رسالة المكرس اليوم

ما معنى أن نكون مكرس لديك مسئولية على آخرين في الجماعة أو في المجتمع؟

هل تعتبر المسئولية رسالتك التي اختارك الله لأجلها ودعاك لحياة التكريس؟

هل لديك الاستعداد لترك المسئولية التي تشغلها حاليًا دون أي مرارة أو قلق؟

عند مناقشة أسباب ترك الرهبان والراهبات لحياتهم الرهبانية بعد سنوات من الخدمة وُجد إن أهمها غياب الحياة الروحية، الصلاة الشخصية، الصلاة الجماعية والحياة الأسرارية والتركيز بصورة حصرية على النشاط الرسولي والخدمات التي يقوم بها المكرس. مع الوقت يفقد الإنتماء للمؤسسة، وتصبح النذور الرهبانية لا معنى لها، وسيادة حالة من عدم الرضى والانتقادات المستمرة للقيادة وللجماعة، وشعور عام بالاستياء الشديد بسبب عدم التوازن بين احتياجات الحياة الجماعية واحتياجات الفرد والرسالة التي يتم تنفيذها؛ في البحث في الخارج عما لا يوجد في البيت.

إذن تولى مسئولية إدارية أو جماعية وأهمال أساسيات الحياة الرهبانية والجماعية يؤدى بالإنسان إلى الدخول في دائرة يمكن أن تؤثر بشدة على حياته المكرسة. تولى المسئوليات دائما يكون له أساس روحي يدفع الإنسان إلى القيام بمهامه في ضوء تكريسه الشامل وإتباع ليسوع المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات.

المُكرس هو مُرسل

وصَعِدَ إلى الجبَلِ ودَعا الذينَ أرادَهُم فحَضَروا إلَيهِ. فأقامَ مِنهُم اَثنَي عشَرَ سَمّاهُم رُسُلاً يُرافِقونَهُ فيُرْسِلُهُم مُبَشِّرينَ (مرقس 3: 13- 14) يصحبونه فيرسلهم، يوجد تتالي في الأفعال، الصحبة ثم الرسالة. الخبرة المعاشة، التلمذة  ثم الرسالة أي التبشير بها. اختيارك كمسؤؤل، بصرف النظر عن المسئولية وحجمها يتطلب منك أن تدرك إنها رسالتك التي يرسلك الرب فيها وينتظر منك نتيجة ما تقوم به: “واَجتَمَعَ الرُّسُلُ عِندَ يَسوعَ، وأخبروهُ بِكُلِّ ما عَمِلوا وعَلَّموا” (مر 6: 30).

لديك رسالة تقوم بها من خلال خدمتك التي كُلفت بها من قبل الرهبنة. فالرسالة هي محور الإيمان المسيحي، محور التكريس فتم اختيارك في هذه الحياة لأجل أن تحمل بشارة إنجيل محبة الله للآخرين. في لقاء المسيح مع التلاميذ الأوائل يوضح لهم سبب أختيارهم «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». عرضَ الربُّ على بطرس أن يشترك معه في بناء الملكوت. كل ملكوت بناه الإنسان سينهار ولن يبقي إلا ملكوت الله، ودعوة الإنسان الأساسية هي الاشتراك مع الله في بناء الملكوت.

التكريس هو في حد ذاته رسالة. في رسالته “فرح الإنجيل” يؤكد البابا فرنسيس هذا التوجه الذي تبنته الحياةالمكرسة؛ ففي الفقرة 120 يقول: “لا نقول أننا تلاميذ ومرسلون، بل تلاميذ – مرسلون”  بمعنى إنهما وجهان لحقيقة واحدة وبُعدان لهوية واحدة. فكل تلميذ مندفع للرسالة وكل مرسل يحمل في طياته التلمذة. يقول البابا في الفقرة 266: “المرسل الحقيقي هو الذي يبقى دائما تلميذ”

فإذا كان التكريس، في حد ذاته، يعنى القبول الغير مشروط لإرادة الله في حياة الشخص، فإنه يَّعد بداية حياة التبشير والحياة الإرسالية أيضًا. ويتضح هذا في إعلان البابا أنه بالدرجة التي يعيش فيها المكرس تكريسه الخاص لله ويرهن ذاته لعمل مشيئته، فإنه بذلك يشارك بفاعلية في رسالة يسوع الخلاصية ويساهم بطريقة فريدة في تغيير العالم.

