بالملاك يقترب منه ويضع فى فكره ما يريد أن يقوله قبل أن ينطق به، ثم قال الملاك: “من الذى يحرس الأخوة؟ هل أنت أم أنا؟” فاضطرب تواضروس ورجع للحال إلى مكانه وقال له: “إذا كنا نظن أننا نحن الذين نحرس الأخوة فإن هذا ليس صحيحًا، وإنما الحقيقة الملائكة هم الذين يسهرون على رعايتنا وحراستنا نحن الخراف الروحية فى قطيع الرب يسوع المسيح. وهم أيضًا الذين يصدون عنا سهام العدو النارية.” وكان هذا الملاك له شكل كجندى الملك، يحمل فى يده سيفًا ناريًا مضيئًا ولابسًا الملابس الملوكية المشرقة، كما كان يلبس منطقة حمراء ويخرج منها شعاعًا قويًا.
  3. ذات مرة أرسل آبا باخوميوس تواضروس إلى دير تاكسمين لافتقاد الأخوة هناك. وبينما هو هناك فى الدير يصلى بالقرب من شجرة تين، نظر وإذ به يرى آبا باخوميوس فى دير فابو، وهو جالس يحدث الأخوة بكلمة الله. وكان تواضروس يسمع الكلام الذى يقوله آبا باخوميوس للأخوة. فلما رجع قص على آبا باخوميوس ما حدث وكيف أنه رآه وسمع الكلمات التى قالها للأخوة فأخبره آبا باخوميوس وقال له: “يا تواضروس إن ما سمعته هو بالضبط ما قلته للأخوة.”
  4. بينما كان آبا باخوميوس يصلى فى مكان ما منفردًا عن الأخوة الذين كانوا فى المجمع، نظر وإذ برب المجد جالس على عرش يشرح الأمثال الموجودة فى الإنجيل، وأخذ باخوميوس ينصت لكل الكلمات التى تخرج من فمه المبارك لتفسير تلك الأمثال. ومنذ ذلك اليوم كان آبا باخوميوس كلما أراد أن يحدث الأخوة بكلمة الله، كان يجلس فى ذات المكان الذى رأى فيه الرب يسوع وتكلم منه، وكلما كان يكرر نفس الكلمات التى نطق بها رب المجد كلما كانت الكلمات تخرج مصحوبة بقوة إلهية، حتى أن الأخوة كانوا يرتعبون من تلك الكلمات التى كانت كأنها نور خارج من فم آبا باخوميوس.

فطنة تواضروس:

  1. فى أحد الأيام، حينما انتهى تواضروس من العمل مع الأخوة، جلسوا جميعا لتناول الطعام وكان تواضروس قد أعد طعاما خاصا للأخوة المرضى. وكان هناك أخ يدعى باتلول وهو شاب قوى الجسم، محارب باستمرار بالحروب الشبابية، قد اشتهى أن يأكل من الطعام الخاص. ولكن روح الله بكته على ذلك قائلا له: “إن هذا الطعام ليس لك وإنما للذين يحتاجونه، وأنت فى غير حاجة إليه، وأحذر من حرب الجسد.” ولكن بالرغم من ذلك لم يخضع الأخ لتبكيت الروح، فذهب وأكل من هذا الطعام .وحينما انتهى الأخوة من الأكل وذهبوا كعادتهم لكى يستريحوا وينصتوا إلى كلمة الله. كان كل منهم يسأل تواضروس عن أفكاره، فكان يجيب كل واحد بحسب ما يخص حالته لكى يقودهم للتوبة، فكان يقول لواحد إنك فاتر الهمة، ولآخر إنك واقع تحت عبودية الغضب و الثالث انك تتكلم مع الآخرين بجفاء، وهكذا. وأخيرًا قال وأنا أرى واحد فى وسطكم يضع كل رجاءه فى وعاء الطبيخ. وللحال علم ذلك الأخ أنه هو المقصود بهذا الكلام فقام بسرعة وانحنى وسجد أمام الأخوة وقال لهم: “إغفروا لى لأنني لم أطع مشورة الرب التى وضعها فى قلبي فى الخفاء. ولم أخضع لصوت الروح فى ضميري، لذلك فإن الله يوبخني الآن علانية أمام الجميع.

رؤية أخرى لباخوميوس:

  1. فى أحد الأيام اختطف آبا باخوميوس لكى يرى عذاب الأشرار ومعاناتهم بعد الموت. ولكن لا يعلم أحد إن كان فى الجسد أم خارجه عندما رأى ذلك. فقد أراه الملاك أنهارًا وقنوات وحفرًا مملوءة بالنار، تعذب فيها أرواح الأشرار. وبينما هو يتأمل ذلك، أراه الملاك مجموعة أخرى غير المجموعة الأولى، تتعذب بالنار أكثر، وهم يتلوون من شدة العذاب إذ قد أسلموا إلى ملائكة التعذيب الذين هم عديمي الرحمة، يمسكون بأيديهم سياطًا نارية، يضربونهم بها، فكانوا يتأوهون من شدة العذاب ولكن مع ذلك لا يقدرون على الصراخ من شدة الألم. وكان عدد تلك الأرواح كثيرة جدًا لا يمكن حصرها. وتطلع فرأى أيضا بعضا من الرهبان يتعذبون فى ذلك المكان، فسأل الملاك قائلا: “ماذا فعل هؤلاء حتى جئ بهم إلى هنا؟” فأجابه قائلا: “إن هؤلاء الرهبان قد حفظوا إلى حد ما أجسادهم لأنهم كانوا يحيون فى المغارات متنسكين، ولكنهم كانوا يتحدثون بالشر ويدينون إخوتهم الذين يسكنون بجوارهم أو الذين يزورنهم، فكثيرا ما كانوا يتحدثون عنهم بالخير ويمدحونهم فى وجوههم وفى غيابهم يقذفونهم من أجل ذلك هم فى عذاب دائم.” وكانت الملائكة التى تقوم بتعذيب تلك الأرواح، بلا أدنى شفقة فلم يكن عندهم شعور بأسف قط على أولئك الأشرار الذين يقومون بتعذيبهم. وعندما كانوا يتوسلون إليهم أن يرحموهم كانوا يزيدونهم تعذيبا. وحينما كان يؤتى بأرواح جديدة لكى تتعذب معهم، كانت تلك الأرواح تفرح، كما يفرح الأشرار بسقوط الآخرين.

