التوازن بين هوية المكرس وخدمته الرسولية

هناك تحدى حقيقي للحياة المكرسة نعيشه حاليًا في أغلب مؤسساتنا الرهبانية، وهو كيفية تحقيق التوازن بين هوية المكرس وعبء الخدمات الرسولية التي يقوم بها. فالمكرسون يخدمون في مجالات عديدة، أهمها: حقل التعليم، فهناك أكثر من 130 مدرسة يديرها الرهبان والراهبات، الأمر الذي يستهلك أغلب طاقتهم الذهنية والجسدية. هناك خدمات صحية في المستشفيات والمستوصفات، وأخرى اجتماعية في دور الرعايا ومراكز التنمية وغيرها من مجالات الخدمة.  مما لاشك إن تلك الخدمات هي أفضل تعبير عن رسالة الكنيسة الكاثوليكية ودورها الثقافي والتعليمي والاجتماعي في خدمة المجتمع المصري ولا غبار عليها أبدًا.

لكن هناك خطر كبير عندما يغرق المكرس في الخدمة ويقع ضحية للنجاح في رسالته الخارجية فيعاني من الجفاف روحي وفراغ القلب. هناك خطر اختزال الكاريزما أو الموهبة الخاصة بالمؤسسة في شكل خدمة يقوم بها في العالم ويضغف اهتمامه بباقي أبعاد حياته المكرسة.

النشاط المحموم للقيام بالخدمات المطلوبة والحفاظ عليها وأحيانا التوسع فيها قد يدفع إلى إنحراف في أولوية الحياة التي هي العلاقة مع يسوع المسيح الذي أفرزني ودعاني لهذه الحياة. وهو يدعوني بصفة مستمرة للنمو في علاقتي به. ولنا مثال في بطرس الرسول الذي دعاه المسيح في حياته الأرضية ثلاث مرات قبل القيامة، تمثل كل منهما خطوة إلى الأمام في إطار معرفته بأولوية المسيح في حياته، ثم مرة أخرى بعد القيامة ثم ثلاث مرات أخرى في أعمال الرسل ليغير فكره بما يتناسب مع هويته الجديدة كتلميذ للمسيح شاهد على قيامته. كذلك كل مكرس فهو مدعو للنمو في دعوة المسيح له. لقد دعانا يسوع ليس لاتباعه فقط، أي البقاء معه، بل أن نكون مثله. دعانا إلى الاستسلام لعمل الروح القدس الذي يشكل فكر المكرس ومشاعره على تكون مثل يسوع المسيح.

دعاه لكي يتبنى طريقته في الحياة أولا وسط أخوته وأخواته، وسط الجماعة التي يعيش فيها، فيكون كالخميرة التي تعمل في وسط العجين لتأسيس ملكوت الله. خميرة يسوع لا تثير ضجة أبدًا، ولا تنشر طريقتها في العلن (على وسائل التواصل الاجتماعي) بل تعمل في الخفاء. عندما لا أنتبه إلى كوني خميرة الملكوت وسط المجتمع، سأجد نفسي أفكر في ذاتي وحدها، في نجاحي، في عملي، في رسالتي. اسقط بذلك في تجربة الفردانية، كما يقول المثل المصري، الذي استشهد به البابا في كلمته لنا بالمعادي: “أنا ومِن بعدي الطوفان”. إنها تجربة الانانيين التي تجرني إلى التسلط، أو التفرعن الذي يجعلني أشعر إني فوق الآخرين.  

إن الخدمة أو العمل الرسولي هو الصورة الخارجية التي تشهد بأن المكرس إلتقى لقاءً شخصيًا مغيرًا للحياة مع المسيح القائم الذي دعاه أن يكون أيقونته الحاضرة وسط الناس. أن الحياة الرسولية المنفصلة عن رفقة يسوع، المعلم والرب، هي حياة لا معنى لها. والخدمة المنفردة التي يقدمها المكرس، إذا لم تكن هي نتاج الجماعة الرهبانية ككل تصبح تجربة شخصية، ذاتية، لا حياة رسولية. لقد اختار يسوع جماعة تشهد لقيامته ولمجئ ملكوته بين البشر. كان الرسل شهودًا على موت يسوع المسيح وقيامته، وأعلنوا ذلك بالكلمة أمام العالم أجمع، وعاشوا وفقًا لهذا الشهادة وجعلوا حياتهم مؤسسة (كنيسة) تهب نفسها للرب يسوع ومجيء ملكوته.