غرض الحياة المكرسة إذن هي أن أكون أيقونة الله، ظله في المجتمع والحياة التي أعيشها، أحمله في كينونتي وأعمل معه لتحقيق مشيئته.

الغرض الأساسي والغاية من وجود الإنسان هو أن يعمل مشيئة الله ويتم عمله. كما صنع يسوع في حياته الأرضية: “طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ”. لكن الواقع يقول إن الإنسان يعيش اليوم لأجل نفسه ويريد أن يجعل كل شيء يعمل لصالحه.

نشعر اليوم بأن المكرسين حادوا عن الطريق، ونلمس مشكلات عديدة في حياتنا الجماعية والإرسالية. تمثل تلك المشكلات ضغوط على المكرسين وتجعلنا نسأل أنفسنا من جديد: هل هذا هو الطريق؟ هل هناك معنى من كل شيء؟

المهم هو عدم الاستسلام. هنا فائدة المثابرة في التمسك بالدعوة بالرغم من كل شيء، وأن نبقي متبقظين ومصابيحنا مشتعلة. هكذا يحذر البابا في رسالته إفرحوا وابتهجوا: “علينا أن نَبقى متنبّهين: “اِجتَنِبوا كُلَّ نَوعٍ لِلشَّرّ” (ا تس 5، 22)؛ “اسهروا” (را. متى 24، 42؛ مر 13، 35)؛ لا نَنامَنَّ (را. 1 تس 5، 6). لأن من لا يشعر بأنه قد خالف جديّا شريعة الله، قد ينجرف في نوع من الضياع أو السبات. وبما أنّهم لا يجدون شيئًا خطيرًا يلومون أنفسهم عليه، لا يشعرون بذاك الفتور الذي يستولي شيئا فشيئا على حياتهم الروحيّة وينتهي بهم الأمر للهلاك والفساد” (بند 164).

أنت مُرسلٌ إلى العالم

عندما يكتشف المكرس دعوته الأساسية بأن يكون علامة على حضور المسيح في وسط الناس. منذ اللحظة التي تُدرك فيها أنّك قد أُرسِلتَ إلى هذا العالم، كل شيء يتغير تغييراً جذرياً. الزمان والمكان، الأشخاص والأحداث، جميع الأشياء تتغير، تغيرًا لا يُمكن وصفه بالتعبيرات الشائعة.

التغيير الذي أتحدث عنه ينقلك من العيش في الوجود كتجربة أليمة لإثبات أنّك تستحق أن تكون محبوباً، إلى العيش في الحياة كفرصة منحها الله لنا كي نُصبح ما نحن عليه، لكي نؤكد طبيعتنا الروحية الحقيقية، ونتمسّك بحقيقتنا، المنسجمة والمتكاملة مع واقع كياننا، بأننا خلقنا على مثال الابن ولدينا رسالته في الحياة: أن نخدم ونفدي حياة كثيرين.

عندما نُفكّر في مسألة عطاء ذاوتنا للآخرين، ما يتوارد بخاطرنا على الفور هي مواهبنا الفريدة: تلك المقدرة على القيام بأمور خيّرة ذات طبيعة خاصة. نتساءل دائمًا: “ما هي مواهبنا الفريدة؟” ماذا يمكنى تقديمة لجماعتي الرهبانية أو للمؤسسة المسئولة عنها؟

أنّ عطائنا الحقيقي ليس هو ما نستطيع فعله بقدر ما هو من نكون. السؤال الحقيقي ليس “ما الذي نستطيع تقديمه لبعضنا البعض؟”، بل “ما الذي يمكننا أن نكونه لبعضنا البعض؟” الإجابة هي أن أكون أخ لكثيرين.

