الثيـؤطـوكـوس
الثيـؤطـوكـوس
بقلم: الكاردينال چون هنري نيومان
إلى هنا، تكلّمتُ عما اعتقدته ضرورياً لما أسميته بالتعليم المبدئي، الذي علَّمَ به القُدماء عن مريم العذراء، لكن بعد كل شيء، لم أُركزُ كثيراً على الهيئة الأسمَى التي لخِصالها وامتيازاتها، تلك التي نقلها لنا الآباء.
إنّكم، يا عزيزي پزي، أنتم يا مَنْ تعرفون الخلافات القديمة وقصة المجامع، قد تكونوا اندهشتم لأنّني حتّى الآن لم أتكلم عن مريم الثيؤطوكوس (والدة الله)، لكنني أردتُ أن أُبيّن على أي أساس ترتكز عظمتها دون الاعتماد على هذا اللقب الرائع. زِد على ذلك، إنّني اتخذت نوعاً من التمَهُّل في تطوير قوة كلمة تُعتبر مادةً لفكر تقوي أكثر من كونها مادةٍ لمناقشة جدلية، ولكن الآن لا يمكنني أن أمُرّ مرور الكرام على أسمى امتيازات مريم العذراء.
إنّه لجُزءٌ رئيسي من الإيمان، وقد ثبَّتَهُ مجمع مسكوني، بأنَّ مريم هي “ثيؤطوكوس”، “Theotocos”، “Deipara”، والدة الله، وهذا التعبير ليس مجرد بلاغة ولا تعبيراً عن عاطفة مُتغَلغِلَة زائدة عن الحدّ، بل ذو معنى دسم ومُحدَّد مُتَّفِق مع مضمونه. هذا التعبير يعني أنَّ الله ابنها، كما أنَّ كُلُّ فرد منّا هو ابن لأُمّه.
إن كان هذا هو الحال والواقع، فما الذي يُمكن قوله عن أي مخلوق آخر ولا يُمكن أن يُقال عن مريم؟ يُمكننا أن نقول كل شيء عنها ما عدا ما يُمكن أن يتداخل في صِفات الخالِق. فالحقّ هو أنَّ الخالِق بقدرته كان باستطاعته أن يخلِق مَنْ هو أروع وأكمَل منها، وكان باستطاعته أن يُثريه بنعمة وسلطان وبركات أعظم، لكنَّ مريم فاقت في هذا جميع المخلوقات، بمعنى أنَّها أُمُّ خالِقها. هذا اللقب الأسمى هو الذي يوضّحُ ويجمع ميزتيّ مريم اللتين تناولتهما في الصفحات السابقة ألا وهما قداستها وعظمتها. إنّهُ نتيجة قداستها ونبع عظمتها، فأيّةُ كرامة تكون أعظم من أن تُنسَبُ إلى تلك التي هي مُتَّحِدَة اتحاداً وثيقاً بالكلمة الأزلي كاتحاد أُمّ بابنها؟ أي ثراء في القداسة، أي امتلاء وانسكاب للنعمة، أي فيضٍ من الاستحقاقات، كان لا بُدّ من وجوده لدى مريم ، في الافتراض الذي برره الآباء بأنّ الله نظَرَ وأخذ في الاعتبار هذه الخصائص حينما ارتضى بأن “يحلّ في بطن العذراء” ؟ أيكون عجيباً، إذن، أن تكون “بلا دنس” في حبلها من جانب، ومن الجانب الآخر تكون مرفوعة إلى مقام ملكة مُكللة بإكليل من اثني عشر كوكباً ؟
قد يتعجب البعض أحياناً من أنّنا نسمّيها أُمّ الحياة والرحمة والنجاة، لكن ماذا تكون هذه الألقاب إذا ما قورنت باللقب الفريد “أم الله” ؟ لن أُسهِب في الحديث عن هذا اللقب، فمن المستحيل أن يُكتب عنه دون الوقوع في نمط ينحدر قلَّةً ونُقصاناً إلى نمط هذه الرسالة، ولذلك سأقتصر على رواية قصته.
