إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

المثابرة

0 1٬060

لِكُلِّ أَمرٍ أَوان ولكُلِّ غَرَض تَحتَ السَّماءَ وَقْت الفصول الأربعة للحياة الروحية- فصل الشتاء (زمن النضال والمثابرة)

اللقاء الثامن: المثابرة في النمو الروحي
الإنسان كائن خلق لينمو وينضج عبر مسيرة حياته. وتُعد مسيرة نموه هي الأطول بين المخلوقات، فهو يلزمه ثماني عشر عاماً تقريبا ليعتمد على نفسه. يحترم الله هذه الفترات، يَّصبر ولديه طول آناة في التعامل معه. أكبر مشكلات الحياة الروحية عندما يستعجل الإنسان النمو الروحي ويرغب في الوصول إلى نتائج سريعة دون الانتظار بصبر لمسيرة النمو البطيئة. فقلق الوصول إلى نتائج روحية سريعة هي الأخطر على الإنسان من الخطيئة ذاتها. يقول القديس يعقوب ٥: ٧- ٨: “فاَصبِروا، يا إخوَتي، إلى مَجيءِ الرَّبِّ. أنظُروا كيفَ يَصبِرُ الفَلاّحُ وهوَ يَنتَظِرُ ثَمَرَ الأرضِ الثَّمينَ، مُتَأنِّيًا علَيهِ حتى يَسقُطَ المَطَرُ المُبَكِّرُ والمُتأخِّرُ. فاَصبِروا أنتُم أيضًا وقَوُّوا قُلوبَكُم، لأنَّ مَجيءَ الرَّبِّ قَريبٌ”.

من عاداتنا السيئة أن نمل الأشياء ونتركها قبل أن تكمل، ويبقى العمل ناقصا ً يشير الينا متهما ً ايانا بالتقصير والاهمال . لكن المسيح يوصينا بالمثابرة والاستمرار واللجاجة والالحاح لإحياء الامل وإشعال الرجاء. الصبر هو عطية الروح (غلا ٥: ٢٢)، وعنوان الإيمان. كما يقول أنسو بيانكي: “الصبر هو فن عيش عدم الكمال”، أي المقدرة على قبول الأشياء الغير كاملة، والتعايش معها، و العمل باستمرار ومثابرة على الوصول إلى الكمال، الذي نصل إليه في النهاية.

هو زمن الشتاء، بما يحمل من أمطار ورعد وعواصف وبرد، تجعل الإنسان يفكر في الانسحاب والعودة ولنتذكر كلام الرب يسوع في مت ٢٤: ١٣ “ومَنْ يَثبُتْ إلى النَّهايَةِ يَخلُصْ” وفي الرسالة إلى العبرانيين ١٢: ١- ٢ نقرأ: “أمَّا ونَحنُ مُحاطونَ بِسَحابَةٍ كَثيفَةٍ مِنَ الشُّهودِ، فعلَينا أنْ نُلقِيَ عَنا كُلَ ثِقلٍ وكُلَ خَطيئَةٍ عالِقَةٍ بِنا، فنَجري بِعَزمِ في ميدانِ الجِهادِ المُمتَدِّ أمامَنا”. صابرين دون كلل على استكمال الطريق: “ناظِرينَ إلى رَأسِ إيمانِنا ومُكَمِّلِهِ، يَسوعَ الذي تَحَمَّلَ الصَّليبَ مُستَخِفُا بِالعارِ، مِنْ أجلِ الفَرَحِ الذي يَنتَظِرُهُ، فجَلَسَ عنْ يَمينِ عَرشِ الله” فإذا توقفت على النظر ليسوع ستتوقف مسيرة إيماني، ستخمد جذوة النار المشتعلة، سينطفئ النور داخلي. هناك قصة بين آباء الصحراء: “تقابل أحد النساك مع رهبان أخر فسأله الأخير: “أجبني عن سبب هروب الكثيرين من الحياة الرهبانية؟ أجاب الناسك: “الحياة الرهبانية مثل كلب يطارد أرنب بري، يجري نابحاً خلفه لصيده، فعلى صوت نباحه خرجت مجموعة من الكلاب واشتركت في المطاردة بالرغم من إنها لا ترى الأرنب. لكن مع الوقت توقفت الكلاب التي لا ترى الأرنب عن الركض واحد تلو الآخر. بقي فقط مجموعة الكلاب التي خلف الأرنب مباشرة ساعية لصيده. تنتهي القصة بهذه العبارة: “الناظرين فقط إلى يسوع المسيح المصلوب هم الثابتين إلى النهاية ويخلصون”.

