إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

عيد الميلاد 2014

0 1٬147

” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، وللناس المسرة “.
في هذه الأوقات العصيبة التي نعيشها على مستوى بلادنا الحبيبة، مصر، نتسأل أين هو ذلك السلام الموعود على الأرض، فالقلق هو السائد مع توتر الأوضاع السياسية، فأين تلك المسرة؟!

جعل الوحي الإلهي السلام على الأرض ومسرة سكاتها مرتبط بتقديم المجد لله. إن مجد الله وسلام الإنسان ومسرته أمران مرتبطان، فإذا مجدنا الله نلنا السلام… وإذا امتنعنا عن تمجيده فقدنا السلام وغابت المسرة عن قلوبنا. فهل نقدم لله مجده الذي يستحقه، قبل أن نسأل عن السلام في الأرض.

ففي تلك الليلة الفريدة من نوعها، وبينما كان السكون يخيّم على العالم كله، إذا بضياء من نوع غير مألوف، ظهر فجأة ولفَّ الأرض التي كان فيها رعاة يحرسون حراسات الليل على رعيتهم (لوقا ٢: ٨)، لم يخطر على بال أولئك الرعاة أن السماء تدعوهم ليكونوا من أوائل المبشرين لرسالة الميلاد الخلاصية، فإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم. تُرى هل عرفوا قصة ظهور الملاك ثلاث مرات خلال ستة أشهر؟

المرة الأولى : عندما كان زكريا واقفاً عند يمين مذبح البخور، فظهر له ملاك الرب، ولأنه لم يكن قد رأى الملاك قبلاً اضطرب ووقع عليه خوفٌ؟ (لوقا ١: ١٠-١٣)،

والمرة الثانية: عندما كانت العذراء مريم في ناصرة الجليل، فدخل إليها الملاك وهي الأخرى عندما رأته اضطربت من كلامه؟ (لوقا ١: ٢٩ و٣٠)،

والمرة الثالثة: إذ كان يوسف خطيّب السيدة العذراء باراً ولم يشأ أن يشهرها بل أراد تخليتها سراً، وفيما هو مفتكر في هذه الأمور ظهر له ملاك الرب في حَلْم قائلاً : يا يوسف لا تخف؟ (متى ١: ١٨-٢٠)،

وها هي المرة الرابعة يظهر فيها ملاك الرب، في أقل من سنة ويُعلن لأولئك الرعاة البسطاء بشارةً غريبة بالنسبة إليهم، ولكن قبل إعلانها يقول بقوة: لا تخافوا (لوقا ٢: ١٠).

نتساءل في هذه الليلة، وفيها تتذكر ليلة ميلاد ربنا يسوع المسيح في مغارة بيت لحم، تُرى لماذا يقول الملاك لزكريا: لا تخف. ولمريم العذراء: لا تخافي. وليوسف البار: لا تخف؟ وهوذا الملاك للمرة الرابعة يوجه كلامه بصراحة متناهية إلى رعاة بسطاء ويقول : لا تخافوا ؟ هل طبيعة رسالة الميلاد ومكنوناتها وأهدافها كانت مخيفة للبشرية إلى هذا الحد؟ وهل حقاً خاف زكريا، وخافت مريم العذراء، وخاف يوسف، وخاف الرعاة، لأنهم رأوا الملاك؟ هل الخوف كان من منظر الملاك ومن مجد الله الذي شاهدوه أم من طبيعة الرسالة التي حملها الملاك إلى أولئك جميعاً؟

ماهو مجد الله؟ وهل يبعث مجد الله على الخوف؟

المجد هو صفة من صفات الله ويشير إلى جلاله وبهائه وقداسته، الله هو ملك المجد (مز ٢٤) ومجده مرتفع عن السموات والأرض (مز ٥٧). والخليقة كلها تعلن مجده (مز ١٩). وظهر مجد الله في العهد القديم بداية من العليقة التي راها موسى إلى عمود السحاب والنار في سفر الخروج ليقود الشعب عبر البحر والبرية (خر ١٣: ٢١و ٢٢). وفي جبل سيناء، وبنو إسرائيل ينزلون حول الجبل، ظهر مجد الرب في “رعود وبروق وسحاب ثقيل علي الجبل، وصوت بوق شديد جدّاً، فأرتعد كل الشعب الذي في المحلة، (خر ١٩)، وكان ذلك أمام أعين جميع الشعب. وعندما أظهر الله لموسي لمحة من مجده- دون أن تحجبه سحابة ولا نار (خر ٣٣: ١٨- ٢٣) كان الله قد قال لموسى: “أما وجهي فلا تستطيع أن تراه لأنه لا يراني الإنسان ويحيا” (خر٢٣/٢٠). رأي موسي فقط ظهر الرب، جزءً من مجده فأصبح وجهه يلمع لدرجة اضطر معها أن يضع برقعاً علي حتي لا يخاف الشعب من الاقتراب إليه (خر ٣٤: ٢٩- ٣٥،٢كو ٣: ٧- ١٨). وعند مرور الله على الجبل، غطّى النبي إيليا وجهه ببرقع. والحنين إلى مشاهدة وجه الله غمر صلاة إسرائيل كلها على مدى السنين. موقداً في القلوب التوق الى اليوم الذي يشرق فيه الله “نور وجهه”. وهكذا تتردّد من جيل الى جيل صلاة سفر العدد الطقسية القديمة: “ليباركك الله ويحفظك وليضئ بوجهه عليك ويرحمك ويرفع الرب وجهه نحوك ويمنحك السلام” (عد٦/٢٤).

