نحتفل اليوم بعيد انتقال العذراء بالنفس والجسد. هناك أسئلة لا نملك إجابات لها إذا حاولنا أن نفهمها بعقولنا، أهمها: “كيف انتقلت مريم؟” لا يمكنا أن نتخيل كيف تم الانتقال إلى السماء؟ وما هي نوعية الجسد الذي حصلت عليه مريم حتى تُصعد إلى السماء. الأمر يفوق قدرتنا على التخيل وهذا ما لخصه بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس عند كلامه على الحياة الأخرى: «ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه» (1كور 2: 9). لا نعلم كيف، ولا يمكن لعقولنا أن تتصور شيء.
هناك سؤال آخر أكثر أهمية: “لماذا مريم؟” ما هو فضلُ مريم لأن تُمنح هذه الميزة الفريدة: هل لأنها أم الله؟ أو التي حُبل بها بلا دنس؟ كلمة الله لنا اليوم تضيء لنا الطريق: (مر 3: 32- 35).
كانت الجموع تتبع يسوع في كل مكان، ونقرأ في الإصحاح الثالث من إنجيل القديس مرقس، إنه دخل يومًا إلى بيت فتزاحم الناس عليه وعلي التلاميذ حتى إنهم يستطيعوا أن يتناولوا الطعام. فجاء أقارب يسوع ومريم يطلبونه، قالوا له: «إِنَّ أُمَّكَ وإِخوَتَكَ في خارجِ الدَّار يَطلُبونَكَ». فأَجابَهم: «مَن أُمِّي وإِخَوتي ؟» ثُمَّ أجالَ طَرفَه في الجالِسينَ حَولَه وقال: «هؤُلاءِ هُم أُمِّي وإِخوَتي، لأَنَّ مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله هو أخي وأُخْتي وأُمِّي». يبدو كلام يسوع قاسيًا على مريم! ولم تكن المرة الأولى فعندما كان صبيًا، فقدته مريم لمدة ثلاثة أيام، ولنا أن نتصور قلب الأم وابنها مفقود، لا تعلم ماذا حدث له. لكن يسوع يقول لها: «ولِمَ بَحثتُما عَنِّي؟ أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي ؟».
إجابات يسوع تهدف أن نفهم الدور الحقيقي لمريم. نعم هي أم الله، نعم هي حبل بها بلا دنس، لكن فضلُ مريم يرجع لأنها هي الوحيدة بين البشر التي أستطاعت أن تكون على مثال الله في حياتها. الوحيدة من بنى جنسنا التي حققت قصد الله في خلق الإنسان.
فعندما أراد الله أن يخلق الإنسان قال: “لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا وَلْيَتَسَلَّطْ على أَسْمَاكِ البَحرِ وطُيورِ السَّماء…”. مشروع الله إذن هو إن يصنع الإنسان على صورته ومثاله (كشبهه). لكن عند تنفيذ مخطط الله في الآيه 27 نكتشف إنه خلق الإنسان على صورته فقط، وترك مسئولية أن يصبح الإنسان ومثاله لإرادته الحرة: “فَخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم”. ينتهي اليوم السادس في الخلق والإنسان مخلوق فعليًا على صورة الله، ولديه الامكانية في أن يصير على مثال الله متى أراد. الإنسان لديه الحرية في أن يكون على مثال الله في الحياة، متى قرر أن ينفذ مشيئته ويقبل إرادته حتى في أصعب الظروف. لقد نجحت مريم تمامًا في أن تكون على مثال الله بأن عملت دوما إرادته: أجابتها على الملاك تلخص الموقف الذي أخذته منذ البداية: «أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ».
كانت مريم أمينة في تعهدها للرب بأن تعمل مشيئته في حياتها حتى النهاية، ولم تضعف يومًا أمام الصعوبات المتوالية التي مرّت بها. لنتذكر ما حدث لها بعد أن وجدت حاملًا من الروح القدس ورغبة خطيبها، سندها الوحيد، في التخلي عنها. يوم ولادة طفلها لم تجد مكان تلد فيه، رفضها الجميع. كيف أراد هيرودس أن يقتل الطفل وهروبها من مكان إلى مكان للحفاظ على وليدها. في جميع تلك الأحداث لم نضعف مريم، كانت واثقة في أن الرب يهتم بها وبالطفل.
