إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

مريم: أول تلاميذ يسوع

0 992

في أثناء عملي كمسئول في أحدى المدارس، كان يطيبُ لي في أثناء تكريم الأطفال والتلاميذ المتفوقين، بملاحظة ردود فعل أمهاتهم وآبائهم. كنتُ أُلحظُ لمعة العيون ونظرات الفخر والاعتزاز التي كان الوالدين يشعران بهما، خاصة الأم، في تلك اللحظات. سعادة غامرة بتفوق الصغير/ة، بتكليل الجهد بالنجاح.

تقدم لنا الأناجيل صورة نجاحات يسوع في حياته العملية، فالجميع كان يطلبه، يبحثون عنه، يتابعون تعاليمه، يندهشون أمام الآيات التي يصنعها. فهل كان هذه الأعمال هي مصدر فخر واعتزاز لمريم أمه؟ هل كانت مريم تتبع يسوع لترى بعينيها نجاحات ابنها الوحيد، خاصة بعد فترة طويلة من المعاناة، بدأت قبل ميلاد طفلها واتهامات الناس عنها، وهروبها من وجه الموت، وسيف الآلم الذي اجتاز نفسها. العذراء هي أمٌ مثلها مثل كل الأمهات، تسعد بنجاحات الابن.

تذهب مريم يومًا لتطلب يسوع مع أخوته، “فتَعذَّرَ علَيهِمِ الوصولُ لِكَثرةِ الزِّحامِ”. البعض تطوع باخباره بأن: “أُمُّكَ وإخوَتُكَ واقِفونَ في خارِجِ البَيتِ يُريدونَ أنْ يَرَوكَ”. 21فأجابَهُم: “أُمِّي وإخوَتي هُمُ الذينَ يَسمَعونَ كلامَ الله ويَعمَلونَ بِه”. (لوقا 8 : 20 – 21). قال ذلك “وهو أشار للجموع حوله، كما نقرأ في مرقس (3 : 34) أو “ومدّ يده نحو تلاميذه”، كما جاء في متى (12 : 49).

كيف نفهم هذه العبارة الصعبة! هل يتخلى يسوع عن تلك التي ولدته بحسب الجسد. ماذا صنعت الأم حتى تكون معاملتها بهذه القسوة؟ أليس من حقها، وهي التي تألمت كثيرًا من أجله، أن تفرح به يومًا وتفتخر به أمام الناس. ما هو وقع هذه الكلمات على مريم!!

كيف نفهم هذه العبارة الغليظة التي قالها المسيح “الحنون” على الجميع، يحنّ على المتعَبين الرازحين “كغنم لا راعي لها” (متّى 9: 36)، وعلى المفتقرين إلى الخبز (مرقس 8: 2)، وعلى أعميَيْ أريحا (متّى 20: 34)، والأبرص (مرقس 1: 41)، وأرملة نايين التي أحيا ابنها (لوقا 7: 13). ونرى يسوع يرضخ لطلب مَنْ يسأله أن يحنّ عليهم، كما فعل أبو الصبيّ المصابِ بداء الصرع (مرقس 9: 22). وعندما أراد أن يكلمنا عن الله ذكر لنا الله في صورة آب، حنّان، كما في مثل الآب الرؤوف (لوقا 15: 20).

كيف “نقبل” هذه العبارة من المسيح “الوديع المتواضع القلب” والإنسان الوديع هو هادئ داخليا، لا يثور ولا يتسبب في ثورة المحيطين به، يعيش في سلام داخلي، له ابتسامة بشوشة وعواطف جياشة، لا ينتقم ولا يدافع عن نفسه، متسامح مع الآخرين.

عند التأمل في كلمات يسوع: “أُمِّي وإخوَتي هُمُ الذينَ يَسمَعونَ كلامَ الله ويَعمَلونَ بِه” نلاحظ إنه يوجه نظر الجموع إلى أمومة مريم الجديدة، والمختلفة عن الأولى، كأمه بالجسد. منذ اللحظة الأولى التي تلقّت فيها البشرى، قبلت كلمة الله، لأنها آمنت، لأنّها أطاعت الله؛ ولأنها تحفظ هذه الكلمة “وتتأمل فيها في قلبها” وكانت أمينة لها حياتها كلها. لقد قبلت مريم الحبل الإلهي في قلبها أولاً قبل حشاها. أدركت مريم يومًا بعد يوم “دورها” الجديد، “التلميذة” الأولى لابنها، الإنسانة الأولى التي كان يقول لها يسوع: “اتبعني” قبل أن يوجّه هذه الدعوة إلى الرسل أو إلى أي إنسان آخر (يوحنا 1 : 43).

عند تطويب أحدى النساء لأم يسوع بالقول: “طوبي للبطن الذي حملك” (لوقا 11: 27)، كان قصدُ المرأة المجهولة أن تمدح أم يسوع بحسب الجسد. إلا في اجابة يسوع على تلك المرأة تكشف لنا عظمة مريم المستترة. : “بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها” (لوقا 11 : 28). فقد سعى إلى أن يحوّل الانتباه عن الأمومة، بوصفها رابطة جسديّة، ليوجّهها صوب هذه الروابط في الروح التي تنشأ عن الاصغاء إلى كلمة الله والأمانة لها. أن الطوبى التي أطلقها يسوع لا تتنافى، بالرغم مما يبدو في الظاهر، وتلك التي أطلقتها المرأة المجهولة، بل تتلاقى وإياها في شخص الأمّ العذراء، وهي التي لا تسمّى ذاتها إلاّ “أمة الرب” (لوقا 1 : 38). وإذا كانت “الأجيال كلها سوف تطوبها” (لوقا 1 : 48)، أفلا تكون هذه المرأة المجهولة، الأولى في تأكيد هذه الآية النبوية التي جاءت في نشيد مريم التعظيمي، وقد استهلّت بذلك، دون أن تدري، ما سوف تجيء به الأجيال من تطويبات؟

دور مريم هذا ظهر في قانا. وقفت مريم بين ابنها والبشر الذين يعانون الحرمان والفقر والألم. تدخل بواقع أمومتها الجديدة، تشوقت أن تظهر قدرة ابنها الخلاصية لجميع البشر لتحريرهم من الشر المحيط بهم. هكذا يصبح كل منا أخ للرب، بل أم، قادر على تلك الوساطة الروحية، لأجل الرازحين تحت نير الظلم والقهر، متى حملهم في صلاته وتضرعاته. وفي قانا، ظهرت مريم إنسانة تؤمن بيسوع، وإيمانها أخرجَ إلى النور أولى العجائب وأسهمَ في بعث إيمان التلاميذ (رسالة أم الفادي)

قد يعجبك ايضا
اترك رد