إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات

1٬365

كلمة “طوبى” تعني “المبارك”، أي الشخص السعيد، فالمسكين بالروح هو سعيد لأن له ملكوت السموات. يبدأ الملكوت الآن، في الحياة، بأن ينتقل الإنسان من واقع يملك ويسيطر عليه إبليس إلى واقع يملك فيه الله. كما يقول بولس الرسول: ” الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ” (كولسي 1: 13).

من هو المسكين بالروح؟

ماذا يعنى روح؟

كان في إيام المسيح، جماعة الصديقون التي لم يؤمنوا بالقيامة والملائكة والأرواح، كانوا يعتقدون أن الوجود هو ما تراه عينك. إن الإنسان هو جسد فقط، وله احتاجات يجب التفكير فيها والسعى لإشباعها. وهذا موضوع تجربة يسوع الأولى: «إِن كُنتَ ابنَ الله، فمُرْ أَن تَصيرَ هذِه الحِجارةُ خُبزً».

يحاول إبليس أن يقنعك بأنك فقط جسد يحتاج إلى غذاء وعلاج ومتعة وراحة. أصبحت مجمل حياتنا تدور حول الجسد واهتماماته: راحة الجسد، ورفاهية الجسد، وتأمين الجسد، وسلامةالجسد.كل هذه الأشياء ليست خطأ، لكن أن نعيش لأجل هذا فقط هو عين الخطأ. في حين إن الإنسان هو روح وليس جسد. أنت لست جسد يحتوي على روح، بل روح يسكن في جسد.

الجسد هو من الله، الذي يريد أن نقدس الجسد ونهتم به وأن لا نهمل أجسادنا، ولكنه يحذرنا أن نعتقد إن حياتنا هي مجرد جسد. أنت روح لا تحصر نفسك في الجسد فقط. المخاوف التي تزعجني مرتبط بالجسد، المتعة والألم مرتبطة بالجسد، السعادة التي تسعدنا والمرارة التي تستنزفنا مرتبطة بالجسد، إن الهدوء الذي يريحنا والغضب الذي يدمرنا مرتبط بالجسد، حتى علاقتنا بالآخرين وعلاقتنا بالله مرتبطة بالجسد.

أنت روح يسكن جسد، هذا ما عبر عنه بولس الرسول: “ونَحنُ نَعلَمُ أَنَّه إِذا هُدِمَ بَيتُنا الأَرْضِيّ، وما هو إِلاَّ خَيمَة، فلَنا في السَّمَواتِ مَسكِنٌ مِن صُنعِ الله، بَيتٌ أَبَدِيٌّ لم تَصنَعْه الأَيْدي” (2 كورنثوس 5: 1). يتكلم عن ساكن ومسكن، ساكن في هذا الجسد الذي شبه بالـ”خيمة”، في حين أن هناك “بناء” وليس “خيمة” غير مصنوع بيد، فهو أبدي. ثم يضيف: “ما دُمنا في هذا الجَسَد، نَحنُ في هِجرَةٍ عنِ الرَّبّ (5: 6ب).  هناك حالة أجمل من البقاء في الجسد، كما عبر بطرس الرسول: ” سأُفارِقُ هذا المَسكِنَ عمّا قريبٍ” (2 بطرس 1: 4). أنا لستُ مجرد الجسد.

لقد صدقنا الكذبة بإن الإنسان هو مجرد جسد. كم نشقى لخدمة الروح، وكم نبذل من الجهد لإطعام والعناية بأروحنا كما نفعل لأجسادنا؟ كم نجتهد لغسيل أرواحنا من القذاورات كما نفعل لأجسادنا؟ كم نفعل لفحص أرواحنا، كما نفعل لأجسادنا؟ فمن الممكن أن يكون هناك ميكروبات، أورام خبيثة قد أصابت الروح. هكذا صرخ أشعيا النبي عندما رأى السيرافيم قائلا: «وَيلٌ لي، قد هَلَكتُ لِأَنَّي رَجُلٌ نَجِسُ الشَّفَتَين، ..وقَد رَأَت عَينايَ المَلِكَ رَبَّ القُوَّات» (أش 6: 5). طلب تطهير روحه من الدنس، لقد كان يعلم بحالة روحه التي تحتاج إلى الغسل والتطهير.

