إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

حياة القديس أنطونيوس البدواني – الجزء الثاني

0 1٬467

القسم الثاني

مراحل في حياة القديس أنطونيوس البادواني

 

الفصل الأول

أحوال أوربا في زمن القديس أنطونيوس

لعل معظم المحن والخطوب التي ألمت بإيطاليا وفرنسا، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وهما أكثر بلدان كرز فيهما مارأنطونيوس، ترجع إلى تنازع ملوك تلك الأزمنة وتكالبهم على توسيع نطاق سلطانهم الزمني، وهم لم يسعوا لذلك إلا للاستبداد بالفقراء والضعفاء، من مواطني الدول والبلدان المجاورة، الأمر الذي أوضحه لاحقًا البابا لاون الثالث عشر.

وإضافة لذلك نشوء وارتقاء الهرطقات المانوية على إختلاف ألقابها، وإلى بعض الأمراء من مشايعيها وكذلك أنصارها.

على أن العدو الألد للكنيسة إنما كان فردريك الثاني، من أعمال ألمانيا، ذاك الذي بعد أن نشأ في حجر الكنيسة، وكانت للبابا إنوشنسيوس الثالث اليد البيضاء في تبوئه عرش الإمبراطورية الألمانية، أن أضحى عاق وعقبه لأمه الكنيسة الكاثوليكية المقدسة، فقلب لها ظهر المجن، تارة يداريها، في الظاهر، وهو ملتحف بثوب الرياء، ومرارًا يبادر إلى مناصبتها العداء، ومحاربتها جهرًا بلا خفاء ولا استحياء. وبعد أن عيل صبر الكنيسة حرمتة المرة تلو المرة، لكنه عوضًا عن التوبة والإذعان، إزداد في إثمه وشره، حتى مات على ما روى البعض مسمومًا من منفريد أحد أبنائه غير الشرعيين.

على أنه قد ترك إيطاليا ووراءه فتن شديدة داخل البيت الواحد، وبين البلدة وجاراتها، وإذا استقرت الأحوال قليلاً وباتوا في بحبوحة من الطمأنينة، لجأوا إلى الملاهي والملاذ الدنيوية الفانية، بدون ورع أو خشوع، بل متباهين، متفاخرين، في زهو المعيشة.

أما فرنسا التي كانت الميدان الثاني لكرازة مارأنطونيوس، فلم تكن بدورها أفضل حالاً من إيطاليا، ذلك أن النيران كثيرًا ما كانت بدورها مضرمة فيها. إذ كان ملكها فيليب الثاني المعروف بـ”فيليب أوغست”، الذي خلف أباه لويس السابع سنة 1180م، قد قضى أكثر سنى ملكه في محاربة بعض الأمراء والملوك، ولا سيما ملوك إنجلترا طمعًا بتوسيع نطاق مملكته وتوحيد الأمة الفرنسية، حتى أصبح أول مؤسس لها. ومع ابنه لويس الثامن الذي قام ملكًا خلفًا لأبيه سنة 1223م استمرت الحروب مع الإنجليز ومع غيرهم من الأمراء.

على أن الشر الأعظم الذي وجد في فرنسا في ذلك الوقت كان هرطقة الألبيين التي سنأتي لاحقًا إلى الإشارة إليها. وقد كان لها من الأتباع الكثيرين، ذوي النفوذ عند الأمراء الذين تغلي في قلوبهم مراجل العداوة نحو الكنيسة الكاثوليكية، وتلتهب في صدورهم نار البغضاء للمحبة المسيحية. ولم  تكن تسنح لهم الفرصة، إلا وأغاروا على سكان فرنسا الجنوبيين، ليقتلوا ويخربوا، ويذبحوا الكهنة، وينهبوا الكنائس، ونشروا الفساد في تلك النواحي، وباتوا كالذئاب الضارية.

أما شأن فرنسا في تلك المدة فقد كان شبيه بإيطاليا نفسها وبأوربا بأسرها، ما صدق فيه قول البابا لاون الثالث عشر: “إن العدد الأعظم من الناس المتكلين على الأشياء الزمنية كانوا يسعون كل السعي وراء الكرامات العالمية وحشد الأموال، أو يفنون حياتهم في البذخ والترف وملاذ الدنيا … وقد سرت عدوي الرذائل حتى إلى قلوب ونفوس أولئك الذين كانوا ينبغي لطريقهم ودعوتهم أن يكونوا قدوة صالحة للغير، فكان فتور المحبة في أنحاء مختلفة يجلب يومًا بعد أخر مصائب جديدة”.

كانت “المانوية” أسوا هرطقة تدب في قسم كبير من مدن إيطاليا وفرنسا والمانيا في ذلك الوقت، ومرجع هذه الهرطقة في الأصل والجوهر رجل من بلاد فارس، عرف بإلحاده، يدعى “ماني”، كان عبدًا لأرملة فارسية، وقد أدعى إنه البارقليط الذي وعد به السيد المسيح، وأنه أتى إلى العالم ليكمل الإيمان الحقيقي.

وملخص دعوته النكراء التي أنشاها في نحو منتصف القرن الثالث الميلادي قوله بالثنائية، أي أنه منذ الأزل يوجد بالعالم مبدآن أولان، أي إلهين يضاد أحدهما الأخر، وكل منهما مستبد مستقل بذاته، فالأول معدن النور وهو مبدأ كل خير، والثاني معدن الظلام وهو مبدأ كل شر.

كما كان ماني يؤمن بفكرة تناسخ الأرواح أي بانتقال النفس الناطقة من جسد إلى أخر، بجانب معتقدات فاسدة مستقبحة أخرى، الأمر الذي جعل الأبوين القديسين أبيفانوس وأوغسطينوس يعدانه وأتباعه من جملة الوثنيين أنفسهم.

هذه الهرطقة المشؤومة الناسفة بفظيع تعاليمها أسس الجنس البشري لم تتلاش بالكلية من كل وجه الأرض، بل بقيت مع العدد الزهيد من أتباعها متنكرة محتجبة عن أعين خصومها إلى زمن بعيد، من غير أن يدري بخفية أمرها إلا القليل منهم فقط.

على أنها قد تشعبت مع مرور الأزمنة إلى فئات متنوعة تختلف الواحدة عن الأخرى في الشكل التعليمي، لكن جميعها تتفق في الجوهر الفاسد، وجميعها منافية للإيمان والآداب المسيحية، وقيل أنها وجدت في بلاد أرمينيا القريبة من بلاد فارس جغرافيًا، ومنها سرت كالسم إلى بلغاريا نحو الربع الأخير من القرن التاسع، ثم مع توالي الأيام ظهر أتباعها وأنتشروا في إيطاليا وفرنسا وألمانيا وفي إنجلترا أيضًا، يفسدون أذهان العباد ودينهم، ويدسون الدسائس ويكيدون المكائد، والكنيسة الكاثوليكية من قبلهم تمتحن بالآلالم والإضطهاد، بنوع لم يحدث منذ بدعة أريوس في بداية المسيحية.

وقد كانت لجماعة هذه الهرطقة المانوية أسماء مختلفة بحسب مختلف أعراض تعاليمها، ومنها الألبيين.

في هذه الأجواء المضطرمة إيمانيًا في أوربا وخاصة في إيطاليا وفرنسا، دعت مراحم الله الرؤوف أن يتدارك بالاصلاح شئون البلاد، وينهض راية الإيمان المسيحي من جديد، بأن أرسل جلَّ اسمه كوكبي الكنيسة النيرين، القديس فرنسيس الأسيزي مؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية، والقديس دومنيك عبد الأحد مؤسس الرهبنة الدومنيكانية، هذان اللذان تبعهما أبناء الكنيسة الراغبين في الكمال الأنجيلي، والتكريس المطلق لله، وقد عملوا معًا على محاربة الهرطقات ودحضها، ومواجهة الرذائل ومحوها، بإتقاد غيرتهم الإيمانية وسلامة تعاليمهم الكنسية، وسمو تقواهم وقداستهم، وحسن سيرتهم وطباعهم.

في هذه الأجواء كان الباري تعالي يُعد صفيه أنطونيوس البادواني لرحلة من الجهاد الروحي، لينصر كنيسته على ذوي الضلال والعناد والفساد.

الفصل الثاني

في كرازة الأب أنطونيوس ومواجهة الهراطقة

كثيرة هي ولا شك الصفات والمزايا التي ينبغي لكل مبشر كامل أو ساع للكمال أن يتصف ويتميز بها، وقد إجتمعت كلها في قديسنا أنطونيوس، وقد أجمع كثير من كتاب سيرة مار أنطونيوس على أنه أشار إليها في عظاته بالقول ” التواضع الذي بدونه عبثا وبلا ثمرة يُخرج الواعظ ليعظ ولا تستحسن عظاته عند الله … والعلم الكافي والكلام الفصيح، ثم يقتضي من الواعظ أن يكون مشددًا على نفسه، وذا رفق ورحمة نحو غيره. وسريعًا غير بطئ إلى التبشير ومتقدًا من نار المحبة. ثم مضيئًا على الناس بمعارفه ومثاله وحسن سمعته”.

وفي غير موضع من عظات أخرى نسبت إلى قديسنا أنه قال: “إن الواعظ الكامل هو إيليا الصاعد في جبل الكرمل والمرتقي إلى قمته أي إلى ذروة الكمال، حيث يتعلم أن يتجرد من كل شيء باطل وزائد عن الحاجة، حتى إذا تضاءل حياءً لمنظر شقائه وسوء حاله، خشع وجثا ساجدًا إشارة إلى أمر انسحاقه من قبل مآثم حياته السابقة. فإيليا قال لغلامه : اصعد وتطلع نحو البحر. فهذا الغلام هو جسد المبشر الذي لا يتهيأ له نقاوة القلب بمعظمها، إنه يضطر على نوع ما أن يميل طرف الفكرة في مفاسد العالم ليقاتلها بعظاته، فينبغي له أن يتطلع سبع سنوات، أي يلتزم بأن يمعن الفكر في عقائد إيماننا السبع الأساسية فهي: تجسد سيدنا يسوع المسيح، والمعمودية، والآلام، والقيامة، وحلول الروح القدس، والدينونة الأخيرة”.

ويكمل الأب أنطونيوس: “أنه لدى تأمل الواعظ الموضوع السابع من عقائد الإيمان، يرى سحابة صغيرة صاعدة من تحت لجج البحر، أي تصعد زفرات الندامة والانسحاق من نفس الخاطىء، فما نشأ من قبل الرحمة الإلهية لا يلبث أن يمتد إلى قلب الإنسان فيصير غمامًا كثيفًا يبسط ظله الإلهي على سائر الأشياء الأرضية. فحينئذ تهب ريح الاعتراف التي تقتلع الخطيئة، ولا تزال تهب حتى يكفر عنها كفارة. بمثابة غيث ينعش الأرض القاحلة، ويكسوها خصبًا ونضارة، فهذا هو منهج كل واعظ كامل”.

وقد وجدت هذه الصفات في الأب أنطونيوس، وبجانبها عُرف بأنه مرموق الطالع، ظاهر الوقار والتقوى، جهوري الصوت، فصيح اللهجة، متقن الحركات، سمح البديهة، واسع المجال، موسومة عظاته بصحة التعليم وبناصعة المعاني، ومدعومة بصدق الشواهد من الكتاب المقدس.

ولما كان أنطونيوس صالحًا وقديسًا لم تفته الغيرة المتقدة، ولكن برزانة دون تطرف، الأمر الذي جعل سامعيه يصغون إلى أوامره بمحبة، ولا يتذمروا من زواجره ونواهيه.

كان كلام أنطونيوس يؤثر في القلوب، لاستقباحة الرذيلة، ويستميلها إلى محبة الفضل والفضيلة. وفي كل مواعظه كان كلامه متجهًا إلى العقول وليس الخيال أو الأذان. كان هدفه الأكبر إرتداد الخطأة لا الإطراء أو إعجاب السامعين بتلك العظات. كما أن قوة كلامه كانت مسندة إلى ظاهر أفعاله فيجري إلى العمل ما كان يعمله علانية وبلا ملل، فيحب الناس محبة صادقة حميمة، وإن مقت فيهم الأفعال والخصال الذميمة.

لم يكن في بث كلام الله يرهب أو يداهن أحد، علمانيًا أو أكليروس، ودافعه شرف ربه ومجده، ومرده رجوع الأنفس المشتراة بالدم الذكي الكريم.

كانت صواعق أنطونيوس وزواجره، على وداعته، تنقض بعض المرات على كبار القوم وزعمائهم إلى حد أن نفرًا  من أرباب المنابر المشهورين كانوا عند استماعهم ذلك يرتعدون من جرأة مقدمه، فيغطون بأيديهم على وجوههم ليحجبوا عن الأبصار ما بدا عليها من إمارات التوجس والتهيب.

كان حال أنطونيوس مطابقًا لما ورد في نبؤة أشعياء النبي: “هأنذا قد صيرتك نورجا محددًا جديدًا ذا أسنان. تدرس الجبال وتسحقها. وتصير الآكام كالعصافة” (أشعياء 15:41). وكأن أنطونيوس لم تكن لتكفيه هذه المزايا النادرة والخصال الباهرة، ولهذا نراه يؤلف صلاة خشوعية لم يهمل تلاوتها كلما رقي المنبر المقدس لوعظ المسيحيين، عالمًا أن الواعظ كان بمنزلة غارس لكلمة الله في قلوب الناس، والله وحده عز وجل ينعشها بغيث نعمته وبركته ويؤتيها نماءً وخصبًا.

ومرجع الصلاة ترجمة قام بها المعلم الساروفي القديس بونافنتورا ومن سيرة قديمة، مدونة بأصلها اللاتيني في مؤلف “أزفيدو”.

نص صلاة القديس أنطونيوس قبل أي عظة

يانور العالم. يا إلهي اللامحدود. يا أبا الأزلية. يا مانح الحكمة والعلم وموزع كل نعمة روحية الفائق ثمنها. يا أيها المحيط علمًا بالأشياء كلها قبل كينونتها وصانع الظلمات والنور. أبسط يدك والمس فاهي واجعله كسيف مرهف فأنادي بكلامك مناداة فصيحة.

اجعل يارب لساني كسهم منتصب فأنطلق مع صحة الذكر بأعاجيبك. ارسل اللهم روحك إلى قلبي فأفهم، وإلى نفسي فأحفظ، وإلى ضميري فأتأمل. الق إلىَّ نعمتك مع التقوى والقداسة برأفة ورحمة ولطف. علم ودبر وجدد دخول وخروج حواسي وأفكاري، فلير أدبك إلى المنتهى ولتعضدني مشورة العَّلي. بحكمتك اللهم ورأفتك اللتين لا نهاية لهما. آمين“.

على أن أنطونيوس أمتلك موهبة خاصة من السماء تماثل ما حازه الرسل الأطهار عشية عيد العنصرة وحلول الروح القدس عليهم وتكلمهم بألسنة، وهي ولاشك نعمة جزيلة أنعم الله بها على صفيه أنطونيوس البادواني الذي عادة ما كان يعظ باللغة اللاتينية في إيطاليا وفرنسا، ومع ذلك كان جمهور من يستمع إليه يفهم كلامه بسهولة ويسر، رغم أن اللاتينية في ذلك الوقت لم تكن لغة معروفة عند العامة، ومن يعرفها من العلماء قليل جدًا، كذلك فإنه عندما كان يستخدم لغته الأصلية، أي اللغة البرتغالية غير الدارجة في فرنسا أو إيطاليا كان سامعيه كذلك يفهمون مباشرة وكأنهم يعرفون تلك اللغة. وفي فرنسا إعتقد أهلها أن الأب أنطونيوس عندما يعظهم باللغة الفرنسية كما يسمعونها، أنه من أهل فرنسا الأصليين وليس غريبًا عنهم، وهو المعروف عنه بأنه لم يتعلم هذه اللغة من قبل.

وفي إيطاليا فإنه عندما جاء إليها لم يكن له قط إلمام بأي نحو للغتها، ثم إنه في خلال التسعة أشهر التي صرفها في منسك مونتباولو لم يمكنه أيضًا تعلم الإيطالية والتكلم بها بإتقان إذ كان في تلك المدة على نحو ما مر بنا ملتزمًا حياة الخلوة في كهفه المنفرد عن الدير وذائبًا في الصلوات والأوقات، في حين لم يكن الرهبان المقيمون معه بذلك المنسك إلا إخوة غير متعلميين أصلاً.

والآية الأخرى التي دعم الله تعالى بها كرازة صفيه أنطونيوس، هي إمتداد صوته وبلوغه وقت الوعظ مسامع من لم يمكنه سمعه بشكل طبيعي لفرط إبتعاده عنه.

كان أول ميدان للكرازة خاضه الأب أنطونيوس في إيطاليا ومدنها ونواحيها وذلك عقب عيد الفصح لسنة 1222م، ومع كونه لم يلبث هناك أكثر من ستة أشهر، إلا أن الله تعالى أتى على يديه عجائب كثيرة جدًا، من رد الخطأة إلى التوبة، وإبرام الصلح بين الأهالي وزعمائهم، وهداية الهراطقة إلى الإيمان القويم.

كان الناس لا يتقاطرون فقط بالآلاف للاستماع إلى عظات الأب أنطونيوس، بل إن المدن المختلفة كانت تبعث إليه رسلها فتستدعيه إلى كنائسها ليعتلى منابرها واعظًا ومبشرًا، مغنيًا عقول المؤمنين بكلمة الله.

وفي سيرة العجائبي أنطونيوس البادواني نجد قصته مع مدينة “ريميني” الإيطالية التي قصدها لإرجاع الهراطقة الذين كانوا يملؤنها، غير أنهم إنصرفوا عن سماعه ولم يبق في الكنيسة التي يعظ بها سوى القليل من الجمهور، ومع فصاحته وقوة عمل الروح به، بدأ في تغيير النفوس، مما دعا الهراطقة إلى التآمر على قتله، أما قديسنا العجيب فلما علم بما إنطوت عليه نفوسهم من الشر، عكف فى غرفته بضعة أيام مثابرًا في الصلاة، طالبًا من الله تعالى، أن يرفع عن عيون هؤلاء الضلال، ليبادروا إلى سماع كلمته، فيتفهمون في عقائد الدين وينهجون نهجه.

كانت استجابة الرب معجزية، إذ أجرى على يديه معجزة، رواها كتاب سيرته بتفصيل واسع، ومضمونها أنه لما أضرب الهراطقة عن سماعه ذهب إلى شاطئ البحر وأمر الأسماك هناك باسم الرب أن تظهر على وجه الماء، ففعلت في مشهد عجيب، بالآلاف من جميع الأشكال والألوان، ارتفعت عن سطح الماء وأصطفت بطريقة عجيبة الصغير على الشاطئ مباشرة والمتوسط وراءها والأسماك الكبيرة من خلفها، كانت عظة أنطونيوس عن تاريخ هذه الخليقة المائية، وكيف أنها ذات مرة وجدت طعامًا للملك الأزلي قبل قيامته وبعدها، ولأجل ذلك سألها أنطونيوس أن تحمد وتبارك الخالق الذي منه حصلت على هذه المنح الفريدة التي لم يؤتها أي حيوانات أخرى.

كانت الأسماك تستجيب لصفي الله، فاغرة فاهها، مطاطأة رؤوسها، مبدية من الطاعة والإكرام لله ما هو ظاهر، ما دعا الأب أنطونيوس للشعور بالسرور، ثم هتف بصوت عال قائلاً: “تبارك الله فإن أسماك البحر والأنهار تكرم بارئها تكريمًا قصر عنه الأراتكيون “الهراطقة”، وإن هذه الخلائق التي لا إدراك لها عادت أسلس إنقيادًا من الناس الذين كفروا بالإيمان الإلهي”.

كان أهل ريمني لاسيما المانويون منهم مندهشون مما يرون، كانت الآية منقطعة النظير، وقد مست النعمة الإلهية قلوبهم فخروا على ركبهم يتوسلون إلى الأب أنطونيوس أن يبشرهم بكلمة الله المقدسة، ففعل القديس، وأخذ يبين لهم حقائق الإيمان كما تعلمها الكنيسة الكاثوليكية الأم، ببلاغة وغيرة غير متناهيين، حتى أتم الله على يديه هداية كل الهراطقة، الذين كانوا هناك وتعزيز أقدام المعتقد الكاثوليكي، وقد لاح للناظرين أن الأسماك فيما هي مستحسنة لكلام القديس كانت تستأذنه بالأنصراف من هنالك. فشوهدت على إثر إشارة منه تخفق بمجاديفها غاطسة في تلك الماء، في مشهد لم يتكرر بعد ذلك، دلالة على قداسة ولي الله أنطونيوس.


الفصل الثالث

الأب أنطونيوس يجري معجزتين في مدينة ريمني

في تلك الأزمنة كان من عادة الهراطقة المانويين تعيين مسؤولين لهم في المدن الأوربية الكبرى، وفي إيطاليا كان التركيز على ميلانو وريمني.

وفي مدينة ريمني كان “بنويلو” هو المسؤول عن المانويين، ولم يكن قد رأى معجزة مار أنطونيوس مع السمك السابق الإشارة إليها، ولذا فقد حاول أن يقلل من شأنها في عيون مريديه، وقد قدر له أن يختطف كالذئاب الخاطفة عددًا من أبناء الكنيسة الكاثوليكية، وأخذ يشيع بين الناس بعدم إمكانية حدوث معجزة من المعجزات مطلقًا.

