الحياة الرهبانية ووسائل الاتصال الاجتماعية

من العلاقة مع الأخر إلى الاتصال بالأخر

المقدمة:

تُعتبر الحياة الرهبانية بمثابة المرآة لكل المتغيرات على المستوى الاجتماعي: فالجماعات الرهبانية هي نواة للتغيرات التي تحدث في المجتمعات التي تعيش فيها. فكل فرد فيها يدخل إلى الجماعة الرهبانية حاملا معه حقيبة خبرات التي تعلمها في حياته، وشبكة علاقاته التي ارتبط بها، وكل ما يتواصل معه في حياته داخل الجماعة. فالجماعة الرهبانية تجد نفسها أمام حتمية تنظيم كافة المؤاثرات التي تأتيها من الخارج عبر أعضائها.

في السنوات الأخيرة حدث طفرة في تلك المؤثرات التي تضغط على الجماعة الرهبانية وأفرادها كمواقع التواصل الاجتماعي التي يَسهل الدخول إليها عبر التليفونات المحمولة والأجهزة الذكية التي فاقت استخدامها أجهزة الكمبيوتر العادية مما ساهم في تغير طبيعة الحياة الاجتماعية للناس. فأصبح التواصل أسهل كثيرًا بتطبيقات مثل الوست آب، الفيس بوك، الفيبر، الصحافة والمنتديات والبوابات الالكترونية. كما إن توافر الأجهزة الذكية لدى مختلف شرائح المجتمع جعلها الشريك الدائم في حياتهم وترحالهم، كما أن حالة الإدمان التي توفره هذه الأجهزة نتيجة لإشباع رغبات الفضول وحب المعرفة لدى الناس جعلهم ملاصقين مع هواتفهم الذكية التي لا تكاد تغيب عن صاحبها إلا حين ينام، أن إحدى الدراسات التي أجريت مؤخراً قدرت أن الشخص العادي ينظر في هاتفه الذكي أكثر من 150 مرة طوال اليوم، وهذا مؤشر على حالة الإدمان التي يعيشها الإنسان مع هاتفه الذكي.

انتشار وسائل التواصل الاجتماعي جعلت لكل شخص امكانية إن يكون لديه منصة على الشبكات الاجتماعية، خاصه به، يبث فيها أفكاره ويتلقى المحتوى الذي يريده. فقد أشبعت تلك الوسائل حاجات نفسية أساسية لدي الفرد في إن الجميع بلا استثناء لديه حاجة ماسة لأن يَسمح المدح وأن يشعر بالانتماء وأن يتحكم ويرى إنجازه يتطور ويتقدم، ولأن يشعر بقيمته لدي الآخرين بالرعاية والاهتمام. فكل الدوافع الإنسانية أصبح بمقدور الفرد إشباعها وتحقيقها بضغطة زر وبإجراءات في متناول اليد، فسهولة استخدام التقنية أغرى الجميع باقتنائها. دفع هذا البعض إلى تزييف شخصيته، أو ما يُطلق عليه التنكر الإلكتروني، ليظهر بالصورة التي يرغب فيها ولكن لا يعيشها في الواقع متى كان في واقعه العملي لا يُشبع احتياجاته النفسية.

الجوانب الإيجابية والسلبية لوسائل الاتصال الاجتماعي

ينبه البابا فرنسيس في رسالته في اليوم العالمي للتواصل الاجتماعي 2016، بشأن قضية الجوانب الإيجابية والسلبية لهذه الوسائل. “إن البريد الإلكتروني والرسائل الهاتفية القصيرة، وشبكات التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة، هي أيضًا أشكال من التواصل البشري بكل معنى الكلمة. التكنولوجيا لا تحدّد أصالة التواصل، بل قلب الإنسان وقدرته على تحسين استخدام هذه الوسائل المتاحة لديه. إن شبكات التواصل الاجتماعي قادرة على توطيد العلاقات وتعزيز خير المجتمع لكن يمكنها أن تقود أيضًا إلى مزيد من الاستقطاب والانقسامات بين الأشخاص والمجموعات. البيئة الرقمية هي ساحة، مكان للتلاقي، حيث يمكن أن نعامل الآخر بلطف أو أن نجرحه، أن نقيم نقاشًا مثمرًا أو أن نقتل معنويًا”.

