مسيرة تلميذي عماوس (4) – الاستنارة
المرحلة الثالثة: الاستنارة (معرفة الله)
النص الكتابي: لوقا: 18: 18- 30
معرفة الله:
دعوة الله للإنسان “لِكْ لِكَا” إلى الانطلاق، بمعنييها: الترك المادي للأرض والعائلة والعشيرة. كذلك الانطلاق نحو الذات، دفعت تلميذين عماوس إلى ترك العائلة والممتلكات المادية واتباع يسوع. ومما شك فيه أن الترك لم يكن ماديًا فقط، بل رافقه أيضًا، إنطلاق إلى عمق الذات. رغبة قوية في التعرف على الله والحديث معه، أوقات صمت وإصغاء لكلام الله الذي يدعو فيها الشخص لحياة جديدة.
هذا ما حدث مع التلميذان، يوحنا وأندراوس، فبناء على كلمة يوحنا المعمدان، اِتبعا يسوع. فيسألهما يسوع “ماذا تريدان؟”. يسأل يسوع ما هي رغباتكم الحقيقة، عن ماذا تبحثون بالفعل في حياتكم؟ في الحقيقة عندما نبحث عن المسيح، لا نعرف بالضبط عن ماذا نبحث ويسوع يساعدنا على توضيح دوافعنا ومعنى وجودنا. يجيب التلميذان على سؤال يسوع بسؤال: «يا معلم أين تقيم؟» فيجيب: «تعالا وانظرا». يدعوهما يسوع إذن للإقامة معه ليتعرّفوا عليه، كما أنّه يقيم في الآب ويعرف الآب. فلا يمكن اكتشاف ومعرفة المسيح دون علاقة حميميّة معه، دون شيء من الاستمراريّة. أصغى التلميذان لكلام يسوع وقاموا باكتشاف هائل يتجاوز بكثير ما قاله لهم المعمدان.
يظهر من حديث تلميذي عماوس، إنهم مرا بنفس الخبرات في دعوة يسوع لهما، هذا ما يقولانه: “وكُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل”. لقد أمنا بالمسيح ورسالته، فهو “المسيا” كما قال أندراوس لأخيه بطرس بعد دعوة يسوع لهما.
لكن ماذا حدث جعلهما يهربان؟ هل حدث الصلب؟ فَعَلا مثلما فعل كافة التلاميذ، عدا يوحنا، وهربا بعيدًا. في حديث يسوع معهم يكشف سر المشكلة، قال لهما: “يا قَليلَيِ الفَهمِ وبطيئَيِ القَلْبِ عن الإِيمانِ بِكُلِّ ما تَكَلَّمَ بِه الأَنبِياء. أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟» (لوقا 24: 25- 26).
المشكلة إذن في بطئ الإيمان، وقلة المعرفة بيسوع ذاته، فسقطا عند أول تجربة تعرض إليهما إيمانهم الوليد. فالخطوة الأولى، للدخول إلى العمق، من خلال السكون والإصغاء لصوت الله الذي يدعو، لم تساعدهما بالدرجة الكافية عند حدوث أزمة كبيرة في مسيرة دعوتهما. أزمة يعاني منها المكرسون اليوم، وآخر الاحصائيات تعلن عن ثلاثة آلاف دعوة رهبانية تترك الأديرة سنويا. جميع هؤلاء، ومثل تلميذي عماوس، ومثلنا اليوم، دعاهم الرب يسوع لإتباعه، أَصغوا إلى صوته، وتركوا كل شيء، ودخول إلى ذواتهم واستجابوا إلى دعوته. لكن مع الأزمات الإيمانية، تركوا يسوع وفروا هاربين.