قالت لي أحد المكرسات: “لقد بلغت الخمسين من العمر وأشعر أن كل حياتي ذهب هباء دون فائدة. أخدم بكل طاقتي من أجل رفع اسم المؤسسة، لكن جماعتي مغلقة، كل واحدة منّا تعيش لذاتها. هناك كآبة عامة. الصلاة روتينية، أشعر إن القداس لم يعد يعنى لي شيئًا!”.

كيفية تحقيق التوازن بين هوية المكرس وخدمته؟

سأبدأ من أيقونة الإنجيل عن الشاب الغني (راجع متى 19: 16-22). سأل رجل يسوع: «يا مُعلِّم، ماذا أَعمَلُ مِن صالحٍ لأَنالَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة ؟» في إجابته على الشاب لم يتحدث يسوع عن الحياة الأبدية، بل قال ببساطة: «إن أردت أن تدخل الحياة» (مت 19: 17).

هي حياة متكاملة تتضمن كأي حياة الانتباه ليس فقط للدعوة الشخصية، والحياة الجماعية والخدمة الرسولية وهي المحددات الأساسية للحياة المكرسة، بل للتفاصيل الصغيرة التي تربط كل هذه الأجزاء معا.

الخير الذي أقوم به، والشر أيضًا. النور والظلمة، الفرح والكآبة، لحظات الانتصار ولحظات الاحباط، التقدير والإساءة، أوقات القوة وأوقات الضعف، ثقتي في نفسي والآخرين وأوقات إحباطي وخذلاني. هي صورة حياتي المتكاملة، من يراها من بعيد قد يراها جميلة، كصورة من الفسيفساء، لكنها عبارة عن مجموعة من الاحجار الصغيرة، بعضها أبيض وبعضها سوداء  وأخرى ملونة تشكل الصورة الكاملة.

أصالة الكاريزما هي وجود كل العناصر معًا، وقبل كل شيء، في العلاقة بين الأجزاء التي تتكون منها، في الطريقة التي يتحد بها كل عنصر مع العناصر الأخرى. كما في الفسيفساء، كل عنصر يفترض وجود الآخر في مكانه.

كل شيء يبدو صغيرًا، إذا نظرت إليه بواقع الهدف النهائي للصورة، لحياتي بأن أكون أيقونة المسيح الحاضرة في الزمان والمكان الذي أعيش فيهما هو حجر مهم جدًا لحياتي المكرسة.

المشكلة الأساسية عندما أرفض شيء ما في حياتي، سيرى الناس إن الصورة مشوهة حتى لو من بعيد. سأتناول فقط مجموعة من العناصر التي تشكل الصورة، لنحرص على وضعها في مكانها في حياتنا المكرسة حتى نصل إلى الصورة التي تجعلنا نعيد الحيوية إلى العجين، نعيد اشعال الحب.

التدريب على كيفية التعامل مع الحياة وكيفية اختيار ما يستحق الاهتمام بها يتطلب الاستفادة من بعض الدروس العملية. فالحياة المكرسة، كما سبق القول، هي فسيفساء لعناصر عدة يجب التنسيق بينها لأجل أن تخرج الصورة متكاملة وجميلة. فكل عنصر من العناصر الحياة المكرسة: الدعوة الشخصية- الجماعة- الرسالة لها عناصر أخرى أو أجزاء تتشابك فيما بينها، علينا مراعاتها لأجل أن يتم وضع كل جزء في مكانه الصحيح فتتشكل الصورة العامة.

العنصر الأول: قيمة المعاناة

للمعاناة والألم أهمية كبيرة في النمو الشخصي. عندما ندخل إلى هذه الحياة، يكون لدينا توقعات إيجابية كثيرة وهي التي تشكل ضغطًا كبيرًا على شباب المكرسين. السعي إلى الكمال، المثالية، تصورات خاطئة حول الحياة الجماعية التي يعيش فيها الأفراد كالملائكة، على القيام برسالة مميزة يشهد لها الجميع!!

 من الجيد السعى لتحقيق الأهداف لكن من الضروري أن نُدرك أنّ الحياة ليست مجرد سلسلة من النجاحات والإنجازات، بل هي تجرِبة متنوعة تشمل الصعوبات والانتكاسات أيضًا. السعي لتحقيق النجاح مهم، لكن يجب أن نتذكر أنّه من الطبيعي أحيانًا أن نُواجه الصعوبات والفشل، وهذا لا يقلّل من قيمة حياتنا.