فلهذه الوسائل جوانب إيجابية كثيرة في الحياة الجماعية للمكرسين. فهي توطد العلاقات بين أفراد الجماعة الواحدة متى تم استخدامها بصورة جيدة، يمكن لرسالة قصيرة أن تُقرب بين أفراد الجماعة. بمحادثة قصيرة يمكن أن تتقاسم الجماعة أمرًا ما، تساند بعضها البعض، يدعم أحدهما الأخر، طلب صلاة من الآخر، نداء لربط الأعضاء وتوطيد الوحدة.

هكذا يصف البابا بندكتوس في رسالة بمناسبة اليوم العالمي لوسائل الاتصلالات الاجتماعية عام 2013 فائدة تلك الوسائل: ” توجد شبكات اجتماعية، في مجال البيئة الرقمية، تقدم للإنسان المعاصر فرصا للصلاة، وللتأمل، أو للمشاركة لكلمة الله. بل ويمكن لهذه الشبكات أيضًا أن تفتح الأبواب لأبعاد أخرى للإيمان. فأشخاص كثيرون يكتشفون اليوم، وفي المقام الأول، من خلال اتصال على شبكة الانترنت أهميةَ اللقاء المباشر، وأهمية خبرات الجماعة أو حتى الحج، وهي عناصر دائما مهمة في مسيرة الإيمان. مع سعينا المتواصل لجعل الإنجيل حاضرا في البيئة الرقمية، يمكننا أن ندعو الناس ليعيشوا لقاءات صلاة أو احتفالات ليتورجية في أماكن محددة كأماكن العبادة والكنائس. لا ينبغي أن يكون هناك نقص في التطابق أو الوحدة بين تعبيرنا عن إيماننا وشهادتنا الإنجيلية في الواقع الذي نحن مدعوون لعيشه، أجسديًّا كان أم رقميًّا. فعندما نكون متواجدين مع آخرين، نحن مدعوون بكل الأشكال أن نعلن محبة الله الى أقاصي الأرض”.

تحديات وسائل الاتصال الحديثة للجماعة الرهبانية:

ساهم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة استخدامها فرصةً جديدة لأن يوّسع المُكرس دائرة علاقاته خارج إطار الجماعة الرهبانية، فأصبح كل فرد على اتصال دائم بألاف الأشخاص الذين لا يعرفهم معرفة حقيقية. سهولة تكوين العلاقات عبر هذه الوسائل وامكانية الوصول إلى عدد أكبر من “الأصدقاء” والمتابعين خلقَ نوعًا من العزلة النفسية لدي أفراد الجماعة الرهبانية وحفزهم على تكوين علاقات وهمية وصداقات خيالية لا تمت للواقع بصلة. خاصة عند المقارنة مع صعوبات العيش المشترك في إطار الجماعة التي ينتمي إليها المُكرس.

الجماعة هي مكانٌ صعب يكشف محدودية الإنسان وأنانيته وعجزه عن التفاهم وإنغلاقه على ذاته واضطراب حياته العاطفية والجنسية، وحسده ورغبته في التمييز على حساب أخوته. في الجماعة يكتشف الإنسان عجزه عن الحب، ورفضه للحياة مع آخرين، يكتشف ضعفه فيلجأ إلى تطرفين لا ثالث لهما: الأول الهروب من الحياة الجماعية وإقامة أسوار داخلية، غير مرئية بينه وبين الأخرين. الثاني: هو إتهام الآخرين بما فيهم من ضعفات ونقائص لستر ضعفي وعدم مقدرتي على الحب.

