الجمعة العظيمة 2015
حدثت هذه الواقعة منذ ١٧٠ عاما: في عام ١٨٤٣ وقعت في مصر مصيبتان: انتشر الجراد والتهم الزرع مما أدي إلي تدمير معظم المحاصيل الزراعية ثم لم يلبث وباء الطاعون أن استفحل في البلاد فقضي علي حياة عشرات الألوف من المصريين.. وعاشت مصر في مجاعة وبؤس ووسط هذه المحنة وصل إلي إقليم المنصورة بعض الأطباء الأجانب بغرض دراسة وباء الطاعون المتفشي بين المصريين، ومن أجل الكشف عن طريقة انتقال جرثومة الطاعون لجأ هؤلاء الأطباء إلي حيلة غير إنسانية أطلقوا عليها تجربة “جلباب الموت “..: فقد أخذوا ثياب المتوفين من ضحايا الطاعون وعرضوا علي الفلاحين ارتداءها مقابل خمسة قروش في اليوم ،وكان هذا مبلغا لا يستهان به بالنسبة لأسرة فقيرة تعيش بنصف قرش في اليوم، كان الأطباء يريدون اكتشاف إذا كان الطاعون تنتقل عدواه بالملامسة. وبسبب فقر الفلاحين المدقع من ناحية واغراء الخمسة قروش من ناحية أخري، تدفق عشرات الفلاحين إلي مقر إقامة الأطباء الأجانب وتزاحموا عليهم بل وتوسلوا إليهم لكي يسمحوا لهم بارتداء جلباب الموت.. وكان الأطباء علي يقين من أن الفلاحين الجهلاء لا يدركون خطورة ارتداء جلباب الموت.. لكن المفاجأة حدثت عندما نقل المترجمون إلي الأجانب الحقيقة المذهلة: إن هؤلاء الفلاحين الذين يتوسلون من أجل ارتداء الجلابيب الموبوءة يعلمون جيدا أن مصيرهم الموت.. وقد أثار هذا الأمر فضول الأطباء فسألوا أحد الفلاحين لماذا يريد أن يعرض حياته للموت فأجاب: “أنا شيخ مسن وقد شبعت من الدنيا وفي رقبتي أسرة كبيرة أنا عاجز عن إعالتها.. فلو سمحتم لي بارتداء الجلباب و أعطيتموني المكافأة أستطيع أن أضمن الطعام لأسرتي”.
هذه الواقعة المحزنة ذكرتها المستشرقة البريطانية صوفيا لين بول في كتاب أصدرته عن مصر بعنوان “حريم محمد علي باشا” (ترجمة د. عزة كرارة).. ولعل القارئ البريطاني الذي طالع هذه الواقعة انزعج بشدة للمدي المحزن الذي وصل إليه الفقر في مصر خلال القرن التاسع عشر.. فالطبيعي أن يتزاحم الناس ويتدافعون هربا من الموت أما أن يتوسل البؤساء من أجل إلباسهم جلباب الموت مقابل مبلغ يكفي لاطعام أولادهم الجوعي.. فذلك أقسي ما يمكن أن ينحدر إليه الإنسان في أي زمان ومكان: أن ينهي حياته بيده من أجل إطعام أولاده..
إن سر الإيمان المسيحي ليس في أن نحب الله بل في أن ندرك أن الله يحبنا. في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا. ففي الصليب تفسير كل شيء. إذا كنا نحن البشر نحب أولادنا، ومستعدون أن نضحي من أجلهم””فأيُّ أبٍ مِنكُم إذا طَلبَ مِنهُ اَبنُهُ سَمكَةً أعطاهُ بدَلَ السَّمكَةِ حَـيَّةً؟ أو طلَبَ مِنهُ بَيضَةً أعطاهُ عقرَبًا؟ فإذا كُنتُم أنتُمُ الأشرار تَعرِفونَ كيفَ تُحسِنونَ العَطاءَ لأبنائِكُم” (لوقا ١١: ١١- ١٣). فكم هو الله الذي أراد أن يخلص الإنسان، فصار إنسانًا وتحمل كل هذه الآلام ومات على الصليب لأجل كل إنسان. سر الصليب يكشف كل شيء، فلا وجود للمسيحية بدون الصليب: “هكذا أحبَّ الله العالَمَ حتى وهَبَ اَبنَهُ الأوحَدَ، فَلا يَهلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤمِنُ بِه، بل تكونُ لَهُ الحياةُ الأبدِيَّةُ”.