روى البابا يوحنا بولس الثاني هذه القصة والتي جاءه أحد الشباب في كراكوفيا قائلاً: “لدي مشكلة في الجامعة لأن لدي شريك لا ديني. أخبرني يا أبت، ماذا يجب أن أقول لهذا الصاحب الذي لا يعترف بوجود الله كي أجعله يفهم أن ديننا هو الدين الحقيقي؟”. قلت، “عزيزتي، آخر شيء عليك فعله هو أن تخبره بشيء ما. ابدأ في العيش كمسيحي، وسيسألك لماذا تعيش هكذا “.

  1. مكرس يعيش ويحاول لكي يقترب من الآخر، تتخطي الأحكام المسبقة والمصالح الشخصية. إن الحب يبني جسور ونحن خُلقنا من أجل الحب، كما ذكر البابا فرنسيس في رسالته “كلنا أخوة” تعليقًا على قصة السامري الصالح الذي لم يكتفي بالمشاهدة من بعيد، بل اقتربَ، تحقَّقَ، خاطرَ وأنقَذَ؛ ولَمْ يكتف بعبارات شفقةٍ تخرج من شفتيه، بل عالج وسكب زيت الرَّحمة الذي بُلطّف حُرْقةَ الجُروح، وخمرة العافية التي تقضي على الفساد. العيش بغير مبالاة إزاء آلام الآخرين فهو يُبعدنا عن طبيعتنا التي خُلقنا عليها. باستطاعة كلٍّ منّا أن يبدأ، كما يقول البابا، من الأسفل، انطلاقًا من شخص واحد وأن نجاهد في سبيل ما هو أكثر واقعية فنقدّم نفس الرعاية التي قدّمها السامري للرجل المُصاب.

قرب السامري الصالح هو تقارب روحي أساسه الرحمة. القرب، قبل أن يكون مكانيًا وجسديًا، هو قبل كل شيء روحي، تقارب مثل الشعور بنفس الألم، والمعاناة مع الآخر. إذا سمح لك القرب بالشعور بالألم وحالة الآخر، فإنكما تعانيان معًا. في الواقع. واصل السامري رحلته لكنه هذه هذه المسافة الجغرافية لا تعني البعد عن قلبه. نراه يخطط للعودة ، والتعويض ، وطرح أفكارًا للمستقبل تشملهما معًا.

كل إنسان هش لا يستطيع التحكم في انفعالاته كالغضب والكراهية والحسد. هي انفعالات لا تنتج من سوء نية، بل هي نقائص عامة في الشخصية بسبب ظروف بيئية وتربوية. لكن أعيش دعوتي كمرسل لهذا العالم يجب أن أتدرب على أن أقبل نقائص الآخرين: “المَحبَّةُ تَصبِرُ وتَرفُقُ، المَحبَّةُ لا تَعرِفُ الحَسَدَ ولا التَفاخُرَ ولا الكِبرِياءَ. المَحبَّةُ لا تُسيءُ التَّصَرُّفَ، ولا تَطلُبُ مَنفعَتَها، ولا تَحتَدُّ ولا تَظُنُّ السّوءَ” (1كو 13: 4- 5). فالتدريب على المحبة يستغرق حياة بأكملها، لأنه يجب أن يدخل الروح القدس إلى كل تعاريج كياننا وخباياه، إلى كل الزوايا التي يعشش فيها الخوف والقلق والمقاومة والحسد.

  • مكرس يعلم ويؤمن أن الخير معدي أكثر من الشر. اقترب السامري من الجريح وسانده في محنته، لكن الذي استفاد ليس فقط الجريح بل صاحب الفندق. القرب معدي، والأخوة تخلق رباطات تنعكس على المجتمع والكنيسة دون أن تقصد. فصاحب الفندق لا يعرف الضحية، لكنه وجد نفسه متورطًا في أمر يمكن أن يتسبب له ضرر مالي، فقد يتزمر النزلاء من وجوده وانشغال صاحب الفندق معه لرعايته. اقتراب السامري واعتبار الجريح أخ يحتاج للمساندة في هشاشته وضعفه وعزمه على المرور لرؤية الرجل عند عودته جعل صاحب الفندق يتهم مثله، ويعد هو أيضًا الجريح بمثابة أخ يحتاج إلى المساندة والرحمة. وثق بالسامري وأنه سوف يأتي من جديد يسدد كل التكاليف الخاصة بالعناية بالجريح.