دور الأزمة في نمو الإيمان
في نموذج اريكسون للنمو النفسي هناك مراحل كثيرة للنمو النفسي، ثمان مراحل متتابعة، تنتهي كل منها بأزمة أو حاجة يؤدي حلها إلى نمو الشخص النفسي وكسب فاعليات جديدة، في حين يؤدي الفشل في حل هذه الأزمات إلى اضطراب النمو. هكذا أيضًا النمو الروحي، فهو كالنفسي، هناك أزمات يتعرض إليها الشخص، فإذا حلها فإنه ينتقل إلى مرحلة أعلى في السُلم الروحي، وإذا فشل في حلها تتعرض حياته الروحية إلى اضطرابات كثيرة، من الممكن أن تننتهي إلى فراره كتلميذي عماوس.
الأزمات ضرورية إذن، ولا غنى عنها للنمو، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى. القضية في كيفية قبولها والتعامل معها وحلها لنمو الشخص الروحي.
في النص الإنجيلي الذي قرناه يُسرع رجل ليقابل يسوع ثم يسجد له وهو فعل ديني أو إيماني، لأنه يتضمن السجود. يطلب منه أن يحصل على الحياة الأبدية، يطلب الجائزة الكبرى، الملكوت. يجب المسيح لماذا تدعوني صالحًا، لا صالح إلا الله وحده. فإذا دعوتني صالح، وأنت تعلم أن الله هو وحده الصالح، فأنت قد أدركتَ إني أنا ابن الله! وتريد أن تُقيم علاقة مع الله. هل تريد أن تدخل في علاقة مع الله؟ أنت تريد شيء لا يطلب إلا من الله، أنت تطلب الحياة الأبدية.
شيء واحد ينقصك. فكيان الإنسان لا يتحمل إلهين: الله والمال. لا يمكن الدخول إلى العمق في العلاقة مع الله وهناك أشياء آخرى تستحوذ على كيانه وقلبه. قلب الإنسان هو ميدان معركة، لا تخمد أبدًا، بين الخير والشر، بين الله والشيطان. وعلى الإنسان أن يختار. يقول بنى سيراخ: “إنْ أرَدتَ خِدمةَ الرّبٌ فاَستَعِدَ يا اَبْني لِلتَّجرِبةِ. كُنْ حازِمًا مُستَقيمَ القلبِ، ولا تتسَرَّعْ وقتَ المَصائِبِ” (بنى سيراخ 2: 1- 2). فالقلب لا يمكن أن يكون شاغرًا أبدًا، يملء بالخير أو الشر.
إذا أردت أن تدخل في علاقة عميقة مع الله.. هناك شيئًا سيطلب منك! امتحان عليك اجتيازه؟
العمق الثالث: المياه إلى الحقوين (حزقيال 47: 4)
المرحلة الثالثة هي أصعب مراحل الغوص في معرفة الله، فيها تغمر المياه الجسم البشري حتى الوسط، حتى الحقويين، فيها يعجز الإنسان على أن يثبت قدميه على الأرض فالمياه ترفعه، عليه أن يغامر بالعوم، أن يثق في إن المياه سترفعه كليًا، عليه أن لا يخاف، فإذا خاف فإنه سيتراجع إلى الشاطئ. عليه أن يقرر أما تجربة العوم والثقة بأن المياه سترفعه، أو العودة إلى الخلق.
هي مرحلة امتحان الثقة التي يضعنا فيها الله لاختبار تعلقنا به. هي مرحلة التمحيص، والتطهير من كل عائق يحول دون اقامة علاقة كاملة مع الله: “أَللَّهُمَّ لقَدِ اْمتَحَنتَنا وتَمْحيصَ الفِضَّةِ مَحَّصتَنا” (مزمور 66: 10). هي مرحلة الضيقات، والأزمات التي يمتحنا فيها الله ويختبرنا. ولنا القرار أما مواصلة المسيرة الروحية إلى العمق مع الله،حتى يكشف نفسه لنا، أم التراجع واختيار طريق أخر، طريق الشر. علينا التفكير مليا قبل اتخاذ القرار لأن ما سيمتحنا فيه الله أمرٌ صعب: ” فكِّرْ مَليُا قَبلَ أنْ تنذِرَ لله ولا تكُنْ كمَنْ يُجَرِّبُ الرّبَ” (بنى سيراخ 18: 23).
