اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل
تعرضت في بداية حياتي الرهبانية، في سنة الاختبار (النوفيس) لموقف مازالت ذكراه في عقلي إلى اليوم. استيقظت قبل الفجر على خبطات متتالية على الجدار الذي يفصلني عن الغرفة المجاورة. نهضت سريعًا لأرى أخي لي يتلوى من الألم بسبب مغص معوي مفاجئ. كان نظامنا يقتضي إن هناك مسئول عن صيديلة الدير. قاربت الساعة الرابعة فجرًا فانتظرت الأخ مسئول الصيدلية لكي يعطني العلاج المناسب للأخ المريض، كان ميعاد صلواتنا يبدأ الخامسة والنصف صباحا، وعندما رأيته طلبت من أن يرى المريض ويسعفه. صدمتني إجابته للغاية قال: “الآن أنا ذاهب للصلاة وعندما أنتهي سوف أذهب لرؤيته”.
في إنجيل اليوم يبدو لنا أن المسيح يوبخ مرتا على إنشغالها بأمور كثيرة في الخدمة في حين يمدح تصرف مريم. نظن إن موقف مريم افضل من مرتا، واعتقد البعض إن الخدمة أقل قيمة من الصلاة. لكن الكلمة اليونانية المكتوبة في الإنجيل لا تُترجم على أنه “أفضل”، بل على أنه “جيد”. اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الجيد. ما هو هذا الشيء الجيد الذي اختارته مريم؟
لم يوبخ يسوع مرتا لإضاعة الوقت في الطهي ولم يمدح مريم لأنها فعلت أفضل من مرتا. بكل بساطة، يوبخ يسوع قلق مرثا، عدم هدوءها في مكانها، على قيامها بخدمتها بينما تفكر في شيء آخر. هذا كل شيء! إذن فإن ما تفعله يستحق الثناء مثل ما تفعله مريم. العبرة هي ما نفعله يجب نفعله بإمانة وحب.
المهم إن ما نقوم به يجب أن “نفعله جيدًا” إذا كنا نصلي أو نخدم. لذا يقول الرب: “مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة، مع أَنَّ الحاجَةَ إِلى أَمرٍ واحِد”. الحاجة إلى التركيز في أمر واحد، لا نقلق ولا نهتم إلا به.
لا توجد صلاة إلا وتصير خدمة محبة للآخرين. كان المسيح يختلي للصلاة ثم ينزل فيجول بين الناس يصنع خيرًا. الصلاة التي لا تصير خدمة محبة هي صلاة منغلقة على ذاتها وبعيدة عن الله. يأتي هذا الموقف ليسوع بعد أن ضرب مثل السامري الصالح وأشار إلى الكاهن واللاوي الذي رأوا الجريح وتركوه.
كذلك الخدمة التي لا جذور لها في الصلاة تكون خدمة عقيمة ودون ثمر. لقد صنع السامري رحمة مع عدوه اليهودي وعده قريب له فاقترب منه وضمد جراحه واعتنى به.
عندما نصلي مثلا لنفعل الشيء الجيد وهو التركيز في تحرير قلوبنا من كل شيء يمثل عائق أمام الوقوف بين يدي الله. كثيرًا ما نصلي ونحن مشغولين بأمور كثيرة جدًا. يقول بولس: “بل أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي”. لقد أعد بولس كل شيء لا قيمة له لأجل معرفة يسوع المسيح. لا قيمة لفكرة أو شخص أو عمل لأجل معرفة يسوع. كيف لنا أن نعرف يسوع؟
الصلاة ليس كلمات نؤديها فالله يعرف كل ما نرغب في قوله، لكنها تميز لحضور الله في حياتي. حضور الله محجوب في قلوبنا علينا الانتباه حتى ندرك وجوده، كما فعل إيليا عندما أدرك إن الله ليس في العاصفة ولا الزلازال ولا النار، ليس في كل شيء يخطف الأنتباه، لكنه في النسيم اللطيف، أي حضور رقيق للغاية يتطلب منا الانتباه أن ندركه.
كل صلاة لفظية أو عقلية أو طقسية تقودني إلى قلبي حيث هناك حضور الله. الصلاة ليس شيء نقوم به بل الله يقوم به في قلوبنا ونحن ننتبه فقط إليه. أنت غير مطالب بأن تفعل شيء أبدًا، ولكن الله هو الذي يفعل كل شيء داخلك، لذا يقول بولس في رسالته إلى فيلبي بعد أن أعد كل شيء خسرانا لأجل معرفة المسيح: “وَلَكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً الْمَسِيحُ يَسُوعُ” (فيلبي 3: 12). أسعى لكي استطيع أن أفهمَ وأدركَ السبب الذي من أجله أدركني هو أولا، أحبني واختارني لكي اكون له وخلصني بموته وقيامته.
عندما نخدم لنفعل الشيء الجيد، فالحاجة إلى واحد، خدمة بمحبة منطلقة من الصلاة. الخدمة ليست رسالة أو عمل، لكنها في جوهرها لقاء رجاء متجدد مع شخص يسوع المسيح القائم. عندما نخدم نلاقي الآخرين بروح وداعة واتضاع لذا يطلب منّا الرب أن ننطلق إلى العالم كالحملان في وسط الذئاب. لا يقول اذهبوا كصيادين بين الذئاب ولا حتى كذئاب بين الذئاب. في الحالة الأولى سنكون مخادعين ننصب الأشراك للناس ونوقع بهم ثم نضحي بهم لأجل منفعتنا الذاتية، وفي الحالة الثانية سنبدأ حربًا مع الآخرين. على العكس يقول لنا نذهب مثل الحملان. نلاقي الآخرين بالمحبة وحدها ونسعى أن تكون خالصة جيدة، هكذا يلخص القديس بولس الأمر في نشيد المحبة: “المَحبَّةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء،ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء، ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم، بل تَفرَحُ بِالحَقّ. وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء” (1كور 13: 4- 7)