وبينما كان الملاك يرى آبا باخوميوس تلك الأمور، أخذه إلى مكان آخر به عدد كبير جدًا من النفوس من كل الأعمار، يدفعهم الملائكة بجفاء نحو ذلك المكان ولما سأل آبا باخوميوس عنهم قال له الملاك: “إن تلك هى نفوس الأشرار الذين ماتوا اليوم فى العالم كله، وقد جئ بهم إلى هنا حتى يتم تصنيفهم كل حسب استحقاقه من العذاب.” ثم أخذه الملاك إلى أسفل المكان، وقد كان الجحيم نفسه عميقا جدًا ليس له قرار، ومظلم للغاية وشديد الحرارة. وقال له الملاك: “هذا هو السجن الإلهى، الذى حينما يدفع إليه الناس دفعا يصرخ كل منهم بأعلى صوته قائلا: “الويل لى لأنني لم أعرف الله الذى خلقني حتى كنت أخلص”. وبعد ذلك لا ينطقون البتة بسبب شدة الحرارة وشدة الظلمة، كما لا يستطيع أحد أن يتعرف على الآخر لسبب الظلام والرعب الذى يعيشون فيه.”

ثم سار معه نحو الجنوب الغربي فرأى هناك عذابا أشد وأقسى من ذاك الذى رآه، إذ رأى قصر كبيرًا جدًا فى الطول والعرض والاتساع مملوء نارًا، وفيه كان يلقى كل الشباب الذين نجسوا أجسادهم بخطية النجاسة. وحينما انتهى الملاك من كشف تلك الأمور لآبا باخوميوس عزاه قائلا: “يا باخوميوس اشهد بكل ذلك أمام الأخوة وقص عليهم كل ما رأيته حتى لا يجيئوا إلى ذلك العذاب، فإن الله قد أرسلني إليك لكى أريك هذا حتى تكون شاهدًا للأخوة ولكل العالم، فيتوبوا ويخلصوا.”

ومنذ ذلك اليوم كان كلما اجتمع آبا باخوميوس مع الأخوة لكى يعظهم كان يكلمهم بكلمات الإنجيل أولًا التى هى أنفاس الله ثم يحدثهم عن ذلك العذاب الأبدي الذى كان قد رآه، وما يعانيه الأشرار بعد الموت. حاثا إياهم أن يقتني كل منهم خوف الله محترسا من السقوط فى الخطية حتى تخلص أرواحهم من ذاك العذاب.

دعوة تواضروس البسيط:

  1. بعد أن بلغت شهرة آبا باخوميوس ومحبته لله كل مكان، حتى وصلت سمعته إلى بلاد روما أيضًا ، جاء منهم كثيرون ليصيروا رهبانًا معه. وقد كان رجل الله يعاملهم معاملة حسنة، معلمًا إياهم بكل ما يبنى نفوسهم وأرواحهم، متشبهًا ببولس الرسول الذى قال: “كنا مترفقين فى وسطكم كما تربى المرضعة أولادها. وكان فى الإسكندرية شاب يدعى تواضروس له من العمر سبعة وعشرون عامًا، ولد من أبوين وثنيين، ولكن روح الله حركه لكى يعتمد ويصير مسيحيًا، فقال فى قلبه: “إذا قادنى الله وصرت مسيحيًا فإننى أصير راهبًا، وسأحفظ جسدى طاهرًا بلا نجاسة حتى أفارق هذا العالم.”

وبعد ذلك ذهب تواضروس إلى البابا أثناسيوس وأخبره بكل ما فى قلبه. عندئذ عمده رئيس الأساقفة ثم جعله قارئًا فى البيعة المقدسة، ودبر له مكان يعيش فيه فى الكنيسة، حيث كرس نفسه بالتمام لحياة النسك، ولم يكن يقابل أحدًا من النساء قط سوى أمه وأخته. وحينما كان يقرأ الإنجيل فى الكنيسة لم يكن يسمح لعينيه أن تبصرا أحدًا، متممًا تعاليم الإنجيل: “من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها فى قلبه، وقول المزمور: “أردد عينى لئلا تعاينا الأباطيل. وكان يسلك فى حياة الشركة مع الله كل حين، ينهل دائمًا من مصدر الماء الحى القريب منه ألا وهو البابا أثناسيوس الرسولى. وبعد أن قضى اثنى عشر عامًا كقارئ فى كنيسة الإسكندرية، رأى أن بعضًا من الاكليروس يسلكون بانتفاخ قلب، ومحبين للمجد الباطل. فتوسل إلى الله باكيًا أن يرشده إلى من يقوده فى الحياة التى تتفق مع مشيئته المقدسة، وبينما هو يصلى لأجل ذلك، إذ به يسمع بعضًا من الرهبان الموجودين يمتدحون حياة الشركة التى أوجدها الله على يد خادمه باخوميوس. عندئذ صلى تواضروس إلى الله قائلًا: “أيها الرب يسوع المسيح اجعلنى مستحقًا أن أبصر خادمك القديس باخوميوس حتى آخذ بركة الحياة معه.”