بالرغم من أنّ المعاناة مؤلمة، إلاّ أنّها قد تُعلمنا أشياء جديدة عن أنفسنا وتساعدنا على تطوير قُدراتنا في التعامل مع التحديات وتقويّتنا على مُواجهة المستقبل برأس مرفوع. المعاناة كذلك فرصة للنمو الشخصي والروحي وفرصة لتقدير الأمور الصغيرة التي نمتلكها ومع هذا نتجاهلها. إن الألم لا مفر منه ولكن العذاب هو اختيار.

  • المستوى الشخصي: إن الحياة بطبيعتها محفوفة بالألم والمعاناة، لكن بدلا من رؤية هذه التجارب كمجرد عقبات، علينا أن نؤمن إنها جزء أساسي من النمو الشخصي. فمن خلال مواجهة أعظم مخاوفنا وتحمل أعظم معاناتنا ومواجهة واقع الحياة القاسي، يمكننا حقًا التطور. لقد كان الرب واضحًا تمامًا بأن المعاناة تُشكل جزءًا من الدعوة، ضروري كضرورة الصليب، حتى يصل المكرس إلى القيامة. ففي دعوة بولس على طريق دمشق، يقول الرب إلى حنانيًا: «اِذهَبْ فهذا الرَّجُلُ أَداةٌ اختَرتُها لكِي يَكونَ مَسؤولاً عنِ اسْمي عِندَ الوَثَنِيِّين والمُلوكِ وبَني إِسرائيل 16 فإِنِّي سأُريه ما يَجِبُ علَيه أَن يُعانِيَ مِنَ الأَلَمِ في سَبيلِ اسْمي» (أع 9: 15- 16).

لذا نجد إن بولس يعاني، ليس في سبيل الرسالة فحسب، بل على المستوى الشخصي، فصرخ يومًا للرب قائلا: “7 ومَخافَةَ أَن أَتَكَبَّرَ بِسُمُوِّ المُكاشَفات، جُعِلَ لي شَوكَةٌ في جَسَدي: رَسولٌ لِلشَّيطانِ وُكِلَ إِلَيه بِأَن يَلطِمَني لِئَلاَّ أَتَكبر.8 وسأَلتُ اللهَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَن يُبعِدَه عَنِّي،9 فقالَ لي: «حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف» (2 كور 12). لا نعرف تحديدًا ما هي شوكة بولس، لكن هناك شيء كان يؤرقه ومحاربات كثيرة واقعة عليه. وهذا ما يحدث مع كل منّا كمكرسين فعلاقاتنا مع أجسادنا وأنفسنا ورغباتنا تتعارض أحيانًا مع النذور الرهبانية التي نحاول أن نكون أمناء فيها. اسأل نفسك اليوم: هل تقبل معاناتك الشخصية، نقاط ضعفك أم تفتخر بها على مثال بولس: “إِن كانَ لا بُدَّ مِنَ الاِفتِخار، فسأَفتَخِرُ بِحالاتِ ضُعفي” (2 كور 11: 30).

  • المستوى الجماعي: كثيرًا ما يعاني المكرسين في الجماعات الرهبانية. ويحلم بعضهم بحياة مثالية وجماعات متفاهمة متحابة، لكن هذا لن يحصل إلا من خلال تغيير أفكارنا والبحث عن الدروس المخفية داخل التحديات الموجودة داخل الجماعة. المهم إن لا نتبنى عقلية الضحية، ونسعى إلى السلام الذي هو ثمرة الحب، أي ثمرة الخدمة.  إذا أردنا السلام الشخصي فعلينا أن نكف عن النظر إلى ذواتنا، وننظر إلى أخوتنا المقيمين معنا، لنفكر كيف نزيد محبتنا لهم. لا داعي لاضاعة الوقت في السعي وراء الجماعة الكاملة. لنكف عن النظر إلى النقائص التي في الآخرين وننتبه إلى نقائصنا التي تعوقنا عن المحبة.

