إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

بداية الطريق

0 167

ارتداء الثوب الرهباني

أخوتي الأعزاء: ستبدأون بعد ساعات أهم سنة في حياتكم المكرسة وهي سنة الاختبار. هو وقت مخصص للامتلاء والتزود بقوة روحية تمكنكم من تكريس الحياة بأكملها إلى الله. أنتم اليوم كالنبتة الصغيرة التي تبدو ضعيفة أمام تيارات الهواء لكنها متى ثبتت وعمقت جذورها في الأرض يمكن لها أن تصمد أمام الرياح العاصفة مستقبلا.

عندما أراد البابا يوحنا بولس الثاني أختيار نص إنجيلي ليكون أيقونة الحياة المكرسة ويعبر عنها أختار نص التجلي. هناك ثلاث شباب: يعقوب وبطرس ويوحنا.. في مثل أعماركم اليوم. أختارهم للصعود معه على قمة الجبل، اختارهم ليبتعدوا عن العالم، ليس للهروب من العالم، لكن للقائه هو شخصيًا بصورة فريدة ومميزة جدًا. اليوم تقفون أسف الجبل وتسالون كيف سنصعد؟ وما الجدوي من صعودنا إلى القمة؟ وما هي الاستعدادات الداخلية التي يجب أن تمتلكوها لتواصلوا الصعود يومًا بعد يوم، طوال حياتكم على الأرض، كمكرسين ومختارين من يسوع وسط عدد هائل من التلاميذ لتشاهدون تجليه، كابن الله الممجد، أمام عيونكم؟

  1. الرغبة الكبيرة في القداسة

ويجب أن نقتنع بأن القداسة ليست من عمل الطبيعة، بل هي عمل النعمة وبالتالي فإن روح الله عندما يعمل فينا هو الذي يمنحنا القداسة. لذلك فإن كل التزاماتنا وكل جهدنا محدود، ولكن بنعمة الله نستطيع أن نفعل كل شيء، كما يقول إنجيل يوحنا: “ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَهَبُ الرُّوحَ بِغيرِ حِساب” (يو 3: 34). نحن الذين نحد من عمل الله.

نحن بحاجة إلى إيمان عظيم، لأن ما يساعدنا كثيرًا ليس للحد والتحكم في رغباتنا، بل الإيمان أنه معونة الله، يمكن أن تساعدنا على الالتزام، بالرغم ضعفاتنا البشرية، بصورة تمكنا يومًا من الوصول إلى ما وصل إليه التلاميذ الثلاثة والعديد من القديسين الذين فلو لم يحثوا أنفسهم على تلك الرغبة الشديدة في القداسة وإذا لم يجتهدوا كل يوم من أيام حياتهم لما صعدوا أبدًا إلى هذه الحالة السامية. إن جلالته يريد ويحب النفوس الشجاعة، طالما أنها تتقدم بالتواضع وعدم الثقة في نفسها.

إن صعود الجبل عمل شاق للإنسان عامة، لكن الرغبة القوية هي التي تساعد الإنسان على تحمل المعاناة. والشيء الصعب يصبح سهلا، والمذاق المر يصبح حلو. كما عبر القديس فرنسيس: “إِذْ لَمَّا كُنْتُ في الخَطايا، كانَتْ رُؤْيَةُ البُرْصِ تَبدو لي مُرَّةً جِدّاً. وَقَدْ قادَني الرَّبُّ نَفْسُهُ بَيْنَهُم، وَرَئِفْتُ بِهِم. وَلَدَى ابتِعادي عَنْهُم، تَحَوَّلَ ما كانَ يَبْدو ليَ مُرّاً إِلى عُذوبَةِ الرُّوحِ وَالجَسَدِ؛ وَبَعْدَ ذَلِكَ، بَقِيْتُ قَليلاً ثُمَّ هَجَرْتُ العالَم”. قادني الرب بينهم فتغير كل شيء. هذا هو عمل النعمة الذي يسكبه الروح في قلب من يرغب.

  • الانقياد الأسمى لعمل الروح القدس

إذا كانت القداسة التي نرغب فيها هي عمل الروح القدس، فيجب أن نتركه يقود حياتنا، ولا نضع عائقًا أمام عمله. يجب ألا ننكر بوعي أي شيء مما يطلبه الله منا. “إن الله لن يمنحنا عطاياه إذا لم نسلم أنفسنا بالكامل له. فالله لا يفرض إرادتنا، بل يعطي نفسه لأولئك الذين يسلمون أنفسهم له بالكامل. وبالتالي، فإن الطاعة لتحقيق هبة الذات الكاملة.

قبل أن يصل التلاميذ الثلاثة إلى أسفل الجبل تكلم الرب عن شيء في غاية الأهمية إن كل شيء هو رهن الإرادة: “إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي”. أخوتي كل منكم حر تمامًا في أن يتجاوب مع الدعوة “إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ”، فليس هناك إجبار على أن يكون الإنسان تلميذ للمسيح، لكن متى أراد الإنسان يتغير كل شيء. قال القديس مكسيميليان كولبي: بماذا يجب أن نرد على الذين يقولون في أنفسهم: أريد ولا أستطيع؟ ولا شيء غير هذا: أنهم يريدون أن يريدون. ستكون هذه هي الخطوة الأولى.