لهذا خاف الرعاة، وخاف زكريا ويوسف واضطربت مريم لأن مجد الرب عظيم، رأي الرعاة هذا المجد فخافوا لأن أمر عظيم سيحدث أن مجد الرب سيحل على الأرض.

لكن هناك أمر مختلف تماما عن العهد القديم مجد الله يظهر بصورة مختلفة تماما. ليس هناك رعود وبروق وسحاب ثقيل. بشر الملائكة الرعاة قائلين: “”ولد لكم اليوم مخلص في مدينة داود، وهو المسيح الرب”.هذه العبارات كان من شأنها أن تثير في مخيلاتهم صور العظمة التي ألفوها. وإذا بما يليها من كلمات يكشف المفارقة المحيّرة: “وإليكم هذه العلامة: ستجدون طفلاً مقمّطاَ مضجعًا في مذود” (لوقا ٢: ١١ و١٢). صورة “للرب” جديدة بالكلية تجلت، عند ذاك، ناسفة الصور القديمة. “علامة” الرب لم تعد قوة ماحقة تزلزل الأرض وترعب البشر. فالله يتجلى في ذروة إعلانه للبشر بصورة “طفل” (والطفل هو أضعف الكائنات)، لا بل بصورة طفل فقير وشريد لم يجد أبواه في ساعة مولده “موضعًا لهما في الفندق” (لوقا ٢: ٧) “فلم يكن له مكان يسند إليه رأسه” (متى ٨: ٢٠) عند دخوله هذا العالم سوى مغارة تأوي إليها القطعان و”مذود” يوضع فيه علف البهائم.

هذا هو وجه الإله الأعظم، هذا هو الوجه الذي بإمكاننا أن نتجّرأ على النظر إليه دون أن نموت، هذا هو الوجه الذي بإمكانه وحده أن يخلّصنا. هذا هو جوهر سّر الميلاد. فالخوف من الله هو ما يبقينا أبعد ما يكون منه. إنها الخطيئة الأصلية الأكثر تجذّراً فينا والأكثر أصالة. فهنا تتفجّر براءة إله لم يرتكب شراً ومع ذلك أتى ليحملها حتى النهاية. قد حان الوقت حيث يكشف لنا الله العظيم الرهيب عن وجهه: “إن الله ما رآه أحدٌ قط، الإبن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه” (يو١/١٨). هكذا ينحدر الله إلى مستوانا البشري مهما انخفض ويدركنا أينما كنّا: “الأزليُ دخل في الزمن واللامتناهي في المحدود”.

خطأنا الشائع، إننا نعتقد أن تلك الصورة مجرد قناع يحجب حقيقة مجد الله العظيم والجبار. لو كانت تلك الصورة التي ظهرت في بيت لحم مجرد قناع احتجبت الألوهة وراءه، لما رتَّلت الملائكة حين ولادة الطفل الشريد: “المجد لله في العلى…”، وكأنها تقول أن مجد الله وعلوّه قد تجليا بأوضح بيان في الصبي الصغير، طريح المغارة ومذود البهائم. وهذا يعني أن مجد الله ليس كما نتصوره. مجد الله هو الإنسان الحي الذي كما يقول القديس ايرناوس. مجد الله في الله احب الإنسان “لكنه أخلي ذاته، أخذا صورة عبد، صائرا في شبه البشر: (فيلبي ٢/٧). مجد الله هو في تطوع ابن الله الأزلي الأقنوم الثاني في الثالوث المقدَّس، وهو “الكلمة” الذي أخلى ذاته وتجسَّد متنازلاً من علياء سمائه ليولد طفلاً في مغارة فقيرة. هذا “”الكلمة” صار جسدًا وحلَّ بيننا، ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًّا”. (يوحنا/١-١٤)

كيف يمكن للإنسان أن يري مجد الله
لنتأمل في موقف الأشخاص اللذين نَّعموا برؤية مجد الله في تلك الليلة، سندرك أن هناك قاسما مشتركا جعلهم يحظوا بتلك النعمة الفريدة..