اللقب “ثيؤطوكوس” بدأ استخدامه في تاريخ لاحِق بوقت قصير لتاريخ بداية استخدام لقب “حواء الثانية”، فقد ظَهَرَ لأول مرة في أعمال العلامَة أوريجانوس (185-254)، بل وأنّه إذ كان يُقدّم شهادته لمصر ولفلسطين، فقد كان يشهد أيضاً بالاستخدام الدارج في زمانه، كما أنَّ سُقراط يُخبرنا بأنّ أوريجانوس” كان يُفسِّر الاستخدام الصحيح والمستقيم للتعبير بأن يتناوله مرات عديدة”. وبعد مرور قرنين من الزمان، في مجمع أفسس (431) الذي عُقِدَ ضد بدعة نسطور، أُدرِجَ هذا اللقب في التعليم العقائدي للكنيسة، وفي ذلك الوقت اعترف ثيودور – الذي كان يتحتم ألا يميل إلى الإقرار به إلا قليلاً بسبب معتقداته – بأنَّ ” أقدَمَ الذين حملوا رسالة الإيمان الأرثوذوكسي علّموا باستخدام هذا التعبير حسب التقليد الرسولي”. ويوحنا الأنطاكي، الذي كان قد استضاف نسطور لبعض الوقت، ذاك الذي كانت بدعته تقوم على رفض كلمة “ثيؤطوكوس”، قال: ” لم يرفُض أي كاتب كنسيّ هذا اللقب، فهناك عدد كبير وضخم ممَن استخدموه وأولئك الذين لم يستخدموه لم يقبلوا ما فعله الرافِضون”. أيضاً، إسكندر، أحد أشرس أتباع نسطور، أقَرَّ استخدام اللقب موضع النقاش رغم اعتباره بأنّه خطير، فقد كتب: ” ليس علينا ألا نُثبِت أنِّ الأورثوذوكس قد استخدموا بدون تفسيرات، اللفظة “ثيؤطوكوس” في الاحتفالات الطقسية الكبيرة، وفي التعليم أو في الوعظ، بسبب أنَّ ذلك الاعتراف لم يكُن عقائدياً أو يؤدي إلى معنى مُزيف”. إذا وضعنا في الاعتبار أولئك الذين أشار إليهم إسكندر، أولئك الذين عاشوا في الزمن الواقع ما بين زمن أوريجانوس وزمن مجمع أفسس، سنجدُ أنَّ الكثير من الآباء استخدموه في أعمالهم مرات عديدة: ففي القرن الثالث استخدمه أرخيلاوس في بلاد مابين النهرين، إيزيبيوس في فلسطين، إسكندر في مصر، وفي القرن الرابع كتبهُ أثناسيوس مرات عديدة بتأكيدات، كما استخدمه كيرلس الأورشليمي وأغريغوريوس النيصي وأغريغوريوس النازينزي وأنطوخيوس السوري وأمونيوس التراشي، ولسنا بحاجة إلى الحديث عن الإمبراطور چوليان، الذي لم يكن يتكلم من خلفيته المدنيّة ولا الفلسفية بل باسم المسيحية كلّها. كما أنِّ إمبراطوراً آخر، ألا وهو قسطنطين، استخدم بوضوح اللقب “العذراء أمّ الله ” في حديثه الذي وجهه إلى الأساقفة المجتمعين في مجمع نيقية، وقد استخدمه أيضاً أمبروزيوس في ميلانو، وڤينشنسو في كاسيانو الواقعة جنوب فرنسا، والقدّيس ليون الكبير.
يكفينا ما سبق بشأن اللفظ “ثيؤطوكوس”، لكنني سأورد فيما يلي بعض النصوص التي كتبها أناس دون أن يستخدموا اللفظ صراحةً بل عبروا عن فكرته.
القدّيس أغناطيوس، الذي استُشهِد عام 106، يقول: ” إلهنا حُبِلَ به في بطن عذراء”.
القدّيس إيپوليتوس: ” كلمة الله تَكَوَّنَ في بطن عذراء”.
القدّيس يوحنا فم الذهب: “هي أمسَكت شمس البِرّ دون أن تُحيطها فوُلِدَ الأزلي”.
بروكلوس: ” الله سَكَنَ في البطن”,
وتساءل ثيودوت: ” حينما سمِعتَ أنَّ الله يتكلّم عن عُلِّيقَة، ألم تتوقع العذراء بالعُلِّيقَة؟ “.
وكتب كاسيانو: ” مريم حَبِلَتْ بخالِقها “.
هيلاريوس: ” ابن الله الوحيد دَخَلَ في بطن عذراء “.
القدّيس أمبروزيوس: ” الأزلي حلَّ في عذراء “.
القدّيس چيرولامو: “الباب المُغلَق الذي مرَّ من خلاله الرب إله إسرائيل هو العذراء مريم”.
