إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (9): الأنبا شنودة

1٬293

القديس شنودة – رئيس المتوحدين

يُعتبر من أهم شخصيات الرهنبة المصرية في القرون المسيحية الأولى، وأُطلق عليه “أرشمندريت” أي رئيس المتوحدين، لكونه شجع رهبانه على الانسحاب إلى البرية بعد سنوات قليلة من ممارستهم حياة الشركة طلبًا لحياة النسك والتي رأى فيها درجة أسمى من حياة الشركة، مرحلةٌ انتقالية تُعد النفوس الناضجة لحياة المتوحدين الأكثر نسكًا.

بالرغم من نعته رئيس المتوحدين، إلا أنه لا أقوال له في مجموعة أقوال الآباء “الأبوفثجماتا باتروم” Apophthegmata Patrum، ولا ذكر له في التاريخ اللوزياكي لبلاديوس، ولا في تاريخ الرهبنة هستوريا موناخورم:  Historia monachorum in Ægyptoسواء للرهبان السبع أو لروفينوس. كذلك في كتابات كاسيانوس. ورغم أن بلاديوس زار بانوبوليس، أي أخميم، التي تبعد قليلاً عن الدير الأبيض، فلم يذكر شيئًا عن أديرة الأنبا شنودة. ويفسر بعض الباحثين الأمر بأن شنودة لم يسمح لأي أجنبي بأن يلتحق بأديرته، فقد كانت هناك صعوبة في التواصل اللغوى مع رهبان تلك الأديرة، بالإضافة إلى عدم إمكانية الترجمة من القبطية إلى اليونانية، مثلما حدث بالنسبة لقوانين وسيرة باخوميوس، التي ترجمها بعض الرهبان الناطقين باليونانية مـن القبطية إلى اليونانية، واستعان بها القديس جيروم لنقلها للغة الغرب، اللاتينية، مما ساعد على نشرها. ويعزو بعضهم الآخر لكون جميع كتابات شنودة  باللهجة الصعيدية التي اختفت تحت سيطرة اللهجة البحيرية في القرن الخامس، فلم يساعد هذا على انتشارها.

وبالرغم من التشدد الواضح لشنودة في عدم قبول رهبان أجانب في أديرته، فلا ينفي هذا درايته باللغة اليونانية وثقافته الواسعة التي مكنته من الاطلاع على كتب الفلاسفة والشعراء اليونانيين، فيرفض نظرية أفلاطون القائلة بأن الجسد سجن للروح، في حين يتفق معه في وصف النفس. ويؤكد Herbert Thomson اطلاعه الواسع على الفلسفة اليونانية، فالرسالة التى وجهها البابا ديوسقورس بطريرك الإسكندرية إلى الأنبا شنودة بشأن دعوته لمجمع أفسس المسكوني كانت باليونانية.

أما العالم الألمانى Leipoldt فقد قدم الأنبا شنودة بهذا الوصف: “إنه أكثر ثقافة من كثيرين من أبناء وطنه، ولا أعرف إن كان قد درس فى مدرسة يونانية أم لا، لكنه من وقت لآخر يظهر لنا ويُوضّح الأسلوب اليوناني الشيق، ومواطن الجمال في استخدام الكلمات، بأسلوب لا يقل عن مفردات يوسابيوس القيصرى وباسيليوس الكبير”[1]. H. F. Weiss من جانبه يقول: “يجب أن نقبل أن شنودة قد عرف الثقافة اليونانية واللغة اليونانية جيدًا، ولهذا فقد توفر لديه القواعد الأساسية التي تمكنه من أن يكون مطلعًا على المشكلات اللاهوتية لعصره”[2].