أتاحت وسائل الاتصال فرصةً ذهبية لاختيار المسلك الأول، وهو العزلة النفسية عن الآخرين. فلنتأمل أوقات الحياة الجماعية في أديرة المكرسين اليوم، والكثير منهم يجلس مع جماعته الرهبانية وهو غارق كليًا في تصفح تليفونه أو عمل شات مع آخرين، دون أن ينتبه لمَن حوله، أو يتحاور معهم، أو يصغي للآخرين أو يساند أخوته في مشكلاتهم.

خلق بعض المكرسين عالمًا افتراضيًا يعيشون فيه بعقولهم وكيانهم. فتحولت منظومة العلاقات مع الجماعة الرهبانية من “علاقة مع آخرين” نعيش معهم ونتقاسم معهم مسيرة الحياة نحو هدف الكمال الروحي والإنساني، إلى حالة “اتصال مع آخرين” على نحو إفتراضي وانسحاب الجرئي والتام من الحياة الطبيعية وتكوين علاقات حميمة إفتراضية. فالمكرس مثلا قد ينعم بصداقات كثيرة على صفحته على تلك المواقع في حين لا يدخل في علاقة حقيقية مع أخوته الذي يعيش معهم تحت سقف ديرٍ واحد. فالخظر هو “تسطح” العلاقات، وأن يصبح الاتصال الافتراض بالآخرين هو القاعدة الأساسية للعلاقات، في حين إن العلاقات القريبة مع الأخرين تُصبح استثناءً.

أفرز استخدام وسائل الاتصال مجموعة من الأخطار التي نتجت عن تنامي وثورة الاتصالات الحديثة على الجماعات الرهبانية المعاصرة وتأثيرها بصورة مباشرة على الحياة الجماعية. سأكتفي في هذا البحث على مجموعة من الأخطار تهدد طبيعة الحياة الجماعية داخل جماعات المُكرسين.

  1. الخطر الأول: يتعلق بالأساس الذي يقوم عليه مبدأ الحياة الجماعية. فمنذ أن أسس القديس باخوميوس حياة الشركة، تغيير مفهوم الدعوة التي لم يعد فيها يختار الله شخصًا لخدمته بصورة منفردة، لكنه يدعو الشخص لإتباعه داخل جماعة رهبانية. يدعو أشخاص مختلفين اجتماعيًا وثقافيًا ولغويًا ليعيشوا معًا في إطار حياة مماثلة للجماعة المسيحية الأولى في أورشليم التي كانت الجماعة متحدة بقلبٍ واحد ونفسٍ واحدة. لو أُعطي لهؤلاء الأشخاص أن يختاروا لما اختاروا العيش معًا. من الناحية البشرية يبدو ذلك تحديًا مستحيلاً، فـأفراد الجماعة مختلفون فيما بينهم لا يجمعهم رابط.

الله هو الذي أختارهم لكي يعيشوا في هذه الجماعة التي لا تقوم على تعاطفهم معًا ولا على كفاءاتهم الإنسانية، وإنما على أبيهم الذي دعاهم لأن يعيشوا سويّة. يدعو الله أفراد الجماعة لكي يكونوا شهودًا للمحبة: “يَعرِفُ النـاسُ جميعًا أنَّكُم تلاميذي إذا أحبَبْتُم بَعضُكُم بَعضًا” (يوحنا 13: 35). وقد اختار يسوع، في جماعته الأولى، رسلاً مختلفين كل الأختلاف: بطرس، ومتى (العشار)، وسمعان (الغيور) ويهوذا.. فلو لم يدعهم المعلم لما عملوا معًا. فلا وجود لجماعة مثلى, يجب أن نحب الناس الذين وضعهم الله بجوارنا، فهم علامة لحضوره معنا. فلو أُعطينا أن نختار لكنا اخترنا أشخاصًا أكثر فرحًا وأكثر ذكاءً. ولكن هؤلاء هم الذين اختارهم لنا الله وأعطانا إياهم. ومعهم يجب أن نخلق الوحدة ونعيش الرجاء.