ولما بلغ الأب أنطونيوس ما كان من أمر ذلك المهرطق وتشكيكه في المعجزة التي أتاها، ولما خاف القديس أنطونيوس من أن تذهب أتعابة الرسولية أدراج الرياح إن لم يستدرك هذا الخطر بل الضرر الأكبر لنفوس مؤمني ريمني، لذا فقد لجأ من ساعته إلى الله سبحانه مستمدًا نوره ومعونته، ثم عقد العزم على أن يلاقي “بنويلو” المشار إليه على أمل يرده إلى الإيمان الحق، أو أن يفحمه بالحجة والمعجزة حتى لا ينكر قدرات وأعمال الله التي يجريها على يد خدام كنيسته المقدسة. وإذ التقى أنطونيوس، بنويلو ودارت المناظرة بينهما انتهى لأن يقول المانوي الشهير للقديس أنطونيوس “إني لأقر بغزارة علمك وتوقد ذهنك ولست بمنكر ما لك من طول الباع في المناظرة الدينية، على أني لن أكفر بمذهبي فأنضم إلى إيمانك إلا إذا أرتني أُعجوبة في ذلك”.

هنا جاوبه مارأنطونيوس: “وما عساها تكون” .

فقال الهرطوقي: “أُعجوبة تبين وجود يسوع المسيح في القربان”.

فرد مارأنطونيوس: “إن لي ملء الثقة بمخلصي يسوع أن يمنحني لخلاص نفوسكم ما أنت تطلبه مني”.

قال الهرطوقي: “لكن هذه هي شروط المعجزة المقترحة عليك، إني أترك بغلتي ثلاثة أيام بلا أكل أو شرب، ثم أجئ بها وهي هكذا منقطعة عن الطعام والشراب إلى ساحة البلدة، ولا أقدم لها علفها إلا عندما تحضر أنت حاملاً القربان بيديك، فإذا سجدت البغلة للقربان، ولم تلتفت إلى الأكل أصير مسيحيًا كاثوليكيًا في الحال”.

رضى الأب أنطونيوس لوقته بما أشترطه عليه “بنويلو”، ثم عاد إلى حجرته حيث أعتكف هناك منقطعًا إلى الصلاة والصوم واللجوء إلى الله، كي يأتي على يديه العظائم التي تؤيد الإيمان الكاثوليكي القويم.

وكان إذا إنقضت الأيام الثلاثة برز هو من خلوته متعضدًا بقوة القدير العَّلي ومتيقناً بنيل النصرة على أعداء الكنيسة وأعداء الإيمان.

شرع أنطونيوس في إقامة الذبيحة الإلهية، وعندما جاءت ساعة توزيع الأسرار اللإلهية، لم يتناول كما العادة مباشرة، بل أخذ بيديه المقدستين قدوس القديسيين، فحمله بكل ورع وتقوى وصلاة باطنية، عابرًا بين الجموع الكاثوليكية الغفيرة، حتى وصل إلى الساحة المنشودة، حيث كان “بنويلو” ونعجته ومشجعيه من المانويين هناك.

في تلك اللحظة قاد الهرطوقي بغلته بيد، وقدم لها عليقتها باليد الأخرى، أما القديس أنطونيوس، فرفع في الوقت نفسه حامل القربان المقدس، وخاطب وهو واقف في مكانه بصوت جهوري البغلة المتوجعة، الجوعى، العطشى، بالقول: “إني باسم وجبروت خالقك الذي أنا حامله بيدي على الرغم من حقارتي وعدم استحقاقي، أمرك أن تقتربي منه مبدية له إمارات تكريمك وطاعتك كي يذعن إلى الحق هؤلاء الزائغون عنه فيعرفوا أن كل خليقة هي خاضعة لبارئها الإلهي، الذي ينحدر على مذابحنا بمجرد صوت الكاهن خادمة”.

لم يكد القديس أنطونيوس ينته من أمره العجيب هذا، إلا وأعرضت البغلة عن علفها واقتربت إليه، فطأطأت رأسها وركعت أمام القربان المقدس، ولبثت بهدوء على هذه الحالة، حتى عاد القديس أنطونيوس راجعًا مع سيده يسوع إلى الكنيسة. في تلك اللحظة ضج الحضور من المؤمنين مسبحين ومهللين العزة الإلهية، وأما “بنويلو” فكفر بهرطقته، وندم على ماضي سيرته، وإهتدى إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية، حيث عاش بورع وتقوى متشبثًا أبدًا بتعاليمها الإيمانية، ومات كما عاش منذ اهتدى ميتة مسيحية صالحة.

غير أن أتباع بنويلو المانويين، الذين كانوا قبل ارتداده إلى الإيمان الكاثوليكي، ينقادون إنقياد العمى لتعاليمه، ويركنون إلى مشوراته ونصائحه، ويتبعون مثاله في كل ما أوجب عليهم إتباعه، رفضوا بعد إهتدائه أن يكفروا بهرطقتهم ويعودوا إلى صحيح الدين، وفضلوا الظلمة على النور، والباطل والضلال على الحق والهدى.

والشاهد أنهم لم يكتفوا بذلك فحسب، بل حاولوا تدبير مكيدة لقتل قديسنا، فدعوه إلى مأدبة طعام، ووضعوا له السم في مأكولاتها، غير أن الأب أنطونيوس بإرشاد الأنوار الإلهية عرف فعلتهم الشنيعة، ولما أخذ يوبخهم ويقرعهم، بعض اللوم والتوبيخ، على فعلتهم الفظيعة، تندروا عليه بالقول: “كيف تخشى أن تأكل ما به سم، وفي الإنجيل عندكم مكتوب “وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم” (مرقس18:16). وزادو في الغرور والاستهزاء بالقول: “ليس ما فعلناه اغتيال لك، إنما إجلالاً وإعظامًا لإنجيلك”. وإذ سمع أنطونيوس رجل الله ما قالوه، رفع عينيه نحو السماء وقال” اللهم ربي وإلهي، أخْزِ أهل الكفر والعناد الذين يسخرون بكلمتك التي لن يشوبها خطأ”. ثم رشم أنطونيوس إشارة الصليب المقدس على الطعام فأكل منه. فلما رأى الهراطقة أن أنطونيوس لم يصيبه ضر أو أذى بعد أن تناول الطعام المسموم، شعروا بخزي وعار وتذللوا لمار أنطونيوس مستغفرين إياه مما فعلوا به، وللوقت كفروا بهرطقتهم، وأنضموا إلى بيعة الله والكنيسة المقدسة الكاثوليكية.

ومما لا شك فيه أنه بعد حادثتي “بنويلو”، وأتباعه، أصبحت ريمني مدينة مستنيرة بأنوار الإيمان المسيحي، وتشرق عليها معتقدات الكنيسة المقدسة، بعد أن كان كثيرين من سكانها يعيشون في ظل البدع المشؤومة، وفي هذا كان مار أنطونيوس يردد ما قاله أشعياء النبي “الشعب السالك في الظلمة رأى نورًا عظيمًا. الساكنون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (أشعياء 2:9).

الفصل الرابع

القديس فرنسيس يرسل الأب أنطونيوس إلى فرشلي

في ذكر سيرة صفي الله القديس أنطونيوس إن المعجزات التي قام بها في ريمني وأدت إلى توبة الخطاة والهراطقة، لم يكن يبغي منها سوى مجد الله تعالى، وقد كان يود على الدوام أن يبقى مجهولاً بعيدًأ عن طريق الشهرة، غير أن الرهبان إخوانه المقيمين في تلك المقاطعة لما سمعوا عن أعماله الرسولية، وانتصاره على الهراطقة وإفحامهم عند مناظراتهم، عقدوا النية على أن يقيموه معلمًا لهم، فكاشفوه في الأمر، وألحو عليه أن يجيب، أما مار أنطونيوس فكان جوابه عليهم هكذا: “إني لست كفوءًا لما تطلبون مني، وغير أهل لهذا الشرف الذي لا مطمع لمثلي به، فإن التعلم يجدر بي وحدي أنا لا أنتم الأشد فقرًا إليه”. على أنه وضع ذاته رهن إرادة الأب الساروفي مؤسس الرهبنة القديس فرنسيس الأسيزي، مما أضطر الرهبان إخوانه إلى الكتابة إلى الأب الساروفي وأخذ موافقته على ذلك النحو.

أما الأب الساروفي فرنسيس فبعد أن أعمل التفكير وأنعم التدبير فيما كتبوا إليه، فرأى أن يستجيب لطلبهم، فأمر الأب أنطونيوس بالذهاب إلى بلدة فرشلي بإيطاليا ليدرس اللاهوت السري، على يد عبقري عصره الأب توما، سليل جمعية “سنفكتور الباريسية”، الذي كان قد ترجم من اليونانية إلى اللاتينية التأليف الكريم الذي عنوانه “الطغمة السماوية” المنسوب إلى القديس ديونسيوس الأريوباغي. وكان قد أخذ في شرحه على أمهر وأذكى الشباب الأوربي لا سيما الإكليريكيين منهم. ولعل السبب الذي جعل القديس فرنسيس يتوجه على هذا النحو، رغم معرفته الوثيقة بالقديس أنطونيوس، هو إما لأن يزيد أنطونيوس رسوخًا في العلوم اللاهوتية، أو ليختبر طاعته وتواضعه لأخر مرة.

والشاهد أنه مهما كان من أمر القديس فرنسيس وغايته، فإن الأب أنطونيوس، والقديس العجائبي لم يأبَ إلا أن ينتظم في صفوف طلبة العلم إطاعة لرئيسه وكلفًا بالتواضع المسيحي، وهو رسول المدن الإيطالية، الواعظ المتبحر في العلوم، معلم الشعوب، مطرقة الهراطقة، اللاهوتي الراقي. ومن وقته كان نموذجًا للطائع والمتواضع، وتاجًا على هامة الفهامة والعلامة. سافر إذًا الأب أنطونيوس إلى فرشلي، امتثالاً لأمر رئيسه. ولم يمكث فيها طويلاً مهتمًا بدراسة اللاهوت السري حتى ظهر شأنه وفاق أقرانه جميعًا، وفي هذا أقر أستاذه “توما المشار إليه”، بأنه أقتبس مرارًا بعض فوائد لاهوتية من تلميذه هذا، لم يكن يستطيع تحصيلها من تلقاء ذاته. وأضاف “أن الأب أنطونيوس لم يع في صدره ما كان يعلم ويشرح على الطغمات السماوية فقط، بل خيل له أيضًا كأنه قد شاهدها عيانًا، لما كان عليه من صفاء العقل العجيب، ووفرة نور الحكمة الذي أضفاه الله عليه.

والثابت أن ما قاله شفاهة، أثبته مكتوب لاحقًا، ومنه ما يلي ” إنه (أي الأب أنطونيوس)  لنقاوة نفسه وتوقد ذهنه، قد رغب كل الرغبة في اللاهوت السري الذي يتعدى طور العقل البشري، وشرب شربا من ينبوعه إلى حد أن يسوغ أن يقال عنه  ما كتب عن يوحنا المعمدان: “كان هو السراج الموقد المنير” (يوحنا 35:5). فإنه بالحب كان متقدًا في باطنه، وبمثاله.

لم يقم الأب أنطونيوس في مدينة فرشلي سوى خمسة أشهر، حتى استدعاه الأب الطوباوي فرنسيس منها، آمِّرًا إياه بالانطلاق إلى مدينة بولونية لتدريس الرهبان إخوانه اللاهوت ومزاولة الكرازة فيها. وكان نص ما قاله القديس فرنسيس في التكليف كالتالي: “من الأخ فرنسيس إلى أخيه الأعز أنطونيوس السلام والبركة، ليسرني أن تشرح اللاهوت المقدس للأخوة (الرهبان)، لكن بشرط أن لا يخمد فيك ولا فيهم روح الصلاة المقدسة، طبقًا للقانون الذي نذرناه” … ما الذي يمكن للقارئ أن يفهمه من رسالة القديس فرنسيس هذه؟

يفهم أن القديس فرنسيس أقام صفي الله أنطونيوس، معلمًا عاما، ليس لبولونيا وحدها بل لسائر أديرة الرهبانية، إذ لم يذكر في التكليف مدينة بولونيا بعينها، وأنما أمره على وجه الإطلاق بتعليم الرهبان إخوانه. وهؤلاء لم يكونوا في تلك المدينة فقط أو في مملكة إيطاليا وحدها ولكن في غير بلاد وممالك أخرى أيضًا.

وبذلك أضحى الأب أنطونيوس أول الرهبان الذين عهد إليهم منشئ الرهبانية في التعليم رسميًا كما هو مثبت في التاريخ المقبول والتقليد المستمر لدى الرهبنة الفرنسيسكانية. ومما لا شك فيه أنه وإن كان القديس أنطونيوس لم يترك لنا مؤلفات بعينها، في تخصص ما من العلوم اللاهوتية، أو البشرية، كما فعل غيره من العلماء معاصريه من الرهبان الفرنسيسكان، فإن ذلك لا يؤخذ منه منطلق للقول بأن قديسنا كان أقصر باعًا من الأساتذة أقرانه. وإنما يستدل بأنه كان ساميًا علمًا وحكمة لا مما ذكرناه وأشرنا إليه فقط، بل من إنتصاراته مرارًا في المناظرات الدينية العلنية على علماء وزعماء الهراطقة، ورده إياهم إلى طريق الإيمان.

والمؤكد كذلك أن هذا لم يكن ليتهيأ له إتيانه من غير وفرة العلم والتضلع في أصول الفلسفة، والتعمق في اللاهوت، والإحاطة بالتاريخ، وسبر أغوار الكتاب المقدس.

كان أنطونيوس يتسلق سلم الكمال المسيحي، وبنفس القدر يعمل على تنفيذ وصية أبيه الساروفي مارفرنسيس، الموجبة عليه وعلى كل راهب طلب علم مداومة الحرص والتيقظ لحفظ روح العبادة والتقوى في مدة التعليم والتعلم.

أقام الأب أنطونيوس نحو عشرة أشهر في مدينة بولونيا، منقطعًا إلى التعليم والكرازة، وممارسًا معًا بتدقيق واجباته الرهبانية، ورياضاته الروحية، وقد أوعز إليه بالعودة ثانية إلى فرشلي لإقامة المواعظ في هذه البلدة أيام الصيام الأربعيني المقدس لسنة 1224م.

كان وصوله إلى تلك المدينة قد ملأ قلب أستاذه توما سرورًا، وقد تلقاه أسقفها “هوجور” وكبار القوم بمظاهر إلاكرام والإعظام، وكانوا يبالغون يومًا تلو الآخر في إعزازه وإجلاله، ولا سيما عند مشاهدتهم كنيسة القديس “أوزبيوس”، مكتظة باقدام المسيحيين المتكالبين فيها لسماع كلامه، وتحققهم من ثمار التقوى والعبادة التي كان يجنيها عموم الأهالي من درر عظاته.

وفي إشارة إلى تقبل الله تعالى أتعاب عبده أنطونيوس في هذه الرسالة الفرشلية، شاء عز وجل أن يصنع على يده معجزة كبيرة برده إلى الحياة شابًا ميتًا قد جئ به إلى الكنيسة لإقامة الصلاة عن نفسه بحسب روايات مثبتة للأب الفرنسيسكاني البارع “أنجلكو الفشنسي”.

الفصل الخامس

في سفر الأب أنطونيوس إلى فرنسا وإقامته في مونبلييه وتولوز

كانت  فرنسا في تلك الأوقات التي نتحدث عنها وفيها مليئة بالقلائل والإضطرابات سياسيًا وأدبيا، ولا سيما الجنوب، حيث إمتلأت بالبدع والأضاليل، وقد كانت هذه الأحوال مبعث ألم في نفس الأب الساروفي فرنسيس الأسيزي، وقد أراد تلافي ما تفاقم من أمر تلك الشرور، فأرسل إليها الأب أنطونيوس البادواني بصفته كارزًا لسكانها ومعلم لرهبانها.

وأما أنطونيوس فإذعانا منه لهذا الأمر، غادر فرشلي عقب عيد الفصح، متوجهًا إلى فرنسا، وكان في أثناء سفره إذا وطئت قدماه بلدة أو قرية طفق لوقته يملأ قلوب سكانها من كلام الله، فيرغبها بسحر لفظه في ترقي معارج الفضائل المسيحية، أو يرعبها بعظاته حتى تتخلص من قيود الرذائل وعبودية الخطيئة، وفي هذا صدق فيه ما جاء في سفر أعمال الرسل “فاجتاز يحسن إلى الناس … لأن الله كان معه” (أعمال 38:10 ).

وقد مضى به الطريق، متابعًا السير هو ورفقيه تارة متجاذبين أطراف الحديث في الروحيات، ومرة أخرى كل على حدة مشغلاً العقل والجنان في الإلهيات إلى أن بلغا مدينة مونبلييه.

في مونبلييه بدأ الأب أنطونيوس في تدريس اللاهوت، كما طلب إليه أمر الطاعة المقدسة، غير مهمل في الوقت الذي كان يخلو له بعد التعليم وقضاء واجباته في الدير، إلقاء العظات على المسيحيين والهراطقة، حتى أن كرازاته في تلك المدينة قد حققت فعلاً آمال أبيه الساروفي إلى حد أنه لم يغادر مدينة مونبلييه، إلا وقد عاد الإيمان يملا قلوب سكانها، والبدع والخلاعة تكاد تتمحي أو تتوارى عن الأنظار.

أضف إلى ذلك أنه أتى عملاً جليلاً، في تلك الفترة، ذلك أنه رغمًا عن تراكم أعماله وكثرة أتعابه، صنف هناك “كتاب العظات من خلال الترانيم”، وقد أمتلا بشبه مواعظ مختصرة، مليئة بشروحات غنيه للمزامير، تملأ روائحها الحكمة وتسر النفس المسيحية النقية التقية.

وفي كل ما صنع الأب أنطونيوس في مونبلييه لم يكن لديه كتب أو مناهج بلغة العصر يدرس أو يعظ فيها، بل كان جل إعتمادة على ذاكرته العجيبة التي أدخر فيها كنوز معارفه السابقة وقتما كان يتلقى العلوم في المدرسة ليس بعد.

وفي سيرة مارأنطونيوس، وما يتصل بهذا الكتاب الذي أتخذه قديسنا رفيقًا في خلواته، ومساعدًا في إعداد عظاته، قصة عجيبة، إذ كان أحد المبتدئين في الدير الذي يقطنه مار أنطونيوس قد طمح إليه ببصره، وكان قد سئم العيشة الرهبانية الكاملة فعزم على هجر الدير والرجوع إلى العالم.

على أنه كان قد عزم الحصول على كتاب مار أنطونيوس، فترقب         ذات يوم تخلف القديس عن حجرته، فدخلها وحمل الكتاب ثم فر هاربًا من الدير حتى إنتهى إلى جسر وكان الليل قد حل بتلك الناحية.

عندما علم الأب أنطونيوس بأمر مؤلفه العزيز، وسرقته، لجأ بثقة بنوية إلى ربه يسأله رد كتابه إليه، والذي كان له بمثابة المرجع الرئيسي لكرازته، وعوضه عن الاستعانة بالمؤلفات الكبري. لم يخيب الله تعالى طلب صفيه، وقد أهله الله سبحانه لأن يكون مستقبلاً وطوال الأجيال، ملاذًا يلون به في مستقبل الزمان جماهير محبيه ليجدوا ما فقدوه.

وعليه فعندما كان المبتدئ المشار إليه عابرًا للجسر، تراءى له رجل مهول النظر بيده سيف يتهدده به ويقول: “أرجع ادراجك فرد ما سلبته وإلا سقيتك كأس المنون لا محالة”. فزع ذلك المبتدئ، فزعًا شديدًا، ولم يهدأ روعه، ويبلغ الأمان والنجأة، إلا بوصوله إلى حجرة الأب أنطونيوس، حتى إذا دخلها، ركع على ركبته والدموع تملا مقلتيه، وأخذ في الاستغفار عن سوء فعله، وقد نال بجانب صفح مار أنطونيوس له ومسامحته إياه، نعمة خاصة من الله تعالى بطلبات صفيه، جعلت الشيطان الذي كان يوسوس له بترك الحالة الرهبانية، يتركه في الحال، ليكمل في الحياة الرهبانية ويعيش حتى الممات بسيرة طاهرة مقدسة وفي وقت إقامة الأب أنطونيوس في مدينة مونبلييه، اجترع معجزة أخرى، ففيما كان يعظ يوم عيد الفصح في كاتدرائية المدينة، تذكر ما كان يقتضي منه في تلك الساعة من أمر قد فرض عليه من قبل الطاعة. فقد كانت من عادة تلك الأديرة وفي أثناء القداس أن يرتل اثنين من الآباء الأعظم منزلة وقدرًا ترتيل “الهللويا” في الخورس.

في ذلك اليوم كان الأب أنطونيوس مختصًا بذلك الإمتياز، وقد ذهل من إقامة أب آخر ينوب عنه في ترتيلها، وفي الحال لجأ إلى الله عز وجل، ثم قطع عظته وغطس رأسه بقلنسوته، وأتكأ للحظات على المنبر، وفي غضون ذلك ظهرت آية الله العظيمة، إذ حضر هو عينه إذ ذاك خورس كنيسة ديره فرتل مع راهب آخر الهللويا إبان القداس الإحتفالي، وبعد أن أتم فرضه هذا من غير أن يبرح الوعظ، رفع قلنسوته عن رأسه، وأكمل عظته إلى النهاية.

هذه المعجزة أكدها شهود علمانيين ورهبان، بتواجد قديسنا في مكانيين مختلفيين في نفس الوقت، الأمر الذي جعل إكرامه في عيون مواطنيه ومعاصريه أمر واجب، وأظهر قبول الله تعالى لأتعابه الرسولية، حتى إذا إنتهت الأعياد الفصحية، أمره رؤساءه بالانطلاق إلى مدينة تولوز فقصدها في نهاية آيار “مايو” سنة 1225م.