تأتي العذراء في البداية. كلمة واحدة في الإنجيل تكشف لنا استعدادها للحدث. يقول الكتاب “فقمطته”. كانت الأقمطة حاضرة. عندما تنتظر الام ولديها تستعد له بشراء احتياجاته.. وبالرغم من سفر العذراء من الناصرة إلى بيت لحم وهي حبلى، لم تنسى أن تأخذ معها الأقمطة اللازمة للمولود. هذا هو الاستعداد المادي.. إلا أن الاستعداد المادي يكشف استعداداً روحي أيضا. يكشف لنا لوقا في إنجيله أن العذراء كانت تحفظ وتسجل كل شيء في قلبها: عند زيارة الرعاة، عند زيارة المجوس، حفظة مريم كل شيء ونقلته بعد سنوات طويلة، أكثر من ثلاثين سنة إلى التلاميذ. العذراء هي الكاتبة الحقيقية للأناجيل، فهي الوحيدة الحاضرة منذ البشارة حتى الصعود.. سجلت في قلبها ما قاله الملاك.. سجلت ما قالته أليصابات عند زيارتها.. حفظت نشيد زكريا،، وصلاة سمعان الشيخ. حفظت كل شيء، تامل فيه بقلبها. كانت مستعدة للتتعرف أكثر على ابن الله، ولهذا كانت أول من أمنت، ولثقتها أنه هو طلبت منه أن يتدخل لينقذ أهل العريس في قانا من اللوم من الجيران، بالرغم من ساعته لم تكن قد حانت بعد.

هناك أيضا الرعاة.. تكشف لنا قصة الميلاد أن الرعاة كانوا في الحقل ليلا. ومن المعروف أن الراعي يرعى خرافه منذ شروق الشمس حتى الغروب. لا يوجد راعي يرعي خرافه بالليل، في الظلام وفي أجواء شديدة البرودة. كانت الخراف في الحظيرة. أما الرعاة فكانوا ساهرين، لم يستسلموا للنوم، متيقظين، أحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم عملا بقول الرب في لوقا ١٢: “كونوا على استعداد، أوساطكم مشدودة ومصابيحكم موقدة”. هذا هو الأستعداد المادي.. وهو يدل أيضا على الأستعداد الروحي.. كان الرعاة ينتظرون ميلاد المخلص.. ولهذا صدقوا كلام الملائكة وتركوا ما يملكون، تركوا الخراف وذهبوا إلى بيت لحم ليروا يسوع.

كذلك المجوس استعدوا لمجيء الرب.. وتحركوا من بلاد بعيدة ليصلوا إلى بيت لحم لرؤية الطفل، وحملوا معهم الهدايا.. استعداد مادي، وهو روحي أيضا.. جاءوا خصيصا ليروا المولود ملك اليهود.. فجئنا نسجد له. سجد العلماء له.

جميع هؤلاء عاينو مجد الله، سمعوا أناشيد الملائكة ورأوا النجم. أم أهل بيت لحم، الغارقين في إهتماماتهم اليومية. لم يتمكنوا من استقبال الطفل يسوع ولا رؤية الله في مجده..

ولتقريب الفكرة فلنتأمل هذه الأمثولة:
خرج رجل يبحث عن راهب كان يعيش بالقرب من الدير.. بعد تجوال في الصحراء وجده. “أريد أن أعرف الخطوة الأولى التي يجب أن ابدأ بها طريق الإيمان”.

أخذه الراهب إلى بئر صغيرة وطلب منه أن ينظر إلى خياله في الماء حاول الرجل ولكن الراهب كان يلقي بالحصى في الماء فيهتز.

قال الرجل: “لا أستطيع أن أرى وجهي وأنت تلقي بالحصى في الماء هكذا..”.

قال الراهب: “مثلما هو مستحيل أن يرى الإنسان وجهه في مياه مضطربة، من المستحيل أن تبحث عن الله عندما يكون عقلك مضطرباً بسبب أمور الحياة. هذه الخطوة الأولى.

من المستحيل أن نعاين مجد الله ونحن مشغولون بأشياء كثيرة، الحاجة إلى واحد، كما قال الرب لمرثا.. المنشغلة في أمور كثيرة. فلنستعد روحيا أن نقبل الطفل في حياتنا بأن نتفرغ قليلا له، نترك أهتماماتنا اليومية وأعمالنا مثلما فعل الرعاة، أن نجثو أمامه في صمت كما فعل المجوس، أن نحفظ كلمته ونتأمل بها في قلوبنا كما فعلت العذراء.

وكل عام وأنتم بخير
الأب/ مراد مجلع الفرنسيسكاني
الجيزة في ٢٥ ديسمبر ٢٠١٣

قد يعجبك ايضا
اترك رد