لقد عاني بولس على المستوى الجماعي فنراه يتشاجر مع رفيق رحلته برنابا، يقول الكتاب: “فوَقَعَ بَينَهما خِلافٌ شديدٌ حتَّى فارَقَ أَحَدُهما الآخرَ” (أع15: 39). كذلك وقع خلاف كبير بينه وبين جماعة الرسل الأوائل: بطرس ويعقوب ويوحنا وفي أحد المرات وجه لومًا شديدًا للقديس بطرس (را سفر الأعمال ورسالة غلاطية). وهذا ما يحدث مع جميع المكرسين. هناك صعوبات، تكون أحيانا غير محتملة، مع الجماعة تسبب معاناة وألم كبير للمكرسين، المهم استخدام التحديات الموجودة كأساس لمساعدة الآخرين. أسال نفسك هل تقبل صعوبات وتحديات الجماعة الرهبانية التي تعيش معها؟

  • مستوى العمل الرسولي: الصدمات التي يلاقيها المكرس في حياة الرسالة داخل المجتمع يمكن الإستفادة منها عند التعامل معها بشكل صحيح فتكون كالنار التي تنقي الشخص ليصبح نسخة أقوى وأكثر تطورًا. إذا استطعنا رؤية المحنة ليست مجرد شيء يُحتمل فقط، ولكن فرصة يُمكن استثمارها للنمو الشخصي. الروح البشرية التي تتحمل الصدمات تصبح أقوى متى أعتبرت التحديات والمحن والفوضى التي تواجهنا في الحياة ليست مجرد عقبات ولكن مُحفزات للتحول والنمو الشخصي وتنمية الخبرات.

عانى بولس على مستوى الرسالة فقد تعرض للضرب والسجن والتعذيب في العديد من المدن التي زارها أثناء رحلاته التبشرية. كانت رحلاته طويلة ومجهدة، حيث كان يسافر برًا وبحرًا بين المدن والبلدان المختلفة، مما أدى إلى تعب شديد. لكنه بالرغم من كل تلك المعاناة نجده يفتخر بضعفه ومعاناته في عمله الرسولي، ويلخص كل هذا في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس فيتكلم عن مجد الله في المسيح يسوع في قلبه (4: 6). هذا جعله ينظر إلى الألم والمعاناة بطريقة مختلفة. ما هو موقفك من صعوبات رسالتك؟

بدلاً من الانهيار أمام اليأس أو تبني عقلية الضحية، علينا إذن أن نتشجع ونحاول البحث عن هدف داخل المعاناة أو الألم الذي نشعر به. هذا يجعلنا نخطو خطوات إصلاحية تجاه الوضع القائم على المستوى الشخص أو الجماعي أو الرسالة. علينا أن نسأل ما هي الدروس المخفية وسط الألام التي نشعر بها؟ ماذا على أن أطوره في أسلوبي وتفكيري حتى أتغلب على تلك الصعوبة؟ عندئذ سيكون مضمون حياتي هو حياة يسوع: حياة فقيرة، مضطهدة، مصلوبة من أجلنا، وفي النهاية تكون القيامة.

العنصر الثاني: ممارسة الامتنان

مَن يرغب في تحقيق التوازن بين هويته كمكرس وعمله الرسولي في العالم عليه أن تتمحور اختيارته ليس على ما يحدث أو سيحدث له خلال مسيرة تكريسه،  لكن كيف سيتعامل مع تحولات الحياة وظروفها وكلّ ما يحدث فيها. بعبارة أخرى هل سأتواصل مع حياتي بسخط أم بامتنان وشكر؟

هل أقبل التحولات في الحياة على المستوى الشخص والجماعي وأيضًا رسالتي في العالم بامتنان وشكر أم بسخط وغضب. الامتنان يعنى أن تعيش الحياة كعطية تقبلها بشكر. والامتنان الحقيقي يشمل الحياة كلها: الخير والشر، والفرح والألم، حالة الرضا الروحي وحالة الخطيئة. نفعل هذا لأننا ندرك حياة الله، ووجود الله في وسط كل ما يحدث. إن الدعوة إلى الامتنان تطلب منا أن نقول، “كل شيء نعمة”.

