إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

لقاء فرنسيس وطفل المزود

0 526

نحتفل عام 2023 باليوبيل المئوي الثامن لتأسيس مغارة جريتشو، التي منها أخذ العالم فكرة المغارة في عيد الميلاد. ولا تمثل المغارة فكرة رائعة فقط من القديس فرنسيس بل تكشف لنا عن حقائق إيمانية جوهري لإيماننا المسيحي: الحقيقة الأولى هي الصورة الحقيقية لله المتجسد.هكذا نقرأ الحدث في سيرة فرنسيس: “قبل عيد الميلاد بأسبوعين تقريباً، ناداه الطوباويّ فرنسيس حسبما اعتاد مراراً وقال له:“إذا أردت أن نحتفل في غريتشيو بعيد الميلاد، اسبقني وهيّئ ما أقوله لك. أحبّ أن أصوّر الطفل المولود في بيت لحم وأن أرى بعينيّ الجسد المعاناة التي تحمّلها من جرّاء الحرمان ممّا هو ضروري لطفلّ مولود جديداً، كيف أنّه وضع في مذود وكيف نام على التبن بين الثور والحمار. لبس فرنسيس ثياب الشمّاس إذ كان شماسّاً إنجيليّاً، ورتلّ بصوت رخيم الإنجيل المقدّس. ذلك الصوت القويّ العذب الصافي والرخيم جعل الكلّ يتشوقون إلى السماء. ثمّ وجّه للشعب كلمات عذبة ذكر فيها المولود الجديد والملك الفقير ومدينة بيت لحم الصغيرة”.

يؤمن كل المسيحين بتجسد كلمة الله في ملء الزمان مولودًا من مريم العذراء، وهذا ما نقره في قانون الإيمان. لكن ما أضافه فرنسيس هو تأكيد لصورة الله المتجسد. عندما تصور فرنسيس حدث بيت لحم أعدَ مغارة جرتيشو ووضع فيها التبن والثور والحمار، لكنه لم يضع نماذج ليسوع ومريم ويوسف! أراد فقط أن يدرك العالم الظروف التي ولد فيها ابن الله في مجيئه إلى الأرض، أراد أن يرى العام بعيني الجسد المعاناة التي تحمّلها الطفل المحروم من أساسيات الحياة وما هو ضروري لطفل مولود حديثًا. أراد الأب الساروفي أن يرى الجميع كيف افتقر المسيح حبًا بنا، فصار على مثال البشر، فقيرًا متضعًا في مذود. 

لم يتوقف فرنسيس كثيرًا أمام عظمة الله ومجده، بل أمام تواضعه. في تسابيح الله العلي المحفوظ بخط يده في أسيزي، من بين كمالات الله يقول: “قُدُّوسٌ أَنْتَ، أَيُّها الرَّبُّ، الإِلَهُ الأَوْحَدُ، الَّذي يَصْنَعُ المُعْجِزات، أَنتَ الثَّالوثُ وَالوَحْدَةُ،… ” في نقطة معينة يضيف فرنسيس كلمة غير عادية: “أَنتَ التَّواضُع”!! لقد أدرك فرنسيس حقيقة عميقة جدًا عن الله يجب أن تملأنا أيضًا بالدهشة، أنه متواضع. لقد جعل نفسه صغيرًا لدرجة أنه ” أَخْلَى نَفْسَهُ” من أجلنا. أخلى نفسه وترك العروش السماوية لأجل أن يبحث عن الإنسان ويخلصه. أدرك فرنسيس تواضع الله عند تأمله لسّر التجسد الدائم لابن الله وهذا ما عبر عنه في رسالته لكل الرهبنة قائلا: “يا للعُلُوِّ العَجيبِ، والمَكانَةِ المُذْهِلَة! يا للتَّواضُعِ السَّامي! ويا للسُّمُوِّ المُتَواضِع! أَنْ يَتَّضِعَ رَبُّ الكَوْنِ، أَللهُ، وَابنُ اللهِ، بِحَيْثُ يَـتَوارى، مِنْ أَجلِ خَـلاصِنا، تَحْتَ شَكْلِ الخُبْزِ البَسيط!”.