كانت تولوز بالنسبة للهراطقة المانويين على نفس النحو الذي كانت عليه ريمني في إيطاليا، وقد كان الأب أنطونيوس عالم بحال تلك المدينة الفرنسية وحاجتها إلى إصلاح شئون آدبها وتقويم معتقداتها، لهذا بدأ منذ وصلها في شرح الإيمان وتثبيت المؤمنين من على منبر الكرازة والتعليم، مزودًا إياهم بصحيح المعتقد ومفندًا الآراء والبدع الواهية.

كان يوم أنطونيوس متصلاً ما بين مواعظه للمسيحيين في كنائس الله المقدسة لرد الخطاة إلى التوبة، وفي ذات الوقت يتحين الفرص للإلتقاء بأهل البدع ليهديهم إلى الإيمان الحقيقي. ولما كان كل إهتمامه خلاص النفوس وإرجاعها إلى الله، لم يكن يبالي بالمتاعب مهما كانت تحيق به أو من حوله، ولا بالأخطار الجسدية التي كان يصادفها إثر مناظراته مع الهراطقة، سرًا وعلانية.

وقد أضحى اسم الأب أنطونيوس مقرونًا بالبركة في أفواه كاثوليك تولوز لما عمله من اعتاق للنفوس من الضلال والرذائل، وما صنعه من مواجهات لافحام الهراطقة، وإرجاعهم إلى كنيسة الله الكاثوليكية، وبات اسمه مدعاة للرعب في قلوب هراطقتها، إلى حد أن أطلق عليه الخاصة والعامة لقب “مطرقة الهراطقة”، هذا فضلاً عن العجائب التي كان يصنعها الله تعالى على يده، ومنها معجزة القربان المقدس التي اشترط عليه فيها رجل هرطوقي اسمه “غويالد”، وهي في مجمل تفاصيلها كالتي صنعها من قبل مع “بنويلو” في بلدة ريمني.

على أنه لا يمكننا أن نتجاهل كذلك ما رواه بعض المؤرخين الأفاضل وهو ترائى مريم العذراء للأب أنطونيوس يوم بارامون عيد إنتقالها إلى السماء، ففي فرط تأملاته وصلاته للفرض الإلهي، وبينما هو متشاغل العقل بتلك التأملات والصلوات تراءت أم الله متلالئة بهاءً وسناء … فجعلته على مزيد من حقيقة إنتقالها إلى السماء بالنفس والجسد، وعهدت إليه في الكرازة بهذه القضية بين الشعوب المسيحية والرهبان إخوانه، لان ذاك الجسد الطاهر كان مسكنًا للإله الحي، وقد أضحى تابوتًا للقدس الإلهي كما كتب بعد الأب أنطونيوس نفسه مخصصًا لهذا الجسد عينه آية النبي والملك داؤد القائل: “قم يا رب إلى راحتك أنت وتابوت عزك” (المزمور 8:132).

الفصل السادس

في رئاسة الأب أنطونيوس على دير بلدة بوي

حدث في أيلول “سبتمبر” سنة 1225م أن تم تنصيب الأب أنطونيوس رئيسًا على دير للرهبنة الفرنسيسكانية في مدينة بوي.

لم يكن قديسنا الجليل يحب أن يكون رئيسًا، مفضلاً دومًا أن يكون مرؤسًا ومأمورًا لا آمرًا، لكنه دائمًا وأبدًا خاضع لأمر الطاعة المقدسة راضخًا لتدابيرها، وبهذا وحده قبل مهمته الجديدة.

في مسيرة الأب أنطونيوس وصل إلى بلدة تسمى “لوناة” وقد دخل كنيستها كعادته ليلقي عظاته على سكانها، غير أنه لضيقها من حيث المساحة، طلب إلى الجمع الانتقال إلى خارجها في ميدان للبلدة قريب من بحيرة، غير أن ضفادعها كانت تزعج الواعظ والسامعين بنقيقها. فما كان من الأب أنطونيوس إلا أن التفت إليها، راسمًا إشارة الصليب المقدس، فكفت في الحال عن صياحها، ثم بعد أن أنتهى من عظته أكمل سيره حتى وصل إلى مدينة “بوي” المشار إليها.

في مدة رئاسة الأب أنطونيوس على دير مدينة “بوي”، أجتهد أن يكون قدوة صالحة لمرؤوسيه، قدوة في التواضع والوداعة، في المحبة المسيحية الشاملة للجميع بدون استثناء.

كان الأب أنطونيوس يتمثل في حياته ورئاسته ما قاله ابن سيراخ: “إن جعلوك مدبرًا عليهم فلا تتكبر، بل كن بينهم كواحد منهم” (ابن سيراخ 1:32).

التزم الأب أنطونيوس كبقية أخوانه الرهبان بمزاولة الأعمال الجماعية، كحضور الكنيسة عند إقامة الشعائر الدينية والصلاة ولا سيما العقلية، وتلاوة الفرض المقدس، والرياضات الروحية. كان بينهم كواحد منهم في المأكل والمشرب والملبس والمسكن من غير أن يخص لذاته شيئًا فيستأثر به عن سائر إخوانه.

لم يكن الأب أنطونيوس فيما بينهم كأخ بين إخوة فقط، بل كان لهم أيضًا كأب رحوم جزيل الأهتمام والعناية بأولئك سعداء الحظ مرؤوسيه.

أهتم الأب أنطونيوس بأمور أخوانه الروحية، بدون أن يهمل قضاء حاجتهم الزمنية، فلم ير راهبًا حزينًا إلا وأخذ في مواساته، ولم يرد أحد قصده لأمر من الأمور، كما انه ما من مرة أعطى لراهب أمر طاعة، إلا بحب ووجهه ملؤه البِشّر، وعلى محياه علامات الرضا والسلام الباطني. كان الأب أنطونيوس مشددًا على نفسه، رفيقًا شفيقًا على غيره، ومع ذلك ما برح شديد السهر على صيانة قانون الرهبانية وسننها لا يعفي أحدًا من حفظها، إلا لعلة معقولة وسبب كاف. كان يبعث رهبانه ويستحثهم على العمل بموجب قانون الرهبانية، مدققًا في ذلك من خلال المثل والقدوة في حياته الخاصة.

على أن أهتمام الأب أنطونيوس وانصرافه إلى تقديس نفسه وخير أخوانه الرهبان، خيرهم الروحي والزمني، لم يكن لينسيه إخوانه المسيحيين العائشين وسط هذا العالم. كان في كنيسة ديره وفي كنائس البلدة، يغذي أرواحهم بكلمة الله في كل يوم أحد وعيد، وفي أيام غيرها أيضًا، ويسمع أعترافاتهم فيرشدهم إلى ما فيه رضى الله وصالح نفوسهم.

علم الأب أنطونيوس وهو في ديره أن سفير البابا الكاردينال دسنتنجلو قد دعا إلى عقد مجمع أقليمي في مدينة بورج تبدأ جلساته في الأول من تشرين الثاني “نوفمبر” لسنة 1225م، ولما كان قديسنا شديد الارتياح إلى كل ما يؤول إلى تقديس النفوس وخلاصها ويعلم حق العلم أن الرؤساء الكنسيين والكهنة إذا كانوا مزدانين بالصفات الطيبة والخصال الممدوحة، وفي مقدمتها طهر السيرة والعبادة المقدسة، فإن الشعب ينقاد لهذا المثال الصالح، ويحفظ روح الإيمان وحرارة العبادة. كما أن قديسنا كان يدرك كذلك أن ما عكس ذلك يعد وبالا وخطراً جسيمًا على الرعية، لا سيما إذا ساءت الآداب المسيحية والفضائل الكهنوتية، متذكرًا ومذكرًا بما قاله القديس غريغوريوس الكبير “إن سبب خراب الشعب هم الكهنة الأشرار”.

لهذه الأسباب عزم قديسنا على أن يشارك في ذلك المجمع ليقوم فيه خطيبًا، وليلفت نظر المشاركين فيه وعدد الأساقفة منهم كان قد بلغ المئة، إلى النظر بدقة في القضايا التي تطرح أمامهم، وبلورة قوانين وقرارات تدعو حاجة الاكليروس والشعب المسيحي إليها في تلك الأوقات.

لما وصل الأب أنطونيوس إلى بورج وقد علم أولئك الآباء بقدومه وبلغهم ما كان عليه أمره من نقاوة السيرة وسمو الحكمة، استبشروا به خيرًا، وأذنوا له بأن يعظ في مجمعهم، فألقى من توه عظة شائقة وقعت على أسماعهم وقلوبهم موقع القبول والاستحسان، فأثرت أي تأثير في نفس مطران مدينة بورج ذاتها “سمعان دوسولي”، ويبدو أن إرادة الله كانت في توجه الأب أنطونيوس إلى هناك لرد هذا المطران، فكان أنطونيوس يلتفت إليه بجرأة رسولية وغيرة إيمانية، ملقيًا على أسماعه شهادات الكتاب المقدس، وأقوال الآباء القديسين الداحضة لبعض اعتقاداته الفاسدة، والشاجبة لسيرته المشككة، ويرفقها بإنذارات الوعيد والتهديد، إلى أن نهض المطران بعد نهاية العظة وسار ناحية الأب أنطونيوس، طالبًا منه في الساعة عينها بتواضع وانسحاق قلب أن يسمع اعترافه فعرفه، ومنذ ذلك الحين، نهج مطران بورج نهجًا إيمانيًا قويمًا، وتاب عن سابق أعماله المذعومة التي كانت سبب شك بين زملائه ورعاياه. وسار سيرة مقدسة إلى منتهى حياته. والشاهد أن مؤرخي سيرة القديس أنطونيوس كانوا قد اعتبروا ما جرى في مدينة بورج لمطرانها معجزة لأن “ردك الخاطئ إلى محبة الفضيلة بواسطة الوعظ والصلاة. يعد معجزة أعظم من بعثك الموتى بالجسد، كما يعلم البابا والقديس غريغوريوس الكبير.

أما المعجزة الثانية التي شهد بها الآلاف من أهالي مدينة بورج فقد جرت يوم عيد، ففي ذلك النهار ولما لم تكن كنيسة المدينة تسع المؤمنين لفرط احتشادهم لسماع قديس الله، اضطروا إلى الخروج إلى ساحة المدينة، غير أنهم وفي فرحة استماعهم إلى عظة الأب أنطونيوس، إذ حدث أن أقتم وجه السماء، إمتلأت بالغيوم السوداء، منذرة ومحذرة من هطول الأمطار الغزيرة، فخاف الناس من ذلك وهموا بالرجوع إلى منازلهم، فلما رأى الأب أنطونيوس حالهم، أشار إليهم قائلاً: “يا أخوتي الزموا أماكنكم ولا تخافوا ولا تضطرب قلوبكم. اصغوا إلى كلمة الله فلا مكروه يحل بكم ولا نقطة من الماء تسقط عليكم. أما هم فلما كانوا يثقون ملء الثقة بواعظهم لم يرتابوا بحقيقة ما أنبأهم به، فلبثوا من ثم هادئين مطمئنين في مكانهم إلى إنتهاء العظة”.

وفيما هم عائدين إلى منازلهم استولى الانذهال والعجب على قلوبهم وعقولهم من فرط الأمطار والمياه من حولهم، وكيف أن قطرة واحدة لم تمس ثيابهم أو شعور رؤوسهم خلال عظة الأب أنطونيوس، وقد كانت تلك آية صنعها الله عز وجل على يد عبده لئلا يفقد فرصة العظة التي فيها يعمل على إرجاع المؤمنين بالتوبة والحق، وجذبهم إلى محبة فاديهم الإلهي.

بعد أن احتفل الأب أنطونيوس بعيد الفصح الجليل في مدينة بورج عاد ثانية إلى ديره في “بوي” ليمارس الصلوات وأعمال الإماته، ويعظ الشعب ويسمع الاعترافات، فيجني من ثمار النفوس الكثير.

والشاهد أن تلك الكرازة الأمينة لم تلق عند عدو البشر إلإ كل حقد، فعمل على عرقلة سبيل كرازته وملاشاة جزيل الخير الناجم عنها، فاحتال لذلك حيلة إليك تفصيلها: “بينما كان الأب أنطونيوس يعظ ذات يوم بغيرة متقدة فائقة العادة، دخل الشيطان الكنيسة في هيئة رسول قادم من بلد بعيد، فاندفع بين الشعب يسأل هذا وهذا بصوت جهوري عما إذا كانت إحدى السيدات حاضرة هناك ليسلمها رسالة فيها أخبار مقتل ابنها الذي كان متغربًا عنها. وإذ دلوه عليها أخذ يخبرها الأكاذيب عن موت ابنها، فلم يكن من السيدة إلا أن علا صوتها بالنحيب والصراخ، ولذلك لم يعد الحضور يعيرون واعظهم آذنًا صاغية، بل كانوا كلهم ينظرون إلى المرأة ويرثون لحالها.

أما الأب أنطونيوس فلما كان مزدانًا بروح النبؤة عالمًا خبيرًا بحيل الشيطان الرجيم، فقد رفع صوته قائلاً لها “إهدئى يا ابنتي، وكوني في تمام الاطمئنان، أن ابنك حي وعلى أحسن ما يرام، وأن هذا الرسول ما إلا شيطان أخزاه الله”. والثابت أنه ما أن فتح القديس أنطونيوس فاه بهذه الكلمات التي هتك بها ستر خداع إبليس ومكره، حتى غاب هذا من فوره، وتوارى عن أبصار الجمهور، ضاجًا ضجة هائلة، أعقبها دخان ورائحة كريهة.

وكان أن انتهز القديس تلك الفرصة المناسبة فجعل يتكلم عن حيل الشيطان ومكايده، منبها من يسمعونه إلى ما قاله هامة الرسول القديس بطرس: “اصحوا واسهروا، فان إبليس خصمكم كالأسد الزائر يجول ملتمسًا من يبتلعه” (1بطرس8:5). وبعد أن أطلع سامعيه على فخاخ العدو التي ينصبها لاقتناص النفوس، لم يغفل عن أن يبين لهم الوسائل الفعالة لردع ذاك العدو والألد وغلبته. وأقواها الثبات في الإيمان المقدس. ثم ممارسة الفضائل وخصوصًا التواضع والبساطة والوداعة والمحبة المسيحية.

وبمثل هذه الإرشادات الرسولية تهيأ للأب أنطونيوس أن يجعل سهام العدو تطيش بعيدًا، ويرد كيده إلى نحره.

الفصل السابع

في روح النبؤة السامي الذي ازدان به الأب أنطونيوس البادواني

من المواهب التي يهبها الروح القدس للنفوس البشرية موهبة النبؤة كما علمنا ذلك القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنتوس(1كو10:12)، وهي الموهبة التي يقول عنها القديس والمعلم توما الأكويني إنه “يتعلق بها الوقوف على مستقبل الحوادث والكشف عن مستوراتها فيه”.

والشاهد إنه إذا كنا قد عرفنا الكثير عن اطلاع الأب أنطونيوس على خفايا الزمان في بعض ماضيه وحاضره، فإننا نتساءل هل كان المستقبل أيضًا ينجلي لقديسنا الحبيب؟

حسبنا من الجواب ما رواه كبار مؤرخي حياته، وقد حدث أيام رئاسته في دير بلدة بوي القصة التالية:

“كان في هذه المدينة شاب من الذين يعملون في دوائر الحكومة، ومن أسف شديد كان منغمس في الملذات الحسية، وبعيدًا عن حياة النعمة، غير أن الأب أنطونيوس كان كلما لقيه في الطريق بادر إلى كشف رأسه ثم جثا على ركبتيه مسلمًا عليه بشكل طيب بكل لطف وتقدير، كان الشاب المشار إليه يعتبر ما يجري سذاجة من القديس لكن لاحقًا ظن أن الأب أنطونيوس يسخر منه وعزم على تجنبه في الطريق، غير أنه حدث ذات يوم أن مر الشاب نفسه بالأب أنطونيوس ولم يستطع تجنبه، وعندما بدأ الأب أنطونيوس في إبداء تحيته المعتادة، هاجمه الشاب وعنفه متهمًا إياه بالأستهزاء به، غير أن أنطونيوس أجابه بالقول “معاذ الله أيها الحبيب أن يكون قصدي التقليل من شرفك أو الاستهزاء بك، وإنما إكرامًا لك بعد أن كشف لي الله تعالى كيف أنك ستضحي بحياتك وتريق دمك في سبيل الإيمان ودفاعًا عن المسيحية، وهي نعمة الاستشهاد التي طالما سعيت أنا وراءها طويلاً ولكن بدون طائل، أما أنت فسوف تنالها ولن يحول دونها حائل. فمن أجل ذلك أيها الحبيب والسعيد الحظ قد أحللتك دائمًا محل الإكرام والإعظام، ولن أتوانى مدى الحياة عن إكرامك وإعظامك … هل تحققت نبؤة مارأنطونيوس؟

جرى هذا بالفعل، إذ قام أسقف مدينة بوي بترتيب زيارة حج للأراضي المقدسة في أورشليم وهناك جرت مناظرات بين الأسقف وغير المسيحيين من سكان البلاد، وقد أخذ الحماس الشاب المشار إليه بعد أن كانت حياته قد تغيرت وملأ الإيمان قلبه، ومضى في طريق الحج المقدس قاصدًا التكفير عن خطاياه الماضيه، وكان دفاعه عن الإيمان القويم سببًا لإلقاء القبض عليه وتعذيبه ومن ثم استشهاده على اسم المسيح، وقد روى من كانوا معه قصته عندما عادوا إلى مدينة بوي، وأشاروا إلى أن الشاب نفسه وفي لحظاته الأخيرة ذكرهم بنبؤة مار أنطونيوس بشأن استشهاده.

أما الرواية الثانية التي تثبت تمتع الأب أنطونيوس بروح النبؤة فهي جرت كالأتي: كان في مدينة بوي المذكورة امراة شريفة تقية قد دنا موعد وضعها، فابتهلت إلى الأب أنطونيوس وكان وقتها رئيسًا على تلك البلدة، كي يمدها بصلواته الفعالة فيؤتيها من لدن الله يسرًا في ولادتها. فأجاب القديس إلى طلبها، وبعد أن لجأ إلى ربه واستخار رحمته الإلهية على نيتها عاد فرحًا إليها فقال: “بشراك أيتها السيدة، فإن الله جل ثناؤه قد أوحى إلىَّ بأنك تلدين بسهولة وتضعين مولودًا ذكرًا يفرح له قلبك وتقر به عينك، حتى إذا نشأ وشب رغب في رهبانيتنا، فانتظم في سلكها، ثم نال بعد سنين طويلة إكليل الشهداء السعداء الذي كثيرًا ما تقت إليه ولم أوهل للفوز به”.

وقد حدث بالفعل أن المرأة المشار إليها قد ولدت ابنًا بلا عسر أو وجع البتة بخلاف ما كانت تعانيه في ولادتها السابقة. ثم أن ذاك الولد المبارك الذي دعى فيلبس، سرعان ما أنضم في مطلع حياته إلى الرهبنة الفرنسيسكانية، مقبلاً بنشاط على ممارسة الفضائل الرهبانية، منكبًا على دروسه الفلسفية واللاهوتية وقد بلغ من العلم مبلغًا طاهرًا وأضحى لأقرانه في طهر السيرة قدوة صالحة.

غير أن “فيلبس” كانت نفسه تشتاق لأن يبذل دمه عن إيمانه وللشهادة لمعلمه وفاديه يسوع المسيح، فكاشف رؤساءه بتلك الرغبة، فلم يستجيبوا في أول الأمر، غير أنه مع الحاحه عليهم، تيقنوا مشيئة الله في دعوته هذه فسمحوا له بالسفر إلى أورشليم والسكنى مع إخوانه الرهبان في ديرهم الواقع في مدينة أشدود، لخدمة المسيحين هناك.

غير أن الملك المنصور هاجم لاحقًا أشدود، وقد كان حاكم مصر في ذلك الوقت، وأحكم الحصار على أهلها، أما المسيحيين في البلدة فقد وضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما أما تغيير دينهم أما القتل.

عندما سمع الأب فيلبس ذلك صاح في الملك قائلاً خطبة عصماء يحفظها تاريخ الإيمان والشهادة المسيحية قال فيها: “أعلم أيها الملك أن لا وعدك يرغبنا، ولا وعيدك يرهبنا، إنما نحن نزدري بالموت ونحتسبه ربحًا إذا وافانا ونحن نقر باستحقاق ديننا ودفاعنا عن حقيقة عقيدتنا … ثم التفت إلى رفقته الأسرى فحرضهم مشجعًا هكذا “إني أخاطبكم بكلام رسول الأمم قائلاً: “اسهروا، أثبتوا في الإيمان، كونوا رجالاً، تشددوا، أذكروا يا أحبائي وتدبروا فاديكم، من أهلك نفسه من أجلي يخلصها. وكل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا به قدام أبي الذي في السماوات. ومن ينكرني قدام الناس أنكره أنا قدام أبي في السماوات، فلا يأخذكم إذن جزع وهلع من قبل ما سينكل بكم في ساعة من الزمان. بل ارفعوا أبصاركم نحو السماء لتتيقنوا أن ملائكة الله قائمون يعدون لكم أكاليل النصر والمجد في ملكوته الذي أدخله اليوم بنعيمه الإلهية مع ألف نفس منكم حسبما أوحى الرب سبحانه إليَ … وأضاف: فيا لحظكم أعزائي، يالسعادتكم … طوبى لكم إن ثبتت أقدامكم في هذه المجاهدة … هنيئًا لكم إذا برحتم هذه الدنيا المتدنية، فغسلتم حللكم بدم الحمل … ألا اثبتوا، إنني لمكرر عليكم كلام رسول الأمم بولس … اثبتوا في الإيمان. كونوا رجالاً تشددوا … لآن آلام هذا الدهر لا تقاس بالمجد المزمع أن يتجلى فينا.