  • فعلي المستوى الشخص عليَّ أن أتعلم رؤية تجربتي المؤلمة التي أتذكرها من الماضي كفرصة لتوبة القلب المستمر. طالما نظل مستائين من الأخطاء التي نتمنى إننا لم نرتكبها، يظل جزء من قلبنا معزولاً، وغير قادر على أن يؤتي ثماره في الحياة المكرسة، إنها طريقة نحمل بها جزءًا من أنفسنا بعيدًا عن الله. يكتب يومًا بولس لتلميذه تموثاوس: “أَشكُرُ لِلمَسيحِ يسوعَ رَبِّنا الَّذي مَنَحَني القُوَّة أَنَّه عَدَّني ثِقَةً فأَقامَني لِخِدمَتِه” (1تمو 1: 12). ينظر بولس بإمتنان وشكر إلى حياته حتى الوقت الذي كان فيه مضطهدًا للكنيسة، بعيدًا عن الله، لذا كان شعور بولس بامتنان متواصل للرب على اختياره له بالرغم من ضعفه، خطيئته، تجربته المؤلمة التي يحملها دائما، لذا ينصحنا دائمًا: “أُشكُروا على كُلِّ حال، فتِلكَ مَشيئَةُ اللهِ لَكم في المسيحِ يسوع” (1 تس 5: 18). هل تشعر بامتنان وتقدم شكر لله على ما تمر الآن في حياتك، خاصة تلك الأشياء التي تزعحك؟
  • على المستوى الجماعي فكل أخ أو أخت هو “نعمة” لم اختارها بمحض إراداتي، بل أن  الله هو الذي اختارهم لكي يعيشوا معي في هذه الجماعة. هناك قصد إلهي ومعنى عليّ أن أكتشفه! هل وضعني هنا لأجل مساعدتي في خلاص نفسي أم أرسلني لأجل أكون علامة حضوره للأخ أو الأخت؟ لا تقوم الجماعة أبدًا على كفاءة أفرادها من الناحية الإنسانية على العيش معا بصورة متناغمة، أو على تعاطفهم، وإنما على أبيهم الذي دعاهم لا، يعيشوا معا، وهو يعطيهم نعمة التغير ، يعطيهم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا، لكي يصبحوا شهودًا للمحبة: “إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي” (يو 13: 35) وهذه هي رسالة المكرس الأولى أن يكون ايقونة الله الحاضرة أولا لجماعته!! هل تشعر بامتنان لإرادة الله أن تعيش مع هذه الجماعة بالذات؟
  • على مستوى الرسالة علينا أن نبني عادة الامتنان على كل شيء نصادفه في الحياة. إننا ليس ملك لأنفسنا بل لله. إذا أردنا أن نكون مستعدين حقًا للحياة المكرسة وخدمة الله علينا أن نكون أحرارًا حقًا في أن نُرسل إينما يرشدنا الله. الامتنان لكل ماضينا وحاضرنا وهذا يساعدنا على تحويل التركيز من السلبيات إلى الإيجابيات. جميعنا يعرف ما تعرض له بولس الرسول في سبيل عمله الرسولي من:  التعب من كثرة الترحال من بلدٍ إلى بلد، من الضربات، من السجن، من الجلد، وغيرها من الصعوبات. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: “انظروا كيف لا يفتخر فى أى موضع بصنعه الآيات بل باضطهاداته وتجاربه!… فى كل موضع نجده فى اضطراب وفى ثورة مما يحل عليه من ذويه ومن الغرباء. هذه شخصية رسولية؛ بهذه الأمور يُنسج الإنجيل”.  هل تشعر بالامتنان تجاه رسالتك التي تقوم بها، حتى إذا كانت متواضعة وغير معروفة من الآخرين؟

المقياس الحقيقي لحياة مكرسة متوازنة لا يكون للفكرة الإيجابية التي يشعر بها المكرس تجاه نفسه، بل أيضًا انطلاقًا من كيفية تعامله مع الجوانب السلبية، وقدرته على التعامل مع التحديات على مختلف المستويات: الفردي والجماعي والعمل الرسولي، والنضوج الذي يحققه عن طريق التعلم من تجاربه التي يمر بها.

العنصر الثالث: كن الأفضل

لا تأمل في الأفضل، لكن كن أفضل. ترى وتسمع إن هناك مكرسين ليسو أمناء لنذورهم الجماعية من فقر وعفة وطاعة. هناك جماعات لا تعيش المحبة الأخوية بل تتصارع فيما بينها وأصبحت تفاصيل الصراعات على صفحات النت. هناك رهبانيات لا تقوم برسالة تذكر داخل المجتمع المصري وليس لها فائدة ومن الأفضل ترك الأديرة لآخرين. إذا كنت صادق مع نفسك ستلقي مشكلة القصور أو الوهن الذي أصاب المكرسين على نفسك. أنا خاطئ لا استحق هذه الحياة!