القديس أغسطينوس: ” تَكَوَّنَ فيكِ ذاك الذي كَوَّنَكِ “.
غيرة الآباء تجاه العذراء الطوباوية
إن كان هذا هو إيمان الآباء تجاه مريم، ينبغي ألا نتعجب من إنّه صار إكراماً خلال وقت قصير، ولا عجب في أنّ لُغتهم لم تُراعي مقياساً حينما وُضِعَ اللفظ العظيم “أُمّ الله” شكلياً كحَدٍّ مأمون ويقينيّ. ولا عجب إذا أصبح دائماً أقوى مع مرور الزمن، حيث أنّه اتخذ وقتاً طويلاً لكي يتضمّن كل امتلائه ومعانيه.
في الواقع، التيار الفكري في القرون الأولى مالَ دائماً إلى الإشادة بمريم (باستثناءات نادرة)، وإلى زيادة إكرامها لا التعتيم عليه ونادراً ما كان ينتقد إكرامها بل حينما كان يحدث هذا يهِبّ أحد الآباء بغيرة ويُهاجمَ المُهين. فقد ثار القدّيس چيرولامو ضد إلڤيديوس، والقدّيس أخزى أبوليناريوس، والقدّيس كيرلس هاجم نسطور، والقدّيس أمبروزيوس هاجم بونصو، ومن جهة أخرى، كلّ إهانة وُجِّهَت إلى مريم من أفراد أو خصوم فجَّرَت العاطفة المقدّسة التي كان المسيحيون يكرمونها بها بأكثر قوة عن ذي قبل.
القدّيس أمبروزيوس يقول: “إنّها وحدها صنعت خلاص العالم، فقد حَبِلَت بفداء الجميع، وكانت لها نعمة عظيمة جداً لم تُحافظ على بتوليتها فحسب بل ألهَمَت بها أولئك الذين زارتهم”. وقد أكّدَ القدّيس چيرولامو: ” قضيب يسّى، الباب الشرقي الذي يدخُل منه ويخرج رئيس الكهنة وحده، يظلّ مُغلقاً دائماً “. والقدّيس نيلوس كتب: ” المرأة الحكيمة كَسَتْ المؤمنين بثوب الحَمَل المولود منها، بثياب عدم الفساد وأعتَقَتهم من العُري الروحي “، كما أسماها أنطيوخوس ” أُمّ الحياة، والجمال، والجلال، نجمَة الصُبح “، والقدّيس أفرايم: ” السماء السريّة الجديدة، السماء التي حَمَلَتْ الألوهية، الكَرْمَة الخِصبَة التي بها انتقلنا من الموت إلى الحياة”. أيضاً، القدّيس مكسيم شبَّهَ مريم ” بالمَنَّ الرقيق، المُضيء، اللذيذ البِكر، الذي جاء من السماء ونَشَرَ في الكنيسة زاداً أشهى من العسل “. وبروكلوس يُسمّيها: ” الصَدَفَة التي بلا عيب التي احتوت اللؤلؤة الثمينة “، ” إكليل الكنيسة الثمين “، ” تعبير الأورثوذوكسية”، كما قال أيضاً: ” أعمِل فكركَ في الخليقة كلّها وانظُر إذا ما كان يوجد فيها مَنْ يُعادلُ أو يفوق العذراء القدّيسة أُمَّ الله “. وثيودوت (أو أحد الآباء الآخرين في مجمع أفسس) قد حيّاها بقوله: ” السلامُ لكِ، أيّتُها الأُمُّ المُلتَحِفَة بالضياء، ضياءٌ لا يأفُلُ أبداً، السلام لكِ، أيّتُها الأُمُّ غير المُدَنَّسَة، أُمُّ القداسة، السلام لكِ أيّتها النبع الحي الذي ينبع منه التيار المانح الحياة”.
كما استخدم القدّيس كيرلس الكلمات الآتية في مجمع أفسس: “السلام لكِ يا مريم، أمّ الله، الكنز الجليل المألوف لدى العالم كلّه، السِراجُ الذي لا ينطفئ، تاج البتولية، عضد الأورثوذوكسية، الهيكل الخالد، مَسكَنَ اللانهائي، الأُمُّ العذراء، بكِ دُعيَ المُخلِّصُ في الإنجيل “مُباركٌ الآتي باسم الربّ” … بكِ تَمَجَّدَ الثالوث الأقدس … بكِ يفرح الملائكة ورؤساء الملائكة … وبكِ أضطرَّ الأبالسة للهرب …. والإنسان الساقط نال السماء”.