إلا إن الحياة الجماعية صعبةٌ تتطلب تضحية وبذل للذات، فالاشخاص مختلفون. الوصول إلى التوازن النفسي والانسجام بين أفراد الجماعة لا يحدث إلا بعد فترات طويلة من النضال والألم يعمل فيها كلٍ فردٍ على ذاته للكف عن النظر إلى نقائص الآخرين، وتعلم الغفران وقبول الآخر.

يقول الرب يسوع في العظة على الجبل: لا تُقاوِموا الشِّرِّير(لا تُقاوِموا مَنْ يُسيءُ إلَيكُم)، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر. أن تعيش في وسط جماعة هي أن تقبل أن يعاملك الأخر بشرٍ، بإهانة، بعدم محبة. وهذه هي تضحية الذات المطلوبة من أعضاء الجماعة ليصلوا إلى التناغم والانسجام بين أعضائها.

ففي الجماعة الرهبانية “الحقيقية” نتلاقي مع أشخاص لا نتفق معهم، يحجرون على أفكارنا، يعارضوننا وينتقدونا في كثير من الأمور. حضورهم يُمثل تحديًا كبيرًا لنا، فهم يُجسدون كل ما كنا نتمنى أن نكون، ويكشفون ضعفنا ومحدوديتنا. هؤلاء الأشخاص هم “أعدائنا”، فنشعر بشعور من البغض لهؤلاء، وهذا البغض سيكولوجي، لم يصبح بعد أخلاقيًا لأننا لم نقصده. نتمنى في قرارة نفوسنا ألا يوجد هؤلاء، فاختفائهم سيشعراننا بالحرية. كل هذا يجعلنا ننعزل عن البعض داخل الجماعة، وننغلق في جماعات صغيرة واحدة في مواجهة الأخرى.

لكن الجماعة لا تصبح جماعة حقيقية إلا عندما يقرر أعضائها أن يكسروا بوعي منهم هذه الحواجز، وأن يّنفتح كل فرد على الآخرين، أن يكشف ضعفه ويقبل ضعفات الآخرين. الجماعة “الحقيقة” لا تبنى إلا ببذل الجهد والتدريب المستمر على المحبة الذي يستغرق مسيرة الحياة بأكملها.

مع أنتشار وسائل التواصل الاجتماعي تغيرت نوعية العلاقات للمكرسين. فالجماعات الرهبانية لا تجتمع من تلقاء نفسها، بل استجابة لدعوة الله لها. لا يختار فيها المكرس من هم مشاركون له في اهتماماته، وحالته المزاجية وذوقه الخاص. في حين اتاحت العلاقات التي تنشأ على الويب تفضيلات للمكرسين باختيار من يتفقون معهم، من يجاوبون معهم ويعلقون على آراءهم. فأصبح لكل شخص “جماعته” الخاصة، التي لا تشترط معرفة شخصية، بل افتراضية.

ساهم وسائل التواصل في “خلق جماعات بديلة”، لا حاجة فيها لبذل الجهد لتحقيق التوازن والانسجام والبحث عن حلول لتدعيم أواصر المحبة بين أفراد الجماعة الرهبانية. هناك سهولة في العلاقات على مستوى الويب، فيمكن لي أن أنهي محادثتي وعلاقتي مع متابع بحدفه أو منعه مباشرة متى لم يتوافق معي، متى لم ظهرت صعوبات واختلافات فيما بيننا. هكذا يلزم فقط نقر على زر الكمبيوتر أو التليفون الجوال لأجل إنهاء علاقة ما، في حين إن هذا مستحيل على مستوى العلاقات في العالم الحقيقي.