من هو المسكين بالروح؟

يقول المسيح: “طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ” من هو المسكين؟ يستخدم متى كلمة “توخس” اليونانية التي تعنى الشحات، أو الفقير، لذا تأتي في بعض الترجمات بـ “طوبى لفقراء الروح”. إن كلمة “فقير” باللغة اليونانيّة لا تعني فقط الفقر المادي وإنما أيضًا تعني “متسوّل”. وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعبير العبري “عَناويم” أي فقراء الله والذي يشير إلى التواضع واليقين من حالته كمحدود الشخصيّة وحالته كفقير وجوديّا، فهؤلاء الأشخاص هم الذين يثقون بالرب ويعرفون كيف يتّكلون عليه. يتحدث التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة عن الإنسان كـ “متسوّل لله” (عدد 2559) ويقول لنا أن الصلاة هي لقاء ظمأ الله بظمئنا (عدد 2560).

ولتوضيح الشخص المسكين والفقر، نتوقف عند مثل الفريسي والعشار. لنتأمل في موقف كل من الفريسي والعشار لنعرف من هو الشخص الذي يقصده الرب يسوع بقوله: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات»:

  1. الفريسي: كان يشعر إنه بار لذا فهو أفضل من الآخرين، ويفتخر إنه بار. أحيانًا يتولد عندنا الشعور بأننا أفضل من الآخرين. قال أحد الرابيين، أليهود شمعي: “أن كان يوجد في العالم كله بارين فقط فهو أنا وابني وإذا وجد واحد فقط فهو أنا”. ربما لا نقول هذا علانية، لكن من الممكن أن يكون لدينا شعور مشابه بأننا أفضل من الآخرين: مثل أنا أخدم الكنيسة أفضل، أنا أصوم وأصلي، وأحضر القداسات واستمع إلى الترانيم والعظات، أخدم الفقراء وأساعدهم ماديًا، أعطي عشورًا للكنيسة، في حين كان موقف العشار مختلف تمامًا:

العشار: كان يشعر إنه غير مستحق أن يدخل إلى محضر الرب: “فوَقَفَ بَعيداً لا يُريدُ ولا أَن يَرَفعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماء، ” ولم يرفع نظره، بل قرع صدره قائلاً “ارحمني يا رب”. المسكين راه الفريسي وهو يدخل الهيكل وتجاوزه ليقف في الأمام ووقف ليصلي قائلا: “الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ السَّرَّاقينَ الظَّالمِينَ الفاسقِين، ولا مِثْلَ هذا العشار” هو يشكر الله لأنه أفضل من باقي الناس. لنلاحظ قوله: “لِأَنِّي لَستُ كَسائِرِ النَّاسِ” فهو يشعر إنه أفضل من “كل” الناس، وليس أفضل من البعض منهم، بل “الكل” (أنا في كفة وباقي الناس في كفة أخري).

المسكين بالروح هو الشخص الذي يشعر بأنه غير مستحق أن يواجه الله، مثل قائد المئة، قالوا للمسيح أنه يستحق أن تحقق له معجزة، لأنه بني لنا المجمع. وإذا به قال للمسيح ليست مستحق أن تدخل تحت سقفي، أشعر اني غير جدير بهذه المقابلة. وهذا طبيعي لأني خاطئ.

إذا أردت أن تكون مسكين بالروح عليك أن لا تفتخر بأنك أفضل من الآخرين. هكذا يقول إرميا النبي: “لا يَفتَخِرِ الحَكِيمُ بِحِكمَتِهِ، وَلا يَفتَخِرِ الجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلا يَفتَخِرِ الغَنِيُّ بِغِنَاهُ” (إرميا 9: 22- 23). وما هو الافتخارُ الحقيقيُّ؟ “بَل بِهَذَا لِيَفتَخِرْ المُفتَخِرُ، بِأنَّهُ يَفهَمُ وَيَعرِفُنِي، لأنّي أنَا الرَّبُّ” (إرميا 9: 23).  هذه هي رِفعةُ الإنسانِ، هذا هو مجدُه وجلالُه: أن يَعرِفَ حقًّا مَن هو كَبِيرٌ، وأن يَتَمسَّكَ به وأن يأخُذَ المجدَ من ربِّ المجد. قالَ الرسول: “مَن افتَخَرَ فَلْيَفتَخِرْ فِي الرَّبِّ” (1 كورنتوس  1: 31).

في صلاتنا أزلنا كل الحواجز بيينا وبين الرب، في حين يجب أن تكون هناك حواجز من اللياقة والاحترام والاتضاع، نحن نخاطب إله، خالق السماء والأرض، الذي عندما نزل إلى جبل سيناء غطاه الغمام ستة أيام وكان منظر مجد الرب كنارٍ آكلة، هرب من أمامه الهضاب والجبال. لما تخاطب الرب أخفض عينك. أجعل مسافة بينك وبين الرب، كما قالت مريم: تعظيم نفسي الرب.. لأنه نظر إلى اتضاع أمته، وليس أمه، بالرغم من أنها تحمل في احشائها رب الكون.