لقد دُهِشَ يوحنا الحبيب في مقدارمحبة الله للبشر وقال بوحي الله: ١ يوحنا ٤: ٩ ” والله أظْهَرَ مَحبَّتَهُ لنا بأنْ أرسَلَ اَبنَهُ الأوحَدَ إلى العالَمِ لِنَحيا بِه” يوحنا ١٥: ١٣ ” ما مِنْ حُبٍّ أعظَمَ مِنْ هذا: أنْ يُضَحِّيَ الإنسانُ بِنَفسِهِ في سَبـيلِ أحبّائِهِ.”. رأى بولس الرسول تلك المحبة بوحي الله ايضاً في رومية ٥: ٨ ” الله بيّن محبته لنا لانه ونحن بعد خطاة مات المسيح لاجلنا”.
كيف تجاوب الإنسان مع هذه المحبة
لنلقي النظر على شخصين من الشخوص الكثيرة الواقفة بالقرب من الصليب ولنرى مدى تجاوبها مع محبة الله لها وفي قصة كل منهما الكثير لنتعلم منها. الشخصية الأولى هي يهوذا.
وقد تم اختيار يهوذا منذ اللحظة الأولى ليكون أحد الإثني عشر. يكتب الإنجيلي لوقا عنه عندما يُدرج اسمه في لائحة أسماء الرسل: “ويَهوذا الإِسخَرْيوطِيُّ الَّذي انقَلَبَ خائِناً” (لوقا ٦، ١٦). لذا فيهوذا لم يولد خائناً ولم يكن خائنًا عندما اختاره يسوع ولكنه أصبح خائنًا! وهذه أكثر المأساة ظلمةً في تاريخ الحريّة البشريّة. لماذا انقلب خائنًا؟ منذ فترةٍ ليست ببعيدة، عندما كانت نظريّة يسوع “الثوريّة” رائجة، حاول البعض ان يربط ما فعله بدوافع مثاليّة. فيهوذا ينتمى إلى جماعة من المتطرفين الذين كانوا يدعون إلى استخدام السيف في وجه الروما. ويعتقد البعض أن يهوذا خاب ظنه في يسوع وبفكرته حول “ملكوت السموات” وأنه كان يُريد دفعه إلى الانتفاض أمام الرومان، أن يجبره على القيام بمعجزة كبيرة يسحق فيها الأعداء الرومان.
لكن الأمر الأكثر واقعية أن ما دفع يهوذا هو المال. لقد كان يهوذا مسؤولاً عن صندوق الجماعة، ولذلك اعترض في بيت عنيا عندما دهنت مريم قدميّ يسوع بطيب الناردين الغالي الثمن، وبهذا يكتب الإنجيلي يوحنا: لكن هذا لم يكن لاهتمامه بالفقراء، “بل لأَنَّه كانَ سارِقاً وكانَ صُندوقُ الدَّراهِمِ عِندَه، فَيختَلِسُ ما يُلقى فيه” (يوحنا ١٢، ٦). وبهذا نفهم سؤاله لعظماء الكهنة: “ماذا تُعطوني وأَنا أُسلِمُه إِليكم؟ فَجَعلوا له ثَلاثينَ مِنَ الفِضَّة” (متى ٢٦، ١٥).