  1. هناك خطر ثانٍ، يرتبط بالخطر الأول، يتمثل في: إجهاض مراحل النمو الطبيعي للجماعة الرهبانية. فكل جماعة رهبانية تمر بمراحل للنمو. تتطلب كل مرحلة تحضيرًا وتدريبًا، وعبورها لا يخلو من الآلام. الجماعة كالإنسان الطبيعي يمر بمراحل كثيرة للنمو النفسي، وفقا لنموذج أريكسون، ثمان مراحل متتابعة تنتهي كل منها بأزمة يؤدى حلها إلى نمو الشخص النفسي وكسب فاعليات جديدة، في حين يؤدى الفشل في حل هذه الأزمات إلى اضطراب النمو. هكذا أيضًا حياة الجماعة، فهناك أزمات تتعرض لها الجماعة، فإذا تغلبت عليها نتتقل إلى مرحلة أعلى، وإذا فشلت في حلها تتعقد الحياة داخل الجماعة.

تأتي التوترات داخل الجماعة من رفض النمو، رفض التغير والتطور، رفض قبول الألم. أتاحت وسائل التواصل فرصًا للهروب من العالم الواقعي وصعوبات القبول والتغيير. عند وجود أزمات في الحياة الجماعية فبدل من محاولة معالجة المشكلات بإعتبارها جزءً من مراحل النمو الطبيعية للجماعة، يهرب المُكرس إلى وسائل التواصل التي يجد فيها من يقاسمه أفكاره ويشاركه أهتماماته.

لا توجد جماعة رهبانية حقيقة مالم يحمل كل منهما أثقال الآخرين، كما يعلم بولس الرسول في رسالته إلى غلاطية: ” لِيَحمِلْ بَعضُكم أَثْقالَ بَعض وأَتِمُّوا هكذا العَمَلَ بِشَريعةِ المسيح” (غلا 6: 2). “حمل” ثقل الآخر يعنى رفع الشيء عن كاهله. يصل الرب يسوع إلى العمق في عظته على الجبل عندما يُعلن: ” ومَن سَخَّرَكَ أَن تَسيرَ معه ميلاً واحِداً. فسِرْ معَه ميلَيْن”. فالعبد، وفقا للتعاليم اليهودية، لم يكن مسموحًا له أن يحمل آخر لأكثر من ميل واحد، حتى لا يتعرض للاجهاد والموت. فلا تحمل أثقال الآخر فقط، بل تحمل الآخر ذاته، إن لا تقاوم شره، أن تسمح للآخر أن يكون شريرًا معك، أن يخطئ في حقك. وهذا لن يتحقق إلا إذا أَحببنا الآخر محبة حقيقية.

لا يتوقف الأمر عند حمل الآخر ذاته، بل أن نقبل أن نتقاسم الحياة مع البعض الذي يرغب في تعريتنا بالكامل، لذا يقول يسوع: “ومَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ، فاترُكْ لَه رِداءَكَ أَيضاً” ليدلَ على صعوبة العيش المشترك.

المحبة الأخوية مستحيلة دون أن يتأنى الإنسان: “الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى” (1كو 13: 4). فالتدريب على المحبة يستغرق حياة بأكملها، لأنه يجب أن يدخل الروح القدس إلى كل تعاريج كياننا وخباياه، إلى كل الزوايا التي يعشش فيها الخوف والقلق والمقاومة والحسد. وهذا لن يتم إلا بالإصغاء إلى الأخر وتوفير الوقت والجهد لمحاولات التفاهم.