كشفت مغارة فرنسيس صورة الله الحقيقية، وأنت ما هي فكرتك عن الله؟ علينا أن نرفض الصورة المشوهة عن الله والتي زرعتها الثقافة والعادات الغير مسيحية فينا وأن نقبل بأن إلهنا هو “متواضع”. يهوذا كان تلميذًا حقيقًا ليسوع، لا يختلف عن باقي التلاميذ، لكنه كان يضع في عقله صورة للمسيح كمخلص جاء لينقذ شعبه، فلم يقبل بتواضع المسيح أن يغسل قدمي تلاميذه، ومطالبته بالتلاميذ أن يفعلوا مثله: أَتَعْرِفُونَ مَا فَعَلْتُ لَكُمْ؟‏ .‏ .‏ .‏ إِنْ كُنْتُ،‏ وَأَنَا ٱلرَّبُّ وَٱلْمُعَلِّمُ،‏ قَدْ غَسَلْتُ أَقْدَامَكُمْ،‏ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَقْدَامَ بَعْضٍ.‏ فَإِنِّي وَضَعْتُ لَكُمْ نَمُوذَجًا،‏ حَتَّى كَمَا فَعَلْتُ لَكُمْ تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا».‏ (‏يو ١٣:‏١٢-‏١٥‏)‏. عاش خيبة أمل عميقة أمام صورة المسيح المشوهة فدخل آله آخر قلبه، إله المال. علينا تنقية صورة الله التي يؤمن بها كلٍ منّا.

هل تؤمن أن الراعي ترك العروش الملكية ليجد خروفه الضال؟

أين أنت الآن من الله الذي ينحدر كل يوم ليأتي للقاءنا في حياتنا اليومية؟

أن عدم تصديق إن يسوع يتجسد بهذه الصورة المتواضعة لأجلي وحدي هو سر المعصية. ليس الخطيئة هي شر تصنعه أو واجب ديني تتكاسل أن تقوم به أو خير لا تصنعه. الخطيئة هي عدم تصديق أن الله يحبك فخرج للبحث عنك، متحملاً أخطار الطريق. إنشغالنا بحياتنا يغلقنا على أنفسنا فلا نري سوى ذواتنا ولا نسمع صوت الراعي: “خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي” (يو 10: 27).

قبل أن يدعو مصلوب سان دميانو فرنسيس لترميم الكنيسة، كان شابًا يرغب في أن يكون أميرًا، فارسًا. كان يتنظر إلى المجد والسعادة الشخصية، ولديه مشروع خاص مثلنا جميعًا: العائلة، النجاح، المكانة، الشهرة، تقدير الآخرين. كان لديه مشروع “أناني- نرجسي” بحت حيث أنا وحدي في قلب كل شيء، مثلما نفعل جميعًا. مهتم فقط بالحاضر، بماذا أريد، واحقق ما أفكر فيه، وما أشعر به وما أراه!!

لكن يأتي الراعي ليبحث عنه ويرى في حلم، كحلم يوسف، قصر عظيم فيه من الأسلحة ما لم تره عين ولا اشتهاه قلب وفيه أيضا عروس فائقة الجمال. سمع صوت يناديه ويدعوه باسمه ويسأله: “أين تذهب؟” فاجاب فرنسيس: إلى پوليا ليشارك في المعركة. وإذا بالصوت يزيد إلحاحا ويسأله عمّن بوسعه أن يكون ذا فائدة أكبر له السيّد أم العبد. فأجاب فرنسيس: “السيّد”. «فسأله الصوت: “لمَ إذن تبحث عن العبد عوض السيّد؟”

عندما يجدنا الراعي يسألنا مستخدمًا ظروف الحياة، كما صنع مع فرنسيس. يجدنا في لحظات الضعف (لاحظ أن نوم فرنسيس يعبر عن ضعفه فلا يتحكم الإنسان في شيء، فدفاعاته العقلانية والإرادية منخفضة، وتكون الرغبات العميقة العاطفية واللاواعية أقوى ومكشوفة). يأخذ الراعي المبادرة والوقت والطريقة التي يصادفنا فيها في المرعي، لكننا بالتأكيد لسنا نحن من نحدد أين وكيف ولماذا اللقاء مع الرب.

يسأل الراعي عن ما هو أفضل بالنسبة لك. عن التسلسل الهرمي لحياتك، لا يعنى ذلك إن الأشياء الأخرى ليس لها قيمة خاصة بها، ولكن هناك دائمًا “الأفضل”.يتحدث فرنسيس عن “نفسه”، عن “مشروعه الطموح” ، كما قد نفعل نحن أيضًا: أعتقد، أود، كما قال فرنسيس: “أنا متأكد من أنني سأصبح أميرًا عظيمًا”. لقد كان واثقًا من “نفسه”. الطموح النموذجي الذي لا يعرف كيف يقيس نفسه أو غيره بشكل كافٍ. هنا يكشف الراعي عن نفسه بأنه السيد وفرنسيس يقضي حياته في البحث عن وهم.

كيف تعيش حياتك اليوم؟ هل أنت مهتم ببحث الله عنك وتسعى إلى لقاءه؟

هل أنت مشغول بضجيج الحياة فيضيع صوت الراعي ضمن الأصوات الكثيرة حولك؟

قد يعجبك ايضا
اترك رد