والشاهد هنا إنه عندما سمع الملك المنصور هذا الجواب من الأب فيلبس، طار صوابه، وأعز لوقته أن تقطع أصابع يديه واحدة واحدة، فلم يتحرك عن إيمانه، فأمر بنزع جلده من رقبته إلى حقويه، مؤملا بهذا التعذيب إخماد غيرته الرسولية، لكن أحلامه تحطمت إذ لم يزل الأب فيلبس يخاطب جماعته كأنما لم يصبه ضرر ولا ألم أصلاً، فأمر الملك عند ذلك وهو ممتلئ غضبًا باقتلاع لسانه فاقتلعوه.

أما المفاجاه فأن الأب فيلبس حتى وإن كان فقد لسانه إلا أنه ما لبث يخاطب جمهور المؤمنين بحميمة وحماس وطلاقه وألفاظ واضحه بشكل أدهش كل من رآه وسمعوه، الأمر الذي جعل الملك المنصور يأمر غلمانه بقتل الأب فيلبس ومسيحي المدينة، هؤلاء الذين لقوا بفرح عظيم الموت لأجل اسم المسيح.

وفي هذا الفرح كان قديسنا أنطونيوس البادواني يكتب غير مرة “إن آلام الرسل والشهداء إذ كانت هائلة مرة، فمحبة الرب المسيح تجعلها مقبولة حلوة. وهذه المحبة هي التي تدعوهم إلى الإقدام عليها وتلقيها بحرص وتلذذ. ثم ليفرحوا بواسطتها معه مدى الأبد. ولما كان اليوم السابع من آذار “مارس” سنة 1289م ضحى شهداؤنا لفاديهم الإلهي كاتبين أسماؤهم بحروف من ذهب في سجل شهداء أمنا الكنيسة المقدسة.


الفصل الثامن

أنطونيوس وأتعابه الرسولية في مقاطعة ليموج

حدث  في شهر أيلول “سبتمبر” لسنة 1226م، أن نودي بعقد مجمع للرهبنة الفرنسيكانية في “أرل”، ووقع الاختيار على الأب أنطونيوس ليكون واعظًا في ذلك المجمع.

وقد حازت عظة الأب أنطونيوس في المجمع القبول والرضا لدى الرب فادينا والأب فرنسيس أبينا، وكم كان لها من حسن الوقع في نفوس من أسعدهم الحظ لسماع كلامه. وهذا ما يرويه لنا مفصلاً معلمنا الساروفي القديس بونافتنورا في سيرة القديس فرنسيس الكبير فيقول: “قد تراءى أيضًا بالجسد يوما ما الأب القديس فرنسيس لرهبانه في مجمعهم المنعقد في مدينة “أرل” بفرنسا، حيث كان الخطيب والواعظ اللامع معترف الله أنطونيوس العجائبي يخطب بإخوته في كتابه الصليب المقدس، وقد كانت الخطبة عن “يسوع الناصري ملك اليهود”.

في هذه اللحظات كان أحد الرهبان المسمى “أبلدس” وهو صاحب فضائل كثيرة، ملتفتا إلى باب المجمع فرأى بالهام من الله تعالى رؤية العين الأب الطوباوي فرنسيس مرتفعًا في الفضاء ويداه ممتدتان على شكل صليب يبارك بهما أولاده فشعر عند ذلك كل الإخوة بسرور هذا مقداره حتى لم يعد لأحد ريب البتة أن يكون أباهم القديس حاضراً فيما بينهم بالجسد.

ولما كان آباء المجمع على علم بمزايا الأب أنطونيوس ومناقبه الفريدة، وما آتاه الله من سمو الحكمة والنعمة، فضلاً عن معرفتهم بسابق أتعابه ومآثره في ذاك الأقليم حيث أسس هناك خمسة أديرة فقد أجمعت أصواتهم على إختياره حارسًا على مقاطعة ليموج المشتملة على هذه الأديار، فأذعن قديسنا لأوامر الآباء لكن غالب الظن أنه كان يردد ما قاله القديس والمعلم برنردس من أنه “بمقدار ما يعظم شأنك فاخفض لكل أحد وفي كل شيء جناحك”. وعليه لم يلبث إلا قليلاً حتى ودع إخوانه الرهبان فسافر قاصدًا ليموج مقر رئاسته.

لم يقم قديسنا في تلك المدينة إلا زهاء شهرين، ومع قصر تلك المدة فقد ذكرت في تاريخ المدينة ذكرًا لا يمحى من جراء المعجزات والمآثر المجيدة التي حدثت هناك عن يد الأب أنطونيوس، وقد كان من فرط إقبال أهالي البلدة على سماع عظات الأب أنطونيوس أن تتوقف حركة البيع والشراء وتفرغ المنازل من أصحابها، وتتوقف الأعمال، ويأتي الناس أفواجًا أفواجًا إلى الكنائس ويزدحمون في صحونها، ولفرط ازدحامهم كان القديس أنطونيوس يضطر مرارًا إلى الخروج إلى ظاهر المدينة أو إلى ساحة من ساحاتها، وقد أقتضى هذا أن ترافقه وتحدق به جماعات من الشباب المؤمنين، المحبين لقديسنا، ليردعوا تهافت الناس المتهافتين على الأب أنطونيوس للتبرك به.

وتأييدًا لصحة مواعظه وتعاليمه وتقبلاً لفائق أعماله وأتعابه، تعطف رب القوات على أن يرافقه في هذه المدة كما فعل معه قبلاً بالآيات والعجائب المتنوعة. وأشهرها تلك التي جرت مع أحد المبتدئين في الرهبانية واسمه بطرس.

كان هذا الشاب مأمل كثير من الآمال الطيبة، لما وجد فيه من الصفات الطيبة والأخلاق الحميدة، لكن الشيطان عدو كل خير وبر كان قد وسوس إليه وأغراه على ترك الرهبانية والرجوع إلى العالم. فعلم الأب أنطونيوس مما ألهمه الله تعالى بمكائد الشيطان، فدعا إليه ذاك المبتدئ بطرس، وبعد أن كشف الله ما وسوس به الشيطان في عقله، فتح بأصابعه فم المبتدئ ثم نفخ فيه وقال: “إليك يا بني روح القوة والثبات” فعند ذلك لم يلبث بطرس أن أغمى عليه، فخر من ساعته على قدمي القديس ولم يعد إليه وعيه حتى أنهضه القديس أنطونيوس من مكانه.

وفي حكم المؤكد أن بطرس قد عرضت له رؤيا أثناء إنخطافه عن حواسه، وقد بقيت سرًا إلى الأبد، إذ أن مار أنطونيوس نهره عن ذكرها أو إفشاء سرها أبدًا.

ومن تلك الساعة أنقشعت عنه غيوم التجارب الشيطانية فعاد إلى ما كان عليه من سابق الحالة فرحًا مستريحًا مصممًا على الاستمرار في دعوته السامية التي دعاه الله تعالى إليها، وهو لا يألو جهدًا في إتمام واجباته الرهبانية بنشاط وحرارة حتى استأثرت به رحمة الله تعالى.

والثابت أن أتعاب قديسنا ومآثره لم تكن في هذه المدة منحصرة في مدينة ليموج فقط، إنما طارت شهرته في كل أطراف ذلك الإقليم فكانت المدن القريبة من محل إقامته تبعث رسلها فتستدعيه إليها للكرازة، فيفرح سكانها فرحًا عظيمًا إذا أتيح لهم أن يأووه لبضعة أيام أو ساعات عندهم، ويعوا  فؤائد إرشاداته في أنفسهم.

من ذلك أن توجه إلى بلدة “سنجنيان” القريبة فلما وصلها أراد على عادته أن يعظ في أكبر كنائسها، لكن لشدة الزحام وإقبال المؤمنين على سماع العظة، خرج إلى أحد ساحات البلدة، حيث نصب له منبر لإلقاء كلمة الله من عليه، وقد جلس بجواره من الرتب الكهنوتية، وأعيان البلدة.

غير أنه قبل أن يبدأ في عظته علم بإرشاد الروح القدس، ما كان الشيطان يدبره حتى يزعج المؤمنين، ويشتت انتباههم من خلال تحطم المنبر الذي يعظ من فوقه ومن معه من الضيوف. غير أن الأب أنطونيوس وبنعمة الله استطاع أن يحول تجربة العدو الشرير إلى خير للمؤمنين، إذ ذاك رغم تحطم المنبر محدثًا ضجيجًا مخيفًا، إلا أن أحدًا من الجالسين عليه لم يصب بأي أذى أو مكروه، وقد استخدم مار أنطونيوس ما جرى لتحريض المؤمنين على التيقظ لمكائد عدوهم الألد إبليس، والسعي دومًا في أعمال التقوى والبر التي بها وحدها يقوم خيرهم الحقيقي الأبدي.

وفي هذه المدة اجترح القديس أنطونيوس آيتين أخريين، أما أولاهما فإنه بينما كان الأب أنطونيوس يعظ في يوم من الأيام إذ أقبل رجل مجنون فجعل يطوف ويتنقل من موضع إلى آخر وهو يتحدث بصوت جهور ومضطرب حتى أزعج الواعظ والسامعين جميعًا. عندما أومأ أليه الأب أنطونيوس بإلتزام السكون والهدوء، فلم يفعل، بل اقترب من قديسنا المبارك، وطلب أن يناوله الحبل الفرنسيسكاني الذي يتمنطق به، فبسط له طرفه وإذ لمسه المجنون وقبله إرتد في الحال إلى رشده، سليم العقل صحيحه.

فيما القصة الثانية، إذ رغبت إمرأة في أن تذهب لسماع موعظة الأب أنطونيوس، ولما لم يأذن لها زوجها بذلك صعدت إلى أعلى حجرة في دارها، ثم وقفت في نافذة مصوبة طرفها إلى المكان الذي قام فيه الأب أنطونيوس واعظًا، وقد كان بعيدًا على مسافة ثلثي الساعة من منزلها. غير أنها وفيما هي هناك واقفة لم تشعر إلا وقد بلغ صوت الواعظ أذنيها، فتعجبت من أمرها وأنذهلت وما كادت تصدق ذاتها، لكنها لبثت مع هذا مصغية في موضعها تبتغي امتحان ما يعرض لها، ولفرط العجب كان صوت الأب أنطونيوس وعظته يصلان إلى مسامعها.

ذهلت المرأه وسارعت بدعوة زوجها للاستماع معها، غير أنه سخر منها، لكن تحت الإلحاح صعد، ومن فرط الإندهاش استمع معها إلى عظة الأب أنطونيوس، وحتى يدفعا الشك بعيدًا سأل كلاهما من سمعوا تلك العظة، فعلما وتحققا أن ما قاله القديس فيها كان نفس الكلام الذي سمعاه بآذانهما من نافذة دارهما. ومن ذاك اليوم عدل الرجل عن منع امرأته من المضي إلى مواعظ الأب أنطونيوس، ورغب خلافًا لسابق أمره في أن يسمعها هو أيضًا كل مرة ويجتني فؤائدها الغزيرة.

الفصل التاسع

في طهارة الأب أنطونيوس الملائكية وأعماله في فرنسا

يقول الروح القدس على لسان ابن سيراخ “النفس العفيفة لا قيمة توازيها” (ابن سيراخ 20:26)، ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إن قلنا أن ما من أحد خبر هذه الآية الإلهية الكريمة مثل أنطونيوس الذي هجر العالم واحتمى في جدار الرهبنة الحصينة للحفاظ على كنز الطهارة الثمين، ذلك الكنز الذي يخبرنا عنه معلمنا بولس الرسول “بأنه محفوظ في آنية خزفية”  (2 كور 7:4)، على أنه كذلك لم يغفل وهو راهب عن التمسك بالوسائل الفعالة صونًا لهذه الفضيلة الملائكية، وأخصها على ما علم القديس بونافتورا بقوله: “الابتعاد عن النساء، وتجنب محادثتهن التي لا طائل منها، والتماس الملاذ منها، ومنع النفس عن الإفراط في الأكل والشرب، وضبط الحواس الخارجية والباطنية، ونبذ البطالة التي هي باب رحب لكل الرذائل ولا سيما الجسدية، والمثابرة على الصلاة التي بها يؤتي الإنسان معونة كبرى لمقاومة التجارب بأجمعها”.

هذه الفضيلة السامية فضيلة الطهارة تنبه لها الأب أنطونيوس وطبق عليها أفكاره وأقواله وأفعاله حتى بلغ بنعمة من الله فريدة أسمى درجة من العفة والطهارة كما تبين لنا من هذه القصة: “ففيما كان قديسنا متغيبًا أحد الأيام عن مركز رئاسته لمزاولة مهام وظيفته الرسولية عرج على دير غير منتم إلى الرهبانية الفرنسيسكانية، وفيما أخذ قسطًا من الراحة، قصده على أنفراد راهب من ذلك الدير فكشف له ضميره بشأن تجربة شديدة مزمنة مستمرة، ضد الطهارة المقدسة، لم تكن تفارقه بالرغم من كل ما مارس من أفعال الإماته، ومباشرة الصلوات، والتشتيت بالتقوى لاستئصالها، وبعد إذ بثه ذلك كله سأله ببالغ التواضع أن يلبسه قميصه، فرق القديس لحالة ذاك الراهب وبدون تردد في الأجابة إلى طلبه نزع الشعار عن جسده الطاهر فدفعه إليه، فلبسه الراهب وللوقت تركته التجربة وتلاشت تلك الأزمة الحسية في الحال.

ولهذا فإن الذين رسموا صورة القديس أنطونيوس وفي يده سوسنة بيضاء رمزًا إلى نقاوته الفائقة قد فعلوا حسنًا وصدقًا، وقد جرت العادة منذ إنتقاله للسماء أن ترسم صورته، ويحاط مزاره بالسوسن الأبيض في مدينة بادوا، بجانب لوحة مكتوب عليها هذه الأية من نشيد الأنشاد “حبيبي يرعى بين السوسن”.

وعليه فإن كانت هذه الفضيلة فيما بين كثرة فضائله السامية تعد بإجماع رأي العالم المسيحي ميزته الخاصة، فيستنتج من ذلك أن طهارته كانت فوق كل وصف فائقة نقية. ملائكية لا بشرية. ومن ثم كما أنه بين الرسل … قد أمس يوحنا الإنجيلي الحبيب لسيدنا يسوع المسيح لأجل ميزته الفريدة، كما كتب بذلك القديس إيرونيموس، ميزة العفة التي أهلته لأن يوصيه المسيح عروس الأبكار بوالدته البكر. كذلك شأن قديسنا الذي لم يزدان بالطهارة فقط بل أضحى بهذا المقدار كاملاً فيها حتى استحق من الله جل ثناؤه اشراك غيره فيها بمجرد لمس ثيابه كما مر بنا في المعجزة السابقة.

في هذه المرة سعى قديسنا في إنشاء دير في بلدة  “بريف” الفرنسية، يصلح جدًا لحسن موقعه للخلوة والرياضات الروحية. ولذلك قد أحبه وآثره على غيره من الأديرة الفرنسية، وإليه لا بل إلى مغارة ليست ببعيدة عنه كان يأوى حينا بعد حين لأيام قلائل يمضيها مبتعدًا عن كل ضوضاء عالمية، منقطعًا فقط إلى الصلوات السامية والتأملات المستطيلة، وممارسًا للاصوام وأفعال الإماتة الشاقة تشبهًا بمعلمه الإلهي الذي أيام كرازته “كان يعتزل في القفار ويصلي”.

وأما كم كان لعمله هذا من الرضى والقبول عند ربنا سبحانه فيتضح من العجائب التي صنعها عز وعلا عن يديه مدة إقامته بتلك البلدة ومنها ما يلي:

أعلم الأب أنطونيوس ذات يوم أنه ليس في الدير شئ يقتات به الرهبان في يومهم ذلك. فبعث إلى إحدى السيدات التقيات سألها أن تجود عليهم بشئ من البقول لغذائهم، فرقت هي لضنك حالتهم، فدعت في الوقت نفسه جاريتها وأمرتها بقطف شئ من خضروات بستانها فحملتها إلى الأب أنطونيوس غير مبالية بالمطر المنهمر وقتئذ مدرارًا.

والمثير أنه مند خرجت من المنزل ومرورا بالحقول ووصولاً إلى الدير ثم عودتها لمنزل سيدتها لم تبللها قطرة مطر، الأمر الذي أذهل الخادمة والسيدة وكل من أحاط به علمًا. وقد كان من شأن تلك الأعجوبة استمالة عموم الأهالي كي يبالغوا في إكرام أولئك الرهبان ويبذلوا ما في استطاعتهم قياما بأودهم وقضاءً لجميع حاجاتهم. وأما ابن تلك السيدة المحسنة الذي سيم فيما بعد كاهنًا وصار قانونيًا لكنيسة الأب لاونردس فكثيرًا ما كان يلهج أمام خلانه بهذه المعجزة التي تلقى خبرها من والدته نفسها.

وفي يوم آخر عند الغروب بعد أن رتل الرهبان صلاة الستار، أبصروا لدى رجوعهم إلى صوامعهم رجالاً لم يكونوا يعرفونهم منكبين على إتلاف مزرعة لرجل صديق لهم وأحد المحسنين إلى ديرهم. فتأسفوا جميعًا لذلك. وأقبلوا إلى الأب أنطونيوس فأخبروه بما رأوا، أما هو فأجاب اهدأوا. اهدأوا بالروح، إخواني وعودوا إلى الصلاة. فإن الرجال الذين رأيتموهم إن هم إلا الأبالسة الذين لا استطاعة لهم بإتلاف شئ من حقل رجلنا. وإنما جل قصدهم الحيلة تشتيت أفكاركم في الصلاة ليس غير. فلما كان الصباح تطلعوا إلى المزرعة المومئ إليها فاختبروا بأعينهم حقيقة كلام القديس رئيسهم وتعلموا منه وجوب الحذر الدائم من حيل عدوهم إبليس وأحاييله الجهنمية.

ومن ذاك الذي جرى بشفاعة الأب أنطونيوس، أن امراة ذات يوم أرادت الأستماع إلى عظة الأب أنطونيوس، فتركت في المهد ابنها وانطلقت إلى الكنيسة حيث يعظ قديسنا، وبعد أن سمعت عظته عادت إلى بيتها لتجد طفلها قد مات مختنقًا. ففاضت عند ذلك دموعها وأضرم قلبها، وبعد ان تأملت طفلها ساعة بحزن ووجع، خطر لها أن تذهب إلى الأب أنطونيوس فتعلمه بما ألم بها من كارثة، وقد كان سبب تغيبها عن بيتها لسماع عظته. فقامت من ساعتها وانطلقت إلى الأب أنطونيوس وهي ترجو بل تثق أكبر ثقة أن تلقى عنده فرجًا في مصيبتها.

هناك قصت عليه قصتها بأكملها، حتى إذ سمع القديس حديثها الموجع وأعظم خطبها، لجأ بحرارة الروح إلى مراحم ربه، فاستعان من جودته الإلهية الحياة لطفلها، وهو يقول لها ما قاله مخلصنا الصالح وسيدنا يسوع المسيح إلى ذاك الرئيس: “امض فان ابنك حي” (يوحنا 50:4). فاتكلت هي على كلام القديس وعادت إلى دارها فعاينت فقيدها حيًا صحيحًا فرحًا.

ويحاكي ذلك على وجه ما حدث لامرأة أخرى كانت قد وضعت على النار مرجلاً كبيرًا مملوءًا وذهبت تسمع عظة الأب أنطونيوس، وقد تركت في الدار ولدها الصغير، من غير أن تفطن لخطر دنوه من ذاك المرجل وسقوطه فيه. فلما رجعت إلى دارها تفقدت ولدها فإذا هو واقع في الماء المغلي، فانتشلته ورأته على غير أذي أو مكروه. وتلك ولاريب كانت علامة من مراحم ربنا وسبحانه الذي تدارك بها تلك المرأة لاستقامة نيتها ونشاط روحها ومكافأة أيضًا لرغبتها في سماع كلمة تبارك وتعالى التي كان عبده أنطونيوس يغذي بها نفوس المسيحين عباده.

والمؤكد أن الفترة التي قضاها القديس أنطونيوس في فرنسا والتي لم تزد عن عامين ونص عام، كانت كفيلة بانزاله في نفوس الفرنسيين منزلة عظيمة مقترنة بتمجيد قدرة ربنا يسوع المسيح وعنايته الإلهية، وفرصة لإصلاح سلوكهم وتقويم اعوجاجهم الروحي والجسدي، ولذلك كان من الطبيعي أن يطلقوا عليه أوصاف القديس السامي المتلالئ بفضائل الإيمان، والمحبة، والغيرة، وثبات الجنان والتواضع والتوبة، وقد رأوا فيه رسولاً في الكرازة وهاديًا للضالين عن سواء سبيل الإيمان أو الفضيلة.

ولا عجب والحالة هذه في أن فرنسا حفظت بوفاء ولا تزال حتى اليوم ذكرى القديس أنطونيوس البادواني، الذي كان بالنسبة إليها رسول وهادئ يترك بها بركة روحية تاريخية، ولن يستطيع الزمن بمروره أن يمحو آثارها.

وكان بعد أن أنتهت رسالته في فرنسا، أن استخدمت العناية الإلهية الطاعة المقدسة عبر الرؤساء لأن يعود القديس أنطونيوس إلى إيطاليا مرة جديدة.

الفصل العاشر

الأب أنطونيوس يغادر فرنسا إلى صقليه ومعجزاته هناك

في أواخر عام 1226 وردت رسالة من الأب إلياس الكرتوي نائب الرهبانية العام على كل الرؤساء الإقليميين، ينبئهم فيها بانتقال الأب الساروفي فرنسيس الأسيزي إلى حضن الآب، ويعلمهم في الوقت نفسه بعقد مجمع عام أسيزي تفتتح جلساته في عيد العنصرة لسنة 1227 لانتخاب خلف لذلك الأب المستريح بالرب الكلي القداسة والطوبي.