إن الجشع هو عدو الله الحقيقي لأنه يخلق عالمًا موازيًا لله. يقول الكتاب المقدس: ” إذا كُنتَ قادرًا أنْ تُؤمِنَ، فكُلُّ شيءٍ مُمكِنِ لِلمُؤمِنِ” (مرقص ٩: ٢٣). في حين يقول العالم: “كل شيء مستطاع لمن يملك المال”. فمن يملك المال يساوى الكثير. أحب الله الإنسان وبذل ذاته على الصليب لأجله، لكن الإنسان أختار المال. وإن فعل فاعتقادًا منه أنه سيعطيه نفوذًا ما أو فائدةً آنيّة. ويقول لنا يسوع بوضوح: “ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يعمل لسَيِّدين، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِض أَحدهما ويُحبَّ الآخر، وإِمَّا أَن يَلزم أَحدهما ويَزدري الآخَر. لا تستطيعونَ أَن تَعمَلوا للّه وللمال” (متى ٦، ٢٤). فالمال هو “الإله المرأي” بعكس الإله الحقيقي الذّي لا يمكننا رؤيته.
إن خيانة يهوذا تتابع عبر التاريخ، والمخدوع هو يسوع دومًا. فيهوذا قد باع معلّمه أما أتباعه فيبيعون جسده، لأن الفقراء هم أعضاء جسد المسيح و” كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متى ٢٥، ٤٠). فالرجل الذي يخون زوجته، والمرأة التي تخون زوجها، والكاهن الذي يخون دعوته، والتعامل بغير أمانة هى مظاهر خيانة للمسيح. دعونا نفكر في يهوذا الساكن فينا. كل شخص يخون ضميره يخون المسيح مجددًا. فالمسكين يهوذا لم يكن يعرف مَن هو يسوع، كان يعتقد فقط إنه “إنسان حَسُن السيرة” لم يكن يعرف إنه ابن الله، أما نحن فنعرف!.
الشخصية الأخرى هى مريم أخت لعازر التي سكبت الطيب على قدمي يسوع
قبل الفصح بستة أيام، وبعد حدث إقامة لعازر، تواجد يسوع في بيت لعازر في بيت عنيا، فأخذت مريم قارورة طيب غالي الثمن من الناردين النفي، وسكبتها على قدمي يسوع ومسحتهما بشعر رأسها، فامتلأ البيت برائحة الطيب. فقال يهوذا الاشخريوطي: “أما كان خيرًا أن يباع هذه الطيب بثلاث مئة دينار ويوزع على الفقراء. يقول القديس يوحنا تفسيرًا لموقف يهوذا: “قالَ هذا لا لِعَطفِهِ على الفُقراءِ، بَلْ لأنَّهُ كانَ لِصُا وكانَ أمينَ الصُّندوقِ، فيَختلِسُ ما يُودَعُ فيهِ”.
هذا هو الفرق بين قلب محب للمال وقلب أحب يسوع إلى الدرجة التي وضعت فيها كل أنوثتها على المحك. لم تخجل من تغسل قدمي يسوع بالعطر الثمين وتجفف قدميه بشعر رأسها. الشعر هو تاج المرأة ومجدها الشخصي. فالحفريات الأثرية تُوضح لنا أن الأمشاط كان اختراع البشرية الأول، فالأهتمام بالشعر شيء جوهري بالنسبة للنساء، فهو التاج الذي يزين هامة الرأس. عندما تريد الفتاة عمل تغير جوهري تلجأ لتغيير تسريحة الشعر.
هل لنا أن نتخليل كشل مريم بعد أن غسلت قدمي يسوع وجففتهما بشعر رأسها!! سيكون منظهرها قذرًا جدًا، التراب والدموع سيتحولان إلى طين على الشعر “المنكوش”. ماذا فعلت المرأة؟ وضعت أنوثتها على المحك!!، أن تكون امرأة محل تحقير شديد. دون أدنى شك كانت المرأة جميلة فهي زانية، كما يظن البعض، أي مطلوبة من الرجال, والآن تضع شعرها، الذي هو أهم مظاهر جمالها وأنوثتها، في أحقر صورة ممكنة. لم يتوقف الأمر عند اهانة انوثتها بيدها، هنا ما هو أهم!!
أخذت قاروة طيب غالية الثمن وسكبتها على قدمي يسوع. دفعت المسكينة مبلغًا كبيرًا للحصول على تلك القارورة، فالعطر غالي الثمن لم تحتفظ به لنفسها. وفقا لتقاليد العُرس في اليهودية قديما، كانت الفتاة تكتنز ما يتوفر لها من مال في سبيل أن تقتني قارورة من العطر الثمين ليوم زفافها. هل ما زالت تحتفظ مريم بزجاجة العطر التي لم تستخدمها أبدًا بسبب ضعوط الحياة. وضعت المرأة كل أموالها على المحك!! أين تسكبه؟ على القدمين!