لقد خلقنا الله واعطانا هدف للوجود، أن نسعى بأن نكون على مثاله، وهذا لا يتحقق إلا إذا عملنا مشيئته. وهذا ما علمنا إياه المسيح في الصلاة الربية: “لِيَكُنْ ما تَشاء في الأَرْضِ كما في السَّماء”. تلك المسيرة لا نخوضها وحدنا، بل تساعدنا فيها مريم التي سبقتنا وهيئة الطريق أمامنا.
لنتذكر ما حدث في عُرس قانا. هي حاصرة بين الناس، في وسطنا، يمكننا أن نلجأ إليها، وأن نطلب مساعدتها. كانت وحدها التي لاحظت أن الخمر بدأ ينقص. هل ندرك انتباهها لواقع حياتنا؟ مريم تقلق أولا، بحب وقائي، حتى قبل أن تقع المأساة، قبل أن تقع المشكلة، قبل أن تصبح الأمور درامية. أحيانًا عندما نقع في مشكلة نلجأ إلى مريم، لكن لنعلم إن هذا خطأ، فقبل أن تقع المشكلة عيناها بالفعل علينا. قبل أن نقول شيء فالحقيقة إننا محبوبون بحب استباقي. قبل أن نطلب منها هي بالفعل تتدخل لدي يسوع لحل مشاكلنا. تتوجه مباشرة إلى يسوع لتقول: «لَيسَ عِندَهم خَمْر».
كان رد يسوع قاسيًا: «ما لي وما لَكِ، أَيَّتُها المَرأَة ؟ لَم تَأتِ ساعتي بَعْد». قاوم يسوع صنع المعجزة، كما في كل مرة نطلب يسوع في مشكلة قاسية علينا، أحيانًا نصلي وتبدو لنا الأمور وكأنها تزداد سوءًا بدلاً من أن تتحسن، الله لا يسمع لصلواتنا، فنشعر بالضياع. لكن هناك مريم، الذي يبدو إنها أصرت على طلبها، فتخاطبنا بصورة مستمرة: «مَهما قالَ لَكم فافعَلوه».
الترجمة الملموسة لهذا الآية من الإنجيل «افعلوا ما يقول لكم» هي أبسط شيء وننساه كثيرًا في تجربتنا الإيمانية. إذا قلت لكم «أين يتكلم الرب إلينا؟»، أي «ماذا يجب أن نسمع من الرب لكي نضعه موضع التنفيذ؟»، يجب أن تكون الإجابة «الإنجيل». من لا يأخذ الإنجيل، كلام الله على محمل الجد، فكيف يمكنه أن يتوقع معجزة.
يبدو عيش وتطبيق الإنجيل صعب بالنسبة: مَن قادر على مجبة القريب، محبة الأعداء. مَن قادر على المغفرة سبعين مرة سبع مرات. لنتعلم من مريم: لكن هل تعرفون ما كانت أول رد فعل لمريم عند سماعها بشرى الملاك؟ ذهبت إلى مكان يبعد حوالي مائة كيلومتر عن منزلها، وهي حامل، واعلموا أن النساء الحاضرات يعرفن أن الأشهر الأولى من الحمل هي الأصعب. هذه المرأة انطلقت في طريقها إلى منزل إليصابات لتخدم قريبتها. المحبة ليست مشاعر، هي أفعال ملموسة، هي اهتمام وشغف بالآخر ومشاركته لظروفه ومشكلاته. هي اهتمام بالآخر، عكس الحب هو اللامبالاة، كما شرحها يسوع في مثل السامري الصالح، اللامبالاة هي أن نعيش حياتنا ونختار ما نريد أن نراه ونتجاهل كل شيء آخر. اللامبالاة هي أكبر شر في العالم، كما قالت الأم تيريزا، لأن اللامبالاة تجعلنا لا نرى معاناة الآخرين، ولا نرى الحياة الحقيقية للآخرين.
لا يمكننا حل جميع مشكلات العالم، ولكن يمكننا أن نفعل ما في وسعنا وفقًا لظروفنا. مثلا: إذا كنت أعيش في مكان فيه الكثير من كبار السن الذين يعيشون وحدهم. غير مطلوب أن تهتم بالجميع، لكن أقله بالرجل والسيدة التي تعيش في الشقة المقابلة لك. لا يمكنك الاتصال بالجميع أو سماع الجميع، لكن هناك إنسان واحد يمكنك الاتصال به.
إذا كنت غير قادر على الغفران اطلب المساعدة من مريم التي وقفت تحت الصليب وهي ترى عذابات ابنها الوحيد دون أن تلعن أحد، دون أن تأخذ العدالة بيدها، دون أن تغذي مشاعر الانتقام.