إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

كيف يعيش المُكرس نذر الفقر اليوم؟

0 705

مقالة تحليلة للواقع المصري الحالي:

لنتفق في البداية إن المقصود بالفقر ليس التخلي عن الممتلكات المادية فقط. فالمُكرس التابع للمؤسسات الرهبانية في مصر يعيش في أديرة تضمن له مستوى حياة أفضل قليلاً من المستوى الاقتصادي لغالبية المصريين! تملك الرهبانيات في مصر أصولاً وممتلكات تضمن مستوى حياة مميز للمُكرسين التابعين لها مقارنةً بأقرانهم العلمانيين العاملين في المجتمع. فالمُكرس الذي “يفترض” تخليه عن الممتلكات المادية لديه ضمانًا صحيًا في حالة تعرضه لأزمات صحية، وضمان مالي يمنعه من العوز كغيره من ملايين المصريين الذي يعيشون اليوم تحت خط الفقر، وقد يستخدم وسائل تكنولوجية ووسائل انتقال كالسيارات الفارهة، بصورة أفضل كثيرًا من رفقائه الذين انخرطوا في مختلف الوظائف في المجتمع المصري.

لذا فإن مصطلح الفقر المادي هو تعبير غير مناسب لوصف طبيعة الحياة الرهبانية الراهنة في المجتمع المصري. كما إن الفقر ليس فضيلة ليسعى المُكرس إلى اعتناقها في حياته الرهبانية! فإن كان الفقر فضيلةً، فعلينا اعتبار الثروات والممتلكات المادية شرًا.

الفقر بحسب الكتاب المقدس هو حالة واقعية من النقص وعدم الضمان والتبعيَّة، وحالة علاقة بالله. فليس الفقر محض استعداد داخليّ، ولا مجرد حالة اجتماعية، بل هو كلاهما: أي أنّه نظامُ حياة يفترض تفرغًا للربّ وموقف يتجسد في نمط حياة.

أولاً: الفقر هو نظام حياة يُعبر عن توجه داخلي

عندما ينذر المُكرس نذر الفقر فهو لا يختار الفقر المادي لكونه أمرٌ جيدٌ بحد ذاته، بل ليعلن من خلال نذوره عن “توجه” داخلي حادث في أعماقه، نشأ عندما أحب الله من كل القلب، وفوق كل شيء، فتغيرت نظرته إلى الأشياء والعالم. عندما أدرك الشخص محبة الله له وفهم تدخلاته العجيبة في حياته، حسبَّ كل شيء كنفاية، كأشياء عديمة القيمة، لا معنى لها، مقارنة بمعرفة ومحبة الله، كما عبر بولس عن ذلك بقوله: “أحسُبُ كُلَ شيءٍ خَسارةً مِنْ أجلِ الرِّبحِ الأعظَمِ، وهوَ مَعرِفَةُ المَسيحِ يَسوعَ رَبّي. مِنْ أجلِهِ خَسِرتُ كُلَ شيءٍ وحَسَبتُ كُلَ شيءٍ نِفايَةً لأربَحَ المَسيحَ” (فيلبي 3: 8).

الفقر إذن ليس سلوك تقشفي في الحياة، وعدم اهتمام بالأشياء المادية، ولكنه اهتمام بخالق كل الأشياء. هو توجه يعكس “تخلي داخلي” أو “افراغ داخلي” لذات المُكرس بين يدي الله. إنه لأمر واقع في الكتاب المقدس أنّ كل مرّة يريد الربّ فيها أن يمنح ذاته لإنسان، يبدأ بأن يحفر فيه مكانه الخاص به. إنه يحقق الفراغ أو على الأقل يجعل الإنسان يلمس لمس اليد الفراغ الذي في كل كائن. هذا ما فعله الرب يسوع فقد أخلى ذاته، أي تجوف وأصبح فقيرًا (فيلبي 2: 6- 11). عندما يتحرر الإنسان من مظاهر التملك، يصبح لا شيء ينازع الله في قلب الإنسان “مَا مِنْ خَادِمٍ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِسَيِّدَيْنِ: فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ أَحَدَهُمَا، فَيُحِبَّ الآخَرَ؛ وَإِمَّا أَنْ يَلْتَحِقَ بِأَحَدِهِمَا، فَيَهْجُرَ الآخَرَ. لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَكُونُوا عَبِيداً لِلهِ وَالْمَالِ مَعاً”. (لوقا 16، 13). لذا لا يصل المُكرس إلى حالة التخلي الطائع عن الخيرات المادية ومحاولة النفس البشرية بإكتنازها لضمان حياة أفضل في الغد القريب والبعيد، ما لم يتلاقي أولاً وبصورة صادقة مع الله الذي يدعوه إلى هذه الحياة. ما لم يترك الله يحفر داخله فراغًا كافيًا له. الفقر هو نتيجة للقاء المُكرس الحقيقي مع الله، وليس وسيلة للوصول إليه. يُعتبر النذر هو إعلان المُكرس على الملء بأنه العالم أصبح له نفاية لأجل الربح الأعظم، معرفة يسوع المسيح والاقتداء به.