يقول البابا فرنسيس في تأمله لقصة الأرملة والقاضي: “نحن نناضل وهو واقف إلى جانبنا وسلاحنا هو الصلاة التي تجعلنا نشعر بحضوره إلى جانبنا وبرحمته ومساعدته لنا. النضال ضد الشر صعب وطويل ويتطلب صبرا ومثابرة شأن موسى الذي رفع ذراعيه كي يؤمّن النصر لشعبه. هناك صراع يجب أن نخوضه كل يوم. لكن الله هو حليفنا والإيمان به هو قوتنا والصلاة هي التعبير عن هذا الإيمان لذا يضمن لنا يسوع النصر ويتساءل: عندما سيأتي ابن الإنسان هل سيجد الإيمان على الأرض؟ إذا انطفأ الإيمان تنطفئ الصلاة ونسير في الظلمات ونتوه في مسيرة حياتنا. فلنتعلم إذا من أرملة الإنجيل أن نصلي دائما وبدون كلل. المثابرة في الصلاة هي تعبير عن الإيمان بالله الذي يدعونا للنضال إلى جانبه في كل يوم ولحظة للتغلب على الشر بواسطة الخير”

منهج المثابرة
حزقيال ٤٧: ١-١٢

يتناول النص جدولا للمياه يخرج من تحت عتبة الهيكل نحو المشرق من الجانب الأيمن عند جنوب المذبح. تتعاظم المياه لتصبح قناة صغيرة، تتحول إلى نهر لا يمكن اجتيازه إلا سباحة. على جانبي النهر تنمو أشجار كثيرة، ويعج النهر لأنواع مختلفة من الأسماك. يصب النهر في النهاية في البحر الميت ويحول مياهه المالحة إلى مياه عذبة. كل نفس حية تزحف حيث يجري النهر تحيا، وكل ما يبلغ إليه النهر يحيا. وعلى شاطئه من هنا وهناك ينبت شجر تؤكل ثماره، ولا يزيل ورقه ولا ينقطع ثمره، بل يعطي بواكير جديدة باستمرار.

لكن ما هي طبيعة هذه المياه؟ المياه هي عنوان الحياة، هي الدليل على وجود الحياة. البحث عن المياه هو المهمة التي سعَ إليها العلماء للتأكد من وجود حياة من عدمه في الفضاء الخارجي. متى توافرت المياه فهناك حياة. وكل الحضارات القديمة نشأت حول تجمعات المياه والأنهار. ولكن ما هي طبيعة هذه المياه المحيية؟ وحيث أن الكتاب المقدس يشرح من خلال نصوصه، يجب أن نقرأ نص آخر ليكشف لنا المقصود بتلك المياه المحيية.

مزمور١

عندما تحتضن التربة بذرة ما، فإنها تبدأ مسيرة الأثمار إلى أن يكتمل نضجها فتعطي ثمارها في أوانه. الشجرة المغروسة على مجاري المياه بدأت حياتها كبذرة صغيرة، غُرست في الأرض فنمت يوماً بعد يوم إلى أن أصبحت شجرة ضخمة تضرب جذورها في باطن الأرض وتترفع أغصانها إلى عنان السماء، وتعطى ثمارها في أوانه. ندعوك اليوم إلى أن تَغرس حياتك بجوار نهر شريعة الله التي أعطاها للإنسانية على جبل سيناء. أن تصبح كشجرة مغروسة على مجاري مياهٍ تشفي من تلامسه. تلك المياه الشافية هي الوصايا التي تركها الله للإنسان ومتى عمل بها تصبح أوراقه علاج لكل داء وثماره غذاء للمخلوقات، أي يعيش بالفعل ملء الحياة ويحقق كمال إنسانيته وسعادته الشخصية فتكون نبراسا للآخرين ومعاوناً ومرشدا لهم في تحقيق معنى لحياتهم.

المياه الشافية في ذلك النهر الذي يعج بالأسماك المختلفة وعلى ضفافه أشجار باسقة تستخدم أوراقها كعلاج لكل داء. تسألنا عن حقيقة تلك المياه، خاصة إنه لا توجد أنهارٌ بالقرب من هيكل أورشليم؟ يرمز النهر إلى شريعة الله، كما نقرأ في المزمور الأول. فالرجل الذي يتأمل في شريعة الله دوما يصبح مثل شجرة مغروسة على مجارى المياه، تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يعمله صالح. فالذي يتأمل في شريعة الرب يعطى ثمره في حينه، يجد إجابات صحيحة لمراحل حياته المختلفة.