فلما تلقى الأب أنطونيوس تلك الرسالة أخذ يعد السفر إلى إيطاليا ليشهد في حينه المجمع المزمع التئامه، فاستصحب أحد الإخوة الرهبان وسار معه في، كان ذلك في كانون الثاني “يناير” سنة 1227، قاصدان التوجه إلى مرسيليا كأول ميناء لسفرهما بحرًا.

في أثناء مسيرهما كان الأب أنطونيوس يحرص كل الحرص على وقته الثمين فيأخذ ساعة مع رفيق دربه في الأحاديث الروحية النافعة، وأخرى ينقطع عنها ليتلو معه بعض صلوات وتسابيح تقوية خاشعة، وحينا يبتعد عنه قليلاً فيجمع عقله وينطلق في التأملات المقدسة الناجعة، وفي سفره هذا كما في بقية أسفاره برًأ لم يكن قط يستخدم دابة ليمتطيها ولو لساعة واحدة. وإنما أعتاد أن يجوب البلاد راجلاً دائمًا حاذيًا في ذلك حذو الرب يسوع المسيح ورسله الأطهار، ومقتفيًا آثار أبيه فرنسيس البار.

وإذ وصل هو ورفيقه إلى مرسيليا لم ينتظر طويلاً حتى لقيا مركبًا يحملهما إلى إيطاليا، غير أنه بعد أن أقلع بهما من ذاك المرفأ عصفت بهم رياح قوية غيرت اتجاه سفرهما فدفعتهما إلى جزيرة صقلية. وكانت جزيرة صقلية ميدانًا لحروب متوالية لأسر شهيرة، تدعى كل منها حق السيادة عليها وجعلها تحت مطلق سؤددها وسلطانها، كما كانت الأخلاق والآداب المسيحية غائبة عنها لاستسلام قومها وإمبراطورها فردريك إلى غفلة العيش وملاهي الدنيا وملاذها، وقد كان مولعًا باقتفاء آثار الملوك غير المسيحيين والجري على عاداتهم، ولذلك أمسى  العدو الوافر من مستشاريه ومقربيه من جماعتهم. وقد وصل بالمشورة الرديئة لهؤلاء أن دفعوه لمحاربة أمه الكنيسة المقدسة ورأسها المنظور البابا غريغوريوس التاسع.

كانت الإرادة الإلهية هي التي دفعت الرياح لأن تلقي بسفينة الأب أنطونيوس إلى جزيرة صقلية، وقد كان قديسنا لا يبارح ذهنه ما قاله القديس غريغوريوس الكبير ذات مرة: “لا ضحية أوفر قبولاً لدى الله من الغيرة على النفوس”.

ولهذا فقد شرع منذ وصوله إلى هناك في إلقاء المواعظ وسماع الاعترافات متنقلاً من بلدة إلى أخرى لمزاولة هذه المهمة الروحية، من غير أن يبالي بالأتعاب والمشقات المتواصلة ليلاً ونهارًا لخلاص النفوس المشتراة بدم ابن الله الفائق القيمة، وإن كانت قواه الصحية قد تأثرت في نهاية الأمر إلا أن الله تعالى كلل رسالته بنجاح فائق إذ قدر له أن ينشئ أربع أديرة للرهبنة الفرنسيسكانية في أربع مدن مختلفة بالجزيرة، وكان الله قد استخدم العائدين إلى عمق الإيمان والروحانية المسيحية لتحمل نفقاتها الباهظة.

ومن بين تلك المدن التي بنى فيها الأب أنطونيوس ديرًا، تأتي مدينة “باتي”، التي عظم فيها شأن قديسنا الحبيب، وأضحت شهرته وحكمته وفضائله السامية كقذى بل خشبة في أعين الحساد، وهناك قصة تروى عن أحد أعيان المدينة كارهي الإيمان المسيحي، والحاقدين على قداسة أنطونيوس وقد دعا لوليمة في منزله يوم الجمعة، حيث يمتنع المسيحيون في ذلك اليوم عن أكل اللحوم، وقد كان مضمرًا سوء النية للأب أنطونيوس، غير أن قديسنا أدرك بإرشاد الروح القدس ما يرتب له ولهذا رفع يده وبارك وأكل بلا نفور أو علامة لمضيفه المكار.

وقد حاول هذا الحاسد أن يقيم الدنيا ويقعدها على قديسنا فلجأ إلى أسقف المدينة شاكيًا كيف يأكل راهب لحوم يوم الجمعة، ولما استاء الأسقف دعا الأب أنطونيوس الذي أنكر على الفور هذه التهمة وقال: أنا لم أكل عنده إلا الأسماك ولا ديكًا أو شيئًا من المأكولات الممنوعة طقسيًا. وأضاف: “وعلى كل فيأت بفضلات ما أكلته فيعرف منها إن كان كلامي صدق أو كذب”.

وقد رضي الخصم فرحًا مسرورًا بهذا الاشتراط، وقد خاله أعظم حجه لإفحام القديس وخذلاته، لكن الشقي لم يفطن إلى أن المكر يحيق عاجلاً أو آجلاً بصاحبه، وعليه لما تقدم فأبرز تلك الفضلات عاين هو والأسقف وكل من كان حاضرًا هنالك شوك السمك وفقار سمكة، لا عظام ديك أو طير غيره من الطيور. وعندها نكس رأسه خجلاً واستخذاء في حين هتف الأسقف بالشكر لله تعالى الذي درأ تلك الشبهة عن عبده أنطونيوس مؤيًدا حسن صنعه وتصرفه وقداسته بمعجزة كذا باهرة كالتي جرت بحضرته.

ومن بين ما يروى عن عجائب القديس أنطونيوس في صقلية، ما أورد الأب “بونافنتورا أماديو” في مؤلفه الذي نشره في مدينة نابولي سنة 1743م، ذلك أن رئيس دير مدينة “مسينة” كان قد أضطر للتغيب عن ديره أثناء الصوم الكبير ولذلك أقام مقامه الأب أنطونيوس، وفي هذه الفترة فكر قديسنا في تلافي أمر لطالما كان يسبب مشقه وعناء لرهبان الدير لخلو ديرهم من صهريج أو بئر ماء، فكانوا يخرجون كل يوم إلى عين بعيدة المسافة يملأون منها أوانيهم ويرجعون بها حاملينها على ظهورهم … فتداركًا لهذه الحالة الشاقة شمر الأب أنطونيوس عن ساعد الهمة لحفر بئر تكفل بنفقاتها بعض المحسنين الكرام وقد أسعده الحظ بوجود ماء غزير زلال قد وجد عجيبًا لشفاء الأسقام.

غير أن رئيس الدير عندما عاد وبدلاً عن أن يثني على صنيعة قديسنا ومآثره، أخذ يستنكره ويؤنبه بل ويلومه على ما صنعه قائلاً له: “إن النفقات التي ذهبت في شأن تلك البئر إنما هي من الأمور المنافية لفقرنا الفرنسيسكاني، فضلاً عن أنك بصنيعك هذا قد تسببت في ضياع فرصة إماتة كان الرهبان يقومون بها عند تحصيل مائهم بمجرد كدهم”. ثم كان أن أوقع عليه قانونًا عقابيًا شديدًا، تمثل في تحديد إقامته بضعة أيام في الدير، وجلد ذاته بمرأى من سائر الرهبان إخوانه.

والشاهد أنه يصعب على المرء بتفكير عصورنا الحالية، أن يتقبل فكرة خضوع أنطونيوس، الأب العلامة والواعظ الشهير لمثل هذا القانون، وقد كان له أن يشق عصا الطاعة المقدسة لا سيما وإنه لم يرتكب جرمًا، أو أن يرفع مظلمة إلى الرئيس العام أو ما نحو ذلك … لكن تصرف أنطونيوس يوضح لنا طريق القداسة الحقيقية.

أذعن الأب أنطونيوس بكل تواضع لما وقع عليه من قصاص لم يكن يستحقه، فأتمه فرحًا بالروح وشكرًا لله المتيح له مثل هذه الفرصة للاقتداء بأبيه الحبيب، سيدنا وفادينا الإلهي يسوع المسيح، الذي مع كونه بريئًا من كل ذنب وخطيئه فقد آثر تحمل عذابات مبرحة ومميتة ومستفظعة حبًا ببني البشر وتخليها لهم. فلما شاهد رئيس الدير خضوع القديس أنطونيوس لهذا القصاص وقبوله له بلا تذمر بل بكل تواضع تأكد مقدار عمق الفضيلة الراسخة في روح أنطونيوس وأخذ يزيد له الاحترام وأصبح يعامله معاملة حسنة ثم كان أن ابتعث لاحقًا ليؤسس ديرًا جديدًا في مدينة “شفلو” المجاورة وهناك جرت على يديه معجزات وعجائب وآيات كثيرة.

على أن المعجزة الأكبر التي صنعها قديسنا الحبيب في صقلية تمثلت في أنه لما كان الأب أنطونيوس واقفًا على أشغال دير بلدة “لنتيني” وقع حجر ضخم على عامل هشمه تهشيمًا وجرعه كأس المنية في الحال.

فأسرع إليه القديس وخاطبه هكذا: “إني آمرك باسم الرب يسوع وباستحقاقات عبده فرنسيس الأسيزي أن تعود إلى الحياة”. فنهض ذاك الرجل على الفور حيًا معافى وجعل يتعاطى عمله كأول أمره مع سائر العمال أصحابه.

ولا تقتصر المعجزات التي أجترحها الأب أنطونيوس في صقلية على العدد القليل الذي تقدم، ولكنها أمثلة قليلة من بحر واسع لآيات الله على يدي صفيه أنطونيوس البادواني.

الفصل الحادي عشر

في حضور الأب أنطونيوس مجمع أسيزي

في أعقاب عيد الفصح المجيد من عام 1227م، وكان للأب أنطونيوس من العمر اثنين وثلاثين عامًا، أن توجه من صقلية إلى بلدة أسيزي فبلغها قبل أيام قلائل من عيد العنصرة وهو اليوم المعين لالتئام المجمع المشار إليه في الفصل السابق.

في هذا المجمع تم اختيار الأب “يوحنا بارنتي” وبالاجماع رئيسًا عاما على الرهبانية، واختاروا الأب فرنسيس رئيسًا على إقليم متسع الأطراف ألا وهو إقليم “إميليا” الشامل وقتها عدة مقاطعات أوربية بحسب التقسيم الجغرافي للقارة الأوربية في ذلك الوقت.

لم يكن أنطونيوس يجهل أهمية منصبه الجديد، فبادر إلى زيارة الأديرة الواقعة في إقليمه وتفقد شئون رهبانه. وفي زيارته كان شغله الشاغل أمران لا ثالث لهما، الأول هو تفقد الرهبان والبحث في تصرفاتهم وأحوالهم، فكان إذا رأى واحد منهم معوجًا سلوكًا، رئيسًا كان أم مرؤوسًا، أقبل يؤدبه بالغيرة المعتدلة والمحبة الأبوية إفاقة لدرء سيرته. أو إذا عهده فاترًا متوانيًا في واجباته الروحية إهتم بتنبيهه وإشعال نار العبادة في فؤاده بأقواله وأمثاله.

أما بعكس ذلك فإن شاهد أحدهم جادًا في قضاء فروضه أخذًا في ترقي سلم الكمال الساروفي، فاض قلبه من جراء ذلك سرورًا فأبدى له دلائل فرحة وصوب مشكور عمله ثم أعانه بإرشاداته السديدة على الثبات بل التقدم غير المنقطع في المسلك الذي كان سالكه.

كان الأب أنطونيوس يتذكر أبدًا ودومًا ما قاله البابا غريغوريوس الكبير: “فليكن الرئيس نحو السالكين المسلك الحسن رفيقًا لهم بالتواضع، وضد ذنوب المذنبين، منتصبًا بغيرة الصلاح للاقتصاص منها، حتى لا يفضل نفسه في شئ على الصالحين. ولا يغفل أيضًا عن السلطان الذي منحه عندما تدعوه إلى استعماله سيئات المجرمين. فلقد قيل في الرسالة إلى العبرانيين إن ثلاثة أشياء كانت في تابوت العهد وهي: المن رمزًا إلى الرفق، والعصا إشارة إلى التأديب، واللوحان دلالة على علم الناموس.

وأما الأمر الثاني الذي طالما سعى وراءه بغيرة وهمة لا تفتران فهو خير نفوس أهالي تلك البلاد التي كان يضطر أن يمكث بها طويلاً أو قصيرًا حين زيارته للرهبان مرؤوسيه، متمسكًا دائمًا بعد الإتكال على الرب بالوسيلتين الأكثر فعالية لنيل ذلك الغرض، منبر الوعظ، وكرسي الاعتراف.

ومع أن قديسنا قد قوبل بالحفاوة والترحيب في زياراته جانيًا أطيب الثمار من عظاته العجيبة التي كان يلقيها على مسيحي تلك المدن، إلا أن بعض نواحي إقليم البندقية، وربما لجهلهم بمناقب قديسنا، قد أبوا أن يسمعوا كلامه وأبدوا امتهانًا وإهانة لشخصه، الأمر الذي دعا قديسنا العجيب لأن ينفض غبار رجليه عند مغادرتهم، بعد أن استبدلوا العمى وأرتضوه عوضًا عن الرشد والنعمة، وقد كان في ذلك مقتديًا بالرسل الأطهار، بل ومتممًا وصية معلم الرسل تقدس اسمه القائل: “من لا يقبلكم ولا يسمع لكم، فإذا ذهبتم من هناك فانفضوا غبار أرجلكم شهادة لهم” (مرقس 11:6).

وفي تنقله من مدينة إلى مدينة توقف عند واحدة تدعى “جمونة” المشهورة الان بوجود مزار لقديسنا فيها، ومما يذكر من عجيب أعماله في تلك المدينة أن أهاليها قد رغبوا إليه مردة لنفوسهم ومكافاة لما عانى من الأتعاب في سبيل مصالحهم الروحية والزمنية، في إنشاء دير لرهبانيته يتكلفون هم بنفقاته كلها.

فذات  يوم بينما الأب أنطونيوس قائم بين الفعلة العمال وكان في حاجة إلى مركبات تنقل الحجارة من مقالعها إذ أبصر رجلاً يسوق واحدة، فأسرع إليه ليسأله حاجته فلما رأه الرجل مقبلاً قال لرفيقه “إن هذا الراهب سيسخرنا للعمل دون أجر، وما عليك إلا أن تستلقى وتظهر ذاتك ميتًا، وأدعي أنني أحملك إلى ذويك”.

وإذ دنا إليه القديس أنطونيوس طالبًا مساعدته، أجابه بما أختمر نفسه من خديعة لرجل الله، فلم يكن من القديس أنطونيوس إلا إجابه بالقول: “ليكن لك كما قلت”. وباختصار غير مخل، وبعد خطوات أراد الحمال أن يوقظ رفيقه بعد أن خيل له أنه خدع القديس أنطونيوس غير أنه أكتشف أن صاحبه مات بالفعل، فطفق يبكي وينوح، وعاد إلى الأب أنطونيوس بندامة حقيقية، ودموع تملأ مآقيه، وفي الحال أشفق رجل الله عليه، وأنتهز الفرصة لتبكيته ونهيه عن تكرار مثل هذه المنكرات في المستقبل، ثم رفع يده ورشم إشارة الصليب المحي المقدس على الشاب الميت فانهضه في الحال حيًا صحيحًا. فأخذ الدهش والحالة هذه بكل من كان حاضرًا من العمال والبنائين ومن كان معهم هنالك فمجدوا الله في قديسه وقالوا لقد رأينا اليوم عجائب.

والشاهد أن في هذا الحدث عبرة لأعداء الحق والأقوال الصادقة، أولئك الذين كثيرًا ما تتحرك ألسنتهم بالباطل وتختلق الكذب فلا يبالون بالمضار الجسيمة التي يسببونها من قبل ذلك لأنفسهم ونفوس من سواهم كما نبههم الله تعالى في كتابه المقدس “الفم الكاذب يقل النفس” (حكمة 11:1). ولا يفطنون إلى أن الإهانة الناجمة عن أكاذيبهم وافتراءاتهم راجعة ولا شك إلى بارئهم تمجد وتبارك وهو الناهي عن كل كلمة كذب ومموحه بالباطل. والمتوعد قائلها بعقاب يستحقه من جرائها على نحو ما صرح بلسان رسوله “ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا لئلا تقعوا في الدينونة” (يعقوب 12:5).

علاوة على ذلك فإن القارئ المدقق في قصة الأب أنطونيوس مع الحمال الكاذب، يجد فيها موعظة وعبرة يتعظ بها كيلا يسلك مسلك بعض مسيحي زماننا الذين بدل أن يستمعوا ويصيغوا لسمع الوصية الرب القائل: “أكرم الكاهن” (ابن سيرخ 23:7)، يطلقون بعكس ذلك عنان ألسنتهم لازدراء الكهنة وتسويد صيتهم بين الجمهور. فضلاً عما يبدون في بعض الأحيان من قلة الإحترام بحضرة هؤلاء الأفاضل خدام الله الأمناء المنقطعين إلى تقديس نفوسهم والعاملين على خير الشعوب وخلاصهم الأبدي مرضاة لله لا غير.

ولا ريب أن تصرف مثل هؤلاء المسيحيين لمن شأنه ألا يذهب عند الله بلا سخط عليهم وانتقام من تهكماتهم وقبيح أفعالهم هذه. فهو جل ثناؤه، قد أقام كهنته على الأرض كنواب له ووسطاء فيما بينه وبين شعبه وقال لهم معلنًا على رؤوس الملأ: “من احتقركم، فقد احتقر الذي أرسلني” (لوقا 16:10).

الفصل الثاني عشر

في مجئ الأب أنطونيوس إلى بادوا لأول مرة

من بين أشهر المدن الإيطالية قدمًا وعمرانًا، يأتي الحديث عن مدينة بادوا التي بناها حسب زعم فرجيليوس الشاعر اللاتيني العظيم، “أنتيور” أحد ملوك اليونان الأقدمين ومن أهم أبطالهم.

وتمتاز بادوا بجمال طبيعتها الخلابة، وأنهارها النميرة الرقراقة، ومبانيها الأثرية وتحفها ونقوشها.

ومما يزيدها فخرًا بين مدن أوربا مدرستها الجامعية ذات الصيت الواسع منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وكان يأتيها الطلاب من كل صوب وحدب ليرتشفوا من مناهلها زلال الفنون والعلوم في أصولها ومتفرعاتها.

ومن طلبة جامعتها الذين نبغوا في تاريخ أوربا أديب إيطاليا الكبير “دانتي الليجاري”، وبترراركا، وكريستوف كولمبس مكتشف أمريكا، وجاليليو جاليكي الذي قد درس فيها الفلسفة مدة ثماني عشرة سنة وأمسى فيما بعد أشهر من نار على علم في معارفه وأكتشافاته الطبيعية.

كانت حالة المدينة غداة وصول القديس أنطونيوس إليها مضطربة أشد الاضطراب، تتقاسمها أنواء الحروب، وتنغص رغد عيشها، وأما حالتها الدينية والأدبية فلم تكن مستقيمة رضية، فقد كان الهراطقة الباتريين السابق الإشارة إليهم يعيشون فيها فسادًا ويخدعون السذج من المسيحيين للوقوع في حبائلهم، ونكران عقيدتهم الكاثوليكية، وتسويغ ارتكاب كافة الموبقات والضلالات المضادة لجوهر العقيدة المسيحية.

في هذه الأجواء المؤلمة للروح المسيحية جاء لأول مرة الأب أنطونيوس إلى بادوا في تشرين الثاني “نوفمبر” سنة 1227م، ولم يكن مجيئه إليها إلا مجئ رسول وملاك سلام، يعلمها الحق ويصلح آدابها، والشاهد على ذلك أنه منذ علا المنبر لأول مرة أخذ يقصف برعود وعظه على الخطايا والرزائل، وينقض بصواعق حججه وبراهينه على رؤوس الهراطقين.

وقد أنتشر بين أهالي بادوا خبره  فتيمنوا به وتوسموا فيه خيرًا، ولما كان البعض ممن سمعوه يشيدون بذكره، وغيرهم يثنون أبلغ الثناء على علمه وفصاحته وغيرته، وهذا وذاك يجاهر بما لم يكن يتوقعه من حسن التأثير الذي شعر به في نفسه، أخذ أهالي البلدة يتوافدون إليه بأعداد غفيرة من كل رتبة ومقام فيتأثرون من عظاته خاشعين ضارعين. يقرع فريق منهم صدورهم مذرفين الدموع لفرط ما داخلهم من التوجع والندامة على سابق خطاياهم، وفريق يسيرون في طريقهم وفي يد كل واحد منهم سوط يجلد به ذاته كقصاص إختياري من سيئاته. والنساء الضالات تبن عن فجورهم توبة صادقة، والمرابون أصحاب القلوب الصخرية قد ردوا الأرباح التي امتصوها إلى الفقراء والعشائر المتحاربة تداعت إلى المصالحة، وعرفت بادوا للمرة الأولى مضى السلام والوئام التام.

ولعل علامة الأستفهام: “ما الذي دعا هؤلاء الخطأة إلى الرجوع عن سيرتهم الأولى، وإذعان البادويّين لإشارات واعظهم وإتيانهم تلك الأعمال التقوية غير العادية؟”.