فرتب الله أن يكون فى زيارة البابا أخوة من رهبان آبا باخوميوس، لقضاء بعض الحاجات، ولما سمع تواضروس البابا وهو يسأل الأخوة عن آبا باخوميوس فرح جدًا، وذهب وتحدث معهم عن طريق أحد المترجمين وقال لهم: “إننى أريد الذهاب معكم جنوبًا إلى رجل الله آبا باخوميوس حتى أنال بركته.” فأجابوه: “إننا لا نقدر أن نأخذك معنا بسبب والدتك، وبسبب رئيس الأساقفة.” إلا أنه استطاع أن يأخذ من البابا تصريحًا ليذهب معه، وكتب البابا إلى آبا باخوميوس بخصوصه. فقام وذهب مع الأخوة حتى وصلوا إلى آبا باخوميوس الذى قبله بقبلة السلام، واستقبله بفرح إذ أحس بتواضعه ووداعته، كما قرأ ما كتبه البابا بخصوصه حتى يستقبله بفرح وبشاشة. ثم أسكنه فى أحد البيوت مع أحد الشيوخ الذين يعرفون اليونانية حتى يمكنه أن يكلمه ويعزيه، وهكذا تقدم تواضروس فى النعمة وفى كل عمل صالح، ناميًا فى السلوك الرهبانى حسب الوصايا التى يسلك بها الأخوة.

وفى أحد الأيام سأل آبا باخوميوس عن طريق أحد المترجمين، عن إيمان أولئك الذين يعيشون كمتوحدين فى الإسكندرية فأجابه: “بصلواتك المقدسة، يا سيدى الأب، هم ثابتون فى الإيمان المستقيم الذى للكنيسة المقدسة الجامعة. ولا يستطيع أحد أم يزحزح إيمانهم قط. متممين قول الإنجيل: “كونوا راسخين غير متزعزعين. كما وأنهم مملوءون من كل عمل صالح، وهم يتناولون كل أنواع الطعام بشكر وفقًا لما جاء فى الكتاب المقدس: “لأن كل خليقة الله جيدة ولا ترفض شئ إذا أخذ مع الشكر. فسأله آبا باخوميوس: “وهل من الممكن أن يأكلوا ويشربوا بإفراط ويظلوا محتفظين بطهارة الجسد؟” فأجابه: “فى كل شئ يا أبى طهارتهم عظيمة ومعرفتهم لله ظاهرة للجميع.” وكان آبا باخوميوس يمسك عصا فى يده فطرق بها على الأرض وقال: “كما أن الأرض اليابسة لا تأتى بثمر، هكذا أيضًا الأجساد المتنعمة لا تعطى ثمر الطهارة لأن الإنجيل يقول: “الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. فلما سمع تواضروس ذلك تعجب من تلك التعاليم الروحية.

وقد حدث بعد ذلك أن الأخوة ذهبوا إلى الإسكندرية كعادتهم، ولما رجعوا سألهم تواضروس عن حال الأخوة النساك هناك فأجابوه: “إن بعضًا منهم قد سقط فى خطية النجاسة وآخرين قد انحرفوا بغباوة عن الطريق الصحيح.” فلما سمع ذلك تعجب جدًا متذكرًا قول آبا باخوميوس بصددهم وكيف أنه قارن بينهم وبين تلك الأرض التى لا تثمر وأن الإنسان الذى يأكل إلى الشبع ويمتلئ بكل أصناف الطعام لا يثمر قط. فقام تواضروس للحال وسجد وقبل رجلى آبا باخوميوس من أجل الحكمة الإلهية الساكنة فيه، وشكر الله على تلك التعاليم الصحيحة التى سمعها من فم رجل الله القديس.

ولما لاحظ آبا باخوميوس أن تواضروس هذا قد أحرز تقدمًا كبيرًا فى حياة الفضيلة والمعرفة الإلهية، عينه مسئولًا عن منزل الأجانب الذين أتوا ليصيروا رهبانًا معه. وكان الله قد أعطى آبا باخوميوس نعمة التكلم باليونانية، لكى يعظهم بكلمة الإنجيل وحتى يرشد تواضروس ويقود أولئك الأخوة الذين صاروا تحت قيادته.