من أراد أن يقيم علاقة حقيقة مع الله، عليه الاختيار بين الله والآلهة الكاذبة، وهي أخر كلمات القديس يوحنا في رسالته الأولى: “أَيُّهَا الأَوْلاَدُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الأَصْنَامِ” (1 يوحنا 5: 21).
تعلق الشاب الغنى بالمال، فاختاره وتنازل عن علاقته مع الله، بالرغم من أنه الوحيد الذي عرف حقيقة يسوع، مما دَّلا على علاقته الجيدة السابقة به. الله هو إلهٌ غيور، كما يقول عن نفسه في الوصية الأولى. هناك آلهة كثيرة نعبدها ونتعلق بها، وكثيرًا منا يجهل هذا. في خروج 20: 2-5: يقول الرب”أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ… لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي. لا تَصنَعْ لَكَ مَنْحوتاً ولا صورةَ شَيءٍ مِمَّا في السَّماءِ مِن فَوقُ، ولا مِمَّا في الأَرضِ من أَسفَلُ، ولا مِمَّا في المِياهِ مِن تَحتِ الأَرض. لا تَسجُدْ لَها ولا تَعبُدْها”
يقول الرب: “لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة”.. المنحوت هي مادة، كالخشب أو البرونز أو النحاس، تم نحتها وتشكيلها لتصبح على الهيئة المطلوبة. هي تمثال لشيء ما. يقول الرب لا تصنع لك منحوتًا.
لكن ما هي الصورة؟ المقصود هنا هي الصورة التي تنطبع في ذهنك، شيئًا ما في عقلك. لا تصنع لك منحوتًا أو صورة لشيء ما في السموات والأرض، أي لا شيء إطلاقًا.. لماذا؟ لأن مكان الله في حياة الإنسان لا يمكن استبداله بشيء أخر على الاطلاق.. لا منحوتًا من مادة من المواد، ولا صورة من الصورة لأي شيء كان.
يقول الرب: “لا تصنع منحوتاً أو صورة”، ويُكمل: “لا تسجد لها… لا تعبدها”.
والكلمة الأخيرة يجب أن تفهم بمعانا الحرفي تماما.. لا تكون عبداً لشيء مادي أو صورة من الصورة التي في ذهنك. فعندما تزرع فكرة في رأسك فأنت تصنع لك منحوتًا أو صورة.. أنت تعبد هذه الصورة إلى الدرجة التي تسلبك كل شيء، تصبح غير متحكم في ذاتك، تفرض الفكرة إرادتها عليك. لا تري في حياتك سوى تحقيق هذه الفكرة، تبذل الوقت والمجهود وتضحي بالكثير، حتى ذاتك لأجل الوصول إليها. تعتقد أن هذه الصورة ستعطى لك الحياة.
ما هي الصورة التي تشغلك عن الله؟ ما هو الشيء الذي تطلبه بكل جوارحك وترغب فيه بشدة؟ ليس إله واحد، من المكن أن تكون هناك مجموعة من الآلهة.
اشرنا سابقًا إلى معنى كلمة اِنطلق: ليك لكَا. انطلق إبراهيم تاركًا أرضه وعشيرته في انتظار أن يفى الله بوعده له: وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة”. انتظر إبراهيم عشرون عامًا ليتحقق الوعد. يُولد اسحق، ثم تحدث المفاجأة: بأن يطلب الله اسحق كذبيحة. هل نسيَّ الله وعده؟ كان هذا الطلب امتحان الله الأخير لإبراهيم كي يدخل معه في علاقة أبدية.