  • كيف صلَّى الفريسي؟ قال: “الَّلهُمَّ، شُكراً لَكَ لِأَنِّي..” تبدو صلاة شكر، لكنها ليس صلاة شكر! ليس بها كلمة واحدة للشكر، لأن من يشكر الله، فهو يشكره على عطاياه، على شيء ما حصل عليه. لكن الفريسي فهو يشكر نفسه “لأني قد صليت، قد صمت، قد أديت عشوري”. النتيجة هو لم يشكر الرب. الشكر الحقيقي يتحقق عندما نرفع تشكرات قلوبنا مقدرين نعمة الله علينا، أحسان الله علينا. أشكر الله من أجل الخلاص، أشكر الله لأجل أن غفر ذنوبي، أشكر الله على الصحة، على النعمة التي حصلت عليها. الشكر يقود إلى التواضع، لكن الفريسي يشكر ذاته، يشكر بره، يشكر جهوده التي بذلها هو.

كما إنه لم يطلب شيء في صلاته. كل منا يعيش بفيض من نعمة الرب، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد. هل تستطيع أن تقول ليس بحاجة إلى شيء. لا تكون كملاك الكنيسة اللاوُدِكِيِّينَ: “تَقول: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ” (رؤيا 3: 17).

كيف صلَّى العشار؟ قال: «كانَ يَقرَعُ صَدرَه ويقول: «الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!». قرع الصدر كان عادة قديمة للدلالة على الندامة. هو ضرب على القلب الذي هو مصدر كل الشر، وهو أخدع من كل شيء. مِنَ الْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ، قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ. هَذِهِ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ” (متى 15: 19- 20أ). نحتاج أن نفحص القلب، الإنسان الداخلي، الذي لا يظهر أمام الناس، أنت أمام الناس تبدو تقي ورع، إنسان علاقته مع الله جيدة. لكن فحص القلب مهم، لا تفحص قلبك على القلوب الآخرى، قيس قلبك على الله.

ماذا قال في صلاته: «الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ!». ارحمني تأتي في اليونانية بمعنى “استرني: فأنا عريان. يطلب من الله أن يغطيه لأنه عريان مكشوف أمامه. أجي إليك طامع في رحمتك، قبل أن أقف أمامك لتحاسبني، أسألك أن تسترني. والله هو رحيم غافر للذون قبل أن يُحاسب يستر. يشبه الوحي الإلهي التبرير والصفح عن الخطايا كالثوب الجديد، هكذا يقول إشعيا النبي: “أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ” (أشعيا 61: 11)، كأنه يقول غطني فأنا عريان، لذا في نهاية المثل لا يقول المسيح إن هذا نزل إلى بيته مرحومًا، بل نزل مبررًا، أي مستورًا. المسكين بالروح شخص يشعر إنه خاطئ، عريان ويلجأ إلى الله لكي يسرته الله ويغطيه. لم يقل العشار “أنا أخطئتُ” ليقصد بذلك فعل معن أو خطيئة معين من الممكن أن يتوب عنها، لكنه يقول “أنا الخاطئ”، أي أنا كلي، يتكلم عن كينونة مشوهة بفعل الخطيئة. إذا امتنعت عن الفعل الخطأ المشكلة لن تحل لأنه يوجد في داخلي كيان خطأء، خاطئ. هذا هو المسكين بالروح.

المسكين بالروح هو الشخص الذي يدرك حقيقته كخاطئ ويتضع أمام الله. لذا يقول يسوع في نهاية المثل: “أَقولُ لَكم إِنَّ هذا نَزَلَ إِلى بَيتِه مَبروراً وأَمَّا ذاكَ فلا”. إن هذا نزل إلى بيته مبررًا، مستورًا. والتبرير ثوب يقول الوحي الإلهي: “أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ” (أشعيا 61: 11)، كأنه يقول غطني فأنا عريان، لذا لا يقول نزل إلي بيته مرحومًا، بل نزل مبررًا، أي مستورًا. ثم يستخدم لوقا  اسم اشارة  “هذا” ليقصد بها العشار الذي أصبح قريب، في حين يستخدم اسم الاشارة “ذاك” للاشارة إلى العشار البعيد، جعل البعيد (العشار الذي وقف بعيد عن الهيكل) قريبًا وجعل القريب (الفريسي الذي وقع قريب) بعيدًا.  لأنه أعلن افلاسه.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.