  1. فى إحدى المرات قال له على انفراد: “إذا رأيت إنسانا فى منزلك متوانيا فى خلاصه، عليك أن تنبهه لأجل خلاص نفسه فإذا غضب، تأنى عليه وانتظر حتى يحرك الرب قلبه. لأن هذا الأمر يشبه إنسانا يريد أن ينزع شوكة من رجل آخر، فمتى انتزع الشوكة حتى لو تسبب فى نزف بعض من الدم فإن ذاك الإنسان حتما سيستريح بعد ذلك. ولكن إذا لم يوفق فى نزع الشوكة بل دخلت إلى مكان أعمق فإن عليه أن يضع عليها مرهما، وبالصبر واللطف ستخرج الشوكة من ذاتها، وعندئذ يستريح وهكذا الحال أيضا مع الإنسان الذى يغضب من الذى يوجهه لخلاصه. واعلم أنه كلما كان المسئول شفوقا عليه كلما استجاب للنصح والإرشاد. أما إذا هاج ذلك المخطئ ولم يقبل المشورة فأخبرني ونحن سوف نتصرف معه كما يرشدنا الله. اهتم جدا برعاية المرضى أكثر من الاهتمام بنفسك. مارس ضبط النفس فى جميع الأوقات. احمل الصليب أكثر من الآخرين لأنك صرت أبا لهم. وكن مثالا للأخوة وقدوة لهم فى كل شئ وفى كل ما تعلمهم به. ومتى صادفك أمر لا تعلم كيف تتصرف فيه بحكمة، فأخبرني وبمعونة الرب سنصل معا إلى حل نعمله بعد ذلك.”
  2. مرة سأل تواضروس الإسكندري آبا باخوميوس بخصوص كرنيليوس فقال: “لقد سمعت عنه أنه قد صار نقى القلب حتى أنه لم يعد فى قلبه أى فكر شرير طوال فترة الصلاة بالمجمع. فكيف بلغ ذلك؟ مع أننى حاولت مرارا وتكرارا، وجاهدت فى الصلاة كثيرا، حتى لا يكون هناك فكر آخر غير فكر الصلاة، ولكنني مع ذلك لم أفلح، سوى فى ثلاث مرات فقط، استطعت فيها أن أقطع الأفكار التى تشوش على أثناء الصلاة.” فأجابه آبا باخوميوس: “سوف أشرح لك هذا الأمر بمثل حتى تتشجع؛ إذ رأى عبد إنسانا فقيرا ولكنه حر، فإنه لا شك سيشتاق إلى تلك الحرية التى يعيشها ذلك الإنسان وكذلك متى رأى هذا الإنسان الفقير قائدا كبيرا، فإنه حقا سيشتهى أن يكون مثله وأيضا متى رأى هذا القائد ملكا، فإنه سيشتهى أن يكون مثله، وهكذا فإن كل واحد سيشتهى الدرجة العليا التى يرى غيره عليها. وينبغى أن تعلم أن كرنيليوس قد جاهد حتى حصل على ثمار الروح القدس بمعونة الله التى أعطاها له. فعليك أنت إذن يا تواضروس أن تتبع خطواته فى كل جهاده وكن شاكرا لله فى كل شئ، واحفظ وصاياه بكل قلبك، وبذلك لن يخضع فكرك لعدو الخير فى أى وقت.” فلما سمع تواضروس هذا الكلام ذهل من المعرفة الإلهية التى تملأ قلب رجل الله.

وكان تواضروس ينصت إلى كلام آبا باخوميوس لاسيما عندما يحدث الأخوة بكلمة الرب، وحين يرجع إلى المنزل كان يعيد كل ما سمعه باليونانية على الأخوة الموجودين معه. ويطلب إليهم أن يمارسوا الكلمة التى سمعوها وأن يسلكوا بمقتضاها حتى يثمروا. وكان من بين الثمار الروحية فى ذلك البيت (بيت الأجانب) أوسونيوس الكبير واسونيوس الآخر، وكذلك نون وهم من الإسكدرانيين ومن بين الأروام؛ فيرموس وموليوس ودومانيوس الأرمني.

وقد استمر تواضروس الأسكندري مسئولا عن إدارة هذا البيت لمدة ثلاثة عشر عاما حتى انتقل آبا باخوميوس إلى موضع النياح. وقد ترجم إلى اليونانية كل التعاليم التى سمعها من آبا باخوميوس وكذلك كل تعاليم آبا أورزسيوس.

التمييز الروحي لباخوميوس:

  1. حدث فى دير فابو أن عشرة من الأخوة الذين قضوا زمنا فى حياة النسك والطهارة، قد بدأوا يتذمرون على آبا باخوميوس بسبب وعظه لهم ونصحهم لأجل خلاصهم وشفاء أرواحهم. ولكن مع ذلك، وضع رجل الله على عاتقه أن يسهر ويصلى من أجلهم، ويتضرع إلى الله صائما أن يمنح الله هؤلاء الأخوة روح التوبة حتى يرجعوا عن أخطائهم، وفعلا استجاب الرب لصلواته، وتابوا جميعا، الواحد بعد الآخر حتى رقدوا جميعا بسلام.
  2. فى أحد الأيام انتقل أحد الأخوة، فأمر آبا باخوميوس بعدم ترتيل المزامير عليه أو الصلاة لأجله بل وأكثر من ذلك فإنه أمر بحرق ملابس الرهبنة الخاصة به وسط الأخوة جميعا، حتى يضع فى قلوبهم الخوف والسهر على خلاص أرواحهم. أما عن خطايا الأخ وكيفيه سلوكه فلا نعلم عنها شيئا. وإنما الذى نعلمه أن رجال الله القديسين لا يعملون شيئا بدون داع، لأنهم فى كل حين يرضون الرب بأعمالهم. سواء كانت هذه الأعمال صلاح مارسوه أو قسوة وشدة طبقوها على الآخرين لخلاصهم.

اِماتات تواضروس الكبير:

