يبدأ سفر الجامعة ببعض الكلمات الصادمة: “يَقولُ الجامِعة باطلُ الأَباطيل كل شيَءٍ باطِل. أَيُّ فائِدَةٍ لِلإِنْسانِ مِن كُل تَعَبِه الَّذي يُعانيه تَحتَ الشَّمْس؟ جيل يَمْضي وجيلٌ يأتي والأَرض قائِمَةٌ أَبَدَ الدُّهور”.
عبارات نتصور إنها تدعو للتشائم. لكن كلمة باطل في اللغة العبرية تنطق “ هيفل” التي تترجم بالبخار أو النفس. بعد أن تأمل كاتب السفر في الحياة وصل إلى نتيجة إن كل شيء تحت السماء هو بخار هو أشبه بنفس الإنسان يخرج ويختفي، كل شيء يظهر ويختفي. الحكمة لا تمنح كاملا للإنسان، الله هو مصدر الحكمة لكي من الصعب على الإنسان أن يفهم تماما حكمة الله من الوجود. الحياة إذن قصيرة، لذا يدعو الإنسان إلى الفرح، فلا شيء يجب أن ينغص حياة الإنسان. عدد المرات التي ذكر فيها الفرح أكثر من 17 مرة، أكثر من أسفار موسى الخمس كاملة.
لكن ما هو الشيء الباقي وحده في الحياة.
هذا ما يقوله الرب يسوع في إنجيل اليوم (لوقا 17: 7- 10). قولوا إننا عبيد بطالون، عديمي الفائدة، لا خير فينا. بطالون هنا ليس معنى سلبي لانها تعني عديم الفائدة، أو بدون فائدة. ما هو الشيء الذي يمكن تقديمه “دون فائدة” تَعُود عليَّ، دون مصلحة واستفادة أجنيها؟ فقط الحب الحقيقي! متى أحَببت حبًا حقيقيًا فأنت لا تبحث عن سعادتك، لا تطلب مقابل، إنما تطلب سعادة وخير مَن تُحب. لا تهدف إلى استفادة أو خير يعود عليك، أنت تُحب فقط، تحب بصورة مجانية. أما إذا كان هناك مقابل، فهذا ليس حبًا، بل تجارة ونعلم ماذا نطلق على مَن يعطي حبًا مقابل المال أو أي شيء آخر.
للأسف أحيانا تكون العلاقات داخل العائلات أساسها المنفعة. أنت مهم لأنك تقدم شيء للآخرين. عندما تكون العلاقات مبنية على المنفعة، فإنها ليس علاقة طيبة، إنها تسوية، مقايضة، شيء يمكن أن يساعد في مواجهة مشكلة أو صعوبة، ولكنها بالتأكيد ليست علاقة تنقذ حياتنا، ليست علاقة تملأ الحياة بالمعنى. هل تريدون أن أقولها بشكل أوضح؟ عندما تشعر أنك مستغل، فإنك لا تشعر أنك محبوب، بل تشعر أنك مستغلا. عندما تستغل الآخر، فأنت لا تحبه، ربما ترتدي ثوب الحب، ولكن هذا ليس حبًا. أحيانا نبني علاقات مع الناس لأننا نخاف الوحدة، نخاف أن لا ننجح في الحياة، لدينا فراغ نريد أن نملئه بالآخر. لكن الحب شيء مختلف مجاني، ليس هناك مصلحة أبدا.
لكي تكون مسيحيًا عليك أن تصل إلى درجة “العبيد غير المفيدين”، يعني عيش حياة دون السعى وراء أي مصلحة. العيش بحرية بحيث لا تكون عبد لشيء. كم مرة تنقسم عائلاتنا بسبب مطالب ”مشروعة“. كم مرة تنشأ النزاعات في بيئاتنا من السعي وراء مصلحة ما، مغلفة دائمًا بأسباب وجيهة. عدم الفائدة هو قمة الحرية. اليوم، يسألنا الإنجيل عن مدى مجانية في ما نحن عليه وما نفعله. ما هو مهم في الحياة. كل الأشياء الأكثر أهمية وضرورة في الحياة تبدو لنا ”عديمة الفائدة“.
تحضرني في النهاية قصة للأديب الروسي الكبير تولستوي بعنوان: موت ايفان ايليتش. قصة رجل، قاضي بالمحكمة. بالرغم من دراسته المرموقة، وعمله الموفق، زواج بلا حب لامرأة لا هي جميلة ولا هي بالبشعة، بل هي فقط زوجة صالحة، وأم صالحة. حياة لا هي رغدة ولا فقيرة. لكنها خالية من المعنى خلوًا تامًا. صار غريبًا عن زوجته وأبناءه، لقد كان كل مهم يحاول أن يتحاشاه بسبب مرضه الصعب. كره عمله وكره حياته وكره زوجته وكره كل شيء كان يفعله. وصل إلى نهاية حياته، وكان مستلقيًا على فراش مرضه ونظر إلى زوجته التي كانت تمسك يده وقال لها: كنت في سن 19 سنة في هذا الوقت ولازلت أقشعر بسببها إلى اليوم. قال لها وهو يحتضر ويموت: “ماذا لو أن كل حياتي كانت خطأ؟!”.
هل حياتك خطأ؟ هل تُحب بصورة مجانية؟ إعلم إن الحب وحده هو الأبدي، الخالد، لأنه شعاع من جوهر الله: الله محبة.