وضع إبراهيم كل رجائه ومحبته في ذلك الابن، تعلقت به نفسه إلى الدرجة التي تراجعت فيها مكانة الله في قلبه. هكذا يقول الوحي: ” خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، إِسْحقَ الَّذِي تُحِبُّهُ“. لقد أحب إبراهيم وحيده أكثر، في حين إن الله يطلب من كل البشر في وصيته الأولى: لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي. العائلة تكون أحيانا آلهة نعبدها ونسجد لها: “مَنْ أحبَّ أباهُ أو أمَّهُ أكثرَ ممّا يُحِبٌّني، فلا يَسْتحِقٌّني. ومَنْ أحبَّ اَبنَهُ أو بِنتَهُ أكثرَ ممّا يُحبٌّني، فلا يَسْتحِقٌّني” (متى 10: 37). أراد الله أن يمتحن إرادة إبراهيم، هل سيضع إرادته لتتوافق مع إرادته. ففي وقت التجربة القاسية يُظهر الإنسان ما بداخل تمامًا. أطاع إبراهيم ووثق في أمانة الله وأخضع إرادته لإرادة الله، فبرهن على تحرره من جميع الآلهة التي تعوق علاقته بالله.
يعود الوحي الإلهي ويستخدم ذات الكلمة: ليك لكَا، انطلق، ولكن بمعنى مختلف تمامًا وأكثر عمقا: “وَانْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا وَقَدِّمْهُ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَهْدِيكَ إِلَيْهِ”. جاءت انطلق الأولى بترك الأهل والعشيرة والأرض، أي تخلي مادي وعاطفي عن ما يمتلكه الإنسان. تظهر المشورات الإنجيلية الثلاث في حال “الترك” الأولى. أما في حالة “الترك” الثانية فهي تنصب على تطهير الذات من أي شائبة تمنع العلاقة الكاملة مع الله.
هذا ما حدث مع تلميذي عماوس، فالانطلاق الأول كان تخلي عن الأهل والعشيرة والأرض، أما المسيرة الثانية فهي داخل النفس البشرية، بذلك اللقاء الذي تم مع المسيح القائم. غاص نور الرب القائم داخل قلب التلميذين ليطهرهما من تلك الصورة الخاطئة التي كوناها عنه. من كونه المسيا المحرر الذي يعود فيُرجع الملكوت الأرضي إلى بنى اسرائيل. أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟
يأتي امتحان الله ليضع الإنسان أمام ذاته، ويكشف له عما في قلبه. يختبره في ذلك الشيء تحديدًا الذي يعبده، في تلك الصورة التي “يعتقد” إن منها يستمد سعادة الحياة. يطلب الله من الإنسان أن يتخلي عن الشيء الذي يعتقد إن منه يستمد الحياة. أصبح اسحق هو كل حياة إبراهيم، لكن الحياة تستمد فقط من الله، لا تطلب من شيء آخر، حتى لو كان الابن: “مَنْ جاءَ إليَّ وما أحبَّني أكثرَ مِنْ حُبِّهِ لأبـيهِ وأُمِّهِ واَمرأتِهِ وأولادِهِ وإخوتِهِ وأخواتِهِ، بل أكثَرَ مِنْ حُبِّهِ لِنَفسِهِ، لا يَقدِرُ أنْ يكونَ تِلميذًا لي”. (لوقا 14: 26).
ما هو الشيء الذي أستمد منه الحياة، الذي أشعر معه بالأمان؟
العجل الذهبي
قصة العجل الذهبي يمكن لها أن تساعدنا في اكتشاف الآلهة التي نعبدها والتي يستحيل معها اقامة علاقة صحيحة وحقيقية مع الله. يأتي الحدث والشعب تاه في الصحراء لمدة ثلاثة شهور. تاه الشعب لمدة ثلاثة شهور في مكان حيث لا ماء فيه ولا طعام، فالمن ينزل يوم بيوم، لا شيء مضمون للغد. لا شيء يمكن أن يحميه من غدر الصحراء وقاطنيها وحيواناتها المتوحشة. الصحراء مكان الخوف وعدم الأمان، فهناك شيء غير منتظر يمكن أن يحدث في أي وقت، شيء ما تخشاه.