ومع كل هذه المعرفة للغة اليونانية ودرايته الكاملة بها فقد رفض استخدامها فى أديرته وتبنى استخدام اللغة القبطية كلغة حديث ولغة كتابة، وكان لهذا الحدث بُعد قومي أيضًا لأن اللغة تمثل أسلوب تواصل بين الناس. إذ إن رفض استخدام اللغة الأوسع انتشارًا فى هذا العصر يعني وبشكل مباشر رفض التواصل مع العنصر الأجنبى المحتل للوطن الذى مارس المظالم الكثيرة ضد أبناء هذا الوطن. فنشاطه الاجتماعى له بُعد قومى. وتوجهه القومى له نتائج اجتماعية متعددة. انتمى الأنبا شنودة إلى عائلة لها علاقة وثيقة بالرهبنة، خاله الأنبا بيجول مؤسس دير أتريب، وعندما وصل رهبانه إلى ثلاثين راهبًا حدد لهم أعمالاً ووضع لهم قوانين، وإن أكثر شدة من القوانين الخاصة بجماعات رهبانية تعيش بنظام الشركة في المنطقة نفسها.

  1. سيرة حياته

المعلومات عن الأنبا شنودة قليلة للغاية ومستمدة فقط من عظاته ورسائله، والتي أورد بها إشارات عابرة لبعض الأحداث التي مر بها في حياته. لهذا من الصعب تحديد تاريخ ميلاده وتاريخ نياحته. لقد حاول بعض الدارسين، اعتمادًا على بعض الاشارات الورادة في سيرته أن يجيبوا عن هذا السؤال، والنتيجة التي خرجوا بها أنه وُلد في عام 333م، وتنيح في عام 451، أي إنه عاش 118 سنة. ففي المخطوط البحيري لسيرته، نص صريح باقترابه من المئة والثمانية عشر عامًا، وحيث إنه عاش حتى وفاة نسطور في منفاه بالقرب من أخميم في ذلك العام، فالنتيجة إنه وُلد في 333م. إلا أن هناك مصادر أخرى تُرجع تاريخ ميلاده إلى 347م، استنادًا إلى نقش أثري عُثر عليه مؤخرًا في الدير الأبيض يرجع إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر الميلادي، ذُكر فيه أن الأنبا شنودة ولد عام 347/348م. في حين أن الباحث Stephen Emmel كشف مؤخرًا عن خطاب أرسله الأنبا شنودة إلى البابا تيموثاوس الثاني، الذي تولى في الفترة من 458- 480، يذكره برحلتهما معا إلى أفسس مع البابا كيرلس، وهذا يعني تأخير ميعاد الوفاة إلى ما بعد 458م، والأمر لم يحسم بعد.

وُلد في شندويل بالقرب من أخميم رعى في صغره الغنم. فى سن تسع سنوات انضم إلى دير خاله، وهناك تعلّم مبادئ الإيمان المسيحي الصحيحة. ولقد ساعدت إقامته الطويلة بالدير، وعلاقته المباشرة بحياة الرهبان اليومية، والتزامه بحفظ قوانين الدير، أن ينمو ويتقدم فى الحياة النُسكية. ظل الأنبا شنودة، فترة طويلة، تلميذًا لخاله الأنبا بيجول. تعلم خلالها الكثير عن الحياة النُسكية، ثم بعد ذلك شارك بفاعلية فى إدارة الدير الأبيض. ولفترة قريبة كان يُعتقد أنه خَلَف خاله مباشرة بعد نياحة الأخير في رئاسة الدير، لكن تحليل رسائله وعظاته كشفت مؤخرًا أنه يُلقب خاله في حياته بـ “الأب الأول للدير”. وبعد ذلك يُشير في مؤلفاته إلى “الأب الآخر للدير”، اسمه غالبًا “إبونه” وتولى رئاسة الدير على الأرجح بعد وفاة بيجول.

في خلال فترة رئاسة “الأب الآخر للدير”، تكشف رسائله، أنه قد حدث في هذه الفترة فتورٌ روحي في الدير، واتجاه نحو الاهتمامات العالمية، وتشييد مشروعات معمارية لا ضرورة لها. فيلوم الأنبا شنودة رئيس الدير على إنفاق ما يفضل عنهم من مال في تشييد المباني، والأجدر أن تُنفق هذه الأموال على أعمال الرحمة تجاه الفقراء. لكن حدث ما هو أخطر، فقد ارتكب أحد الرهبان خطأ ما، ورئيسه المباشر على علم بها، ولم يخبر بالخطأ رئيس الدير. فتحدث الأبنا شنودة مع “الأب الآخر للدير” الذي استدعى الأخ المخطئ، ولكنه أنكر جريمته، وانتهى الأمر بغضب الرئيس على الأنبا شنودة وتجنبه. فكتب الأنبا شنودة رسالة بهذا الأمر، حُفظت كاملة، محاولا إقناع رئيس الدير برأيه، وعندما فشل، ترك الدير ليتوحد في البرية، وقبل أن يرحل كتب “القانون الأول” كخطاب مفتوح موجه إلى رهبان الدير بوجه عام، ورئيس الدير بوجه خاص[3].