لنصل إلى عمق الحياة الحقيقة التي تعبر عما يحمله الإنسان في قلبه. عندما فكر القديس فرنسيس في الاحتفال بعيد الميلاد عام 1023 في مغارة جريتشو توثق كثيرًا أمام فقر الطفل الإلهي المتجسد. هكذا يروي شيلانو الحدث: “أحبّ -يقول فرنسيس- أن أصوّر الطفل المولود في بيت لحم وأن أرى بعينيّ الجسد المعاناة التي تحمّلها من جرّاء الحرمان ممّا هو ضروري لطفلّ مولود جديد، كيف أنّه وضع في مذود وكيف نام على التبن بين الثور والحمار”.  أراد أن يرى بعينيه معاناة الطفل المحروم من أساسيات الحياة اللازمة للعيش.

رؤية فرنسيس وإدراكه لمعاناة الطفل يسوع المضجع على التين في مذود حقير دفعه في النهاية للوصول إلى قناعة إيمانية تتخلص في إن الرب لم يعيش على الأرض فقيرًا فحسب، بل هو الفقر ذاته. آمن بتخلي ابن الله المتجسد عن مجده السماوي وسلطانه الأزلي وقَبلَ أن يتجسد في مذود ليخلص الإنسان، هكذا عبر فرنسيس عن خلاصة فكره في قانونه الأول، الغير مصدق: “َنَشْكُرُكَ لأِنَّكَ، مِثْلَما خَلَقْتَنا بابنِكَ، كَذَلِكَ، بِحُبِّكَ القُدُّوسِ الَّذي بِهِ أَحبَبْتَنا، جَعَلْتَهُ يُولَدُ، إِلَهاً حَقّاً وَإِنساناً حَقّاً، مِنَ الكُلِّيَّةِ الطُّوبى، القدِّيسَةِ مَرْيَمَ المَجيدَةِ، وَالدَّائِمَةِ البَتولِيَّةِ، وَبِصَليبِهِ، وَدَمِهِ، وَمَوْتِهِ، أَرَدْتَ افتِداءَنا، نَحْنُ الأَسْرى” (ق غ م 23: 3).  قدم ابن الله ذاته كليًا ولم يحتفظ لنفسه بشيء، بذل جسده على الصليب لأجلنا: هكذا أعلن عن تقدمة ذاته: “والخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم”. طوال تاريخ الكنيسة الممتد كان فرنسيس الوحيد تقريبًا الذي نظر إلى الفقر على كونه شخص، هو الرب. أحب فرنسيس الفقر كونه هو الرب في ذاته الذي يعطي كل شيء فيصبح “بدون شيء خاص”. 

لذلك لا يذكر فرنسيس في قانونه كلمة الفقر، بل يستبدلها بهذه العبارة “بدون شيء خاص”. فالله العلي السرمدي، المُتعالي، القدوس جعله نفسه معوزًا وصغيرًا مولدًا في الفقر، يعاني من البرد والجوع حتى يموت على الصليب. ولهذا يمدح فرنسيس الفقر بشاعرية جميلة وصوفية عميقة، وأحيانًا بصفات إلهية مثل: “الكُلِّيِّ القَداسَة” (ق م 5: 4)، بل يسمى الفقر “السيدة الفاقة”! في الواقع، يختبر فرنسيس أن إتباع المسيح على طريق الفقر الإنجيلي يحرر قلب الإنسان، ويسمح له بالدخول في علاقة جديدة مع الحياة، مع الأشياء المادية والممتلكات، تتجاوز كل المقاييس وكل الحسابات.