  1. حدث مرة أن مرض آبا باخوميوس، حتى اقترب من الموت. فاجتمع كل آباء الشركة والأخوة فى دير فابو حول تواضروس وقالوا له: “اعطنا وعدًا بأنه لو افتقد الرب آبا باخوميوس، تصير أنت مسئولًا عنا، وأبًا لنا بعده، حتى لا نصير أيتامًا وغنمًا لا راعى لها. لأنه لا يوجد بيننا من يشبهه فى الفضائل غيرك.” إلا أن تواضروس لشدة اتضاعه لم يجبهم قط، ونظرًا لزهده فى المناصب القيادية وحتى لا يسقط فى المجد الباطل، فقد رفض طلبهم. ولكن تحت إلحاحهم المستمر وطلبهم المتوالى، وافق أخيرًا وقبل. على أن ذلك الأمر الذى رتبوه بين أنفسهم لم يكن خافيًا على رجل الله باخوميوس، فحين تحسنت صحته قليلًا، قال للأخوة: “ليعترف كل واحد منكم بتقصيره.” فقال تواضروس على الفور: “منذ سبع سنوات حتى الآن وأنا معك، ورغم أنك أرسلتنى كثيرًا لزيارة الأخوة وافتقادهم فى الأديرة الأخرى فكنت أقودهم بذات القواعد والنظم التى وضعتها. ولكن الله وحده يعلم إننى لا أفكر قط فى قيادتهم من بعدك ولا فى أنى سأصير أبًا لهم. ولكن حتى لا أكون كاذبًا ويتم فىَّ قول الكتاب “تهلك المتكلين بالكذب. فإننى لا أخفى عليك أننى تحت إلحاحهم المستمر قبلت ذلك ووافقت عليه.” فقال آبا باخوميوس أمام جميع الأخوة: “والآن اذهب إلى مكان منعزل بعيدًا عن الأخوة، وصلى هناك إلى الرب حتى يغفر لك خطيتك هذه.” فذهب تواضروس إلى مكان منعزل كان قد اعتاد أن يذهب إليه ويمارس أصوامًا، وظل يبكى إلى الله نهارًا وليلًا بدموع كثيرة وتنهدات عديدة، ولم يكن ذلك من أجل رتبة فقدها، وإنما من أجل قبوله أفكار العظمة وموافقته فى قلبه على مجد الرئاسة. وقد مر عليه فى ذلك الوقت أخ، فرآه على تلك الحال من البكاء والانسحاق، فقال فى نفسه: “لماذا لم يترك الدير ويرحل.” وفى أثناء الليل خرج تواضروس من عزلته لقضاء حاجة ما، فتتبعه ذلك الأخ ليرى إن كان سيرحل أم لا، ولكن تواضروس لم يكن يفكر فى هذا قط، بل لما أحس بفكر هذا الأخ من نحوه، صلى إلى الله قائلًا: “أيها الرب إله أبى باخوميوس خلص هذا الأخ من الأفكار غير المستقيمة التى دخلت قلبه من نحوى.”

وبعد فترة حينما أعطيت إشارة بدء صلاة المجمع، قام تواضروس وذهب إلى المجمع فى وسط الأخوة وقال لهم: “صلوا من أجلى أيها الأخوة، حتى يغفر لى الرب الخطية التى ارتكبتها، لأننى سكرت بخمر الإثم دون أن أعلم.” ثم انحنى وسجد إلى الأرض وبكى كثيرًا، حتى أبكى الأخوة معه ثم قام ورجع إلى عزلته، واستمر فى تذللـه أمام الرب باكيًا الليل والنهار. حتى إن الأخوة الذين كانوا يمرون من هناك ويسمعون صوت بكائه كانوا يبكون هم أيضًا لأجله. وكثيرون من الشيوخ الذين كانوا يحضرون عنده لكى يشجعوه كانوا يسألونه قائلين: “هل أنت تبكى وتتألم كثيرًا لأن آبا باخوميوس قد جردك من كل رتبة؟..” فكان تواضروس لا يسمح لأى منهم أن يتحدث بمثل هذا الكلام الجسدانى، بل كان يجيبهم فى اتضاع: “إننى لا أبكى لهذا السبب الذى يحاول عدو الخير أن يضعه فى فكركم، بل إننى أبكى من أجل الخطيئة التى ارتكبتها أنا أمام الرب.” ثم ابتدأ هؤلاء الشيوخ ينتقدون آبا باخوميوس فى حضور تواضروس، ظانين أنهم يشجعونه بذلك وقالوا: “وماهى سقطتك يا تواضروس حتى يعاملك آبا باخوميوس بهذه الطريقة، أليس واضحًا للجميع أنك أنت ستحل محله، بعد نياحته. فلماذا إذن يجردوك من كل مسئولياتك.”

فلما سمع تواضروس هذه الكلمات حزن جدًا، خاصة وأنهم انتقدوا آبا باخوميوس رجل الله فى حضوره، فرد عليهم قائلًا: “لا تظنوا أن آبا باخوميوس قد فعل ذلك دون أن أكون مستحقًا له، بل إن كل ما عمله، إنما هو لأجل خلاص نفسى وحتى أكون مستحقًا للرب.” وحينما أقنعهم بكلماته المملوءة اتضاعًا، انصرفوا من عنده، وهم يمجدون الله الساكن فى تواضروس، وانتفعوا كثيرًا من كلماته. وبعد انصرافهم جاء شيخ آخر يدعى تيطس لكى يشجع تواضروس، فقال له: “لا تحزن يا تواضروس بسبب ما فعله معك آبا باخوميوس، لأن الله يعلم أنك لو تحملت ذلك باتضاع وشكر، فإن ذلك سيؤول لك بركة ومجدًا عظيمًا، كما حدث مع أيوب البار.” وأخذ الشيخ يشجعه كثيرًا بمثل هذا الكلام ثم تركه ورجع إلى منزله. فتعزى تواضروس بكلمات هذا الشيخ كثيرًا، واعتبرها مرسلة له من الرب ذاته لخيره ومنفعته. فقام وصلى، ثم أخذ الكتاب المقدس وفتحه، فكان هذا الفصل: “سأرجع بعد هذا وأبنى خيمة داود الساقطة وأبنى أيضًا ردمها وأقيمها ثانية. وللحال تعزى بهذه الكلمات التى قالها الرب على فم عاموس النبى.

وكان هناك أحد الأخوة قد زرع الشيطان فى قلبه أفكارًا رديئة من نحو تواضروس، الذى قال فى نفسه: “لاشك أن تواضروس قد ارتكب خطية عظيمة حتى تصرف آبا باخوميوس معه هكذا وأقاله من رتبته.” وجاء هذا الأخ إلى تواضروس وقال له: “هل الكلام الذى سمعته أنا من فم أبينا باخوميوس صحيح؟ فقد سمعته يقول: “لقد نزعت كل سلطة من تواضروس، ليس فقط بسبب اشتهائه الرئاسة وإنما لأنه أمسك فى خطية النجاسة.” فلما سمع تواضروس هذا الكلام بكى وامتلأ حزنًا وفكر فى نفسه قائلًا: “لو قلت إننى لم أفعل هذا الشر، لجعلت آبا باخوميوس كاذبًا وفقًا لما قاله ذلك الأخ من أنه سمع هذا الكلام من فمه، وإذا قلت حقًا قد فعلت ذلك، فإننى أصير كاذبًا، لأن هذه النجاسة لم ارتكبها منذ ولادتى حتى اليوم.” فابتدأ تواضروس يزرف الدموع الغزيرة بلا توقف ولم يرد على الأخ بكلمة قط، بل ازداد فى البكاء جدًا حتى تحير الأخ فى أمره، ثم تركه ومضى.