توالت الأحداث المقلقة بعد ذلك، فقد أخطا الأخ المعني مرة أخرى وعلم الجميع بالأمر، مما أغضب الأنبا شنودة ضد رئيس الدير لمسئوليته عن الأحداث. فسأل الرهبان عن الدوافع الحقيقية لغضب الأنبا شنودة، فهل يُريد أن يكون رئيسا للدير عليهم. فكان جواب الأنبا شنودة صادمًا ناعتًا الرهبان بالأغبياء وأن الدير لا تقترب منه ملائكة الرب الخادمة بسبب النجاسات والأدناس والسرقات وكل الشرور الأخرى التي اقتُرفت فيه”[4]. دفع كل هذا الرهبان لاختيار الأنبا شنودة خلفا لـ “أبونه” الذي قرر بضرورة قراءة القانون الذي وضعه في أديرته أربع مرات كل عام: “وإن كان هناك من يكره أن يسمعه، لأنه أيضًا يكره نفسه وحدها فسوف يقرأه رغما عنه”.

وظل فى رئاسته للدير حتى نياحته، وساهم خلال هذه الفترة فى إذكاء روح جديدة فى الحياة الرهبانية، إذ رأى أن الدير له دور اجتماعي هام، ولهذا عمل على ازدياد نشاط الدير الاجتماعى والروحى، من أجل خدمة المظلومين والفقراء والمحرومين ومقاومة الهرطقات والوثنية.

ولهذا فقد ارتفع عدد رهبان الدير إلى 2200 راهب و1800 راهبة. وبطبيعة الحال، تطلب هذا جهادًا طويلاً على المستوى الروحى والاجتماعى والقومى، الأمر الذى جعل المؤرخين ينظرون إلى القديس الأنبا شنودة، كأول من ساهم فى تحرير وطنه من التواجد الأجنبي.

لم يكن اهتمام الأنبا شنودة منصبًا على الاهتمامات الروحية لأبنائه داخل الأديرة وخارجها فقط، بل اهتم أيضًا بقضايا وطنه، وكذلك بقضايا كنيسته العقائدية، وله كتابات لاهوتية عميقة ساهم بها مع آباء كنيستنا العظام فى مواجهة الهرطقات التي هددت حياة الكنيسة وسلام المؤمنين، خاصة تلك ضد نسطور والأوريجانيين (أتباع فكر أورجينوس). وقد اعتمد فى كتابة موضوعاته هذه على نصوص الكتاب المقدس مفسرًا إياها، وأيضًا على كتابات آباء الكنيسة، وخاصة كتابات القديس أثناسيوس والقديس كيرلس الكبير. ويقول LEFORT إن هذه الموضوعات كشفت عن جانب هام للأنبا شنودة كمفسر دقيق للكتاب المقدس وكأحد اللاهوتيين الكبار في عصره[5].

  1. كتابات الأنبا شنودة

تنقسم كتابات ومؤلفات الأنبا شنودة إلى ثلاثة أقسام، هي: تسع مجموعات من القوانين، وثماني مجموعات من العظات، بالإضافة إلى الرسائل المتبادلة مع البطاركة أو الإكليروس أو شخصيات عامة. عُثر على مؤلفات الأنبا شنودة، بالدير الأبيض، في ثمان وتسعين مخطوطة، يعود أغلبها إلى ما بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين. وهناك ثلاث مخطوطات تحتوي على كتابات الأنبا شنودة محفوظة بالمكتبة الأهلية بباريس، ومتحف المصريات بتورينو والمتحف البريطاني بلندن. وتأتي عناونين المخطوطات والعظات من العبارة الأولى لهذه العظات. فالعظة التي تبدأ على سبيل المثال بعبارة: “حدث ذات يوم” تسمى بهذا الاسم. وقد تم العثور على ورقة من الرق، مصدرها الدير الأبيض، حاليا محفوظة في المكتبة الأهلية في فيينا بالنمسا، تسمى قائمة فيينا، وتشمل فهرس العظات الترتيب ذاته ووفقا لأول عبارة للعظة.

