إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

عيد القديس فرنسيس 2023

0 1٬258

سأل أحد الرهبان ويدعى ماسيوو القديس فرنسيس قائلا: “لماذا يتبعك العالم كله؟ الجميع يريد أن يراك ويسمعك ويطيعك، حتى أنا اتبعك منذ سنوات ولا أعرف لماذا: أعذرني، أنت ليس واعظًا شهيرًا، ولا ترافقك بعض الظهور الغير طبيعية التي ترافق رجال الله، فلماذا أنت بالذات يأتي العالم كله خلفك؟ صمت فرنسيس قليلاً وأجاب تلميذه ماسيوو: هل تريد أن تعرف لماذا يأتي العالم كله ورائي؟ لأنه أمام أعين الله القدوسة لم يكن هناك بين الخطأة شخص أكثر جبنًا ولا أحقر مني؟

سؤال ماسيوو مازال يتردد إلى اليوم: لماذا يتبع العالم القديس فرنسيس؟ حتى اليوم مازالت تعاليمه ومواقفه منتشرة بين المؤمنين وغير المؤمنين ومعروفة في أوساط الهيئات والمنظمات العالمية. فأزمة المناخ العالمية ومشكلات البيئة ومبادئ الأخوة المشتركة مشتقة من تعاليم فرنسيس.

عظمة القديس فرنسيس تكمن في إجابته على تلميذه ماسيوو. كان ينظر لنفسه على إنه صغيرًا جدًا، بل الأقل استحقاقًا من الجميع. عظمة فرسيس في تواضعه كما عبر شاعر النهضة الكبير دانتي أليجيري. عّدَّ فرنسيس نفسه صغيرًا وطلب إن يدعى رهبانه “أخوة أصاغر”.

نعتقد أن التواضع فضيلة بشرية ضمن الفضائل المختلفة، لكن كشف فرنسيس أن التواضع هو كيان الله ذاته. في مغارة جريتشو أدرك فرنسيس إن الله هو التواضع الذي يخلي ذاته إلى درجة أن يصبح طفلاً صغيرًا في مزود أو في سر الافخارستيا. كانت مغارته مختلفة عما نراه اليوم فلم يكن هناك تشخيص لمريم العذراء ولا للقديس يوسف ولا الملائكة والرعاة! فقط احضر ثورًا وحمارًا كما ذكر أشعيا النبي في نبؤته، ثم أحضر لوحًا خشبيًا وأقامه فوق المذود واحتفل الكاهن بالذبيحة الإلهية، هنا قال فرنسيس جملته الشهيرة والتي سطرها بعد ذلك في رسالته لكل الرهبنة قائلا: “يا للعُلُوِّ العَجيبِ، والمَكانَةِ المُذْهِلَة! يا للتَّواضُعِ السَّامي! ويا للسُّمُوِّ المُتَواضِع! أَنْ يَتَّضِعَ رَبُّ الكَوْنِ، أَللهُ، وَابنُ اللهِ، بِحَيْثُ يَـتَوارى، مِنْ أَجلِ خَـلاصِنا، تَحْتَ شَكْلِ الخُبْزِ البَسيط!

أكتشف فرنسيس إن الله هو التواضع ذاته الذي جعل ذاته “صغيرًا”، تجرد من كل الامتيازات الإلهية، كما تقول الرسالة إلى أهل فيلبي: “.. بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان  فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب” (فل  2، 7 – 8). وعبر عن إيمانه هذا في تسابيح الله العلي المحفوظ بخط يده في أسيزي، من بين كمالات الله يكتب فرنسيس: “قُدُّوسٌ أَنْتَ، أَيُّها الرَّبُّ، الإِلَهُ الأَوْحَدُ، الَّذي يَصْنَعُ المُعْجِزات، أَنتَ الثَّالوثُ وَالوَحْدَةُ، أَنتَ الحُبُّ وَالمَحَبَّةُ، أَنتَ الحِكْمَةُ .. أَنتَ التَّواضُع”. لقد أدرك فرنسيس حقيقة عميقة جدًا عن الله، أنه متواضع.