مَن يرغب في غرس حياته بجوار هذه المياه المحيية؟ مَن يمد جذوره في حكمة شريعة الرب يبقي بجوار يسوع مثل مريم، ويبدأ مسيرة استنارة داخلية تقوده إلى ملء الحياة.

الأصالة
“كشجرة مغروسة على مجاري المياه” هكذا يصف المزمور من يتجذر في علاقته بالله. بالنسبة لآباء الصحراء كانوا يتكلمون عن أن تكون الصلاة أصلية: أي هناك توافق دقيق بين الاستعدادات الحميمة في الصلاة والأفعال. كان إيريناوس يقول: “كثير من الناس، فيما هم يصلون، لا يصلون..” لأن قلبهم وحياتهم، ليسا منسجمين مع الصلاة. الأب سلوانس يقول: “الويل للإنسان الذي يحمل اسماً أعظم من أعماله”، والذي يحمل أسم راهب، كاهن، رجل الله، وليست له حياته. الأصالة تقتضي الانسجام بين الحياة والصلاة، فهي تتطلب، كثيرا من الحرارة والصلاة. كان الأب بيمين يجيب بحزم على أخ يقول: “يا أيت، أن جسدي يفقد من حيويته، واهوائي تزيد منها”، “ليست الأهواء، يا بني، سوى أشواك. أشعل فيها نار الحب الإلهي، تحرقها تماماً”.

التجذّر في أرض الله يتطلب الصلاة الدائمة بلجاجة. لما سأل الأب لوط، يوسف من بانيفو، ماذا عليه أن يزيد على عباداته الاعتيادية، رفع الأخير يديه إلى السماء، وهو واقف، فصارت أصابعهُ العشر مثل قناديل ملتهبة، وقال للوط: “إذا أردت أن تحيا، فكن تماماً كالقناديل المضطرمة”.. تلك النار كان نار الشوق والأمل والصلاة المتتأججة. إلا أن الأمر ليس سهلاً، فهي تتطلب جهداً، فيقول الأب أغاثون، إن كل فضيلة لها أوقات استرخاء، في حين أن الصلاة لا تسمح للإنسان، حتى النفس الأخير، بأي وقت للاسترخاء. بل على العكس فحالما يريد الإنسان الصلاة إلى الله، تسرع الشياطين، لتوقف صلاته. فهي تعرف أن ليس من شيء يعرقل عملها، بقدر الصلاة التي ترفع لله، فهي تحمل لنا كل الخيرات، أما هي، فتجعلها عاجزة”.

مريم المصلية: نموذج المصلي في شتاء الحياة الروحية

لنتأمل في موقف مريم المصلية بمثابرة وبتواضع في جميع مراحل حياة يسوع بالرغم من الصعوبات والشدائد التي ألمت بها وبإبنها يسوع. استقبلت مريم ملاك الرب وأصغت بانتباه إلى كلماته وقبلتها مستجيبةً إلى المشروع الإلهي، ومظهرةً استعدادها الكامل: “ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك” (لو ١، ٣٨).

وموقف الإصغاء الداخلي هذا بالتحديد قد مكّن مريم من قراءة تاريخها الخاص والاعتراف بتواضع بأنّه عمل الرب. وأثناء زيارتها لنسيبتها أليصابات، ابتهجت بصلاة تسبيح وفرح واحتفال بالنعمة الإلهية التي ملأت قلبها وحياتها، جاعلة منها أماً للرب (راجع لو ١، ٤٦- ٥٥).

تسبيح وشكر وفرح: في نشيد التعظيم (Magnificat)، لم تعد مريم تنظر فقط إلى الأمور التي صنعها الله إليها، بل بما صنعه ويصنعه على مدى التاريخ. ويدعو القديس أمبروسيوس في تعليق شهير حول نشيد التعظيم إلى الصلاة بروح واحدة، فيقول: “لتكن نفس مريم في كل بشر لكي يعظم الرب، وليكن روح مريم في كل إنسان لكي يبتهج بالله”.

