إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (23): الحركات العلمانية

0 1٬042

نمو الحركة العلمانية

ما يميز القرن العشرون هو ظهور أنماطًا جديدة للحياة المكرسة، لعل أبرزها على الإطلاق هو ظهور المؤسسات العلمانية، كنمطٍ فريدٍ وخاص للحياة المكرسة. وهذا ما عبر عنه البابا يوحنا بولس الثانى فى ارشاده الرسولي: “الحياة المكرسة”، بقوله: “لقد بعث الروح القدس في زماننا، وهو الصناع الماهر لتنوع المواهب، تعابير جديدة للحياة المكرسة، ويبدو ذلك، وفقًا لخطة إلهية، اِستجابةً لحاجات جديدة وتواجهها الكنيسة اليوم لتحقيق رسالتها فى العالم. أول هذه التعبيرات الجديدة: المؤسسات العلمانية”[1].

كانت البداية فى القرن التاسع عشر والذي شهد بداية تفهم الكنيسة لدور العلمانيين الفعال في رسالتها الخلاصية، مع مجهودات بولين جاريكو (1799- 1862) التي أسست “جمعية نشر الإيمان”، في العام 1822، والتي أهتمت بتقديم الإعانات للمرسيلن.  في حين كرس الطوباوي فريديريك أوزانام (1813- 1853) نفسه لأعمال الرحمة وأسس “جمعية مار منصور”، التي ازدهرت وانتشرت في العالم كله، وصارت رمزا للعمل الخيري لصالح الفقراء والمعوزين. وكانا للمؤسستين دورًا مهمًا في إبراز أهمية تعاون العلمانيين في عمل الكنيسة الجامعة.

تبلور هذا التفهم في القرن العشرين في ظهور حركة العمل الكاثوليكي. فقد اِنبثقت هذه الحركة عن رغبة حارة لدى لدى مسيحيين علمانيين لأداء رسالتهم كمبشرين ملتزمين بحياة المسيح ونور الإنجيل بنعمة سر العماد المقدس. توجه بعض المسيحيين الملتزمين بقيم إيمانهم إلى المشاركة في نشر تعاليم الإنجيل وقاموا بتأسيس جماعات اتخذت اسماء مختلفة، لكنها تسير كلها في تيار التجديد للحياة المسيحية، وحاولت أن تضم إليها كل فئات المجتمع المسيحي. مما حذا بالبابا بيوس الحادي عشر في تعريف العمل الكاثوليكي بأنه: “مشاركة العلمانيين في رسالة الإكليروس”.

أَسس جوزيف كاردين حركة “الشبيبة العاملة المسيحية” J.O.C. في العام 1923 لخدمة ورعاية الطبقة العمالية. فانتشرت انتشارًا سريعًا حتى تجاوز العدد في العام 1935 المئة ألف مندوبٍ من خمسين بلدًا حضروا مؤتمر المنظمة العالمي. كان من نتائجها ظهور فئة “الكهنة العمال”، في محاولة لتواجد الكنيسة حيث يعيش الناس، وفي مجال أعمالهم المعتادة. كانت البداية مع الأب لوف في مرسليليا والذي بدأ يعمل في المرفأ بتفريغ السفن وتحميلها. وكان هدف الجمعية هو تجسيد القيم الإنجيلية وسط الناس، وسط قناعةٍ تامة بأن الرعاية التقليدية لم تعد كافية، فالكنيسة في حاجة إلى مؤمنيين ملتزمين من قلب العالم وإلى كهنة يرون في الرسالة تمتزج بعالمٍ يجب تغييره. روحانية هذه الجماعة قائمة على الفهم الإيجابي لحقيقة التجسد، فقد تجسد إبن الله في وسط العلم عائشًا كإنسان ولم يفرض نمط مغايرًا لواقع الإنسان في عصره. نشأت بالتالي الرغبة  في تكريس الذات، إقتداء  بالمسيح، في قلب العالم والعمل  على تغييره  بالقوى الجديدة النابعة من نعمة التطويبات.

وَلّدت هذه الرغبة نمط تكريس يختلف عن جميع الأنماط السابقة وخاصة أنماط الحياة الرهبانية التقليدية. تحول هنا معيار التكريس، فلم يعد الانسحاب من العالم رغبة في تقديس الذات والتفرغ الكامل لتأسيس ملكوت السموات، بل هو التجسد في العالم وتبديله على غرار  مافعل المسيح في فترة حياته الأرضية. القاعدة اللاهوتية التي يستند عليها هذا النمط من الحياة: أن جميع أبنا لله مدعوين للقداسة عن طريق الاتزام بوصية المحبة، الوصية الوحيدة التي تركها يسوع للبشرية.