فالمُكرس الناذر بصدق للفقر يتحرر من التعلق بالممتلكات ويتجرد من كل شيء، ، على مثال ابن الله المتجسد في المذود:  “عَلى الإِخْوَةِ أَلاَّ يَتَمَلَّكوا شَيْئاً، لا بَيْتاً، وَلا مَكاناً، وَلا أَيِّ شَيْء. وَكَحُجَّاجٍ، وَغُرَباءَ (1بط 2: 11)، في هَذا العالَم، يَخْدِمونَ الرَّبَّ في الفَقْرِ وَالتَّواضُعِ، فَلْيَطْلُبوا الإِحسانَ بِثِقَة. وَعَلَيْهِم أَلاَّ يَخْجَلوا مِنْ ذَلِكَ، فالرَّبُّ قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ فَقيراً، في هَذا العالَمِ، مِنْ أَجْلِنا” (ق م 6: 1-4). ليس هناك شيء خاص يمكن أن يمتلكه المُكرس، بل تجرد كامل عن الأشياء في سبيل الاتحاد الكامل بالفقير، بيسوع المتجسد.

ثانيًا: الفقر هو حالة واقعية من النقص وعدم الضمان

اللقاء مع الله يدفع إلى مبادرة ترمي إلى التخلي عن الامتلاك. وبالرغم من إن التخلي عن الممتلكات هو نتيجة لما سبق أن تحقق على مستوى الروح، إلا إنها نتيجة حتمية، لا يمكن أن نتصور أن يتوقف الفقر عن مستوى الروح فقط ولا يمتد إلى الصعيد المادي الملموس. فلا يمكن للمكرس أن يكون فقيرًا بالروح ما لم نتشبه بذاك الذي لم يكن له حجر يسند إليه رأسه، والذي كان فقيرًا بكل معنى الكلمة. إذا لم يشعر المُكرس في جسده بفقر المادي فسيكون نذر الفقر خدعة ووهم كبيرين.

لكي يعيش المُكرس بفقر كامل عليه تجنب البحث عن الضمان المادي المفرط، وتحاشي كل مظاهر حياتية لا تتناسب مع مستوى الحياة في البلد التي يخدم فيها (على الأقل). إن النزعة إلى التملك هي غريزة متأصلة في الإنسان، فكل شخص يطمع في أن يقتني ممتلكات وأمولاً تجعله في مأمن من تقلبات الحياة. عندما ينذر المُكرس نذر الفقر فهو يتعهد بأن يتحرر في تلك النزعة الغريزية ويعيش معتمدًا على عناية الله الأبوية. أن نذر الفقر يتطلب تحمل وضع الفقير تحملاً اختياريًا وشخصيًا، بمعنى التعايش مع الفقراء ومقاسمة نمط حياتهم وظروف حياتهم أيضًا، بما فيها عدم ضمان المستقبل، ومن عدم الاستقرار في المأكل والملبس وفي المسكن والعمل، والعلاج ومفاجآت الحياة. وإن هذ النوعية من الاهتمام بالفقراء هي حضور أكثر مما هي عمل، تعبر عن حضور يسوع نفسه الذي يجلس مع الفئات الفقيرة والمنبوذة.

الفقر إذن هو تحرر داخلي من عبودية المال، لإيمان الشخص الواثق بأن الله هو مصدر كل الخيرات. هو تعبير خارجي عن ترتيب الأولويات في حياتنا والتحرر من القلق المرتبط بالمادة: لقمة العيش، والملابس، والمنزل، والاحتياجات الاسرية. ويعكس التعبير الخارجي، تخلي داخلي عن نزعة تملك الأشياء التي يخضع لها الجميع، وهو على ثقةً بأنه سالمًا بين يدي الله.