المؤكد، أنه بعد قوة نعمة الله، كان ما عهدوا به في الأب أنطونيوس من كامل التجرد عن كل شئ دنيوي، وعميق تواضعه، ومتقد غيرته، وعلو همته، وسمو قداسته، وانقطاعه أكثر ساعات النهار إلى ما فيه خيرهم وصلاح نفوسهم وما شهدوا أيضًا من العجائب والآيات التي كان عند الضرورة يجريها مع أفرادهم، ومنها هاتان التاليتان:

قصده يومًا شاب اسمه لاونردس ليعترف عنده، وقد أقر بأنه ركل وهو غضبان والدته ركلة شديدة، فقال له قديسنا “أن الرِجْل التي تسبب عنها تلك الجريرة الكبرى، لأحقّ أن تُقطَع من أن تُستخدم لفعلة كذا قبيحة مستفظعة”. كانت مقولة الأب أنطونيوس رمزية وليست حصرية للتدليل على جسامة وشناعة الفعل، غير أن الشاب فهم الأمر حرفيًا وإستل فأسًا وقطع ساقه، فحين رأته أمه طارت من فورها إلى الأب أنطونيوس باكية له، فأغتم لأمرها، ثم جثا على ركبتيه فصلى صلاة وجيزة حارة، ثم قام فأخذ بيده الرجل المقطوعة فضمها إلى ساقها ورسم عليها إشارة الصليب المقدس لتلتحم من فورها، وليردد سكان “بادوا” قديسًا قديرًا في العمل والكلام”.

والحادثة الثانية مفادها أن رجلاً أراد أن يخلص ضميره من أدران الخطيئة، غير أنه ركع أمام الأب أنطونيوس وهم بالاعتراف، تعذر عليه التفوه ولو بكلمة واحدة لجيشان نفسه وتدفق عبراته وشدة ما استولى على قلبه من التوجع والندامة على سابق هفواته، حتى إذا رآه الأب أنطونيوس على تلك الحالة أوعز إليه أن يكتب خطاياه على رقعة ورقية وأن يأتيه بها لفرصة أخرى. ففعل التائب على نحو ما أشير إليه، حتى إذا دفع ما كتبه إلى القديس أنطونيوس معرفة وقع أمر عجيب لم يكن في الحسبان، وذلك إنه كلما قرأ الأب أنطونيوس خطيئة فأكد له التائب بإشاراته وعبراته أنه فعلها، كانت تمحى في الحال من تلقاء نفسها من على الرقعة المسطورة، وما زال الأمر على هذا النحو من البداية إلى النهاية حتى تحقق قديسنا بهذه الآية النادرة لا صدق ندامة تائبه فقط، بل فوزه أيضًا  بمغفرة خطاياه من لدن الله تعالى.

ومن أثمار أتعابه الرسولية في مدينة بادوا إنشاؤه أيضًا  أخوية الكولمبيين، وداعي أمرها أن جماعة من الخطأة والهراطقة الذين ارتدّوا بعظاته العجيبة إلى الفضيلة والإيمان، قد إلتمسوا منه أن يتولى أمرهم وشأن روحياتهم بنفسه، فيكون هو مرشدهم ومعلمهم في منهج التقوى والعبادة الجديدة الذين عزموا على انتهاجه فيأمنون بإرشاداته وتدابيره شر الرجوع إلى ما كانوا عليه قبلاً من سوء السيرة وقبح الطريقة.

فأجاب القديس بطيبة إلى ملتمسهم غير مبالٍ بازدياد الأتعاب وتفاقمها عليه. فأوعز إليهم بإتخاذ محلّ يجتمعون فيه لإقامة تلك الرياضات الروحية، فابتاعوا أرضًا داخل المدينة بالقرب من أسوارها في ناحيتها الغربية وابتنوا فيها معبدًا سموه “معبد مريم العذراء دلا كلمبه” فهناك كان يأتيهم الأب أنطونيوس في أوقات محددة فيأخذ في وعظهم وتبصيرهم في الأمور الروحية، وسماع اعترافاتهم حتى أمسوا في زمن وجيز نموذجًا صالحًا لمن سواهم من المسيحيين، وكانوا يلبسون ثوبًا رمادي اللون ويشدّون وسطهم بحبل على نحو ما رتب لهم معلمهم الأب أنطونيوس.

والذي يؤثر ويذكر عن مار أنطونيوس بشكل خاص في مدينة بادوا إنه علاوة على ما تقدم فهو بالغ اعتنائه وهمه بترويض نفسين صالحتين وترقيتهما في سلم الفضائل والكمال الإنجيلي السامي أولاهما الطوباوية هيلانة من آل انسلميني والتي ضربت أبلغ مثال في الطهر والنقاوة الرهبانية وتوفيت في بادوا عام 1242م ومازال جسدها الطاهر محفوظًا إلى أيامنا في كنيسة القديسة صوفيا في تلك المدينة كاملة الأعضاء سالمًا من آفة الفساد.

وأما الثاني الذي أحبه محبة أبوية فهو الطوباوي لوقا بلّودي الذي اتخذه تلميذًا له ورفيقًا في سائر أسفاره وأتعابه الرسولية، ومن أجل ذلك قد أقامه الرؤساء بعد موت الأب أنطونيوس خلفًا لمعلمه هذا في رئاسة رهبان إقليمه، فحقق الأب لوقا آمالهم بحسن تدبيره وسياسته، جاعلاً دائمًا مثال معلمه نصب عينيه في كل الأمور التي كانت تقتضيها حالته وقد كانت من واجباته نحو الله ونفسه وقريبه وما فتئ يقضي علمًا وعملاً آثار معلمه المجيدة حتى أضحى واعظًا مصقعا وآية في علم اللاهوت المقدس. فلا عجب إذًا إن كان الأب أنطونيوس قد أحب على ما آشرنا سابقًا هذا الأب لوقا محبة خصوصية واجترح العجائب في بعض الأحيان استجابة لطلب ذاك التلميذ الحبيب والرفيق الصالح.

ولا يفوتنا في هذا الفصل الإشارة إلى مفخرة أخرى للأب أنطونيوس وهي المواعظ التي صنفها خلال الأربعة أشهر التي أقامها في بادوا، وقد حداه على إنشائها بعض علماء تلك المدينة وأفاضل قومها، وعددها ثلاث وعشرون كلها في اللاتينية، منها ثلاثة عشر لأيام الآحاد بعد العنصرة. تبدأ أولاها من الآحد الثاني عشر، واربع لآحاد المجئ، وواحدة للآحد التالي لعيد الميلاد، وأخرى لآحد الفصح، وواحدة لميلاد الرب، وثلاث لمريم العذراء، وليست هذه المواعظ مصنف الأب أنطونيوس الوحيد. وإنما هي جزء صغير من المواعظ العديدة والتأليف السديدة التي ألفها حينا بعد حين بإيعاز من الرؤساء ورغبة بعض الأتقياء.

الفصل الثالث عشر

الطفل يسوع يتراءى لأنطونيوس

وقديسنا ينقذ والده من حكم الموت

من تعطفات فادينا الحبيب ومحبته الفائقة أنه يتفقد دائمًا الأنفس التي تتطلع إليه دائمًا عبر الصلاة الحارة، والتواضع، ومحبة القريب، والصبر الجميل في الشدائد، يتفقدها بإنعامه الإلهية، وإحساناته السماوية وتعزياته الروحية.

غير أن الإنعام النادر، والأحب من سواه وإذا فاز به صاحب الكمال المسيحي مرة كأنه بلغ معظم مناه في دنياه، فهو بلا شك تراءى المخلص الحبيب لبعض أوليائه وقديسيه. ليس من وراء حجاب الصور الخيالية. بل ترائيه لهم ترائيًا جسديًا بهيئة طفل غالبًا، مكافأة لحبهم المتقد له سبحانه وجزاءًا على ما يأتون من الأتعاب والأعمال الصالحة في سبيل مجده الإلهي.

كان في بادوا رجل ذو شرف ميسور الحال، ورع وتقيًا، اسمه “تيزون الثالث” كونت كمبوسينارو، كان محسنًا كريمًا وصديقًا حميمًا للأب أنطونيوس، هذا الرجل كان قد عين في قصره حجرة مخصّصة يأوي إليها القديس كلما تعذر عليه الرجوع إلى ديره في أرشلا الذي كان بظاهر بادوا، وكثيرًا ما كان أنطونيوس يتعذر عليه العودة إلى ديره من جراء بقائه في الكنائس لما بعد المساء للاستماع لاعترافات التائبين الكثيري العدد المتألبين من حوله.

كان الرجل لا يتوانى في خدمة قديسنا عند نزوله عنده ضيفًا، ورغبة منه في تعظيم الفائدة الروحية التي يجنيها من وجود قديسنا الحبيب عنده، كان يأتي خفية في الليل عند باب حجرة الأب أنطونيوس مترقبًا متنصتًا إلى ما كان يأتيه في صلواته ورياضاته الروحية.

وحدث ذات ليلة بينما الأب أنطونيوس منزوٍ في حجرته، وكان الليل خيم، جاء تيزون فنظر من وراء الباب إلى صفيه فعاين عنده طفلاً بهي المنظر رائقه، بديع الجمال فائقه، قائمًا على ذراعيه ملاطفًا ومتحببًا. والأب أنطونيوس شاخص الطرف إليه بلا حراك في بدء أمره. ثم معانقًا ومناجيًا معانقة ومناجاة الأخ لأخيه أو الحبيب لحبيبه، الأمر الذي أذهل الكونت السعيد وملأ نفسه بهجة وسرورًا، لاسيما وقد أدرك من مرآى الطفل الذي بين يدي الأب أنطونيوس ضيفه أنه الطفل يسوع، لاسيما من البهاء والجلال من حوله، والأنوار الغامرة غير الأرضية التي ملأت الغرفة، ومن معاني كلمات المحادثة الدائرة بينهما التي كشفت ولا ريب عن لاهوت المترائي الكلي القداسة.

لم يلبث الكونت “تيزون” أن خر بوجهه ساجدًا له، وشاكرًا لتنازل عزّته وجلاله لزيارة داره وتأهيله لمشاهدة منظره الفائق بهاءً وثناء.

وفيما هو كذلك أحب الطفل الإلهي أن يعلم الأب أنطونيوس بكشف الخفاء عن أمرهما، وإطلاع المضيف من وراء الباب على حالهما. ومع ذلك لم يفارق جل ثناؤه قديسه، ولم يحرم من عزائه صاحب الضيافة. ولكنه لبث برهة أخرى ممتعا حبيبه بدلائل حبه ومحبوب تدليله، ورائق منظره، وبهاء طلعته، حتى إذا أشعر نيران المحبة في قلبه، وأفاض من أنواره الإلهية على روحه، غاب من ثَمّ عن حواسه من غير أن يغيب عن نفسه، وهذا ما قاله سيدنا يسوع المسيح له المجد. “إن أحبني أحد … أحبه أبي، وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنًا” (يوحنا 23:14).

وأما الأب أنطونيوس فحرّض من الغد صديقه تيزون وشدّد عليه في أن يطوي سر الرؤية التي رآها وألا يكاشف أحدًا بها طالما بقي هو حيًا. فوعده الكونت بذلك ولم يذع خبرها إلا بعد موت القديس. وهو ما قد جرى لاحقًا بعد أدائه القسم على الكتاب المقدس مصداقا وتأكيدًا لصحة روايته.

لكن الإنسان طالما على قيد الحياة، لا يستطيع أن يقاوم أو يقف في وجه تقلب الزمن، ومحنه المحدقة بنا من كل جانب، حتى إذا هزته الأفراح من النشوة، عرته الأطراح من الحزن، وإن نعم يوما باله اضطربت بعد ذلك أفكاره وزاد بلباله … كيف حدث ذلك مع قديسنا العجيب؟

حدث أن قام أحدهم بالقاء جثة شاب من مدينة لشبونه شريف الحسب والنسب في حديقة والد القديس أنطونيوس “مرتين دبوليون”، وقد رأت السلطات الحكومية في ذلك جناية تقود إلى الحكم على والد الأب أنطونيوس بالإعدام. كان أنطونيوس وقتها في دير أرشلاّ، فأوحى الله إليه وهو إذ ذاك في الصلاة بالضيق الذي يعيشه أبيه في محبسه، فقبل القديس الأرض خضوعًا لتدابير العناية الإلهية وتسليمًا لها وإن كان مصاب والده قد عز عليه سبب له ألمًا قلبيًا وجرحًا غائرًا.

نهض أنطونيوس من مكانه قاصدًا رئيس الدير، مستأذنًا أياه بالتغيب عن بادوا. فأذن له الرئيس وأصحبه بركته فخرج سائرًا على قدميه قاصدًا مدينته لشبونة ليرى ماذا يقدر له أن يقدم لوالده المتألم.

كانت هناك إشكالية كبرى تواجه الأب أنطونيوس في طريق عودته، ذلك أن المسافة بين بادوا ولشبونة لا تقل عن سفر شهر، ما يعني أن الحكم على والده بالموت قد ينفذ من خلالها، لكن أنطونيوس جعل إتكاله على الله وألقى كل همه على البارئ تعالى، واثقًا كل الثقة برأفته الإلهية أن تتدارك والده قبل فوات الأوان، كما قد تعطف تبارك وتعالى في حينه بمشكلة أبيه تلك. فاستجاب الرب الرؤوف لطلبات عبده، غير مخيب أمله الذي ألقاه على جودته ورحمته غير المتناهية. إذ لم يقطع القديس إلا مسافة قليلة حتى نقله ملاك الله كما نقل يوما النبي حبقوق من اليهودية إلى بابل عند دانيال النبي الذي كان ملقى في جب الأسود.

سار أنطونيوس من فوره إلى دار القضاء، وهناك انتصب أمام القضاة محاميًا عن أبيه، كاشفًا عن براءته، طالبًا منهم إطلاق سراحه. فبهت هؤلاء جميعًا لما رأوا وسمعوا من هذا المدافع الجديد، ولا سيما لما أبداه من جرأة القلب وفصاحة اللسان، لكنهم رفضوا أن يطلقوا سراح والده دون حجة لامعة أو شاهد من الناس يبرئ ساحته بشهادته.

لما سمع القديس ذلك ورأى أن التمادي في الكلام لا يجدية نفعًا، عول على بينة الفعل بينة مدهشة مفحمة، قائلاً لهم بلهجة اليقين والعزم المتين: “لقد طلبتم شهادة شاهد في دعوى أبي وتخلية سبيله، فما أنا إلا مستصوب طلبكم قابل باشتراطكم، فانطلقوا إذا معي إلى قبر القتيل، حتى تظهر لكم حقيقة ما تريدون”.

ومن غير أن يمهلهم ساعة، إتجه خارج دار القضاء، فخرج منه وفي إثره الحضور كلهم، وقد أنضم إلى موكبهم عدد كبير من الناس، حتى إذا وصلوا إلى قبر القتيل ورفع الغطاء عنه، ناداه القديس بصوت عال قائلاً: “إني أمرك من قبل الله القدير أن تقر قدام هؤلاء جميعًا هل قاتلك هو “مرتين دبوليون” أو احدًا من عشيرته؟ فعلى إثر هذا الاستنطاق قام الميت من تابوته، واجاب بصوت جهوري صحيح “إن قاتلي ليس هو “مرتين دبوليون” أو احدًا من عشيرته”. ثم عاد إلى سابق حاله فقيد الحس والحياة.

عند ذلك صاح القوم المحتشدين بصوت واحد “معجزة معجزة”، ليفحم القضاة من بعدها، ويجدوا أنفسهم مجبرين على الإقرار ببراءة مارتين دوبوليون وإطلاق سراحه. على أنهم التمسوا من القديس أن يسأل الميت عن قاتله أجاب: “إني جئت هنا لأحامي عن البرئ لا لأشهر المجرم”، ثم انطلق لمشاهدة والدته مصحوبًا بأبيه فأقام عندهما بقية ذلك اليوم، يجلو صدأ الهم عنهما برؤيته التي لا ترتوي ويصب على قلبيهما بلسم المسرة بمحاورته اللطيفة العذبة.

ثم كانت عودته إلى ديره في أرشيلا بنفس الطريقة المعجزية التي جاء بها، فائقة الطبيعة، ما يعني أن كل الأحداث قد جرت بتدبير الله في أقل من نهار بليله ونهاره. ولم تكن هذه المرة الأولى التي أنقذ فيها الأب أنطونيوس أباه من شدة ومحنة قاسية ألمت به كما سنبين فيما بعد.

الفصل الرابع عشر

الأب أنطونيوس يقابل الطاغية إزيلينو الجائر

لعل أسوأ من كتب عنهم التاريخ في العصور المتوسطة في أوربا، “أزيلينو ده رومانو الثالث” الذي ولد سنة 1194، متسلسلاً من عائلة ألمانيّة الأصل، قد استوطنت إيطاليا في عهد الإمبراطور “كزاد” عام 1137.

كان إزيلينو شديد التعصب للأمبراطورية الألمانية، وللأمبراطور فردريك الثاني، الذي أطلق يده في الاستيلاء على مدن وممالك إيطاليه، مرتكبًا أبشع الجرائم، وقد قيل عنه من فرط قساوته ووحشيته إنه كان عنده “سيان جرعة ماء أو ذبح الرجال والنساء”. وقد نكل بأهالي المدن التي سقطت في يده جورًا وتعذيبًا وقتلاً وسفكًا للدماء، ما دعا أحد رهبان الرهبنة الفرنسيسكانية لأن يقول أن “إزيلينو كان يخافه الناس أكثر من خوفهم من الشيطان”، ويكفي للتأكيد على مصداقية هذا القول من الإشارة إلى أنه بأمره قد التهمت النار المحرقة أحد عشر ألفًا من البادويين في مزرعة مارجيورجيوس في مدينة فيرونة الإيطالية. وهو قائم إذ ذاك بمقربة منهم منبسط الخاطر منفسح الصدر يلعب بالعصا مع جنده.

هذه الشرور والمساؤى التي تسبب فيها إزيلينو بلغت ولا شك مسامع الأب أنطونيوس، وقد خشي أن تذهب الفوائد الجمة التي جناها من أتعابه الرسولية عند سكان البلاد التي نكل بها هذا الطاغية لا سيما أهالي بادوا، ولهذا فقد عزم من فوره على مواجهة هذا الوحش البشري لعله يرتدع عن غيه ويتوقف عن سفك الدماء.

كان ذلك في زمن عيد الفصح  والواقع وقتها في 27 أذار “مارس” لتلك السنة 1228، حين ارتحل الأب أنطونيوس من بادوا قاصدًا بلدة بسّانو حيث كان وقتئذ إزيلينو، وإذ وصل إليها سار لفوره إلى قصره ولم يدخل عليه إلا والغيرة الرسولية تملأ قلبه وبادره من فوره بالقول: “يا عدو الله والبشر، إلامَ تماديك في الضلال والطغيان، وحتى متى تستخف بأناة ربك، واستحقارك لصبره، فيا أيها المتمادى في العماية والجامح في دروب الغواية، ألا تسمع عويل الأرامل وبكاء الأيتام الصاعد إلى عرش الديان، والمعجل ضربات إنتقامه على رأسك؟” ومضى الأب أنطونيوس بحرارة الروح الرسولية المتقدة ليكمل: “كفاك يا رجل الدماء، كفاك في الشر والضرّر توغلاً. فاندم على سيئاتك، وتُب عن مآثمك، وإلا فان يد الرب القادر ستنقض عليك بسيف نقمته المرهف لتصيب هامتك …” وأنهى حديثه الناري بقوله … “فكر بما قلته لك حالاً وأرجع عن طريق الظلم عاجلاً”.

والشاهد أن أحدًا لم يكن يقدر له أن يقرع مسامع الطاغية بمثل هذا الكلام، ولا اعتادت آذان جلسائه ومستشاريه الذين عرفوه متعطشًا للدماء الاستماع لهذا الحديث، والذي يعرفون أن الأمر سيصدر فورًا من إزيلينو لتمزيق قائله إربًا إربًا جزاء أنه تجرأ عليه.

لكن رجال الله الحقيقيين، وقديسيه الأصفياء، وضع الله في محياهم وقلوبهم، قوة الحديث أمام السلاطين الأعزاء دون خجل أو وجل.

فقد زاد تعجب الموجودين في بلاط إزيلينو، وحيرتهم من تصاغر مولاهم القاسي القلب أمام الأب أنطونيوس، ذلك أنه بمجرد سماعه لهذا التوبيخ الشديد والتهديد المرير، إلا وقام من كرسيه فحل منطقته، وشد بها رقبته، ثم جثا على ركبته أمام القديس أنطونيوس متضائلاً وشاعرًا بالخزي والعار وقال له: “لقد خطئت يا أبت، ولخطاياي الجسيمة قد استحققت كل قصاص في الدنيا والآخرة. فها أنا ذا عازم على تغيير سيرتي القبيحة. وإنما أستغفر أنت من أجلي وأمددني بصواتك الفعالة.

وإذ رآه القديس على هذه الحالة تحركت له منه عواطف الرحمة فانهضه من مكانه ووعده بالبقاء في “بسّانو” المذكورة بضعة أيام لمنفعته الروحية.

على أن علامة الأستفهام التي شغلت كل الذين كانوا في البلاط بجواره: ” ما الذي جرى لأميرهم الطاغي حتى يتصرف بخضوع ورهبة بالغتين أمام هذا الراهب الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا شيء؟” أجاب إزيلينو الطاغية السائلين: “لا تتعجبوا من ذلك، فإنكم لو عانيتم منه ما عانيت، وشعرتم بالذي شعرت به، لتصاغرتم له تصاغر الوضيع الذليل، وفعلتم ولا شك ما فعلته أنا أمامكم، فإني أبصرت، بينما الأب أنطونيوس يخاطبني ويوبخني بتهديده ووعيده، نورًا خارقًا للعادة ينبعث من وجهه، فيتصل بصميم جوارحي وفؤادي، ويملأها رعبًا ورعدة. ومن أجل ذلك فمهما طلب مني في تلك الساعة، كنت لأجيبه إليه بلا تردد، وأجبرت على الاستماع إلى أوامره في الحال”.