تتخلى المرأة إذن على أنوثتها، كأمراة جميلة، وعلى ما تملكه من أموال، وتبكي عند قدمي يسوع. تصرفت كالمجنونة، هذه الأفعال لا يفعلها إلى إنسانة مجنونة، مخبولة، تأتي بأفعال غير طبيعية تمامًا. هي أفعال العاشقة، فالعشقين فقط يقدمون على هذه الأفعال.
عندما تُحب تفقد صوابك واتزانك المعهود، تأتي بأفعال غير طبيعية، مجنونة. إذا لم تكن مستعد أن تتخلى عن حياتك، عن أنوثتك، عن ذكوريتك، عن جمالك، عما يقوله الناس عنك.. فلم تحفل المرأة بكلام الناس وانتقداتهم وحكمهم عليها وعلى جنونها وأفعالها، لكنها أحب يسوع ولأجله وضعت كل شيء كنفاية، الحياة والأنوثة والمستقبل.
ماذا يفعل الإنسان عندما يُحب؟ يأتي بأفعال غير منطقية وغير عاقلة، يضع حياته على المحك، اسمه ومستقبله، قلبه وروحه. كيف تقع في الحب إذا تصرف بعقلانية محسوبة، بالمنطق، إذا لم تقامر بالحياة؟ أن تتخلى عنها لأجل شخص آخر مهم بالنسبة لك، تشعر أنه أهم من حياتك ذاتها. تشعر لا معنى للحياة بدونه.
هذا هو الفرق بين يهوذا ومريم أخت لعازر. بين محبة الله ومحبة المال. من يُحب المال سيضحي بالله والآخرين في سبيل نفسه. يقول لنا الكتاب المقدس: “إن حُبَّ المالِ هو أَصل كلِّ شرّ” (١ تيم ٦، ١٠). ووراء كلّ شرور مجتمعنا هناك المال أيضًا. . إن الطمع أو محبة المال التي هي أصل كل الشرور قادت يهوذا في الانحدار من خطوة إلى خطوة حتى أعمت نفسه وانتهى بها إلى تلك الخطية الرهيبة عندما أسلم سيده بثلاثين من الفضة، وسقط بتعديه ليذهب إلى مكانه.
يضيف الرب شيئاً آخر يسجله متى ومرقس “الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها”. ونتعلم من هذا كم كان مستحباً لقلب الرب ما فعلته مريم وأي مجازاة تفوق الوصف يمنحها لها. فطالما بقي الإنجيل فإن عمل مريم يظل محتفي به ومدخراً في قلوب شعب الله. وبهذا المعنى أيضاً يبقى بيت الله متعطراً برائحة الطيب.
ثم يتوقف بعد ذلك أي ذكر لمريم. ويلفت انتباهنا هذه الحقيقة وغالباً ما نلاحظها، فهي لم تظهر عند القبر مثل مريم المجدلية وبقية النسوة. وإذا كان التفسير صحيحاً ونحن لا نشك في ذلك أنها كما قادها الروح لتكون في شيء من الشركة بموته فقد تعلمت أيضاً عدم جدوى أن تطلب الحي من بين الأموات. إذ أشرق في نفسها رجاء في ربها المحبوب من خلال موته. رجاء ما وراء الموت إذ يفصلها من الأرض ويربط قلبها به في هذا المشهد الجديد والمكان الذي سيدخله.
فلنتذكر أنه كان من امتيازها أن تجلس عند قدميه تسمع كلامه وأن تقبل مشاركته لها ومؤازرته وعونه لها في حادثة لعازر، إنها رأت مجد الله في إقامته لعازر كما رأت يسوع في مجده كابن الله. ولذلك كان من الصعب عليها أن تظن أنه يبقى ممسوكاً بالموت أو أ، قدوس الله يرى فساداً ولذلك لم تكذب إيمانها بزيارة القبر.