يقضي الكثيرون معظم حياتهم في انتظار شخص ما لجعل حياتهم أفضل. ينتظرون تغيير الظروف ليكونوا أفضل. تغير المسؤولين أو تغيير المكان. عليك أن تكون مبادرًا في أن تكون الأفضل بدلاً من أن تكون متفاعلًا فقط. يعني ذلك أن تتحمل مسؤولية حياتك وقراراتك. لا تنتظر الظروف أو الآخرين لتحديد مصيرك، بل اعمل على تحديد أهدافك وخططك بنفسك.

الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها الحصول على حياة أفضل هي أن نحيا حياة أفضل.  قد لا تبدو هذه بمثابة نصيحة تفتح العين، لكننا نميل إلى نسيان ذلك كثيرًا. كن شيئًا أفضل. كن أكثر مرونة وعطفا و تواضعًا و انضباطًا. قد يبادر البعض إلى إضافة عبارة “كن أكثر إنسانية”  أيضا، لكن لا – كن إنسانًا أفضل. وربما إذا كنا محظوظين ، فسنكون يومًا ما أكثر من مجرد بشر.

  • على المستوى الفردي: بينما يذهب الشاب الغني حزينا، هناك شاب آخر قال ليسوع: «يا مُعَلِّم، أَتبَعُكَ حَيثُ تَمضي» (مت 8: 19). الإجابة تعنى عدم التراجع أمام الظروف الغير مؤاتية، أمام صعوبات الطريق. لقد حددت هدفك من البداية، أنت تريد أن تتبعه إينما يذهب. لكن ماذا كانت إجابة المسيح: «إِنَّ لِلثَّعالِبِ، أَوجِرة، ولِطُيورِ السَّماءِ أَوكاراً، وأَمَّا ابنُ الإِنسان فَلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه» (آية 20).اختيار تلك الحياة يعني أن نوجه أنظارنا نحو محبة المسيح التي لا تقاس، وهي مصدر النعمة. إنه يعني الرغبة في معرفة يسوع الإنجيل، كلماته، أفعاله، آلامه، موته وحياته بيننا كمقام. اختيار تلك الحياة يعني أن تكون حياتك منظمة حول يسوع وحده: لقاء يومي في صلاة عميقة، تأمل في الكتاب المقدس للتعرف على حياة يسوع، مشاعره، حبه الذي يعكس بيننا حب الله.
  • على المستوى الجماعي: الجماعة هي كل الذين اختاروا هذه الحياة. الشركة معهم تعنى أكتشاف وتعميق معنى وضع يسوع في مركز الجماعة. هناك حاجة أيضًا إلى جماعات أو أخويات ذات مغزى، قادرة على إظهار جمال الخدمة في ملكوت الله. إذا أصاب الجماعة عطبٌ فكن الأفضل الذي تنقاد الجماعة له وتقتدي به. فمثلا لم يتعمد القديس فرنسيس أن ينشأ رهبنة أو جماعة لكن كان الأفضل فجذبت سيرة التلاميذ الأوائل.
  • على مستوى الرسالة: ربما يدفعنا الروح القدس لتوسيع آفاق شهادتنا إلى العالم. لا تهتم بماذا تصنع أكثر من تكون بركة للآخرين. أن تقول لهم وعنهم كلمات طيبة، أن تُبرِز جمالهم وحقيقتهم، عندما تكون أنت ذاتك في تواصل مع هذه الحقيقة. المُبارَك يُعطي البركة دائماً. والناس يريدون أن يحصلوا على البركة! هذا أمر واضح، أينما ذهبت. لا أحد مُنقاد للعيش خلال اللعنات، والقيل والقال، الاتهامات أو التوبيخات. الكثير من الأمور من تلك النوعية تحدث دائماً حولنا، وهذا ليس من وراءه سوى الظلمة والغموض، الهلاك والموت. أمّا بسِمة “المباركين”، فنستطيع السير في دروب هذا العالم ونمنح البركات. هذا لا يتطلب جهداً كبيراً، بل ينبع تلقائياً من قلوبنا.

كنْ ممتنًا- كنْ الأفضل- تقبل المعاناة- كنْ صادقًا- دون شيءٍ خاص- قلب نقي- كنْ مطيعًا- تحلى بالرجاء- لستَ استثنائيًا- لستَ ضحية-

Comments (0)
Add Comment