هناك شيء آخر زاد من وحشه الصحراء، فقد الشعب نقطة التلاقي، موسى، القائد الذي أخرجهم من مصر، وقادهم عبر الضربات العشر وشق البحر الأحمر، هم لم يروا الله، كانوا يرون موسى فقط الذي بعصاه فعل كل هذا، وهو الآن غائب. ماذا فعل الشعب، ذهب إلى هارون وقالوا له: “«قُمِ اَصنَعْ لنا آلِهَةً تسيرُ أمامَنا. فهذا الرَّجلُ موسى الذي أخرَجنا مِنْ أرضِ مِصْرَ لا نعرِفُ ماذا أصابَهُ». نريد شيئًا ملموسًا يُعطينا الأمان. هكذا صنعوا تمثالا من ذهب للعجل.
نبحث نحن المكرسون عن ما يضمن لنا الحياة، عن أشياء التي تحتل مركز حياتنا واهتماماتنا ونعتقد إنها تجلب لنا السعادة. حتى العمل الرعوي والكرازي يمكن أن يصبح إله نعبده ويغيب الإله الحقيقي عن حياتنا. فالبعض يغرق في أنشطة وأعمال رعوية، وينسوا المعنى الحقيقي لدعوتهم.
لماذا اختارا العبرانيون هذا الرمز: “العجل يجمع عجل الذهب ثلات رموز هامة وواضحة. ففي الثقافات القديمة كان العجل رمزا للخصوبة وللقوة الجسدية، في حين يرمز الذهب إلى المال. كل هذه الآلهة هي أسقاط لذات في صورة أو فكرة أو شيء يُعوضك عن النقص الذي تشعر به في قرارة نفسك. جميعاً لدينا نقاط للضعف، مشكلات لم تُحل، أشواك في الجسد، فراغ يُعبر عن شيء ما.
الخوف يجعل المكرسين يبحثون عن الضمان والأمان في المال، أو في العلاقات العاطفية والجنسية، هناك من يحبني إذا لم أشعر بالدفء في حياتي الرهبانية. هناك رغبةى قوية للتسلط لى الآخرين وتولى مسئوليات قيادية. يبحثون عن آلهة يعتقدون إنها ستعطيهم الحياة.
“لأنِّي أنا الرّبُّ إلهُكَ إلهٌ غيورٌ”
لكن ثق أن الله لن يتركك. فالله غيورٌ، لا يرضى أن تكون لشخص آخر، لا يرضى أن تتعلق بآلهة أخرى. إله غيور يعني إنه مازال قريب من الإنسان، لا يريد أن يفقد الإنسان حتى لو رغب الأخير في أن يتركه ويعبد آلهة أخرى. الغيرة هنا أفضل من أن يترك الله الإنسان يفعل كما يشاء حتى لو صرخ يومًا إليه ليطلب معونته. فالجحيم هو أن يقول الإنسان لا لله، يختار أن يعيش إلى الأبد بمعزل عنه. أما ملء الحياة فهي أن يكون قريب منه في شركة معه.
“أعاقبُ ذنوبَ الآباءِ في الأبناءِ إلى الجيلِ الثَّالثِ والرَّابعِ مِمَّنْ يُبغِضونَني” هكذا نقرأ النص في اليسوعية أو الترجمة المشتركة. لكن الفعل العبري (pqd) تعني “افتقد” “زار شخص ما”، فقط فانديك وضع الترجمة الصحيحة للفعل العبري. يفتقد شخص يقوم بزيارته ويتفقد احواله، ويحضر في حياته. يتشكى أحدهم بأنك تتصل به باستمرار ولكن لم تزره قط.
أخذ هذا الفعل، في مرحلة متأخرة، معنى العقاب. فغيرة الله لأجلك تعنى إنه يأتي ليكشف لك الحقيقة.