فقام تواضروس للحال ووجه كلماته للشيطان قائلًا: “الويل لك أيها الشيطان لأنك وضعت هذه الأفكار فى قلب ذاك الأخ حتى يقتلع من قلبى جذور الحب التى فيه من نحو رجل الله القديس باخوميوس، الذى أنقذ نفسى من جميع شباكك وحيلك المملوءة خداعًا.” ثم قام وجاء إلى آبا باخوميوس من خلفه وأخذ يقبل رأسه عدة مرات ولم يكن آبا باخوميوس يعلم من الذى قبله. ولما سأل الأخوة، قالوا إنه تواضروس، فقال له: “يا تواضروس تعال اجلس بجوارى.” فقال له تواضروس: “لقد وجدت من كنت أسأل عنه.” ثم تركه ورجع إلى مكان عزلته ولم يخبر أحد لماذا حضر لكى يقبل رأس الشيخ، كما لم يسأله أيضًا آبا باخوميوس لماذا فعلت هكذا؟

  1. بينما كان تواضروس فى عزلته يمارس التوبة، إذ بآبا باخوميوس يقال له فى رؤيا ، أن يرسل تواضروس إلى أحد الأديرة ليفتقد الأخوة، وبهذه الطريقة يتعزى ويجد راحة، فأرسل له آبا باخوميوس وقال له: “قم عاجلًا واذهب إلى دير طومسون، لتفتقد الأخوة هناك وتعرف كيف حالهم.” فأطاعه تواضروس فى اتضاع شديد، وخرج فى طريقه إلى دير طومسون كما أمره. ولما وصل إلى صانسيت، جلس على شاطئ النهر ينتظر مركبًا لكى يستقله إلى الشاطئ الآخر. وحينما جلس اقترب منه ملاكان فى هيئة اثنين من الرهبان الشيوخ وجلسوا بجواره. فابتدأ الأول يمدحه كثيرًا ويثنى عليه قائلًا له: “طوباك يا تواضروس لأنك احتقرت العالم وكل اهتمامه، واضعًا ذاتك تحت قدمى الرب.” فاستوقفه الثانى وكأنه تضايق وقال له: “كف عن مدحه لأنه إنسان تعس وشقى، وهو لم يصل بعد إلى المرتبة التى يستحق فيها كل هذا المديح، وعندما تراه قد نما فى القامة ووصل إلى مرتبة ذاك الرجل حامل القفة، فحينئذ تستطيع أن تمدحه كما تشاء.” فسأل الملاك الأول رفيقه: “وما قصة الرجل حامل القفة هذه؟” أجابه: “أنصت لى وأنا أحكيها لك كما سمعتها، فقد كان هناك إنسان صاحب أرض، قاسى جدًا فى معاملته مع الفلاحين العاملين فى أرضه. لذلك لم يستطع أحد منهم أن يستمر فى العمل طويلًا معه، بل كانوا يتركونه ويذهبون فى طريقهم. ولكن بعد ذلك جاء إنسان (حامل قفة) وقال فى نفسه: “مع أنه لم يقدر أحد أن يكمل معه عامًا واحدًا بسبب قسوته الشديدة وسوء معاملته، إلا أننى سوف أذهب وأعمل معه، لمدة عام كامل، وأكون خاضعًا له فى كل أمر حتى أتعلم مهنة الزراعة. وهكذا قام وذهب إليه وطلب منه أن يعمل عنده طوال ذاك العام.” فقال له صاحب الأرض: “بكل سرور ولكننى أريد أن الذى يعمل معى يطيعنى فى كل شئ.” فوافق الرجل وقبل أن يعمل معه بكل صبر.

ولما جاء وقت العمل فى الحقل قال صاحب الأرض لذلك الإنسان: “الآن نحن ذاهبون للعمل وأنا لا أريد أن تعمل السواقى لرى الأرض فى النهار، بل يكون ذلك فى الليل.” فأجاب الرجل: “نعم إنها فكرة كلها حكمة، لأننا لو روينا فى النهار، فإن الطيور والبهائم، سوف تأتى وتشرب من هذا الماء، ولكن إذا روينا فى المساء، فإننا لا شك سندخر كل الماء، وعندئذ نستطيع أن نروى كل الأرض.”

وحينما جاء وقت حراثة الأرض، قال صاحب الأرض للرجل: “ليكن هناك أحواضًا للزرع، بعضها للعدس، والآخر للذرة، والثالث للشعير، وأنواعًا أخرى من الحبوب، وهذه هى الطريقة التى ستبذر بها.” فأجاب الرجل هذا عين الحكمة يا سيدى وهى فكرة أكثر فطنة من الأولى، لأننا لو زرعنا بهذه الطريقة فإن الحقل سيصير أكثر جمالًا وازدهارًا وإثمارًا.” وبعد أن بذروا البذور، نبتت الجذور وارتفعت السيقان وقبل أن ينضج المحصول، قال صاحب الأرض: “هيا نحصد الحقل لأنه جاهز للحصاد.” فقال الرجل بكل لطف: “إنه لا توجد حدود لحكمتك يا سيدى، لأننا لو حصدنا الآن قبل نضج المحصول بالكامل وقبل أن يجف، فإننا لن نفقد شيئًا منه حين يقع على الأرض بل سنستفيد منه كله بالتمام.” ولما جمعوا المحصول كله أخذوه للدرس، قال صاحب الأرض: “هيا احضر القفة حتى نجمع فيها التبن وننقله إلى المكان المعد له، فنجده عند الاحتياج إليه.” فأجابه: “إن هذه الفكرة كلها صواب أكثر من كل سابقاتها، لأننا لو تصرفنا هكذا فى القش بعناية، فإنه حتمًا سيكون محفوظًا تمامًا فى مخازننا وقريب منا.”