وكذلك في العلية بأورشليم التي كان التلاميذ “يقيمون فيها” ( أع ١، ١٣)، كانت مريم حاضرة في حالة من الإصغاء والصلاة، قبل أن تنفتح الأبواب على مصراعيها ويبدأ التلاميذ إعلان بشارة الرب المسيح لجميع الأمم، وتعليم الشعوب جميعاً أن يحفظوا ما أوصاهم به (راجع مت ٢٨، ١٩- ٢٠).

ومن بيت الناصرة إلى علية أورشليم، مروراً بالصليب التي أوصاها منع ابنها المصلوب بيوحنا الرسول، تميّزت مراحل درب مريم بقدرتها بالمحافظة المثابِرة على حالة التأمل بصمت بالأمور في حضرة الله، وحفظها في قلبها (راجع لو ٢، ١٩- ٥١)، كي تتمكّن من فهم مشئية الرب وقبولها بينها وبين نفسها. وحضور أمّ الله مع الأحد عشر بعد الصعود ليس إذاً ملاحظة تاريخية حول حدث مضى، بل إنّه يكتنز معنى قيماً جداً، لأنّ العذراء مريم شاركت التلاميذ ما هو أثمن: الذكرى الحية للمسيح في الصلاة. ومريم تشارك أيضاً ابنها يسوع في إحدى رسائله: الحفاظ على ذكرى يسوع وبالتالي الحفاظ على حضوره الدائم.

أمّا الإشارة الأخيرة إلى مريم في نصّي القديس لوقا، فترتبط بيوم السبت: إنّه اليوم الذي استراح فيه الله بعد الخلق، ويوم الصمت بعد موت المسيح وبانتظار قيامته. وفي هذا الفصل بالتحديد، يتجذّر تقليد تكريم مريم العذراء يوم السبت. وبين صعود المسيح القائم من بين الأموات والعنصرة المسيحية الأولى، يجتمع رسل الكنيسة مع مريم لينتظروا معها عطية الروح القدس الذي به وحده يمكنهم أن يكونوا شهوداً. والعذراء مريم التي سبق وحلّ عليها الروح القدس كي تحمل وتلد الكلمة المتجسدة، تشارك الكنيسة جمعاء حالة انتظار هذه العطية كي “يُكوّن المسيح” (غل ٤، ١٩) في قلب جميع المؤمنين. فإن كان لا وجود للكنيسة من دون عنصرة، فكذلك لا وجود للعنصرة من دون حضور أم يسوع، لأنها اختبرت بطريقة فريدة ما تختبره الكنيسة كلّ يوم من خلال عمل الروح القدس. ويعلق القديس كروماتيوس أسقف أكويلا على هذا الذكر للعذراء في أعمال الرسل قائلاً: “تجتمع الكنيسة في العلية مع مريم أم يسوع مع إخوته. فلا يمكننا إذاً الكلام عن الكنيسة إذا لم تكن مريم أم يسوع حاضرة مع إخوته فيها: لأنّ كنيسة المسيح هي حيث يُبشَّر بتجسّد المسيح من العذراء، وحيث لا نصغي إلى الإنجيل إلا حيثما يُبشِّر الرسل، إخوة الرب يسوع.”

لذا فإنّ تكريم أم يسوع في الكنيسة يعني أن نتعلّم منها أن نكون جماعة مصلية: فالصلاة هي إحدى الميزات الأساسية الني نصف فيها بصورة أولية الجماعة المسيحية التي بدأت تتجلى في أعمال الرسل (راجع أع ٢، ٤٢). كثيراً ما تُملى علينا الصلاة في الأوقات الصعبة، وفي مواجهة المشاكل الشخصية التي تدفعنا إلى أن نلتفت نحو الرب لنستمد منه النور والعون والتعزية. ومريم العذراء تدعو إلى توسيع نطاق الصلاة بحيث نلجأ إلى الله ليست بدافع الضرورة أو من أجل ذواتنا فحسب، بل بحماسة جَماعية ومثابِرة وأمينة بقلب واحد ونفس واحدة” (راجع أع ٤، ٣٢).

أفكار للتأمل:
١. كيف تتغلب على الملل والروتين في حياتك الروحية؟
٢. كيف تقييم صلاتك اليومية، خاصة الشخصية؟
٣. ما هو رأيك في كلام الأب سلوانس: “الويل للإنسان الذي يحمل اسماً أعظم من أعماله، والذي يحمل أسم راهب، كاهن، رجل الله، وليست له حياته”.

قد يعجبك ايضا
اترك رد