يمكن أن نستخلص مجموعة من المبادئ العملية التي يمكن أن تساعد المُكرسين اليوم في التحرر من عبودية المال:

  1. لا تَكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزاً في الأَرض (متى 6: 19)
  2. لأنَّ الله يُحِبُّ مَنْ يُعطي بِسُرورٍ (2 كورنثوس 9: 7)

1. لا تَكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزاً في الأَرض:

المبدأ الأول هو عدم السعى إلى إكتناز الأموال، أو الرغبة في تملك المزيد منها. في ظل ثقافة الاستهلاك التي تسود عالم اليوم، يعلن المُكرس عن توجهه الداخلي بالاكتفاء بالحد الأدني والثقة الكامل والإيمان في عناية الله الأبوية. كذلك بالنسبة للذين يدخرون ولا يستهلكون كل ما يملكونه لأجل ضمان شيئًا ما للمستقبل، فهم يكتنزون بذات المنطق.

من المهم توضيح إن السعى إلى إكتناز الأموال ليس ظاهرة اقتصادية بحتة، ظاهرها الجشع رغبةً في ضمان المستقبل، بل هي في الأساس ظاهرة نفسية واجتماعية لحالة المُكرس الشخصية. يُعبر اكتناز المال عن حالة إنسان يفتقد الأحساس بالأمن والحب، ويرغب في ذات الوقت في القوة والشعور بالحرية.

الإحساس بالأمان: يسعى المُكرس للحصول على المال اتقاء لخوفه من العوز أو تعرضه لمرضٍ ما لا يتمكن فيه من الانفاق على نفسه، فيدخر إجباريا المال الذي ينظر إليه بإعتباره المصدر الوحيد للشعور بالأمان. يمكن ملاحظة هذا التوجه عند حديث المُكرس المتواصل على الجانب المالي واهتمامه الشديد به.

الإحساس بالحب: الحب في جوهره هو العطاء وليس الأخذ، وحين يعطي الإنسان فإن يبرهن على قوته وثرائه وخصوبته. عندما يفقد المُكرس الشعور بأنه محبوب داخل جماعته الرهبانية فإنه يظن إن المال قد يعوضه عن الحب المفقود داخل الجماعة، ويضمن له الأمان في حالة غدر الجماعة به وتخليه عنه. لذا لا تأتي ظاهرة الإكتناز إلا في حالة فقدان الإنسان للحب والشعور بأنه غير محبوب من قِبل المحيطين به.

الإحساس بالقوة: عندما ينخفض ويتدني شعور الإنسان بقيمته فإن يلجأ إلى المال لفرض قوته واخضاع الآخرين واجبارهم على احترامه. يكتنز مالً يستخدمه في شراء الآخرين وضمان ولاءهم له و تقديرهم لشخصه. فالمال و سيلة لتحقيق هذا التقدير الشخصى لذا فهو يستعذب النفاق و التملق من الآخرين رغم إدراكه الكامل لذلك.

الإحساس بالحرية: يتوق كل إنسان في أن يكون حرًا وفي سبيل الحصول على أكبر قدر منها فإن ينظر إلى المال كالشيء الوحيد الذي يمنحه الحرية دون قيود. يكتنز المال لاستخدامه في تحقيق حرية من الاعتماد على الآخرين، فالاعتماد على الآخر يمثل له تهديدًا يسعى للتخلص منه.

هذه مجموعة من الممارسات العملية التي يمكن أن تُساعد المُكرسين للتغلب على روح الجشع بإكتناز الأموال:-