أعتبار السامري الأخر “أخ” دفع صاحب الفندق للتصرف مثله. هذه هي رسالة المكرس في الكنيسة اليوم. لا تحتاج الكنيسة إلى أعمال عظيمة، لكن إلى أشخاص مؤمنين يدركون دعوتهم الحقيقية بأن يكونوا مسيح آخر للآخرين ويسعون إلى عيشه في نطاقهم القريب، في نطاق خدمتهم. عندها يكون الإنسان مثمرًا. أن أول كلمات الله للإنسان هي “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ”، ونعتقد بأن الكلمات موجهة للزواج وإنجاب الذرية، وهذا حقيقي، لكن الكلمة الأولى هي “أَثْمِرُوا”. دعوتي الأساسية في الحياة هي أن أكون مثمرًا، إذا لم أعطي ثمر فوجودي لا قيمة له. دعوتك في هذه الحياة لم تأتي صدفة، هناك مهمة مُوكلة لك أن تكون حياتك مثمرة. هذه هي دعوتنا في الحياة، كما لخصها بولس الرسول في رسالته إلى أفسس قائلا: “لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا” (أفسس 2: 10). لم تُخلق لنفسك بل لتكون حياتك على الأرض مثمرة.

لذا علينا أن نسأل أنفسنا كيف تكون حياتي مثمرة؟ هناك حضور معين مطلوب نعبر من خلاله عن رسالتنا كمكرس في وسط الكنيسة. هناك نعمة يجب تمريرها للأخوة، وكلما أعطينا كلما اقتبلنا نعم أكثر. لا نكون مثل شجرة التين اليابسة دون ثمار.

هكذا يقول البابا فرنسيس في الدستور الرسولي للحياة التأملية النسائية “البحث عن وجه الله” عندما يُشير إلى المدعوات للمسئولية بينهم: “إن أولئك اللواتي هن مدعوات لممارسة خدمة السلطة، بجانب الاعتناء بتكوينهن الخاص، عليهن أن يكن منقادات بروح إخوة وخدمة حقيقي، لتعزيز أجواء بهيجة من الحرية والمسؤولية لتنمية التمييز الشخصي والجماعي، والتواصل، في الحقيقة، لكل ما يُفعل، وما يُفكر وما يُقال”. ذلك الحضور يتطلب:

  1. تواضع لا ينظر المكرس فيه لنفسه كشخص قوي قادر على القيادة ومسيطر، بل شخص متواضع يخدم الآخرين بمحبة كاملة.
  2. لا يطمع المكرس المسئول في الإنجاز الفردي، بل الجماعي وما يخدم المؤسسة التي يعمل بها.
  3. يتمتع المكرس المسئول بقلب عطوف وقادر على التعاطف مع صعوبات الآخرين، ينبغي أن يكون مصدر للراحة والدعم لأولئك الذين يمرون بأوقات عصيبة، وأن يوفر أذنًا صاغية عند الحاجة.
  4. الشجاعة للدفاع عن ما هو صواب، حتى لو كان مخالفًا لرأي الأغلبية ولكن يقدم رأيه بصورة لائقة وحازمة في نفس الوقت دون مساس بأحد.
  5. الصلاة والحياة الروحية كما أوضحنا هي أساس لكل مسئولية.

اسئلة للمناقشة:

  1. ما هي مواصفات المسئول التي أتمنى أن تكون قائدي بالمدرسة أو رئيس جماعتي الرهبانية؟
  2. هل أعيش المسئولية كدعوة خاصة في مسيرة حياتي الرهبانية؟

تكريس
Comments (0)
Add Comment