صائمًا في سجن القبة
روى
الكاتب الكبير مصطفي أمين قصة سجنه في معتقل القبة عام 1965، فقد صدر قرار بمنعه
من الأكل والشرب. الحرمان من الأكل مؤلم، ولكنه مُحتمل، فالجسم يتحمل الجوع، لكنه
لا يحتمل العطش لفترات طويلة، خاصة مع صيف القاهرة الساخن. تحمل الكاتب لثلاثة
أيام متالية عذاب العطش، فسقط على الأرض ليمد لسانه “ويلحس” الأرض لعل
عامل النظافة نسيّ نقطة ماء وهو يغسل البلاط. حينئذ فُتح باب الزنزانة وتقدم له
شخص يحمل كوب ماء بارد.. شربه بنهم فعادت إليه الحياة.
مضت الأيام حتى تمكن من سؤال الحارس المجهول: عن سبب تصرفه، الذي كان في حالة كشفه للسلطات، سيحاكم. رد الحارس: لأنك صنعت يومًا معروفًا، لأسرتي الفقيرة لن أنساه، كنّا في حالة فقر شديد، وقدمت جريدتكم بقرة أنقذت أبي من العوز وسؤال الناس.
هل يُعد السجين صائمًا، أم الحارس؟
هل الصوم هو انقطاع عن مأكلٌ أو مشرب، أم للصوم معاني أخرى؟
سأل تلاميذ المعمدان يومًا الرب يسوع قائلين: «لِماذا نَصومُ نَحنُ و الفِرِّيسيُّون و تَلاميذُكَ لا يَصومون؟» (متى 9: 14). لم يبرر المسيح عدم صوم تلاميذه ولكنه كشف في كلامه غاية الصوم وهدفه الوحيد.
أجابهم: “«أَيَسْتَطيعُ أَهْلُ العُرسِ أَن يَحزَنوا ما دامَ العَريسُ بَيْنَهُم؟ ولكِن سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعْ العَريسُ مِن بَيْنِهم، فَحينَئذٍ يَصومون. أشار المسيح أن للصوم مناسبة، فهو وقت يذلل فيه الإنسان نفسه ليبلغ غايات روحية أعظم. هو أداة مظهرها الخارجي الامتناع عن الطعام أو الشراب، ومظهرها الداخلي هو اصلاحًا روحيًا داخليًا وتغيير في حياة الإنسان وعلاقاته مع القريب.
ذكر تلاميذ المعمدان بكلامه أنه صديق العريس الذي يفرح للعريس، الذي كان شخص المسيح ذاته. نسى رجال المعمدان تعليم معلمهم ورسالته وتمسكوا بتقاليد توجب الصوم الخارجي فقط، دون أن ينتبهوا إلى وجود “حمل الله الحاملُ خطيئة العام” بينهم. تمسك التلاميذ بالتقاليد الخارجية دفع بهم إلى خارج العُرس وبعيدًا عن العريس، الآتي من السماء وفوق الجميع (يوحنا 3: 31).
متى يصوم تلاميذ المسيح؟
“وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ”. سيصوم التلاميذ متى يدركون حالتهم الروحية والإنسانية البعيدة عن نمط حياة العريس. عندما يدرك الإنسان أن حياته الروحية وعلاقاته الإنسانية غير متوافقة مع حياة العريس. هناك فتور روحي، صلاة سطحية، خدمة دون شغف، انشغال بالماديات، عبودية لشيء ما أو لشخص.
غاية الصوم
غاية الصوم إذن هو اجراء تغيير جذري في الحياة وليس مظهر عبادة شكلي. أضاف يسوع هذه الكلمات: “ما مِن أَحَدٍ يَجعَلُ في ثَوبٍ عَتيقٍ قِطعَةً مِن نَسيجٍ خام، لأَنَّها تأخُذُ مِنَ الثَّوبِ على مِقْدارِها، فيَصيرُ الخَرقُ أَسوَأ. ولا تُجعَلُ الخَمرَةُ الجَديدَةُ في زِقاقٍ عَتيقة، لِئَلاَّ تَنْشَقَّ الزِّقاقُ فَتُراقَ الخَمرُ وتَتلَفَ الزِّقاق، بل تُجعَلُ الخَمرَةُ الجَديدَةُ في زِقاقٍ جَديدة، فَتَسلَمُ جَميعاً» (متى 9: 16- 17). شبه الرب مَن يصوم دون أن يُحدث تغيير داخليًا في الشخصية ذاتها، بمن يقتطع رقعة جديدة من ثوب جديد {استخدم الفعل اليوناني الدال على نسيج جديد لم يستخدم بعد} على ثوب عتيق وقديم. مَن يمتلك ثوب قديم بالي، لكنه معتز به، فيريد أن يخفي ثقوبه بإضافة قطعة من ثوب جديد. الحياة المسيحية ثوبٌ جديد تمامًا، فمَن أمن بشخص المسيح فهو خليقة جديدة.
ثم يعطي مثلاً أخر، فالخمر يوضع في زقاق من جلد، يجف مع الأيام ويتشقق فإذا وضعت فيه خمرً جديدة فالأبخرة المتصاعد من النبيذ الجديد تتسرب من الشقوق التي بالجلد فيفسد الخمر والزق معًا. غاية الصوم هي أن تتجدد بالكامل، في علاقاتك مع الله، ومع الناس. أن تكون حياة العريس هي حياتي ومنهجه هو منهجي. هذه كلمات الوحي على لسان أشعيا النبي، يقول الرب: “أَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ صَوْمٌ أَخْتَارُهُ؟ يَوْماً يُذَلِّلُ الإِنْسَانُ فِيهِ نَفْسَهُ يُحْنِي كَالأَسَلَةِ رَأْسَهُ وَيَفْرِشُ تَحْتَهُ مِسْحاً وَرَمَاداً. هَلْ تُسَمِّي هَذَا صَوْماً وَيَوْماً مَقْبُولاً لِلرَّبِّ؟ أَلَيْسَ هَذَا صَوْماً أَخْتَارُهُ”.
ثم يوجز هدف الصوم في هذه الكلمات: “حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَاراً وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَاناً أَنْ تَكْسُوهُ وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ” (أشعيا 58: 5-7 ).
أنت صائم بالقدر الذي فيه تُصبح مسيحًا آخر. بالقدر الذي فيه تكسر خبزك مع الجائع وتسقى العطش وتأوى الغريب، وتكسو العريان، وأن لا تنسى.. لا تننسى… لا تنسى أهلك وعائلتك، فالبعض يريد أن يرى فيك محبة المسيح ورأفته.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.