  1. تعزيز الحياة الأخوية والمحبة المتبادلة بين أفراد الجماعات الرهبانية لبث الطمأنية والشعور بالأمان والحب في نفوس المُكرسين فلا يسعوا إلى إكتناز الأموال رغبة في تدارك هذه المشاعر.
  2. تعزيز المساواه، قدر الإمكان، في الامكانيات المادية بين أفراد الجماعة الرهبانية الواحدة. فالتباين الواضح بين المُكرسين في الامكانيات المتاحة يخلق نوع من عدم الطمأنينة وتدني الشعور بالقيمة لدى أفراد الجماعة الرهبانية متى كان التمييز لصالح رئيس الجماعة أو المسئولين فيها. استخدام السيارات الفارهة أو الموبيلات الحديثة أو توافر إمكانيات خاصة بالغرف للمسئولين بخلاف باقي أفراد الجماعة ينمي إلى حد كبيرة نزعة إكتناز ما هو متاح، أو التحايل للوصول إلى ما هو غير متاح من الأموال في سبيل الشعور بالقيمة مثل الآخرين الذين يملكون أكثر.
  3. الشفافية في الحسابات والإعلان عنها للجماعة الرهبانية، خاصة مصادر الدخول المتنوعة كالمدارس والمستوصفات والتبرعات التي تمنح للمُكرسين. كذا أيضًا الحسابات الشخصية التي يعدها البعض حقٌ مكتسبٌ للفرد دون الجماعة مثل ذلك الأعمال والأنشطة الخاصة مثل المحاضرات، أو الدخول الخاصة كالمعاش المستحق عن الوالدين. هذه نقطة محورية في تقاسم الخيرات فيها لا يعد المُكرس شيئًا خاصًا به،  ويتقاسم معهم كل شيء.
  4. التخلي عن الأشياء الغير ضرورية ووسائل الرفاهية المبالغ فيها التي يمكن استخدامها. “ليس هناك مؤمن حقيقي يتحدث عن الفقر ويعيش كفرعون” البابا فرنسيس في لقاءه مع أساقفة إيرلندا.
  5. القيام بخبرات حياتية في أوساط الفقراء هي أساسية بالنسبة لجميع المُكرسين، حتى إذا كانت مجال رسالتهم الرهبانية بعيدة مجال الاحتكاك المباشر بالفقراء كمدراء المدارسي والقائمين بأعمال إدارية.

2. لأنَّ الله يُحِبُّ مَنْ يُعطي بِسُرورٍ:

لا يقتصر الفقر على الجشع في اكتناز الأموال الناجم من بعض التأثيرات النفسية والاجتماعية كما سبق أن أشرنا. هناك الرغبة في التغلب تمامًا على إله المال وذلك بالمشاركة في الخيرات المادية المُتاحة، حتى إذا كانت قليلة. كل إنسان، هو وكيلٌ إئتمنه الله على الخيرات المادية، هو لا يملك الخيرات، بل يستعملها فقط لصالحه ولصالح الآخرين أيضًا. لقد مدح الرب وكيل الظلم لفطنته وحسن إدارته للخيرات عندما اشرك الآخرين فيها. عبر القديس أمبروزيوس عن ذات فكرة الوكالة هذه بقوله: “لستَ بمالك تجود على الفقير، ولكنك تُعيد إليه ما يحقُّ له. فما أُعطي جماعيًا لستخدمه الجميع، ها إنك تستأثر به. فالأرض قد أُعطيت لجميع الناس، ولا للغني فقط”.

لا يكون المُكرس فقيرًا مالم شارك الآخرين ويتقاسم معهم الخيرات المادية المُتاحة، حتى إذا كانت قليلة. يصح القول أن من قال أنه يحب الله الذي لا يراه وقد حبس أحشاءه عن أخيه الذي يراه فهو كاذب. إذا كيف يقدر أن يحب الله الذي لا يراه وهو لا يحب أخاه الذي يراه. إن العمل الاجتماعي هو أساس شهادة المحبة وكما قال القديس باسيليوس: “إذا كان عندك ثوبان وحبست ثوباً عن أخيك فأنت سارق، وإذا كان عندك رغيفان وحبست رغيفاً عن أخيك فأنت سارق”.

كافة الخدمات التي يقوم بها المُكرسون في مصر تهدف إلى مشاركة الآخرين من كافة طوائف المجتمع المصري في الخيرات التي تملك المؤسسات الرهبانية، كالمدارس والمستشفيات والملاجئ وبرامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمشاريع المختلفة. إن الرهبانيات تعطي ما تتقبل من مساعدات، وتوزع على الفقراء ما وضع بسخاء تحت تصرفها. من المهم أن نرى بأي روح نعطي. لا تكفي مساعدة الآخرين، بل المشاركة وتقاسم الخيرات التي تقبلها المُكرسون أولا. الحياة كما الخيرات المادية ليست ملكًا للإنسان، بل وضعت تحت تصرفه لأجل أن يُحسن التصرف فيها وفقا لمبدأ المحبة. السعادة هي في العطاء أكثر من الأخذ.