يأتي الله ليفتقد الذنب، يحضر ليكشف لك الحقيقة. يأتي في صورة امتحان قاسي، لتدرك الحقيقة. ينظر إليك كما نظر إلى بطرس بعد أن أنكره. فغرق بطرس في الندم. يأتي بألمٍ لتعرف إن الآلهة لا تعطي الحياة، إنما تسلب الحياة منك. فالشخص الذي سعى بكل الطرق المشروعة والغير مشروعة لينال منصب أو رئاسة ما، ليرضى طموحاته ورغبته القوية في التسلط. تأتي التجربة بأن يتخلى عنه المؤيديون ويفقد سلطانه الذي بناه ويتجرع ألم الوحدة القاتلة.
والشخص الذي سعى دوما إلى إله المال، لعله يحقق له الضمان في الحياة، تأتي أزمة كبيرة توقظه من هذا الوهم. تأتي تجربة ما لا تفيدك فيها أموالك مهما اكتنزتها. أنت مدعو لتكون بركة تتبارك بها الشعوب، ويحولك المال إلى لعنة للآخرين، لأنك فقط “مؤتمن” على خير لا يملكه إلا الله، فإذا حولت نفسك إلى مالكٍ له تَصبح سيدًا على مال ظلم.
أما الشخص الذي يعاني من وحدة عاطفية ويملأ حياته بعلاقات عاطفية وجنسية، بالرغم من نذر بتوليته، اعتقادًا منه إنه سيتغلب على وحدته. لكن الخبرات العملية تقول شيئًا مخالفًا تمامًا فالعلاقات الجنسية والعاطفية للمكرسين لم تحقق لهم ما رغبوا فيه (مثل: التمزق النفسي لراهب في حالة ارتباطه بعلاقة جنسية). فلا شيء يملء فراغ حياة الإنسان، فالعلاقة الجنسية وحدها لا تملأ فراغ الحميمية الحقيقية. زد على ذلك عيش التمزق بين الارادة بالمحافظة على عيش المثال المسيحي والمنوي اتباعه وبين الواقع المعاش. يعاني الشخص من ازدواجية حياة تعيسة.
تخلق عبادة الآلهة ألم ومعاناة ناتجة من سيطرة الآلهة على الشخص. وقد سمح الله بالآلم لكي ننتبه إن هناك شيء ما خطأ. بالطبع ليس كل ألم في الحياة يكون تصحيح لخطأ ما. ولكن كثيرًا ما يسمح الله بشيء ما لا تستطيع أن تتغلب عليه وحدك، موجة أعلى من أن تسيطر عليها، حتى تتوقف عن خدمة حياة لا معنى لها، فقيرة.
ليس كل آلم هو لتصحيح خطأ ما، فالأب يؤدب الابن، لكنه لا يؤدب الغريب (إلى العبرانيين 12: 5- 8). أعطى معنى لآلامك. هناك الكثير من الناس يقضوا حياتهم دون أن يفهموا قيمة الآلم. فالحكمة الإلهية تحول الآلم إلى نعمة يكتشف من خلالها الإنسان تعلقه وعبادته للآلهة الكاذبة التي يستجدي منها السعادة.
نحتاج مثل تلك الأزمات لكي نتحرر من الآلهة الكاذبة التي نتصور إن بها سعادتنا ومنها نستمد الحياة. نحن على خطأ كبير لأن الحياة لاتستمد من الناس أو الأشياء، بل فقط من الله. تطلب الحياة من الله، لا تطلب من العمل (الرسالة)، ولا من المال، لا من الأشخاص. يمتحن الله الإنسان ليقوده لشيء أكثر عمقًا، ليقوده لحياة أكثر عمقًا، لحياة أكثر غنى. أنت مدعو لتكون أبن في أبن الله ذاته.
ثق إن إلهك غيور.. “لأنِّي أنا الرّبُّ إلهُكَ إلهٌ غيورٌ”