الخطر هنا كامنٌ في الهروب من المواجهة إلى عالم افتراضي، للبحث عن “أصدقاء” يعطونني نوعًا من الارتياح النفسي، بعيدًا عن ألام النمو في المحبة الجماعية التي تربط أعضاء الجماعة الرهبانية. ليس هناك حاجة إلى حمل أثقال الآخرين، ولا تحمل ضعفاتهم ونوازعهم الشريرة. هنا نجهض كل محاولة للنمو الطبيعي للجماعة الرهبانية التي تتطلب المرور بمراحل النمو المختلفة:

  • الذين يدخلون في جماعة يعيشون، في أيامهم الأولى زمن الغزل والبهجة: كل شيء يسير على ما يرام. لا يرون النقائص في الآخرين، يلاحظون فقط الحسنات. كل شيء يبدو رائعًا، كل شيء جميلاً. يخيل إليهم أنهم محاطون بملائكة، أو بأبطال، أو بكائنات فريدة من نوعها، تتحلى بكل المزايا المطلوبة.
  • ثم يأتى زمن خيبة الأمل التي يرجعونها في الغالب إلى الإرهاق، أو إلى الشعور بالعزلة، أو مشكلات أخرى مختلفة. تتغير النظرة ويصابون بالاكتئاب، ويبدو كل شيء مظلمًا، ولا يرون إلى أخطاء الآخرين، ونقائص الجماعة. كل شيء يثيرهم، وتصبح الحياة جحيمًا لا يطاق.
  • إذ استطاعوا أن يجتازوا هذه المرحلة، فإنهم يدخلون في مرحلة ثالثة، هي مرحلة الواقعية والالتزام الحقيقي. في هذه المرحلة، لا يكون أعضاء الجماعة يظهرون كقديسين أو أبالسة، بل بشرًا، كل واحد منهم خليط من خير وشر، من ظلام ونور. فينضج الجميع، ويعيشون الهدف من بناء جماعتهم. وتأخذ الجماعة مكانها الطبيعي ليس في الإعالي ولا في الأسافل، وإنما على الأرض. ويبدون هم مستعدين للسير معها وفيها، فيقبلون الجماعة والآخرين كما هم، ويثقون أن بإمكانهم أن يتقدموا سوية نحو شيء آخر أكثر إشراقًا. يقول هنري نيومن إن الذين قضوا سنوات طويلة في الجماعة يعرفون أنهم لم يواجهوا هم المصاعب بقوة إرادتهم، بل انما الله هو الذي أبقى الجماعة مُتحدة. في الواقع، ليست وحدة الهدف هي التي تؤلف الجماعة، ولا المحبة المتبادلة، وإنما دعوة الله للجميع.
  1. هناك خطر ثالث يتمثل في: فقدان أهمية التواصل المباشر مع الآخر. أدى هذا إلى غياب للحوار الحقيقي بين أفراد الجماعات الرهبانية. هناك حوارات كثيرة بين أعضاء الجماعة الرهبانية، لكن معايير الحوار الحقيقي غابت كثيرًا. فالحوار البناء يقوم على إصغاء فعال للآخر. والإصغاء هنا أكثر من التقاط الاشارات الصوتية، كذلك أكثر من فهم ما يقوله الآخر، إنه يعنى أن أَدرك أَن الآخر يود أن يقول شيئًا مهمًا بالنسبة ليّ، شيئًا عليَّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة، على تغيير رأي، كما يقول الفيلسوف الأملاني أو. ف. بولنوف.

الإصغاء إذن ليس سهلاً على الإطلاق. الإصغاء يعني التنبّه، والرغبة في الفهم، والتقييم والاحترام والحفاظ على كلمة الآخر. في الإصغاء يحصل نوع من الاستشهاد، التضحية بالذات، حيث يتجدّد الفعلُ المقدس الذي قام به موسى أمام العلّيقة المشتعلة: أي أن أخلع نعليّ على “الأرض المقدسة” حيث يحصل التلاقي مع الآخر الذي يحدّثني. معرفة الإصغاء هي نعمة عظيمة، إنها هبة لا بد من ابتهالها كي نتمرّن على ممارستها. لا يمكن القول بأن المكرسون يعيشون في إطار حياة جماعية مالم يتوافر هذا النوع من التواصل الفعال بين أعضائها. فجماعة الرسل المُتحلقة حول يسوع كانوا يتناقشون ويتبادلون الآراء، يصغى كل منهما إلى الآخر.