ونعرض بعض الممارسات العملية التي تساعد المُكرسين على تقاسم الخيرات المادية مع الآخرين بفرح:-

  1. العمل اليدوي. إن المُكرس الذي لا يعمل عملاً يدويًا لمدة ثمان ساعات يوميًا فإن من الصعب عليه أن التعبير عن المشاركة والتضامن مع الفقراء. هنا يجب مراجعة موقف العاملين بالأديرة الذين ينبون عن المُكرسين في القيام بالواجبات المنزلية المعتادة. هكذا يعلم بولس: “ما اَشتهيَتُ يومًا فِضَّةَ أحدٍ أو ذَهبَهُ أو ثيابَهُ، وأنتُم تَعرِفونَ أنِّي بِهاتَينِ اليدَينِ اَشتَغَلْتُ وحَصَلْتُ على ما نَحتاجُ إلَيهِ أنا ورِفاقي. وأرَيتُكُم في كُلِّ شيءٍ كيفَ يَجبُ علَينا بالكَدِّ والعَمَلِ أنْ نُساعِدَ الضُّعفاءَ، مُتذَكِّرينَ كلامَ الرَّبِّ يَسوعَ: «تَبارَكَ العَطاءُ أكثرَ مِنَ الأخذِ» (أع 20: 33- 34).
  2. تبنى نمط حياة، على المستوى الشخصي والجماعي، يتناسب مع مستوى الحياة السائد في البلد الذي يعيش فيه المُكرسون. سبق للمجمع الفاتيكاني الثاني أن شدد على شهادة الفقر الجماعية التي على المُكرسين القيام بها في المجتمعات التي يخدمون فيها (م. ك: 13).
  3. التضامن مع الفقراء باقتطاع جزء من المصروفات الشخصية التي ينفقها المُكرس لأجل الفقراء والمحتاجين. لا يمكن تعلم الفقر مال يلمس المُكرس  جسد المسيح الفقير، في المتروكين، وفي الفقراء، وفي المرضى، ويسدد بعض احتياجاتهم ولو بصورة طفيفة.
  4. الاستخدام الجيد للخيرات المتاحة كالماء والكهرباء تضامنًا مع احتياجات الآخرين، في ظل النقص في مياه النيل وأزمة الكهرباء في البلاد.

يلخص بولس الرسول في رسالته إلى فليبي نتيجة هذا التحليل لوضع المكرسين في مصر وكيفية التزامهم بنذر الفقر: “فأُحسِنُ العَيشَ في الحُرْمان كما أُحسِنُ العَيشَ في اليُسْر. ففي كُلِّ وقْتٍ وفي كُلِّ شَيءٍ تَعَلَّمتُ أَن أَشبَعَ وأَجوع، أَن أَكونَ في اليُسرِ والعُسْر،  أَستَطيعُ كُلَّ شيَءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني” (فل 4: 12- 13).

عندما يرتبط المُكرس بعلاقة حقيقية صادقة مع الرب يسوع لا يفكر في الأشياء والممتلكات فهو يستطيع كل شيء في المسيح يسوع، لا يقلق من الغد واثق بقدرته على العيش في اليسر وفي العسر، إذا توافر المال أم لا يتوافر.

السؤال الواقعيّ الذي يمكن طرحه انطلاقًا من تعليم بولس الرسول هو: أين قلبك؟  هل ترى في الجماعة التي دُعيت إلى خدمتها، مصدر رزق؟ هل تشترط أن يكون هناك مقابل لتخدم؟ هل ربحت «مال الظلم» لتنقل الكلمة، وتقيم الأسرار؟ أو هل أنت واثق بأنّ المسيح يحييك، بجوع يسمح بأن تمرّ به حينًا أو بشبع أحيانًا؟ أين قلبك؟ وكيف تقيم علاقتك الروحية بالكلمة المتجسد؟

قد يعجبك ايضا
اترك رد