فلما وجد صاحب الأرض أن الرجل أطاع وخضع له فى كل شئ ولم يخالفه قط بل ونجح فى كل الاختبارات التى اختبره فيها وأنه لم يرجع عنه طوال الفترة التى عمل فيها واستمر معه حتى نهاية العام، تعجب منه جدًا وقال له: “الآن علمت تمامًا أنك تستطيع أن تقيم معى دائمًا، لأنك سلكت معى فى كل شئ حسب إرادتى، وكنا نحن الاثنين كرجل واحد، فلذلك ستمكث معى على الدوام.” وهكذا استمرا معًا يعملان سويًا وعاشا فى سلام حتى نهاية حياتهما.”

وعندما انتهى الملاك من سرد القصة، قال له الملاك الآخر: “لقد سمعت منك اليوم مثلًا رائعًا، ولكننى أريدك تفسره لى.” فأجابه قائلًا: “إن صاحب الأرض الحقيقى هو الله والاختبارات التى يختبرها مع أولئك الذين يعملون معه، هى التجارب والمحن التى يسمح بها الله حتى يسيروا حسب مشيئته فى كل أيام حياتهم. والآن متى كان أحد خادمًا لله، فعليه أن يخضع له ويطيعه فى كل شئ كخادم حقيقى له. ولا يمكن للإنسان أن يحتمل التجارب الآتية عليه، مالم يقل فى نفسه: “إنى جاهل فى كل شئ.” كما أوصى الرسول: “لا يخدعن أحد نفسه إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم فى هذا الأمر فليصر جاهلًا لكى يصير حكيمًا[96].” وهكذا متى تحمل هذا الراهب (مشيرًا إلى تواضروس) كل الاختبارات التى يمتحنه بها أبوه، فإنه سيصير مختارًا ومباركًا من قبل الرب يسوع المسيح.”

وكان الملاكان اللذان ظهرا فى شكل راهبين شيخين يتحدثان مع بعضهما، وتواضروس يجلس بجوارهما يسند رأسه على ركبتيه وينصت إليهما فى إصغاء تام، ولم يعرف أنهما ملاكان، وكان متعزيًا جدًا من كلامهما. ولما وصلت المركب نزل ثلاثتهم إليه، وحينما وصلوا جميعًا إلى الشاطئ الآخر نظر تواضروس فلم يبصرهما إذ كانا قد اختفيا من أمامه، فللحال أدرك أنهما ملاكان. فسار فى طريق باكيًا، متأثرًا من الكلمات التى سمعها من أفواه الملائكة، حتى وصل إلى دير طومسون وهناك استقبله الأخوة بفرح. وبعد أن افتقدهم واطمأن عليهم جميعًا حسب وصية آبا باخوميوس رجع إلى فابو وهو يبكت ذاته قائلًا: “أخطأت إذ سمحت للمجد الباطل أن يتسلل إلى قلبى.”

  1. كان أحد الشيوخ يدعى زكا رئيسًا للنوتية، ولما حان وقت رحيل أحد المراكب إلى الإسكندرية، جاء وتوسل إلى آبا باخوميوس لكى يرسل معه تواضروس حتى يشرف على البحارة الذين بالمركب، وحتى يتعزى أيضًا فى تجربته، حيث كان هناك خوف على عينيه من كثرة البكاء. فَسُرَّ آبا باخوميوس بهذا الطلب وأرسل تواضروس يستدعيه لكى يبحر مع زكا على تلك المركب.

وأرسل خطابًا إلى البابا أثناسيوس رئيس الأساقفة. فكان تواضروس يتعامل مع جميع الذين على المركب بكل اتضاع، حانيًا رأسه إلى أسفل، وخاضعًا لهم فى كل شئ، كالطفل الصغير. وحينما كانوا يجلسون للأكل، ويفسحون له مكانًا. كان يرفض ذلك حتى ينتهوا جميعًا من الأكل ثم يجلس هو أخيرًا ليأكل، وهو يتلو فى داخله كلام الله، بلا توقف، وأحيانًا كثيرة كان يقضى الليل كله وهو يردد ويلهج فى أقوال الله المدونة فى الأسفار المقدسة وحينما كانت المركب تصل إلى الشاطئ، كان هو أول من يقفز منها لكى يربطها فى الوتد المعد لها. وعندما كان يرسل مع أحد الأخوة فى أى مهمة، كان يوصى الأخ الذى معه قائلًا: “إذا أردت أن تصنع معى معروفًا فجاوب أنت على كل من يسألنا، وعليك أن ترد على كل من يحيينا.” ولما وصلوا إلى الإسكندرية، قابله البابا أثناسيوس، وتعجب من حياته وأرسل مع الأخوة خطابًا إلى آبا باخوميوس، يمتدح فيه تواضروس الذى سمع عنه كثيرًا، وكان مشتاقًا أن يراه.