يتحدث الله تعالى على لسان نبيه في المزمور فيقول: “اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم” (المزمور 8:94). وبهذا علمنا سبحانه أن نلبي دعوته بآذان سامعة وقلوب خاشعة كلما تعطف وتبارك اسمه فدعانا بإلهاماته أو بإشارات كهنته وعبيده الأمناء إلى تغيير سيرتنا الرديئة، واللجوء إلى التوبة الحقيقية.

وأما إذا فعلنا بخلاف ذلك، وصممنا آذاننا عن ندائه، أو تهاونا بعمل نعمته، وتقاعسنا عن الجواب الإيجابي على دعوته في الحال فإنه يخشى علينا أن نترك وشأننا نتسكع في غياهب ضلالنا، ولا نمنح فيما بعد تلك المعونة والأنوار السماوية التي أشرقت يومًا على أنفسنا، وهذا يذكرنا بقول الرب “أنا أذهب وستطلبونني وتموتون في خطيتكم”.

ولعل هذا ما وقع للتعيس الحظ، إزيلينو، الذي عوض أن ينتصح بنصح الأب أنطونيوس له، ويمضي عاجلاً ما كان هو قد قصد إليه بحضرته، جعل بعكس ذلك يميل في أمر ارتداده ويرجئ التوبه إلى مستقبل عمره. ليس هذا فحسب بل أبعد من ذلك إذ خيل له عقله المريض أنه قادر على أن يجرب الأب أنطونيوس ليختبر صدقه من عدمه … كيف جرى ذلك؟.

حدث أن دعا إزيلينو بعضًا من رجاله وأمنائه فدفع إليهم هدية نفيسة، وقال: “احملوا هذه الهدية إلى الأب أنطونيوس، وقولوا له إن الأمير يرجو من كرم عنصركم ولطف شمائلكم أن تتقبلوا منه هذه التحفة الزهيدة فتتخذوها دليلاً على بالغ إجلاله لإبوتكم وشديد تعلقه بشخصكم، فإن قبلها فاقتلوه حالاً، وأما إذا رفضها وزجركم، عند رفضه إيّاها، فالبثوا صامتين مذللين له قيادة أنفسكم وارجعوا إليَّ بالهدية”.

وقد جرى ما أراد بالفعل، غير أنه بمجرد أن فتح هؤلاء هديتهم قاطعهم الأب أنطونيوس،  من فوره قائلاً: “إن الهدايا  ونفائسها وكل ما تجود به الدنيا، وما تحبون من حطامها وتعشقون لتحتقرها عيني، وتعدها كل شئ. فمعاذ الله أن أقبل هدية من مولاكم، ولا سيما أنها مستنزفة من دماء البائسين والمساكين. فعودوا إلى إزيلينو وقولوا له أن يهدي بالحري هدية هي مقبولة عندي جدًا. يهدي قلبًا لله تائبًا منسحقًا، ويكفر عاجلاً عن مآثمه وجرائمه، وإلا فسيحل به غضب الله العلي العادل فيختبر عندئذٍ ما قاله الكتاب: “لا يكون زمان بعد” (رؤيا 16:10). وكيف أن: “الوقوع في يدي الله الحي أمر هائل” (عبرانيين31:10) … وعليه انصرفوا عني.

أما رسل إزيلينو، فإنكفأوا عنه متضائلين خجلاً، ومتعجبين من نزاهته وقداسته، وإذ قصوا على حاكمهم الظالم خبرهم مع الأب أنطونيوس، عظم في عينيه شأن القديس، وإنجلى له قدر تجرده من كل أمر دنيوي، وظهرت له صفاته الرسولية المتلالئة في سائر أعماله.

وتهيبًا من قديسنا الحبيب كف إزيلينو عن كل عمل فيه مساس بحقوق الناس وظلمهم في تلك الأيام التي قضاها مار أنطونيوس في مدينة بسّانو. ثم عقد أيضًا الصلح مع البادويين ورد  لهم الحصن الذي اغتصبه منهم سابقًا. ومنذ ذلك الحين حتى موت القديس، ارتدع إزيلينو عن كثير من المحظور والمحرم الذي لولا تهيبه من الأب أنطونيوس لأتاه بلا شكّ كما أقر هو نفسه بذلك.

في هذا الصدد يفهم ما قاله وكتبه بعض معاصريه من أمثال “رولندينو” من: “أنّ إزيلينو كان يخاف من الإخوة الأصاغر أكثر من خوفه من عظماء العالم ورؤساءه”.

واحترامًا من إزيلينو لقديسنا الحبيب وإجلاله ذكره بعد موته أيضًا، أنه لما إستولى على مدينة بادوا عام 1237، ورغم أنه لم يبق على أهاليها، حيث سبى وذبح عددًا غفيرًا منهم، واستولى ظلمًا على أملاكهم واضطهد غيرهم من الأكليروس، وتهافت على الكنائس هناك وسلب أوانيها الفائقة القيمة، إلا أنه لم يمد أياديه أو أي من أتباعه إلى ما كان المؤمنون يأتون به إلى مزار الأب أنطونيوس من وفاء نذور وتقدمات أخرى نفيسة فاخرة، ولم يمنع قط السكان والرهبان عن اضطراب العمل لاتمام كنيسة فاخرة للقديس أنطونيوس قد كانوا قبلاً شرعوا في تشييدها.

ورغم إكرام وإعظام إزيليو للأب أنطونيوس حتى بعد رحيله عن الأرض، إلا أنه لم يستفد من وعظه إياه وباتت توبته وهمية، ولذلك أضحى كلام قديسنا له بمثابة “البذور التي سقطت بين الأشواك، فنبتت الأشواك فخنقته” (لوقا 7:8).

ومن ثم بعد إغتصابه بادوا، ظل إزيلينو يرتكب السيئات والمعاصي، من غير أن يدفعه تقى أو يردعه نهى إلى أن جرح سنة 1259 جرحًا ثخينًا في حرب استمرت زهاء سنتين ولم يلبث على إثر ذلك إلا قليلاً، حتى مات ميتة شنيعة محرومًا من الكنيسة المقدسة، وغير مأسوف عليه من أحد، سواء كانوا من أنصاره أو من أعدائه.

الفصل الخامس عشر

الأب أنطونيوس يغادر بادوا لبعض المدن الإيطالية

بعد أن أتيح للأب أنطونيوس حمل إزيلينو الطاغية على مسالمة البادويين، عاد إلى مدينة بادوا مع نفر من أعيانها الذين رافقوه إلى بسّانو سالفة الذكر.

غير أنه لم يمكث بتلك المدينة إلا قليلاً حتى رحل عنها وهي إذ ذاك على حالة طيبة من حيث الآداب المسيحية وطمأنينة العيش، إلى غيرها من المدن التي فيها أديرة، ليتفقدها رعويًا.

كانت المدينة الأولى التي زارها قديسنا هي “فرّارة”، وهناك بجانب الثمار الروحية الوافرة التي جناها من إرشاداته وكرازته، شاءت عناية الله أن يكلل أتعابه المقبولة بهذه القصة العجيبة، ذات الدلالة العجيبة.

حدث أن قصدته امرأة من نساء المدينة المؤمنات، وعلى محياها علامات الألم والتعاسة، من جراء معاملة زوجها لها، والسبب في ذلك الشكوك والهواجس التي ملأت قلبه وعقله، لجهة أن وليدها ليس ابنه، وأنه غير شرعي. شفعت المرأة قصتها المحزنة بالتضرع إلى الأب أنطونيوس لكي يؤتيها بصلواته المقبولة فرجًا من لدن الله قريبًا. فوعدها القديس خيرًا، وبعد إذ سكن روعها، وسرى قلبها حثها على الثقة بالرب وإلقاء همها على رحمته وعنايته الإلهية. والشاهد أنه لم تمض على تلك المقابلة إلا أيام قلائل حتى إجتمع الأب أنطونيوس بذاك الزوج الغيور، وقد كان في بيته مع نفر من الأصدقاء والمعارف.

وبعد أن جالسهم قديسنا ساعة وأختبروا محاورته لهم كأحسن ما يكون، أقبلت المرأة المذكورة، وعلى يديها طفلها، فأوعز القديس إليها أن تناوله الولد، فلما أخذه على ذراعيه، باركه أولاً ثم لاعبه قليلاً وسأله لاحقًا هكذا: “قل لي يا خليقة الله المباركة من هو من بين هؤلاء الحاضرين والدك”.

فتبسّم كلّ من كان هناك لهذا السؤال، فظنّوه ملاطفة ليس إلاّ. غير أنّ الطفل قد خطّأهم فيما ظنّوا جميعًا. وذلك أنّه صوّب في الحال وجهه نحو أبيه فأجاب مفسّرًا صريحًا: “هذا هو والدي”. فتقدم عند ذلك الأب أنطونيوس إلى الرجل، والجميع مندهشون مما يرون، ويسمعون فقال، “إليك الطفل يا ابني، فما عاد لك سبيل للارتباك بكونه ابنك. إذ إنه بفمه وهو طفل رضيع قد شهد لك بذلك”. ندم الوالد وأكرم زوجته، ولا تزال هذه القصة منقوشة على الرخام ضمن غيرها في معبد القديس في بادوا تخليدًا لذكرها.

بعد أن أتم قديسنا زيارته الرعوية في “فرّارة” وأصلح سلوك الشعب المسيحي بمثله الصالح زار أديرة أخرى في مدن أخرى وهناك زار مغارته المحبوبة في “مونتباولو”، ثم رحل عنها إلى مدينة بولونيا وفي هذه المدينة داخله فرح عظيم عند مشاهدته الرهبان تلاميذه ووقوفه على تقدمهم في الفضائل والكمال الإنجيلي ونجاحهم في العلوم ولا سيما اللاهوتية، حتى أصبحوا في ذلك الزمان لا معلمين لإخوتهم الشبان فقط بل لغيرهم أيضًا من الإكليروس العالمي.

من هناك إرتحل الأب أنطونيوس إلى فلورنسا، وطفق منذ أول يوم لقدومه هنالك يلقي على الأهالي عظاته المفيدة ويسديها بالمعجزات الباهرة الفريدة.

ونخص منها عظة ومعجزة قد سحق بها رأس رذيلة الربا السائدة في تلك الأوقات في مقاطعة تسكانا. فقد دعى الأب أنطونيوس يومًا إلى جنازة “مراب” ثري ليؤبنه فاتخذ موضوعًا لكلامه الآية الانجيلية: “حيث يكون كنزك يكون قلبك” (متى 21:6). وبعد أن شرح فأفصح، وبين وبرهن، واتسع له المجال في المقال، طبق تلك الآية على المتوفي فقال: “مات الغني فدفن في جهنم” (لوقا 22:16)، وإن كنتم لا تصدقون كلامي، اذهبوا إلى كنزه تجدوا في وسطه قلبه”. فذهب أقارب الميت وخلانه فوجدوا قلبه بين دنانيره، ولما لم يكفيهم ذلك من برهان عمدوا إلى ان يفتحوا الجنب الأيسر من جثة المتوفي، فوجدوا القلب في غير مكانه كما أخبرهم القديس أنطونيوس.

كان من وقع هذا الخبر أن انتشر الرعب في صدور أهالي المنطقة العامة، والمرابين خاصة، وأضحى الأمر لهم نذير سوء أثنى الكثيرين عن الأرباح المستباحة التى أن كانوا يتحصلون عليها وهداهم إلى ما هو أصلح لأنفسهم وأنفع.

ومع حلول عيد الفصح في 15 نيسان سنة 1229 رحل عن فلورنسا إلى ميلانو، وقد كانت منقسمة بين فريقين أحدهما يعادي الكنيسة الكاثوليكية ويجاهر بذلك العداء، وينشر الهرطقة بين المؤمنين لزعزعة إيمانهم.

تلك الحالة أحزنت قلب الأب أنطونيوس وآلمت قلبه. ولكنها كانت له أيضًا باعثًا على أن يجافي جانبه الراحة، ومهمازا لمضاعفة غيرته في تخليص النفوس من براثن العدو، وردهم إلى نعمة فاديهم الإلهي، وعليه لم يلبث أن رقي منابر ميلانو ممتشقً “سيف الروح الذي هو كلمة الله” (أفسس 17:6). وجعل يقاتل الذنوب والرزائل ويضرب على رؤوس الهرطقات الموبقات كلما سنحت له الفرص، والرب في غضون ذلك، كما في أيام الرسل “يعمل معه ويثبت الكلام بالآيات التي كانت تقارنه” (مرقس 20:16). حتى قرب وألف بين أصحاب العصبيات الذين تباعدت قلوبهم وتنافرت، ومقومًا أعوجاج سلوك المسيحيين، وهاديًا لهم لبر الإيمان القويم، هم وغيرهم من رؤوساء البدع وعددًا غفيرًا من أتباعهم.

وفي أثناء إقامته بميلانو قد أوحى الله إليه، كما صنع معه في بادوا من قبل بنائبة أخرى ألمت بأبيه، وكيفية ذلك أن “مرتين دي بوليون” والده بوصفه “خازن بيت مال الحكومة” (وزير المالية بلغة عصرنا)، كان دفع حينا بعد حين رواتب وافرة إلى بعض مأموريها الكبار دون استلام إيصالات منهم. كان مارتن رجلاً سليم الطوية ذا عفاف وإيمان وتدين. ولحسن خصاله هذه لم يكن يمر في خاطره فكر السوء بشأن نزاهة أولئك الرجال واستقامتهم.

على أنه لما حان وقت المحاسبة وأقتضى الأمر  منه تقديم قائمة الحساب أنكر أولئك اللئام قبض رواتبهم منه. وبما أنه لم تكن لديه إيصالات أو صكوك، أو شاهد ضدهم حُجر عليه، وأنفذت الأوامر من قبل الحكومة لحجز أملاكه وماله. وبينما هو في هذه الشدة ظهر الأب أنطونيوس مرة ثانية في لشبونة، وقد كان يومئذ في ميلانو، فقام محاميًا عن براءة أبيه، فبين أمام المحكمة وأمام المدعى عليهم أجناس النقود، وكميتها التي دفعت لكل منهم، وذكر لكل منهم المكان واليوم والساعة التي تلقوا فيها تلك الأموال من والده.

وفي نظرة مملوءة من تقوى الله، وعدالته النافذة، نظر أنطونيوس في عيونهم قائلاً: “إني لمنذركم بعقاب عاجل وهائل من لدن الله العادل، إن أصررتم على كذبكم وانكاركم، وأبيتم الإقرار بحقيقة أمركم”.

أما هم فبمجرد سماعهم لإنذار القديس ولهجته الخارقة، ولما رأوا بريق وجهه غير العادي، خامرهم رعب عظيم، وأقروا كتابة وعبر إيصالات رسمية باستلام تلك الأموال، وقد دفع الصكوك دفعًا لوالده، وعلى الأثر غاب عن الأبصار، مغادرًا ذاك الأب السعيد الحظ  وأهله في وفرة العزاء والمسرة.

تعددت  زيارات قديسنا لاحقًا، فمن ميلانو توجه إلى “فرشلي” التي قضى بها أوقاتا تلميذ أحيانا وواعظا حينا أخر، وسر سرورًا كبيرًا برؤية معلمه توما، ومنها إلى بلدة “ورنيره” التابعة لابراشية ميلانو، فجعل بنشاط وغيرة لا فتور فيهما يعظ أهاليها كل يوم ويأخذ بكل ما فيه خير نفوسهم الحقيقي، حتى إلتمسوا منه إنشاء دير لرهبانيته فبنوه على نفقتهم.

في تلك المدة ارتحل مار أنطونيوس إلى مدينة كريموه، ونظرًا لمآثره وأتعابه فيها عرض عليه الأهالي هناك موضوعًا كان قداسة الأب الساروفي فرنسيس لدى رجوعه من الشرق عام 1220، فقبل مار أنطونيوس ذلك شاكرًا لمعروفهم ومحبتهم ,أطلق على الدير الجديد اسم أبيه فرنسيس الذي كان البابا “غريغوريوس التاسع” قد أدرجه في مصاف القديسين من عهد قريب.

ومن هناك رحل إلى مدينتي برغمو وبرشيا، وفي هذه الأخيرة استقبله أسقفها الدومنيكي، الذي كان قد استدعاه للكرازة في تلك المدينة قبل عام.

وما أعظم وأجزل الفوائد الروحية التي حصلت لتلك المدينة من عظات الأب أنطونيوس ومتابعه، كحثه الخطأة على التوبة، وهداية الهراطقة إلى الإيمان القويم وإصلاح آداب الأهالي على مختلف أعمارهم وقاماتهم الأدبية، وقد استدعى الأمر وقوف القديس أنطونيوس في الساحات لوعظهم ساعات طوال وقد بلغ ذات مرة عدد مستمعيه ما يزيد عن الثلاثين ألفًا.

ومن هناك إلى مدينة برينو، حيث أسس دير على اسم القديس بطرس هامة الرسل ولايزال باقيًا هناك صورة لقديسنا أسفلها باللاتينية كتب “إن هذا الموضع الذي قام فيه واعظًا مار أنطونيوس البادوي لجدير بأن يكرم أبدًا جزيل الإكرام”

ومنها إلى مدينه ترنتو التي خلد اسمها فيما بعد بمجمعها المسكوني المشهور، فزار فيها رهبانه ووعظ سكانها، ومنها إلى فيرونا كآخر بلد في زيارته الراعوية، كارزًا بالإنجيل، محببًا في شخص الملك المسيح، زارعًا في النفوس خير مثال بنار غيرته الرسولية المتقدة.

الفصل السادس عشر

الأب أنطونيوس يشارك في مجمع أسيزي

إن الأب الساروفي فرنسيس الأسيزي ولفرط هيامه بفضيلة التواضع وشدة رغبته في التشبيه بعد موته أيضًا بفادينا الإلهي قد أوصى رهبانه قبيل أن يدفنوه في مكان هو أشبه بجبل الجلجلة الذي صلب ومات عليه مخلص البشر تمجد اسمه.

كانت وصية الأب فرنسيس أن يدفن في تل في مدينة أسيزي  كان مخصصًا لإجراء حكم الموت على أهل الجرائم الكبرى يقال له “تل جهنم”.

غير أن البابا غريغوريوس وبمجرد أن وصلت إلى أسماعة وصية صديقه مارفرنسيس إلا وأمر بأن تبنى هناك كنيسة فاخرة يدخر فيها جسد الأب الساروفي الطاهر مبدلاً اسم تلك التلة المشيرة عليها ذلك “البازيليك” إلى اسم آخر يناقضه باستقامة وهو “تل الفردوس”، كما يسمى إلى أيامنا هذه.

ولم تمض سنوات أربع على موت القديس فرنسيس الأسيزي حتى تم الإنتهاء من بنائها وزخرفتها وقد اعفاها البابا من ولاية أسقف المنطقة وجعلها تابعة مباشرة للكرسي الرسولي. وعليه فقد نادى رئيس الرهبانية الفرنسيسكانية في هذه المناسبة، بعقد مجمع عام في أسيزي، ليزيد الاحتفال بنقل جسد الأب فرنسيس جلالاً وبهاءًا بحضور لفيف رهبان المجمع.وعليه  إذ تلقى مار أنطونيوس هذه الأوامر وإحتفل بعيد الفصح في 7 نيسان “ابريل” 1230م. سافر إلى أسيزي فرحًا بزيارة ضريح أبيه الساروفي، وبمشاركته في نقل جسده، ورؤية رفقائه الأقدمين الذين شهدوا سيرته العجيبة الساروفية.

في ذلك المجمع رأى الرئيس العام ومن دونه من الرؤساء أن يرفعوا عن قديسنا عبء الرئاسة الإقليمية، فينقطع من ثم إلى وعظ الشعوب المسيحية، وكتابة مواعظه بحسب ما طلب منه الكاردينال “رينلدو كنتي” محامي الرهبانية وكان قد ألح عليه بذلك مرارًا.

غير أنه وفي هذا المجمع حدثت إختلافات بشأن قانون الرهبانية ووصية واضعه الأب الساروفي فرنسيس، ولما لم يحصل إتفاق رأى رئيس الرهبنة والحالة هذه “يوحنا بارنتي”، أن يرفع تلك المسائل إلى الكرسي الرسولي، فأرسل نخبة من الآباء المشهورين في الرهبانية يتقدمهم الأب أنطونيوس.

هؤلاء جميعًا بسطوا أمام البابا ما جاءوا بشأنه، ولما كان البابا في حاجة إلى وقت، لدراسة كافة تلك القضايا، وقد أخذ منه الأمر بالفعل أربعة أشهر، فلم يشاء أن يبقى الأب أنطونيوس في خلال تلك الأيام محتجبا ليله ونهاره في ديره، منزويًا أطول الساعات في حجرته.

وقد فضل البابا أن يستدعيه إليه مرارًا محبة في مجالسته وممارسته. ما مكنه من الإطلاع التام على فائق علمه وسمو قداسته. ومن ثم طلب إليه أن يلقي المواعظ على سكان روما، وطلب إليه أن يعظ في حضرته وحضرة كرادلة الكنيسة وغيرهم من رجال بلاطه.

إإتمر القديس أنطونيوس بأمر الحبر الأعظم، ولما قام خطيبًا به وبحاشيته جعل “يفصل لهم كلمة الحق بإحكام”، مستخرجًا الدرر الكامنة، وموضحًا الجواهر اللامعة في آيات الكتاب المقدس، البعيد منها يقربه، والعسير فهمها يذلله، الأمر الذي جعل البابا منذهلاً من سمو حكمته وعجيب تأثير حديثه، وعليه فإذ فرغ الأب أنطونيوس من عظته الشائقه ان وقف البابا صائحًا “إن هذا الوعظ هو تابوت العهدين وخزانة الكتب المقدسة”.