بدأ اهتمام العلماء بالأنبا شنودة في القرن الثامن عشر بعد أن قام العالم الدنماركي Georg Zoega (1755- 1809) بإعداد فهرس للمخطوطات القبطية، وضمت من بينها عددًا كبيرًا من كتابات الأنبا شنودة. وقد نُشر هذا العمل عام 1810 وفتح الطريق أمام الباحثين للدراسة، خاصة أنه وصف محتوى كل مخطوطة ووضع ترجمة لها باللغة اللاتينية. في عام 1907، قام عالم القبطيات É’mile Amélineau (1850- 1915) بإصدار مجلد ضخم عن مؤلفات شنودة Œuvres dei Schenoudi، يحتوى على النص القبطي مع ترجمة فرنسية. ثم تبعه بالجزء الثاني عام 1914. ومع اكتشاف مخطوطات جديدة لشنودة قام عالم القبطيات الألماني  Johannes Leipoldt بالاشتراك مع Walter Crum بإصدار ثلاثة أجزاء عن سيرة وعظات شنودة. وأخيرا قام العالم Stephen Emmel بنشر مجلدين بعنوان Shenoute’s Literary Corpus ضم بحثا وافيا عن كل ما وصلنا من مؤلفات الأنبا شنودة، مع ترتيب تلك المخطوطات وأماكنها في مكتبات العالم. ثم أعاد إصدارها في سلسلة دراسات مسيحية شرقية (CSCO)، مضيفًا إليها أحدث ما تم التوصل إليه حتى عام 2004.

  1. اشتراك الأنبا شنودة في مجمع أفسس عام 431

إن مشاركة الأنبا شنودة في مجمع أفسس ثابتة ومؤكدة، سواء في كتاباته أو من المصادر المعاصرة له. ففي خطابه السابق الذكر للبابا تيموثاوس الثاني، يُشير إلى رحلتهما معا إلى مدينة أفسس برفقة البابا كيرلس وبعض الأساقفة الآخرين. يذكر هو شخصيًا هذا الحدث بنبرة لا تخلو من الفخر والاعتزاز في كثير من عظاته. وهناك أيضا شهادة البابا كيرلس ذاته على دعوته للأنبا شنودة للسفر معه إلى أفسس. تروى سيرته الأمر بصورة لا تخلو من مبالغة عن ضرب شنودة لنسطور أثناء المجمع بسبب كبريائه، في حين أن نسطور لم يحضر المجمع من الأساس، وهذا تؤكده الوثائق الرسمية لأعمال مجمع أفسس. دفع هذا الأمر الباحثين الكثيرين إلى القول بأنه محاولة من الآدب القبطي لإضفاء مزيد من الأهمية على شخصية الأنبا شنودة.

  1. الدور الاجتماعي والسياسي لأنبا شنودة

خلال القرنين الرابع والخامس تزايد التواجد العسكرى للإمبراطورية الرومانية فى منطقة جنوب مصر، ولذا انحصر الإنتاج الزراعى وزادت الضرائب، مما أدى إلى زيادة الأعباء على جموع المواطنين الفقراء. سبب هذا الوضع، مع انتشار العبادات الوثنية[6] وظهور الهرطقات فى إثارة حالة من القلق والتشكيك بين المؤمنين. فلعبت أديرة الأنبا شنودة دورًا مهمًا في مواجهة التأثيرات اليونانية والرومانية على سكان المنطقة، وأيضًا مواجهة المشكلات التي خلقها النظام الإدارى الروماني، بسبب سياسة التمييز العنصرى بين طبقات الشعب. وفى الوقت نفسه فقد مارس نشاطه الروحى لتأمين الشعب من خطر التعاليم المُضلة، حيث إن هذه المنطقة كانت مركزًا للعبادات الوثنية القديمة، والمعابد الوثنية منتشرة فى كل مكان، وممارسة هذه العبادة كانت علانية مما أثر على الإنسان المسيحى غير الحَذِر والبسيط إيمانه، مما جعل حياته الروحية فى خطر. وبسبب عدم النضج اللاهوتى لدى الشعب، وجد آباء الأديرة لزامًا عليهم تكثيف الخدمة الروحية لحماية المؤمنين البسطاء من هذه الأخطار. وتقدم سيرة الأنبا شنودة أمثلة حية لصراعه ضد الوثنية: فيذهب مرة إلى قرية “بلويت” لكي يحطم الأصنام فيها. وذات يوم ذهب إلى مدينة أخميم مع بعض الرهبان لينزع الأوثان من بيت رجل اسمه كاسيوس، فوصلوا ليلاً، وفتحوا أبواب بيته وأخذوا الأوثان وكسروها قطعة قطعة ورموها في البحر.

أدرك الأنبا شنودة ضرورة خروج الرهبنة إلى المجتمع لتشاركه مشكلاته وتساهم فى تقديم حلول لها. ففتح أبواب الدير لإطعام الشعب وتسديد احتياجاته. وهكذا استطاع الدير الأبيض أن يحقق هذا الحضور المتوازن بين الحياة الروحية والحياة الاجتماعية. فتح أبوابه لإطعام الشعب وتسديد احتياجاته، وصار ملجأً لكل المظلومين والضعفاء والذين بلا مورد. ويحمل لنا التاريخ حدث بعض الغزاة الذين أغاروا على صعيد مصر وسبوا الآلاف من الشعب، قابل شنودة الغزاة وتوصل معهم لأخذ الغنائم وترك النفوس، وفتح ديره للمسبيين مدة طويلة لحين عودتهم إلى أراضهيم.

لم يكن الأنبا شنودة الأب الروحي الساهر على رعاية أبنائه فقط ولكنه أيضًا كان وطنيًا صميمًا، هاجم أشكال الظلم التي تقع على أبناء وطنه. في اجتماع عام أثار الجمهور بقوله: “قلوب الحكام المملوءة شرًا وخداعًا وظلمًا وطمعًا، لهم هدف واحد هو جمع المال على حساب الفقراء الضحية. من يقدر أن يحصي الأتعاب التي يلاقيها الشعب من هؤلاء الحكام؟ فإنني أعرف بعضًا لم يجدوا طعامًا ليأكلوا هم وحيواناتهم، أظنهم يريدون أن يقيموا المصريين عبيدًا لهم، يضعون النير علي أكتافهم”.

هكذا تنوع النشاط الروحى للأنبا شنودة، فاهتم بأمور الكنيسة والرهبان والراهبات، وكتب رسائل روحية، منها رسالة للبابا تيموثاوس ورسالة للإمبراطور ثيؤدوسيوس والعلمانيين والإكليروس. مجموعة كبيرة من عظاته ضد الوثنيين؛ عظات أخرى فى مجال العقيدة والإيمان والأخلاق. اهتم أن ينقي اللغة القبطية والأدب الديني من التأثيرات اليونانية، وازدهرت اللغة القبطية والأدب القبطى فى عصره.

  1. نظامه الرهباني

اتبع الأنبا شنودة نظام الرهبنة السائد في مصر إلا أنه وضع خطة يسير عليها رهبانه، بها بعض الاختلافات تتعلق بنظام طالبي الرهبنة، ونظام الإدارة، وقانون العبادة، والاهتمام بالتعليم والعمل اليدوي، ونظام العزلة جامعًا بذلك بين الرهبنة الأنطونية والرهبنة الباخومية.

يختلف نظام الشركة الذي أقامه القديس شنودة عن النظام الباخومي، فقد اتسم بحزم أشد، بل إن قوانيه أشبه بقوانين العقوبات تركز على العقوبات البدنية على الرهبان في حالة الخطأ، وتتلخص خطوطه الرئيسية في النقاط التالية:

  1. يقضي طالب الرهبنة فترة اختبار في بيوت خارج أسوار الدير، ثم يكتب طالب الرهبنة تعهدًا يوقع عليه قبل دخوله الدير، ويتلوه أمام الإخوة داخل الكنيسة، ويحفظ هذا التعهد في أرشيف الدير[7] أما صيغة التعهد فكانت هكذا، كما وردت في عظات القانون التاسع:

“على كل واحد أن يقول هكذا: أُقِرُّ أمام الله في موضعه المقدس، وتشهد عليَّ الكلمةُ التي قلتها بفمي ألا أنجس جسدي بأي طريقة كانت، ولا أسرق، ولا أشهد بالزور، ولا أكذب، ولا اقترف غشًّا في السر. فإن خالفتُ ما تعهدتُ به، فسوف أعاين ملكوت السموات ولا أدخلها، ويُهْلِك اللهُ، الذي ثبتُ هذا العهد أمامه، نفسي وجسدي في جهنم النار؛ لأني حنثتُ بالعهد الذي قطعته”.

تطلب القوانين من الراهب أن يظل أمينًا إلى تعهده هذا طول حياته بالدير، لذا عليه أن يحيا حياة التوبة المستمرة، وأن يصنع أعمالاً تليق بهذه الحياة الملائكية. وبعد أن يصل إلى قامة روحية مميزة من خلال حياة الشركة ينعزل وحده طلبًا لحياة أكثر عمقا. شنودة ذاته أتبع هذا النظام، فكان يقضي أغلب وقته متوحدًا في مغارة بعيدة عن الدير، عاكفًا على كتابة الإرشادات التي تعين رهبانه على تبيُّن معالم طريق الرهبنة.

  1. كل دير يديره أب، هذا بدوره يخضع للأرشمندريت كأب لكل الأديرة. وتقام أربعة اجتماعات عامة لكل الرهبان سنويًا، يحضرها أيضًا المتوحدون، وذلك لمناقشة أوضاع هذه الأديرة.
  2. من جهة العبادة، تتلو كل جماعة من الرهبان صلوات قصيرة قبل البدء في أعمالهم. وتتكون الصلوات الخاصة من المزامير والتسابيح الكنسية، تُتلى في القلالي بإرشاد الأب الروحي, أما الصلوات الجماعية فيجتمع الرهبان أربع مرات لهذا الغرض: في الصباح وعند الظهر وعند الغروب وبالليل. يجتمعون وينصرفون في هدوء شديد، لا يفكرون إلا في الصلوات التي يتلونها. بجانب هذه الصلوات تقام ليتورجيا الإفخارستيا أسبوعيًا، ويُسمح للعائلات وكل الشعب المحيط بالأديرة المشاركة في القداس الإلهي مع الرهبان أيام الآحاد.
  3. اهتمامه بالراهبات

لم يكن الأنبا شنودة أبًا للرهبان العديدين فحسب، بل كان لأعداد كبيرة من الراهبات أيضًا، وقد كتب لهؤلاء الراهبات رسائل عديدة أغرضها، منها تعليمهن وإرشادهن وتثبيتهن على الإيمان القويم.

[1] A. LEIPOLDT, Schenute, in”DSAM”, vol. XIV, p.. 801.

[2] H.F.WEISS, Christoligie des Schenute von Atripe, B.S.A.C, vol.20, 1969-1970, p.177-204.

[3] الأنبا شنودة، القانون الأول، مخطوطة YW ص 78-79.

[4] الأبنا شنودة، القانون الأول، مخطوطة، YG. ص 220.

[5] L.TH. Lefort, Catechese Christologique de Shenoute, in “ZAS”, 80 (1955), p. 40-45.

[6] لم تنتهِ الديانات المصرية القديمة بانتشار المسيحية في مصر، بل ظلت حتى القرن السادس الميلادي. يدل على هذا بقاء معبد الإلهة إيزيس في جزيرة فيليه مفتوحا حتى عام 525م. كذلك بالنسبة للغة اليهروغليفية له نصوص ترجع لعام 394م ومسجل على بوابة الإمبراطور هادريان بمعبد فيليه.

[7] ويعتبر هذا أول  صور النذور الرهبانية في تاريخ الحياة المكرسة، الذي يقر به المكرس على انتمائه كليًا إلى الله والكنيسة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.