لا يمكن أن نُعد هذه القاعدة فكرًا مستحدثًا، فقد سبق أن نادى بها الكثيرون على مر تاريخ الحياة المكرسة، إلا أهميتها ترجع لكونها تصحيحًا لفكر القديس توما الأكويني الذي ساد الكنيسة من بعده ومفداه إن الحياة الرهبانية هي الطريق السهل والأسرع إلى القداسة. جاءت رسالة البابا يوحنا بولس الثاني تدعم هذا الاتجاه: “الحياة الرهبانية في نشأتها الأولى كانت نموذج لحياة العلماني الراغب في تكريس حياته إلى الله مثلما كان الحال عند باخوميوس وفرنسيس الإسيزى في بادئ الأمر إلا أن التطور الذي حدث في الحياة الرهبانية جعلها تحيد عن هذا الهدف  وتصبح نمط حياة خاص بفئة وحيدة وهي فئة الرهبان”.

الكاريزما الجديدة للمؤسسات العلمانية

اعترفت الكنيسة، لأول مرة، بالانماط العلمانية الجديدة للحاة المكرسة في عام 1947. فقد حدد البابا في رسالتة pravida Mater الكاريزما الخاصة للمؤسسات العلمانية بالعبارات التالية: هم ملح هذا العالم ورغم إنهم ليسوا من العالم إلا إنهم في قلب العالم لأجل تقديسه وكمال تنفيذ مخطط الله الخلاصي. هم النور الذي ينير ظلمة العالم والخميرة التي تخمر العجين كله. يجددون بالمثل الصالح والكلمة، وغيرها من الوسائل، حياة العالم حتى يصبح الكل واحدًا في المسيح يسوع.

دار جدلًا واسعًا،  طوال تاريخ الكنيسة، حول كيفية الجمع بين التكريس والحياة اليومية المعتادة للإنسان المسيحي، وظهرت محاولات كثيرة لتحقيق تلك الموائمة بينهما. قد أشرنا إلى الراهبات الأرسولينيات اللواتى سعينَّ إلى الإهتمام بالفتيات دون أن يتركن عائلاتهنَّ. إلا أن السلطة الكنسية لم تعى في ذلك الوقت الأمر وفرضت على الراهبات العيش في أديرة مُسيجة. شهد القرن العشرين تطورًا في الفكر اللاهوتي مما ساعد على تحقيق الموائمة والجمع بين حياة التكريس والحياة العلمانية.

كانت البداية في تصحيح مفهوم العلمانية، فلم يعد يعنى الواقع الاجتماعي الذي يفصل بين رجال الإكليروس وغيرهم من باقي شعب الله. كان تعبير “علماني” يُعد مرادفًا لعبارة “معارضًا للإكليروس”. إلا أن حركة التنوير التي سادت أوربا، وما نجم عنها، من فصل الدين عن الدولة، كشف بعدًا لاهوتيًا مختلفًا للروح العلمانية التي أصبحت تُعبر عن جماعة المؤمنين ودورها في تقديم شهادة إيمانها في قلب العالم الذي تعيش فيه وفي واقعها العملي المُعاش.  هي دعوة لعيش حقائق  الملكوت على الأرض وتقديس الذات في قلب العالم، فيكون التكريس العلماني هو أقرب أنماط التكريس لحقيقة تجسد ابن الله في العالم لأجل تقديسه والعمل  على خلاصه وتأسيس ملكوت السموات وسط أرجائه.

المؤسسات العلمانية، بحسب الرسالة البابوية pravida Mater، هي نوع من الجمعيات التي تشبه اتحاد الأخويات أو الرهبنة الثالثة. وحيث إنها مؤسسات علمانية يوصف أعضائها بأنهم “يبقون في العالم”. هذا يعنى أن الأعضاء غير مرغمين على العيش في جماعة كما هو مطلوب من الرهبان والراهبات، ويعنى أيضًا إنهم يكرسون أنفسهم لرسالة وينخرطون في المجتمع بمقدار ليس مألوفًا عند الرهبان. يبدو أن الفارق الأساسي على ما يبدو هو أن أعضاء المؤسسة العلمانية يظلون يعملون فرديًا بحسب مهنهم أو تجارتهم، وأنهم حين يصيرون أعضاء في المؤسسة لا يدخلون في “حالة حياةٍ جديدة”, كما حال العلماني الذي يصبح كاهنًا. وازدهرت المؤسسات العلمانية في الربع الثالث من القرن العشرين وكثُر عددها. وكما يحدث مرارًا مع الجمعيات العلمانية وجمعيات الكهنة الأبرشيين، يبدأ بعضهم باكتساء طابع الحياة الرهبانية ويفقد خصوصيته العلمانية.