لم يكن البابا يغالي في الأمر، فقد كانت أسفار العهدين بالفعل منطبعة برمتها في ذاكرة مارأنطونيوس، فضلاً عن تفسيراتها وشروحاتها.

على أن قديسنا الحبيب وقد لقب بتابوت العهدين من قبل البابا غريغوريوس التاسع الذي هو من أهم الباباوات علمًا وعملاً في تاريخ الكنيسة، ففي الوقت ذاته أطلق عليه لفيف من المؤرخين لقبًا آخر مجيدًا وهو “نفير الروح القدس”.ولعله غير مستغرب هذا اللقب للذي وقف على صفات كرازة الأب أنطونيوس العجيبة ومفاعيلها الخلاصية الجمة في إيطاليا وفرنسا، وهو أمر يتجلى بشكل خاص من هذه الحادثة الشائعة والمقررة تاريخيًا عبر الذين كتبوا سيرة قديسنا العجيب … ماذا عن تلك الحادثة المعجزية؟

حدث أنه في تلك الفترة تمت المناداة بعام اليوبيل، وعليه أرادت الشعوب الأوربية أن تكتسب الغفرانات الممنوحة في مثل هذه المناسبة الكنسية المهمة، لذا فقد حضر إلى المدينة المقدسة روما أناس كثيرون من فرنسا وأسبانيا وإيطاليا والمانيا وإنجلترا وسويسرا واليونان وغيرها من الدول الأوربية الكبرى.

هؤلاء جميعًا أحبوا النظر إلى الأب أنطونيوس والاستماع إلى عظاته، حتى ولو لم يفهموا ما الذي يقوله لاختلاف لغاتهم، لكن ما أعظم الإندهاش الذي حل بهم عندما سمع كل منهم قديسنا العجيب يعظ بلغة قد كان يظنها مجهولة لديه، وهي بالعكس لغته التي نشأ عليها وتلقنها من والديه. ولقد أزداد تعجبهم واندهاشهم من حسن تلفظ مار أنطونيوس بلغه كل واحد منهم وتصرفه في ألفاظها، هذا فضلاً عما كان لكلامه من الواقع المفيد غير المنتظر في نفوسهم. ليس بسبب أنه واعظ يعرف كيف “يقرن الروحيات بالروحيات” (1 كورنتس 13:2) فقط، بل لاطلاعه أيضًا بوجه عام على ما كان مختبئًا في ضمائرهم من الخطايا، ووصفه لهم العلاج الناجح لاستئصالها من حياتهم الروحية.

هذه الحادثة ذكرت بما جرى مع الرسل الأطهار يوم العنصرة ولهذا فإن القول قد صدق على الأب أنطونيوس “نفير الروح القدس” لحكمته السماوية التي كان مفعمًا منها، وتلقينه بني البشر بعض هذه الحكمة بلسان جاء خارقًا للعادة وفائقًا طور الطبيعة، حتى حق له أن يقول مع النبي والملك داود: “روح الرب تكلم فيّ وعلى لساني كلمته” (2ملوك 2:23)، على أنه وبعد أن أجاب البابا على تساؤلات الرهبنة التي رفعت إليه، أذن للأب أنطونيوس في الرحيل من روما، فباركه وأعطاه إجازته الرسولية بأن يكرز أينما شاء، وسائلاً إياه أن يكتب مواعظه، كما سبق وأوعز إليه الكاردينال المحامي عن الرهبنة.

غير أنه لما كان من دأب الوعاظ الأفاضل والقديسين الذين أوقفوا أنفسهم على خدمة الشعوب المسيحية وتعليمها أن يبتعدوا حينا بعد حين عن مخالطة الجمهور والضوضاء العالمية، للانزواء في خلوة، والانقطاع إلى الأمور الروحية مع ممارسة أعمال التوبة والإماتة، تنقية لأنفسهم مما عساه أن يكون قد لحق بها من الشوائب من الإحتكاك بالناس، وتقوية لها في محاربتها لغوائل الرذائل، واستئصال الذنوب من القلوب، آثر الأب أنطونيوس الانقطاع مؤقتًا عن التبشير والتعليم، فاستأذن رؤساءه في الذهاب إلى جبل الفرنا.

كان المكان هناك ملكًا من أملاك الكونت “رولندو قطاني”، الذي لم يذل حياته كلها صديقًا حميمًا ومحسنًا كريمًا للأب القديس فرنسيس وقد وهبه إياه سنة 1215م ليجعله محلاً خاصًا بالعيشة النسكية، وفيه تقبل الأب الساروفي فرنسيس في جسده الطاهر جراحات سيدنا يسوع المسيح قبل عامين من وفاته.

وكثيرة هي الأماكن المنحصرة بين شرقه وغربه التي قدسها الأب الساروفي بسكناه، وقد خضعت فيما بعد لذكراه، فمن كل ناحية هنالك تكتشف عين الزائر كنائس صغيرة ومعابد وكهوفًا قد اشتهرت كلها إما بعجائب من عجائب الأب فرنسيس، أو برؤيا سماوية رآها حين إنفراده وتأملاته، أو لإجرائه فيها أعمال توبة مؤلمة شديدة.

والحديث عن جبل الفرنا والرؤى المقدسة التي جرت فيه للقديس فرنسيس، وتاريخ الرهبانية وقديسها هناك والمعجزات التي جرت معهم وعلى أياديهم، في حاجه إلى مؤلف قائم بذاته.

هذا هو المكان الذي قصده مار أنطونيوس للبركة وترويضا لروحه، ولم يصل إليه قبل منتصف تشرين الأول “أكتوبر” من عام 1230، وأما الرهبان المقيمون في جبل الفرنا فلم يروا القديس عندهم، إلا وفرحوا فرحًا عظيمًا لما أتيح لهم من المعيشة معه ولو لزمن غير طويل.

والشاهد أنه إكرامًا من رئيس الرهبنة المحلي هناك لشخص الأب أنطونيوس عرض عليه أن يسكن الكهف الذي كان يخلو به الأب الساروفي، وفيه حصل على سمات مخلصنا الإلهي، غير أن قديسنا ولفرط تواضعه، رفض وأكتفى بكهف آخر هو أقرب إلى الأول وقد تحول من بعد إلى معبد خص بذكرى قديسنا العجائبي الذي كان يقيم ليله ونهاره به، ولا يفارقه إلا في الأوقات المعنية لالتئام الرهبان جميعًا.

في تلك الفترة كان أنطونيوس يقتدي بأباه الساروفي فرنسيس، فشرع منذ اليوم الأول لوصوله في مضاعفة أعمال الإماتة والتوبة الشديدة، والصلوات الطويلة الحارة، ذائبًا خصوصًا في تأملات آلام المخلص تبارك اسمه، ومثابرًا على التفكير في أورشليم السماوية وسعادتها ومجدها. مع النظر في جلال ملكها وأبديته ولاهوته، حتى إذا انقضى عليه نصف الشهر فهو في هذه الرياضات الروحية والحياة الملائكية، هم إتمامًا لمشيئة ربه الداعية إلى السيرة العملية الرسولية الجزيل ثوابها بالارتحال عن الفرنا، فودع إخوانه الرهبان، عائدًا من جديد إلى بادوا بلدته المحبوبة.

الفصل السابع عشر

في عودة الأب أنطونيوس إلى بادوا

من بين أهم الأماكن التي أحبها قديسنا الحبيب، كانت مدينة بادوا، لا سيما بعد ما لمسه فيها من تقوى سكانها ونجاح رسالته فيها، وقد وصلها في أوائل كانون الأول لتلك السنة 1230م.

وعليه ففي المدة السابقة للصوم الأربعيني المقدس، لم ينقطع الأب أنطونيوس إلى أعمال الكرازة فقط، وإنما أخذ يعلم الدروس اللاهوتية، ويقيم المناظرات الدينيه مع الهراطقة، وما بقى له من وقت كان يخصه لكتابة مواعظه إمتثالاً لأوامر رؤساءه.

وسواء وعظ الأب أنطونيوس المؤمنين، أو ناظر أعداء الدين، قرن الله بالبركات أعماله الرسولية، وحلت البركات الروحية الغزيرة، وفي أي كنيسة من كنائس بادوا ألقى مواعظه، أقبل الناس أفواجًا إلى سماعها، وأزدادت أعدادهم، حتى جاؤا من المدن المجاورة ليسمعوه.

وحدث أن سمع قطاع الطرق بأمر ذلك الراهب فجاء نفر منهم إلى بادوا، لا للاستفادة من تعاليمه وارشاداته، بل للتأكد من الأخبار التي سمعوها، وفيما هم يستمعون لعظات الأب أنطونيوس، إذ بكلامه يمس قلوبهم ويؤثر فيهم، فاقبلوا عليه بعد أن أنهى عظته فخروا أمامه ودموع الندامة تنسكب من عيونهم، وكشفوا له أمرهم وطلبوا إليه بكل تذلل وتواضع أن يقبل توبتهم، ويصالحهم مع الله، الذي أهانوا عزته الإلهية مرارًا بسيرتهم السابقة. أما هو فوسع لهم أحشاء حنانه الأبوي، فأجابهم إلى رغبتهم، فاستمع إلى اعترافاتهم، ثم صرفهم تائبين فرحين إلى أهلهم.

على أن مار أنطونيوس وإذ كان كل قصده وغايته في أعماله واتعابه الرسولية خير النفوس الحقيقي الروحي، لم يكن غافلاً عن المساعدات الزمنية للفقراء والمتألمين، ومن سبيل ذلك سعيه لدى أصحاب الديون لتخفيفها عن غير القادرين على الدفع لا سيما السجناء منهم.

هذه الأعمال باشرها قديسنا الحبيب، إلى أن إنتهت أعياد الميلاد، ثم رأى أن ينقطع مؤقتًا عن الكرازة اليومية فيأخذ بكتابة مواعظه وتدريس الرهبان الشبان إخوانه فقط، حتى إذا أقبل صوم الأربعيني كان قد تهيأ له أن يتم كتابة اثنين وسبعين عظة في أعياد القديسين.

والمعروف أن مؤلفات الأب أنطونيوس تقسم إلى ثلاثة أقسام أولها المواعظ وعنوانها “الشرح في المزامير” وقد كتبه في مونبيليه سنة 1224م ويشتمل على 278 فصلاً أو موعظة حول آيات الكتاب المقدس مع تفسيرها وشرحها، والمؤلف الثاني هو “المواعظ في أحاد السنة”، وعددها 62، وقد كتبها في بادوا عام 1228م على إثر طلب البادويين أنفسهم والغرض من كتابتها بيان مدى التوافق بين العهدين القديم والجديد.

أما المؤلف الثالث فيشتمل على المواعظ في أعياد القديسين. وهذان الكتابان الأخيران المكتوبان بخط مار أنطونيوس لا يزالان محفوظين في بادوا حتى الأن.

والشاهد أن من يقدر له أن يطلع إطلاعًا شافيًا وافيًا على هذه المؤلفات الثلاثة يدرك تمام الإدراك أن مار أنطونيوس البادواني، لم يكن من أكبر وعاظ زمانه فقط، بل كان أيضًا من أمهر معلمي العصور الوسطى، وأبرعهم خصوصًا في استخراج المعاني الخفية لآيات الكتاب المقدس ولا سيما في تفسيرها وشرحها على الوجه السري والأدبي.

ولذلك فانه كلما تدعونا إلى العجب مؤلفات معلمي الكنيسة مثل توما الملائكي، وبونافنتورا الساروفي الخاصة بشرح الأسفار المقدسة، فإنه في الوقت نفسه يزداد انتعاشنا الروحي، كلما قرأنا مواعظ ومؤلفات الأب أنطونيوس، التي تكشف لنا دائمًا عن علمه العجيب العميق بما في الكتاب المقدس، ما يذكرنا بما قاله القديس أوغسطينس “من أنه يحوى بلا أخطاء، غزارة الكتب الإلهية المتنوعة وتعاليمها المتسعة ويحفظها بلا عناء من كان قلبه مملوءًا محبة”، طبقًا لقول الرسول بولس “المحبة هي الناموس بتمامه” (روميه 10:13)، وهذا لا مراء مثل أنطونيوس البادواني، قديسنا ومعلمنا.

الفصل الثامن عشر

في عظات الأب أنطونيوس للصوم الكبير  سنة 1231م

يقول المعلم الساروفي بونافنتورا: “لننظر في أن نفضل في أعمالنا  اللازم على النافع. والجيد على الدون، والأجود على الجيد”.

كان هذا هو طريق ومسار القديس أنطونيوس منفردًا، أو في تعامله مع جموع المؤمنين، وعليه فإنه لما أقبل زمن الصوم الأربعيني المقدس، رأى أنه الوقت المقبول لتغذى نفوس المؤمنين بكلام الله وأن تلك الأيام المقدسة لهي أيام توبة وخلاص أكثر مما سواها.

وعليه فقد فضل على كتابة مواعظه الوعظ والتعليم وسماع الاعترافات، وباشر هذه المهام الرسولية طوال أيام الصوم المبارك، ولم يغفل ممارسة أفعال التوبة الشديدة والصيامات الطويلة المضنية، غير متناول في أغلب الأيام أقل قدر من الطعام قبل غروب الشمس، رغم ضعف جسمه وما أصابه من أمراض بدنيه، ولم يكن فراشه إلا الألواح الخشبية، ووسادة الحجر لاغير.

غير أن تلك المتاعب الرسولية والأعمال التقشفية كانت قد ملأت عدو البشر أخزاه الله غيظًا وحنقًا. فدبر من ثم طريقة لقتل قديسنا الحبيب، ففيما كان نائمًا ذات ليلة من ليالي الصوم، إذ قام عليه الشيطان الذي “هو من البدء قتال الناس”، فقبض على رقبته ضاغطًا عليها ليميته خنقًا. انتبه الأب أنطونيوس فنادى مستغيثًا بتلك التي سحقت ولا تزال رأس الحية الجهنمية قائلاً: “يا مريم”. وبتلفظه بهذا الاسم المبارك المرعب لسكان الجحيم، وبرسمه قدر ما تهيأ له إشارة الصليب المقدس. انهزم عنه على الفوروهرب الشيطان، ولما فتح قديسنا عينيه ليرى عدو المولى الأدبار، شاهد مع مزيد البهجة والسرور حجرته مملؤة نورًا ساطعًا غير عادي، قد ملأها ولا شك إثر استغاثته ونطقه باسم تلك التي “وشاحها الشمس والكواكب إكليلها”. المرهوبة أبدًا من قوات الظلمة، التي”كصفوف تحت الرايات”.

وفي بادوا لما شاهد مار أنطونيوس تدافع الناس على عظاته، فكر وتدبر وقرر أن تقام مراحل يومية في كل كنيسة من كنائس بادوا، أي أنه كان كل يوم يعظ ساعة في كنيسة وساعة في كنيسة أخرى لكي يتهيأ للأهالي بأسهل طريق سماع كلمة الله واجتناء فؤادها. غير أن هذه الطريقة أيضًا لم تعد كافية للغرض، وذلك لإقبال المؤمنين وازدحامهم الشديد في الكنائس، وعليه فقد لجأ قديسنا العجيب إلى خروجه بعيدًا عن المدينة وفي أحد سهولها حيث كانت الجموع تتوافد عليه بالآلاف من القرى والمدن المجاورة من كل طبقات الشعب، رجالاً ونساءًا، شيوخًا وشبابًا، وفي مقدمتهم أسقف بادوا وبقية الإكليروس، حتى كان المشهد بتمامه على مثال ما جاء عن معلمنا الصالح في إنجيل القديس لوقا: “وقف في موضع سهل هو وجماعة تلاميذه وجمهور كثير من الشعب من كل اليهودية وأورشليم وساحة صور وصيدا ممن جاءوا ليستمعوه” (لوقا 17:6،18)، كان المشهد مثيرًا للغيرة الروحية، فالحضور وقد زاد عددهم عن ثلاثين ألفًا، ومن فرط إصغائهم لكلام الكارز، لم يكن يسمع أثناء الوعظ همس رجل ولا ضوضاء آخر. فقط كان المرء يشعر بتنهدات قلوب خاشعة وتأوهات صدور تائبة منسحقة، كأنما هذه الالوف المؤلفة لم تكن سوى رجل واحد مجمع قوى نفسه ومصغ إلى ما يقوله قديسنا ليس غير.

ومع كل الإكبار والإجلال والاحتفاء الذي كان الأب أنطونيوس يجده من الآلاف من المؤمنين لم تكن فضيلة التواضع لتتأثرفي داخله، بل كان بعكس ذلك يتضاءل أمام ربه ويحتقر ذاته في مواجهة الجلال والعزة الإلهية، ومخصصا لخالقه وحده كل هذا الإكرام والإعظام صائحًأ مع داود النبي في المزمور “لا لنا يارب، لا لنا لكن لاسمك أعط المجد” (مزمور 1:113).

على أن أمرًا واحدًا كان يملأ قلبه سرورًا ألا وهو فوائد الروحية  الجمة الناجمة للأنفس من كرازته المباركة، ومنها جذبه القلوب إلى السلام والمحبة، بعد تنافرها وامتلائها بالضغائن، ورد مكاسب الربا والأشياء المسلوبة بدون وجه حق لأصحابها، وأطلاق سبيل الأسرى والمسجونين، وكف النساء المنحرفات عن طرقهن الوخيمة، وردع اللصوص عن مد أياديهم إلى مقتنى غيرهم.

ومن أجل ذلك لم يعد وقتئذ مار أنطونيوس وكهنة بادوا المنتدبون لمعاونته يكفون عن الاستماع لاعترافات المسيحيين المزدحمين صباح مساء حول منابر التوبة المقدسة أي كراسي الاعتراف.

أما عن الآيات والعجائب التي حصلت على يدي القديس أنطونيوس في تلك الفترة المباركة من الصوم، فكثيرة، إذ لم يكن يمضي يوم من أيام ذلك الصوم المبارك إلا وحدثت معجزة، ومنها انه فيما كان عائد ذات مرة من عظة له، إلا وأقبل عليه رجل اسمه بطرس من أهالي بادوا حاملاً على ذراعيه ابنة له مقعدة ومصروعة تدعى بادوانة وهي إذ ذاك في الرابعة من عمرها. فتضرع الوالد إلى مار أنطونيوس أن يرسم إشارة الصليب المقدس عليها فأجابه القديس الحنون إلى ذلك. فرفع يده ورسم الصليب المحي على بادوانة مبتدئًا من رأسها إلى قدميها. فبرئت في الحال من دائها.

وكثيرة هي المعجزات التي جرت من انقاذه لزوجة جندي كانت على شفا الموت بعد أن طعنها زوجها بخنجر شكًا منه في سلوكها، وقد تحنن قلب الأب أنطونيوس عليها وباشارة الصليب المحي أندمل جرحها، ونهضت شاكرة لله ولعبده الذي بهذه المعجزة قطع طريق الظنون والشكوك على زوجها.

أما عن الاختطافات الإلهية التي كانت تحدث مع قديسنا الحبيب في تلك الأيام فلم تكن نادرة، خصوصًا عند انفراده وأخذه في التأملات الإلهية والنظر في عظائم ربه وفاديه.

ولعله مع نهاية سطور القسم الثاني من كتابنا هذا يتفهم القارئ لماذا هو حقيقي بأن تقول الرهبنة الفرنسيكانية عن ابنها البار أنطونيوس ما قاله أبو الآباء اسحاق عن ابنه يعقوب: “ها هي ذي رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب” (تكوين 27:27).

أضحى أنطونيوس حتى ذلك الحين وبقية عمره فريدًا في تواضع القلب والنقاوة، حارًا في الصلاة، مواظبًا على الإماتة، مضطرمًا محبة لربه، وغيرة على قريبه، ولسان حاله كان يقول مع الرسول بولس “وددت لو أكون أنا نفسي محرومًا عن المسيح من أجل إخوتي” (روميه 3:9).

كان أنطونيوس في فضيلة الفقر مثالاً متقنًا، وفي الطاعة مصباحًا وهاجًا، وفي الطهارة مرآة وضاءة، مزدانا خاصة بالرزانة والفطنة … نعم لقد تبركه الرب … وبهذه البركة التي شملته قهر عدو الله وعدوه مرارًا بل دائمًا، فبها أقام الموتى، وبها شفى المرضى والجرحى، وبهذه البركة الإلهية صنع الآيات والمعجزات التي قد أوردنا القليل منها على كثرة ما جرى على أياديه.

ولعل ما قاله الخطيب الذائع الصيت علامة العصر المطران “برتو” أسقف تول يصدق في قديسنا الحبيب لا سيما عندما يتناول بالحديث شروحاته للأسفار الإلهية فيقول: “هي كقيثارة ذهب، كربابة مطربة تصدع بأجمل الالحان التي تقود إلى إكرام الكلمة المتجسد … ذلك أن يسوع الطفل قد مس شفتيه بإصبعه اللطيف الفصيح، فصارت تنتشر من فيه ألفاظ ذهبية”. أجل باركه الرب بركة مجد بها الخالق فيما بين الجموع والشعوب بكرازة أضحت عجيبة مدهشة مما أوتي من لدن الله، من هبة الألسن الفريدة، وإمتداد الصوت غير العادي، والفصاحة المذهلة المؤثرة في القلوب تأثيرًا عجيبًا … ولفائق قداسته وعجائبه وعلمه وكرازته، قد أقامه الله في كنيسته مدى الأجيال كلها سراجًا وهاجًا، يوقد دائمًا على المنارة فيضئ بنوره الساطع لا للأمم الجالسة في ظلال الموت فقط، بل ليرشد أيضًا أقدام كارزي الإنجيل المقدس إلى سبيل السلامة والبر والتقوى.

 

 

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد