الأحد الأول من الصوم الأربعيني 2016
تجارب يسوع مت 4: 1- 11
إذا فتحنا سفر أشعيا النبي يصدمنا ما يقوله الوحي الإلهي عن الصوم: “الصوم الذي أريده هو أن تُحل قيود الظلم، وتفك سلاسل الإستعباد ويُطلق المنسحقون أحراراً وينزع كل قيد عنهم”. (أش58/ 6). نشعر بخجل من الطريقة التي أعتدناها في الصوم، فكثيرا ما نغرق في تفصيلات تبعدنا عما هو جوهري في الحياة. نبحث عن بعض الإماتات، حاصرين صيامنا بالامتناع عن طعام مفضل، ونبحث عن بديل.. ننتظر أن تمر الدقائق لننهي فترة انقطاع عن أمر نحبه، منتظرين إنتهاء أيام الصوم الأربعيني لنعود إلي ما أعتدناه بنهم أكبر وشره أشد.
ليس هذا هو الصوم، إذا ما عدنا إلى أشعيا النبي، “ليس هو أن أحني رأسي كعشبة وأفترش المسح والرماد” (58/ 5)، والويل لي إذا حصرت الصوم بهذا وحده.
فلنسأل أنفسنا، ونحن مازلنا في الأسبوع الأول، ما هو معني الصوم؟ البعض يري إنها فترة إماتة، فترة تجربة… وننسى الهدف الأساسي للصوم الذي هو العودة إلى الله، لنعلن له إننا نحبه فوق كل الخيرات المادية، هو مصدرنا وغايتنا وكفايتنا، به نتحرك ونوجد ونحيا.
إن مجمل تجارب يسوع تَصب في هذا الهدف الأساسي، الله هو كل شيء، فمنه تخرج الكلمة التي تعطي الحياة للبشر وليس الخبز الذي يمكنه مساعدة الإنسان على البقاء. له وحده يحق السجود والعبادة. استخدم يسوع كلمة الله ضد الشيطان، فانتصر.
كيف نعود إلى الله لنعلن له إننا نحبه فوق كل الخيرات المادية؟ “يا ربٌّ، متى رأيناكَ” فيُجيبُهُمُ المَلِكُ: الحقَّ أقولُ لكُم: كُلَ مَرَّةٍ عَمِلْتُم هذا لواحدٍ من إخوتي هَؤلاءِ الصَّغارِ، فلي عَمِلتُموهُ! يصبح صوما غير مكتملاً إذا أهملنا ما هو محوري: الآخر، صورة الله ومثاله، أخي الإنسان المتألم، أكان ألمه مادياً، أم معنوياً. فالصوم كما يقول أشعيا النبّي: :هو أن أكسر للجائع خبزي وأدخل الطريد المسكين بيتي، وأن أرى العريان فأكسوه، ولا أتوارى عن أهل بيتي”. (أشعيا 58/ 7). أصبحنا اليوم مكتفين كل منا بحياته، يحيا بمفرده كأنما عالمنا قد صار مجموعة جزر لا تتلاقي، منعزلة.
ما اعلنه اشعيا ودعاه “الصوم المقبول عند الرب”، وهو ما تمّمه يسوع المسيح معطياً ذاته فداء احباءه. نحن في حاجة إلى هذا النوع من الصوم، نحتاج مشاركة المحتاج خبزنا، والخبز ليس فقط كمأكل ماديّ، بل هو في الكتاب المقدّس رمزٌ للحياة نفسها، هو تقاسم المصير، واتاحة المجال للانسان أن ينطلق من جديد في حياة جديدة. كسر خبزي للجائع هو أن أشبع جوع المتألم الذي في حاجة إلى كلمة تعزية، أشبع جوع الوحيد الذي في حاجة إلى تعضيد ومساندة، أشبع جوع المهمش بإلتفافة أخوية، أشبع جوع اليائس بأن أعطيه معنى جديد لحياته من خلال المشاركة والإنصات الجيد.
الصوم المقبول عند الرب هو “ان ادخل الطريد بيتي”، اي ان افسح للغريب مكانا في حياتي، فلا اجعل نفسي محور الوجود ومالكاً للحقيقة المطلقة، ان ادخل الطريد بيتي هو ان اقبل حقّ الآخر في ان يكون مختلفا، اقبله، وأحبّه وادخل في علاقة حوار معه، فأغتني منه وأغنيه.
الصوم هو ان “ارى العريان فأكسوه”، أي أن أنظر نظرة جديدة متفهمة إلى أخي الإنسان. نظرة جديدة بأعين جديدة، اعين المسيح، وبمنطق مختلف، منطق السامري الصالح الذي يَّهب لنجدة الآخرين وتغطية ما تعري من أجسادهم. الصوم هو ان أنظر الى الانسان المُعَرّى لأجل ترويج بضاعة المتعة، نظرة إيجابية، كقيمة في ذاته وليس وسيلة للاستهلاك والمتعة، فهو على صورة الله ومثاله قد خُلق.