إنه [الرب] لا يريد أن يجبر إرادتنا، فهو يأخذ ما نعطيه له، لكنه لا يهب لنا نفسه بالكامل حتى نعطي أنفسنا بالكامل له. هذا أمر لا شك فيه، ولأهمية كبيرة، أكرره لكم باستمرار: الرب لا يتصرف في النفس إلا عندما تكون خالية تمامًا من العوائق، وتكون ملكًا له تمامًا.

الله هو الخير الأسمى، وهو يريد أن يهب نفسه للإنسان، لكنه لا يفعل ذلك إذا كنا لا نريد ذلك؛ احترم حريتنا. هكذا يعلم القديس فرنسيس في رسالته لكل الرهبنة التي كتبها في أواخر حياته، وتحديدًا في عام 1224 والتي يوصي فيها الكهنة قائلا: “فَلْتَكُنْ كُلُّ إِرادَتِهِم، بِقَدْرِ ما تُؤازِرُها النِّعْمَةُ الإِلَهِيَّةُ، مُتَّجِهَةً نَحْوَ اللهِ، وَلا تَحْدوها سِوى رَغْبَةِ إِرْضائِهِ وَحْدَهُ، الرَّبِّ الأَسْمى، فَهوَ وَحْـدَهُ، يَعْمَلُ بِها، كَما يَشاء”.

يجب أن تكون هبة الذات غير محددة، بمعنى أن يهب المرء نفسه بالكامل دون أن يعرف ما قد يطلبه الله منا. إنه استسلام لإرادة الله وعنايته، وهو أمر مؤكد، لكنه يظل مجهولاً حتى الآن. يجب أن تتجدد هبة الذات باستمرار. لا، الفعل اللحظي يكفي، لكن يجب أن يكون تصرفًا ثابتًا للنفس.

  • التواضع الكبير

يجب علينا دائمًا أن ننمي التواضع الحقيقي والأصيل والعميق، لأننا نعلم أن الله يقاوم المستكبرين: “لأَنَّ اللهَ يُكابِرُ المُتَكبِّرين وُينعِمُ على المُتَواضِعين. فتَواضَعوا تَحتَ يَدِ اللهِ القادِرَة لِيَرفَعَكم في حينِه”  (1 بط 5، 5- 6). التواضع الحقيقي الذي يعترف بضعف الإنسان وبؤسه أمام الله. إن ما يجذب عطايا الله هو بؤسنا وعدمنا الذي ندركه بصدق. لأن الله يسرّ وينحني نحو المتواضعين. في ختام نشيد المخلوقات يقول فرنسيس: “سَبِّحوا رَبِّي وَبارِكوهُ، وَاشكُروهُ، وَاخْدِموهُ، بِتَواضُعٍ كبير”.

والله أحيانًا يهيننا ويختبرنا على وجه التحديد حتى ندرك بؤسنا فنلجأ إليه، وهذه التجارب تهيئ النفس لقبول عطايا الله. هكذا فعل مع بولس عندما ترائى له على طريق دمشق، قال لحنانيا: ” «اِذهَبْ فهذا الرَّجُلُ أَداةٌ اختَرتُها لكِي يَكونَ مَسؤولاً عنِ اسْمي عِندَ الوَثَنِيِّين والمُلوكِ وبَني إِسرائيل  فإِنِّي سأُريه ما يَجِبُ علَيه أَن يُعانِيَ مِنَ الأَلَمِ في سَبيلِ اسْمي» (أع 9: 15- 16).

تقول القديسة أنجيلا فولينيو: “كلما زاد ابتلاء النفس وتجريدها وذلها الشديد، كلما انتصرت، بالطهارة، على القدرة على الوصول إلى المرتفعات. إن الارتفاع الذي يصبح قادراً عليه يتناسب مع عمق الهاوية التي تقع فيها جذوره وأساساته”.

لذلك يقول المزمور: : “خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ” (مز 119: 71). التواضع والإذلال يجذبان عطايا الله ونعمته ونوره.إن ما يمنحنا الحق في رحمة الله هو ادراك مآسينا وضعفنا. وصلاتنا يجب أن تكون دائمًا مثل صلاة العشار في الهيكل: يا رب ارحمني أنا الخاطئ.

إن ذروة القداسة تتمثل في اتحاد إرادتنا مع إرادة الله، ومن الصعب على الطبيعة البشرية أن تتخلى عن نفسها باستمرار، ولكن يمكن الحصول على هذه النعمة أيضًا. وأخيرًا، ليس هناك قداسة عالية جدًا بحيث لا يمكن الوصول إليها دون مساعدة وسيطة كل النعم.

لنطلب من مريم القديسة نعمة الرغبة الكبيرة في القداسة دائمًا، ونعمة الوداعة والتواضع الكبير. إن كلمات مريم الموجهة إلى الملاك – “أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك” (لو 1، 38) – تُظهر الاستسلام التام والطاعة الذي يتطلبه تكريسنا لله ونذورنا. يعبر.

قد يعجبك ايضا
اترك رد