فلما رجعوا بالمركب إلى الجنوب، استقبلهم آبا باخوميوس بفرح، وقبل جميع الأخوة بابتهاج وسألهم عن حال الكنيسة، فأجابوه: “نشكر الله على معونته، لأنه ببركة صلواتك بدأ السلام يحل فى الكنيسة. وقد كان آبا باخوميوس حزينًا جدًا بسبب أريوس وما ابتدعه فى الكنيسة، وكان يصلى دائمًا من أجل سلام الكنيسة الجامعة التى كانت تخوض فى ذلك الوقت محنة بسبب الآريوسية. وكان دائمًا يقول: “إن الرب قد سمح بذلك من أجل امتحان الإيمان وتذكيته ولكنه حتمًا سيعاقب أولئك الأشرار حسب استحقاقهم.

تواضع تواضروس:

  1. بعد أن تحدث آبا باخوميوس مع الأخوة عن تواضروس قال لهم: “لا تظنوا يا أخوتي أن تواضروس قل اعتباره أمام الله، بسبب أنه قد فقد رتبته أمام الناس، كلا فإنه على العكس فقد تقدم كثيرًا عما كان عليه سابقًا، ولأجل اتضاعه فقد احتمل كل شئ فى صبر، وتم فيه قول الإنجيل “من يضع نفسه يرتفع.” وفى الواقع أنا و تواضروس نكمل نفس الخدمة وبذات الروح.” هذا وقد كان تواضروس يتبع خطوات آبا باخوميوس حتى يوم نياحته، وحيثما كان يرسله لزيارة الأخوة كان يجلس ويعزيهم بكلمة الله.

اِماتات باخوميوس والرهبان:

  1. عندما كان الأخوة يرون آبا باخوميوس يجلس على الأرض، أو مكانًا غير مريح، كانوا يحضرون له شيئًا يجلس عليه، فكان يرفض ذلك ويقول لهم: “ما دام جسدى غير مريض، فلن أقبل ذلك، لأنه كيف سأكون خادمًا للرب فى الدهر الآتى وفى حضرة جميع القديسين، وأنا هنا أمتع جسدى وأرفهه. فالإنجيل يوصينا: “من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادما. ومن أراد أن يكون فيكم أولًا فليكن لكم عبدا. كما أن ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم و ليبذل نفسه فدية عن كثيرين. وعلى ذلك يجب أن أن نخدم بعضنا بعضًا، ولا ننتظر خدمة الآخرين لنا.”

وكثيرًا ما كان آبا باخوميوس يحث الأخوة على ألا يفقدوا ثقتهم فى الله، ومرة قال لهم: “قد كشف لى الله أن الإنسان إذا لدغته حية أثناء عمله وتألم فعليه ألا يتوقف عن العمل بل يحتمل الألم فى صبر كأنه من المسيح، ويصلى على الدوام بثقة قائلًا: “لا يوجد لى دواء غير اسم الرب.”

وفى أحد الأيام كان آبا باخوميوس فى المجمع فى وقت الصلوات النهارية، ولما ابتدأ يحدث الأخوة بكلمة الله، نظر إلى المدخل عند الباب، فرأى روح ظلمة يجلس هناك. وكان فوق المكان الذى يجلس فيه آبا باخوميوس طاقة مغلقة بحصيرة عليها قالبان من الطوب. ولما أراد أحد الأخوة أن يفتح الطاقة ليدخل الضوء إلى المكان، وقع الطوب على رأس آبا باخوميوس ففزع الأخوة، وصرخوا ظانين أن الطوب هشم رأسه. ولكن رجل الله الذى كان يعلم أن ذلك سيحدث بسبب ذاك الذى رآه جالسًا عند الباب. لم يفزع البتة ولم يتحرك ساكنًا، بل كل الذى فعله أنه غطى رأسه بيده، واحتمل الصدمة بشكر. وأشار للأخوة بالسكوت. وبعد ذلك لما سأله الأخوة عن مدى إصابته أجابهم قائلًا: “قبل أن يقع الطوب على رأسى، كنت أحس بصداع أما الآن فقد فارقنى الصداع بسلام.” وكان يتمم قول الرسول: “كونوا شاكرين فى كل شئ. وفى نفس الوقت كان يثق أنه لن يمسه سوء إلا بسماح من الله.

وفى يوم آخر أثناء موسم الحصاد حيث اعتاد أن يعمل مع الأخوة فى النهار وعند المساء وهو يعظ الأخوة، جاءت حيتان والتفتا حول قدميه، ولكنه مع ذلك لم يلتفت لهما البتة، بل وحتى لم ينظر إلى قدميه ليحركهما ولما انتهى من حديثه وقف وصلى وصرف الأخوة فرجع كل واحد منهم إلى قلايته، ثم بعدها طلب مصباحًا، ولما أحضروه أبصر الحيتان ملفوفتان فقتلهما، وأعطى المجد لله الذى يخلص الذين يترجونه.

  1. فى ليلة ما، بينما كان أحد الأخوة، ويدعى بولس، وهو شيخ ناسك، واقفا يقرأ الإنجيل إذ بحية تلدغه فى رجله، ولكنه مع ذلك لم يتوقف عن القراءة، بل وأكثر من ذلك، فقد استمر يلهج بكلام الله من المساء حتى الصباح. ولما جاء الصباح كان السم قد سرى فى جسده حتى وصل إلى قلبه وكاد أن يسلم الروح، ولكنه صرخ إلى الله قائلا: “لن أكف عن الصلاة حتى تمنحني الشفاء والراحة، وحتى لو تألمت من اضطهاد مريع أو عذاب شنيع فلن أنكرك أو أكف عن طلبك.” ولما علم بأمره أحد الأخوة أوصاه ألا يخبر أحدًا بما حدث له، حتى لا يفقد المكافأة من عند الرب بعد موته. ولكن الأخ ذهب وأخبر بقية الأخوة، الذين جاءوا والتفوا حوله، ورأوا الثعبان الذى لدغه ملقى ميتا تحت قدميه، وهو قد شفى، فتعجبوا جدا ومجدوا الله.
قد يعجبك ايضا
اترك رد