  1. يرتبط بغياب الحوار الحقيقي فقدان التواصل الحسي مع سهولة التواصل الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي اليوم. فعلاقة مع الآخر اقتصرت على الكلمة، الضروية أحيانًا، في إطار الحياة اليومية. لكن التواصل الفعال قائم على فعل حي يُشارك فيه الجسد من خلال النظرات وتعابير الوجه وحركات اليدين واللمس والصوت. فحوارات المسيح مع الناس لم تكن لفظية فقط، بل رافقت الكلمة إيماءات جسدية تصل المشاعر إلى الإنسان. فلا يكتفي بالقول للأبرص “اشفى”، بل يشفيه من خلال اللمس (متى 8: 3)، فيعيد إلى ثقته بذاته بأن ليس إنسانٌ مرفضٌ ومعزول عن المجتمع بسبب مرضه المعدي. يبارك أولادهم، نجد يسوع يداعب الأولاد، يحملهم في ذراعه، يضع يديه عليهم ويباركهم (راجع مر 10، 16(. البعض في حاجة إلى هذا النوع من التواصل الذي يختفي تمامًا أمام تلك الشخصيات الافتراضية والحوار عبر المسافات بين جماعات اليوم.
  2. هناك خطر أخر يُهدد الحياة الجماعية للمكرسين هو المتعلق بمسيرة التنشئة الروحية الشخصية. يحذر البابا في رسالته من فكرة العمل الفردي، فهناك مليون من المتابعين، لكن الشخص يكون وحيدًا جسديًا. هذا يجعلنا نفكر في مسيرة النمو والنضج التي تتم من خلال الاحتكاك والعلاقات المباشرة مع الأصدقاء والمربيين والمرشدين والأهل. ولنا أن نتصور صعوبة الأمر عندما ندرك أن الوقت الأكثر يقضيه الشخص في علاقات إفتراضية.

يدخل الشخص إلى الحياة الرهبانية وأمامه عمل كثير ليصل إلى مرحلة النضوج النفسي والعاطفي والروحي. لهذا من المهم الانتباه إلى الوقت، كما أن المساحة المتروكة للعلاقات الاجتماعية الحقيقية أقل من أن تحتلها العلاقات الإفتراضية. يقول بولس: “مُنتَهِزينَ الوَقتَ الحاضِر” (أفسس 5: 16)، داعيًا إلى استخدام الوقت بصورة جيدة حتى ينمو الإنسان روحيًا ويصل إلى تلك الصورة التي دعيَّ إلى تصورها في حياة: “وسَبَقَ أَن قَضى بِأَن يَكونوا على مِثالِ صُورَةِ ابنِه” (رومية 8: 29) فالمُكرس اختار هذه الحياة ليقتدى بيسوع المسيح ويصبح على مثاله. والوصول إلى هذه الصورة، يتطلب الاستفادة من كل وقت متاح وعدم اهداره دون فائدة عبر تصفح مواقع التواصل الاجتماعي.

يمكننا الحديث اليوم عن مظاهر لإدمان وسائل التواصل الاجتماعي، ليس بغرض الدخول على مواقع إباحية، أكثر من اهدار الوقت في تصفح صفحات لن تعود بفائدة على المسيرة التكوينية للمكرس. رصدت صحيفة ديلي ميل البريطانية مؤخرًا تنامي ظاهرة إدمان تلك الوسائل، وعددت الدراسات التي أثبت تعرض المدمن إلى  آثارا نفسية وجسدية مثل الخمول الجسدي وقلة الحركة والصداع والشعور الدائم بالتوتر والتعب خصوصا عند انقطاع الإنترنت, إضافة إلى حب الوحدة والتشبث بالرأي والهروب من مواجهة المجتمع الواقعي.

تكريس
Comments (0)
Add Comment