الصوم الذي نصبو اليه هو صوم المسيح الرافض قيمَ العالمِ الثلاث، قيماً لا تزال تستعبد الإنسان حتى اليوم:
إن كان الخبز هو رمز الحياة، فالحجر هو رمز الموت والإنغلاق على الذات، كالصخرة الّتي وُضعت على قبر الفادي تسدّ كلّ بريق أمل. تجربة “قل لهذه الحجارة فتتحوّل خبزاً”، هو حصر وجودنا بالبعد المادي الجسدي، واستعباد جسدنا لسلطان الشهوة، فنضع رجاءنا في اكتفاء مادي، باحثين عن الغنى، او في شهوة جسدية علّها تشبع فراغ قلبٍ فلا تعطيه الا فراغاً اكبر. صومنا، على ضوء تجربة الشيطان الأولى، هو أن نعي أن لا أمكانيّة لاستخراج معنى لحياتنا، خبزاً لوجودنا، من قيم الماديّة الميتة، صومنا هو عودة الى الذات للبحث عن الخبز الحقّ، الخبز الّذي أعلنه المسيح المُجَرَّب والمنتصر، خبز كلمة الله التي تعطي الحياة الحقّة.
وتجربة السلطة “أُعطيكَ هذا السُّلطانَ كُلَّهُ ومَجدَ هذِهِ الممالِكِ، لأنَّني أملكُهُ وأنا أُعطيهِ لِمَنْ أشاءُ. فإنْ سَجَدتَ لي يكونُ كُلُّهُ لكَ” (لو 4، 6- 7). هي تجربة السعي الى سلطة على حساب كرامة الآخرين. هل أضع نجاحي في استعبادي لمن حولي، سعادتي في استنزاف أفراد أسرتي. الصوم هو دخول في علاقة حبّ مع كلّ إنسان، علاقة حبّ تتجلّى في قبولي للآخر كمساوٍ لي، له الحقوق نفسها. الصوم هو أعادة نظرٍ في نوعيّة علاقتي بالآخرين: في عائلتي، ومجتمعي، وعملي. كم من مرّات في حياتنا اليوميّة نسجد للشيطان سعياً الى ممالك العالم وغناه: صرنا نسميّ السرقةَ “شطارة”، والاحتيال “فهلوة” وتسلّطي على القريب “قوّة شخصيّة” وانتهاك حقوق الموظّف “حسن إدارة”، هي كلّها أفعال سجود معاصرةٍ لشياطين عصرنا، وما أحوجنا الى كلمة المسيح المنتصر على التجربة عينها: “لله وحده تسجد”.
وتجربة الله، “ارم بنفسك فهو يوصي ملائكته بك”، هي تجربة نواجهها كل يوم، تجربةُ أن اجعل نفسي الهاً بمعزلٍ عن الله خالقي والرب فاديّ، هي ان اسعى الى خلاصي بقوّتي، وبعقلي، منصّباً ذاتي كمفسّر للشرائع الإلهيّة والانسانية، واجعل نفسي اذكى وأفقه واعلم من كنيسة بُنيت على صخرة المسيح وتستمد منه تعليمها. هي تجربة قد أسقط فيها هي أظنّ نفسي قادراً على امتلاك الله بعقلي، وحين أقرّر عنه ما هو الصالح لي، أرمي بذاتي في تهالك وأطلب منه أرسال الملائكة. أرتكب الشّر وأثور على الله حين تقع عاقبة شرّي عليّ. أثور عليه وأُغيّبه عن حياتي إذا ما مرضتُ أو فقدت حبيباً أو قريباً، وأنسى أنّه عانى من أجلي الوحدة والألم والموت، حمل صليبي عنّي ليعلّمني كيف يتمّ تحويل الألم فرحاً والموتُ حياة. الصوم الأسمى هو بناء علاقة إيمان بالله، والإيمان ثقة بلا حدود، عالماً أن الله هو أبٌ، والأب يسعى عن خير ابنه.
صومنا اليوم هو ان نعلن رفضنا لهذه القيم المشوهة في حياتنا، سعادتنا ليس في المال، ولا في التسلط على الآخرين، ولا اعتمادي على إرادتي وحدي. هناك وسائل تقديس إلهية أستند إليها: أسرار الكنيسة، لا سيما سري التوبة والافخارستيا، والكتاب المقدس، كلمة الله التي بسماعها تعمل داخلي كحبة حنطة تنمو وتصبح سنابل خلاص لي ولمن حولي.