انتقال القديس فرنسيس 2022
“كُنْ مُسَبَّحاً، يا رَبِّي، بِأَخينا المَوْتِ الجَسَديِّ”
من أعظم العبارات التي قيلت حتى الآن من البشر. لم يجرؤ إنسان قبل فرنسيس أو بعده أن ينطق بها.
أخينا الموت الجسدي.. جملة غريبة للغاية حتى من فرنسيس الذي أنشد نشيد المخلوقات وسبح الله لأجل مخلوقاته جميعًا: الشمس والأرض والقمر والسماء والنجوم والماء، لأن الموت ليس من المخلوقات التي خلقها الله والتي رأها حسنة جدًا:”رَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً”. الموت ليس من خلائق الله فيقول الكتاب: “لكِنْ بِحَسَدِ إِبْلِيسَ دَخَلَ الْمَوْتُ إِلَى الْعَالَمِ،” (حك 2: 24).
كيف يمكن أن يكون الموت أخ؟
يًصور الموت دائما بصورة هيكل عظمي يحمل في يده منجل لحصد أرواح الناس. منظر مرعب! جاء فرنسيس ليغيرَ من واقع الموت وسلطانه. نراى في كاتدرائية القديس فرنسيس في أسيزي، في قبوها السفلي، لوحة صغيرة من الجبس تصور فرنسيس شابًا، دون لحية، يقف بجوار هيكل عظمي متوجٌ فوق رأسه بتاجٍ من الذهب والجواهر الثمينة. الموت الذي يخيف الناس أصبح مع فرنسيس أخ يقود الإنسان إلى حياةٍ أبدية. تصالح فرنسيس مع جميع الكائنات: الكائنات ممثلين في ذئب جيبو، والمهمشين ممثلين في الأبرص، وأعداء الغرب في ذلك الوقت الممثلين في السلطان الكامل، ثم أخيرًا يتصالح في النهاية مع العدو الأخير، الموت.
كيف أصبح الموت أخُ لفرنسيس؟
عندما نقرأ سيرة القديس فرنسيس نلاحظ إن في مرحلة شبابه، وقبل أن يكلمه مصلوب سان دميانو، أن هناك الكثير من الأصدقاء والرفاق لكن كلهم مجهولون، ليس لديهم أسماء، ليس لديهم أهمية كبيرة، إنهم في حياته من أجل نفسه ومجده وثروته وشرفه. لكن بعد اهتدائه، وانفتحه على الآخرين: أصبح الجميع إخوته.
تبدأ حياة فرنسيس الفعلية عندما بدأ في مواجهة شيء آخر غير أحلامه ورغباته وحماقاته، شيء آخر غير ذاته. اهتداء فرنسيس ليس في أن المصلوب تحدث إليه وطلب منه أن يرمم كنيسته، بل عندما يكتشف أنه ليس في مركز الحياة، هناك آخرين أخوة له، يجب أن يمنحهم مكانًا في اهتماماته وعليه محبتهم واحترامهم.
بدأت حياة فرنسيس عندما أكتشف أن الحياة ليس في تحقيق الأحلامك الشخصية، بل في أكتشاف القدرة على الحب. هذا ما طلبه يسوع من الناموسي الذي سأله عما يفعل ليرث الحياة الأبدية. ذكره بالوصية الكبرى في الناموس ثم قال له: «بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هَذَا فَتَحْيَا». اكتشف فرنسيس أن هناك شيئًا آخر يجب أن يكون في المركز لينعم بالحياة الحقيقية. أنه عليه أن يبحث عن هذا الآخر، وعليه محبته احترامه وأن يمنحه مكانًا في حياته.