أنواع المؤسسات العلمانية

يجب الإشارة في البداية لمشكلة ظهور أنماطًا جديدةً للحياة المكرسة والإنجيلية التي ظهرت في القرن العشرين في أنحاء كثيرة من العالم والتي يجمعها خصائص مشتركة مثل التطلع إلى أنظمة الرهبنة في القرون الأولى للمسيحية. أغلب تلك الأنماط التي ظهرت تجمع بين المكرسين والمكرسات في نطام واحد، بمعنى أن يعيش الرجال والنساء معًا في منزلٍ واحد، متزوجين وغير متزوجين، تابعين للاكليروس أو علمانيين، مكرسين ومكرسات. تتيح هذه الأنظمة للكثير من الراغبين في تكريس ذواتهم وتمنعهم ظروفهم الحياتية والعملية – كالزواج مثلا – من التكريس الشامل وفقًا لأنظمة الحياة المكرسة المعتادة “التقليدية” فيكرسون حياتهم من خلال هذه الأنظمة.

نادى البعض بأن هذا النمط من الحياة هو الأنسب للألفية الثالثة، بعد أن سادت الحياة النسكية الألفية الأولى فظهرت فيها الرهبنة التأملية أو القائمة على التكريس لحياة الصلاة والتأمل. في حين كانت الألفية الثانية حقبة الحياة الارسالية فشهدت الكنيسة ظهور الكثير من الرهبانيات التي تجمعها كاريزما الارساليات والتبشير. انعقد سينودس الأساقفة، تحضيرًا للارشاد الرسولي “الحياة المكرسة” للبابا يوحنا بولس الثاني في العام 1994، للنظر في تنامي تلك الظاهرة وابداء رأي الكنيسة الواضح بها، وتحديد ما إذا كان يطلق عليها حياة تكريس أم لا.

ناقش الإرشاد الرسولي المشكلة في البند 62، ملخصًا آراء سينودس الأساقفة بالقول: إن تعبير “حياة مكرسة” ينطبق فقط عندما تكون هناك عذرية أو بتولية مكرسة. أما في حالة وجود متزوجين يمكن الحديث فقط عن حياة إنجيلية وليس حياة مكرسة. فالأشكال الجديدة إذن لا تحل محل الحياة المكرسة.

يمكن تحديد أنواع تلك المؤسسات العلمانية على النحو التالي:-

  1. أكثر أنواع المؤسسات العلمانية انتشارًا هو نمط العذارى المكرسات، اللواتي يعيشنّ تكريسنّ بطريقة شخصية، ولكنها علنية. هنّ مرتبطات بالكنيسة وبالأسقف المحلى، ويختلفن عن الراهبات بمعيشتهنّ وسط عائلتهنّ، وسط بيئتهنّ أماكن عملهنّ ويقدمنّ، بسيرة حياتهن، شهادة حقيقة على بدء ترسيخ ملكوت السموات في العالم.
  2. هناك أشكال أخرى للمؤسسات العلمانية ظهرت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني تتشابه مع مؤسسات قائمة بالفعل، لكنها نابعة من هبات روحية ورسولية جديدة. لقد أشار البابا يوحنا بولس الثاني لتلك المؤسسات ولتأنى السلطة الكنسية في اعتمادها، رغبة في التأكد من صحة الأهداف التي أوجدتها أولًا وتلافيًا للإفراط في تعدد المؤسسات المتشابهة وما يتبع ذلك من خطر التفتت والتكرار(ح.م. بند.12). وكمثال لتلك المؤسسات جماعات إيمان ونور؛ وسان إيجديو؛ الفوكلارى؛ الموعوظين الجدد؛ الكلمة المتجسدة…وغيرها من المؤسسات.
  3. الشكل الأخير للمؤسسات هو المؤسسات العلمانية الإكليريكية. فهناك الكثير من الكهنة الذين ينتمون إلى الجسم الكهنوتي الإيبارسي ويكرسون حياتهم للمسيح في نفس الوقت بالعيش وفقا للمشورات الإنجيلية بموجب موهبة روحية مميزة. إنهم بذلك يصيبون – كما يؤكد البابا – من الثروات الروحية التي تنعم بها المؤسسة التي ينتسبون إليها عونًا عظيمًا يمكنهم من أن يعيشوا في العمق الروحانية التي تميز الدعوة الكهنوتية ويصبحوا هكذا خمير شركة وسخاء رسولي بين اقرانهم الكهنة (ح.م. بند.12).

[1] يوحنا بولس الثاني (البابا)، الحياة المكرسة، 10، ص 15.

قد يعجبك ايضا
اترك رد