أمام هذه الحقيقة يكتشف الإنسان إنه “صغير وصغير للغاية” ويكتشف حقارته وبؤسه وهذا ما عبر عنه أشعيا النبي “ويلٌ لي إني رجلٌ نجسُ الشًّفَتين” (أش 6: 5). كذلك بطرس في حادثة الصيد العجائبي:  “يا ربّ، تَباعَدْ عَنِّي، إِنِّي رَجُلٌ خاطِئ” (لوقا 5: 8). أن تكون متواضعًا هي أن تدرك إنك “صغير” وغير مستحق أمام الله الغير محدود.

كيف نتحلى بالتواضع؟

1. الطريق الوحيد هو أن نترك تواضع الله يملء قلوبنا. التواضع ليس فضيلة بشرية يمكن اكتسابها بمجهودتنا الذاتية. أترك فقط تواضع الله يملئك. لكن احذر من فيروس الكبرياء الذي يتغذى أحيانًا على الخير أكثر من الشر، وعلى حُسن النية أكثر من سوء النية. على عكس أي خطيئة آخرى فإن الخير وليس الشر هو التربة المفضلة لتكاثر هذا “الفيروس” الرهيب. يتغذى على النيات الحسنة في الخدمة، وعمل الخير، وتوالى مناصب في الكنيسة بغرض ترميمها وبث النشاط فيها!

عندما سمع فرنسيس صوت المصلوب يدعوه لترميم كنيسته، شرع في إصلاح الكنيسة من الداخل بتبني قضية المهمش والفقير. استمع إلى صوت الروح القدس الذي جعله يعتبر جميع البشر إخوة وأخوات بغض النظر عن اختلافاتهم الفكرية والعقائدية. أمن فرانسيس أن إصلاح الكنيسة يتطلب أن يصبح تلميذًا حقيقيًا ليسوع المسيح وأن التغيير الحقيقي هو تغيير الذات وليس الآخرين.

اليوم يجب أن نستمع إلى نفس العبارة التي هزت جسد فرنسيس: ” فرنسيس، إذهب واصلح بيتي الّذي تهدّم” (شيلانو 2: 10). ما تركه فرنسيس لنا اليوم حقيقة مفداها: “إن التغيير في واقعنا الكنسي والمجتمعي لا يحدث بالكلمات أو حتى بالأفعال، ولكن من خلال تحّولنا إلى صور ابن الله، في أن نصبح تلاميذ حقيقيين ليسوع المسيح، معتنقين أسلوب حياته الفقر والمتواضع واعتبار الجميع أخوة وأخوات”.

2. لكي يملئني تواضع الله عليَّ أن أستعد للتجرية. هكذا يقول بنى سيراخ: “يَا بُنَيَّ، إِنْ أَقْبَلْتَ لِخِدْمَةِ الرَّبِّ الإِلهِ، فَاثْبُتْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَعْدِدْ نَفْسَكَ لِلتَّجْرِبَةِ.” (سي 2: 1). عبر بولس بصورة واضحة في رسالته الثانية لأهل كورنثوس عن التجربة التي يسمح بها الله لئلا نقع تحت وطأة الكبرياء فيقول: ومَخافَةَ أَن أَتَكَبَّرَ بِسُمُوِّ المُكاشَفات، جُعِلَ لي شَوكَةٌ في جَسَدي: رَسولٌ لِلشَّيطانِ وُكِلَ إِلَيه بِأَن يَلطِمَني لِئَلاَّ أَتَكبر” (2 قور 12: 7). قد يكون عيبًا، مرضًا، ضعفًا، عجزًا، صعوبة ما في الحياة الجماعية، في الرسالة. شيء ما يتركه الله رغم تواسلاتنا وطلباتنا، فقط لكي نتواضع أمامه ولا نتكبر.

قال المسيح: “تعلموا منى فإني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29).

اليوم هو عيد مَن نجح في أن يكون متواضعًا على مثال معلمه، فاستحق أن يحمل في جسده علامات صليب المسيح.

اليوم هو نداء لنا كرهبان وراهبات بأن نحمد الله ونشكره على الشوك التي يعطينا أياها لكي لا نتكبر ونقتدي بالقديسين الذين نجحوا في يفهموا ان التواضع هو طريق الملكوت.

اليوم هو نداء لنا كفرنسيسكان ونحن نختتم احتفالنا بالمئوية  الثامنة لكتابة القانون في أن نجتهد لكي نحقق وصية القديس فرنسيس: “بَلْ فَلْيَكُونوا أَصاغِرَ”.

قد يعجبك ايضا
اترك رد