ينتقل فرنسيس من شخص يرغب في تحقيق حلمه الخاص، أن يكون فارسًا، إلى شخص يعيش في الحياة وهو ينظر إلى جميع ما في الكون كأخوة وأخوات: البشر والمخلوقات. هذه هي الولادة الجديدة، الحياة في الروح والتي تبدأ بالتخلي عن الذات. هذه المرحلة مؤلمة جدًا للإنسان لأنها تحارب رغبته الداخلية في التفرد عن الآخرين، وميوله الأنانية. عبر فرنسيس عن ألم العبور هذا إلى حياته الجديدة في وصيته: “إِذْ لَمَّا كُنْتُ في الخَطايا، كانَتْ رُؤْيَةُ البُرْصِ تَبدو لي مُرَّةً جِدّاً. وَقَدْ قادَني الرَّبُّ نَفْسُهُ بَيْنَهُم، وَرَئِفْتُ بِهِم” (وصية 1: 1- 2).
خاض فرنسيس هنا موته الأول، الموت عن الذات، عندها أكتشف حيًا، بل قام من موتِ الإنغلاق على ذاته لحياة جديدة، حياة أبناء الله. عظمة فرنسيس تكمن في السماح لنفسه بالتحول من الموت الأول للحياة الجديدة. المشكلة هي أن نخشى المغامرة ونرفض التغيير. يقول فرنسيس “وَقَدْ قادَني الرَّبُّ نَفْسُهُ بَيْنَهُم” سمح لنفسه أن تُقاد فاكتشف ما كان يعده مرًا أنه حلو المذاق: “تَحَوَّلَ ما كانَ يَبْدو ليَ مُرّاً إِلى عُذوبَةِ الرُّوحِ وَالجَسَدِ؛ وَبَعْدَ ذَلِكَ، بَقِيْتُ قَليلاً ثُمَّ هَجَرْتُ العالَم” (وصية 1: 3).
هناك خبرات مختلفة يمكن لنا سردها في اطار نفس الفكرة الخاصة بتحول فرنسيس من الموت إلى الحياة. هناك قصته الشهيرة عن الفرح الكامل أو الحقيقي: “يقول فرنسيس للأخ ليون: أكتب، ما هو الفرح الكامل؟ رسولٌ يأتي ويفيد ان جميع معلمي باريس قد انضموا إلى رهبنتنا. اكتب: ليس هذا هو الفرح الحقيقي. كذلك لو جاءنا جميع أحبارِ ما وراء الجبال من رؤساء الأساقفة، والأساقفة وحتى لو جاءنا ملك فرنسا، وملك إنكلترا، اكتب: ليس هذا هو الفرح الحقيقي. وكذلك لو مضى اخوتي إلى غير المؤمنين وردّوهم إلى الإيمان ولو أتاني الله نعمة شفاء المرضى ولو وصنعت الكثير من العجائب فإني أؤكد لك أن كل ذلك ليس الفرح الحقيقي”. الفرح الكامل هو الذي فيه يصبر رجل الله على رفض الجماعة الرهبانية له ولا يضطرب ويتحمل اضطهادات الآخرين له الذي يقولون له: “امضِ في سبيلك فأنت مجرد إنسانٍ بسيطٍ وغير متعلمٍ. وعلى أية حالٍ لا تعد إلينا مجددا فإن كثرة عددنا وكفاءتنا يغنياننا عنك”.
مر فرنسيس بهذه الخبرات المتتالية في التدرج في حياته الجديدة إلى أن يصل إلى الذروة عندما نال الجروحات فيصف القديس بونافنتورا الحدث بهذه الكلمات: “إن “الحب الحقيقي للمسيح قد حوّل المحب إلى صورة المحبوب”. تجربة الحب وحدها القادرة على تحويل الإنسان من التركيز على حياته إلى التركيز على الآخرين، كل الآخرين، الكائنات والبشر، جميعهم أخوة.
هنا نفهم لماذا عد فرنسيس الموت كأخ، لأنه سبق له أن خاض معه حروب شتى وانتصر فيها. أعود إلى تلك اللوحة الرائعة في كاتدرائيته الشهيرة. يقف فرنسيس بجوار الهيكل العظمي واضعًا يده اليسرى عليه وعلى شفتيه ابتسامة النصر، في حين يقف الموت ونظرة الهزيمة على وجهه والتاج الذي يغطي رأسه ساقطًا من رأسه في دلالة على خوضه معركة خسرها أمام القديس.