مسيرة تلميذي عماوس (6) – الاتحاد
(6) المرحلة الرابعة: الاتحاد
الإفخارستيا
السباحة في النهر: حزقيال 47: 5
نصل إلى المرحلة الأخيرة في مسيرة تلميذي عماوس، ومسيرة كل إنسان مكرس. هي مرحلة الغوص تمامًا في مياه الروح القدس، في العلاقة مع الله. سترفع المياه المكرس وستصل به إلى الغاية التي يرغب في الوصول إليها: “ثُمَّ قاسَ أَلفًا فإِذا بِنَهرٍ لم أَقدِرْ على عُبورِه، لأَنَّ المِياهَ صارَت طاغِيَة، وكانَت مِياهَ سِباحَةٍ ونَهرًا لا يُعبَر”. يدخل المكرس في علاقة شخصية قريبة إلى الغاية مع الله، كتلميذي عماوس، اللذان مكثا مع الرب وحدهما، تغلبا على خوفهما، غاصا في أعماق ذاتهما وتخلصا من كل تلك الآلهة الكاذبة التي كانا متعلقان بها، وهنا فقط يكشف الله عن ذاته ويُقدم ذاته لنا طعامًا أبديًا. “فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا، فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا” (لوقا 24: 29- 31).
يوحنا 6: 30-66
يصنع يسوع معجزة تكسير الخبر والسمك فترغب الجموع في تتصيه ملكًا، لكنه يهرب من بينهم، وينعزل من جديد في الجبل ليصلي. لم تفهم الجموع معنى الآية. في اليوم التالي، تبحث الجموع عن يسوع فيشرح لها يسوع مغزى الآية.
يلوم يسوع الجموع قائلا: “أنتُم تَطلُبوني لا لأنَّكُم رأيتُمُ الآياتِ، بل لأنَّكُم أكلتُمُ الخُبزَ وشَبِعتُم. لا تَعمَلوا لِلقوتِ الفاني، بل اَعمَلوا لِلقوتِ الباقي لِلحياةِ الأبدِيَّةِ”. يستخدم يوحنا كلمة آيه، والآيه هي علامة على شيء آخر، أكثر عمقًا. فكما رأينا في شفاء ابن رجل الملك، الآية تقودنا إلى شيء أكثر عمقًا.
ما هو الطعام الفاني؟ هو طعام فاسد، غير صالح للاستخدام الآدمي، من يأكله يموت. فالطعام الذي نأكله له تأريخ صلاحية، سريع الفساد. طعام لا تأكله مرة واحدة، بل أنت في حاجة إلى دومًا. فنحن نأكل لنعيش، فلا نستطيع العيش دون أكل؟ كيف نفهم حديث يسوع هذا؟ كيف نفهم قوله عن نفسه: “أنا هو خبز الحياة”.
أنا هو الخبز الحقيقي
يوحي المقطع، لأول وهلة، بأن المسيح يحذر البشر: “مَنْ أكَلَ جَسَدي وشَرِبَ دَمي فلَهُ الحياةُ الأبديَّةُ، ومَن لا يأكل جَسدي ولا يشَربَ دَمي فليس له الحياةُ الأبديَّةُ”، فهل هذا هو معنى الإفخارستيا.
يعكس المقطع فكرة مختلفة تمامًا عما يصل إلينا لأول وهلة. فكرة وصلت للكثير من تلاميذه المعاصرين، الذين كانوا بالمئات فانصرفوا عنه وتوقفوا عن اتباعه بسبب صعوبة ما يقول: “فتخَلَّى عَنهُ مِنْ تِلكَ السّاعةِ كثيرٌ مِنْ تلاميذِهِ واَنقَطَعوا عَنْ مُصاحبَتِه” (الآية 66). رُفض المسيح لأنهم رأوا: “هذا كلامٌ صَعبٌ، مَنْ يُطيقُ أنْ يَسمَعَهُ؟”. ماذا قال يسوع، وما هي الفكرة التي فهمها تلاميذه فقرروا أن يتركوه. كرر يسوع كثيرًا: “أنا الخُبزُ، أنا الخُبزُ”.
ما معنى هذا؟ ماذا يعنى أن يصير خبزا؟ ما هو الخبز؟ شيء يفقد خاصيته تمامًا فيصير أنت، يُهضم تمامًا ليصير أنزيمات تغذي كل عضلة وعضو في الجسد عن طريق الدم. ما هو الأهم: الذي يأكل أم الطعام؟ فالطعام، كما هو واضح، هو في خدمة الآكل، يفقد الطعام هويته الذاتية تمامًا لأجل أن يعطى كل شيء للآكل. فالطعام يصبح أنت “الآكل”. لا يوجد شيء في الحياة يُصبح نحن مثل الطعام. فالملابس هي ملكك والمنزل الذي تعيش فيه هو ملكك، لكنه يبقي دائمًا شيء منفصل عنك، لكن الطعام يفقد هويته تمامًا ليُصبح نحن، يُصبح جسدك وقوتك، يصبح حياتك.
ما المشكلة؟ المسيح يعلن لتلاميذه الذين بحثوا عنه بعد معجزة تكسير الخبز والسمك، ولنا أيضًا اليوم قائلا: “أنا الخُبزُ، ما هي الفكرة التي لديك عن الله؟ ما هي فكرتك عن المسيح؟
ما هي فكرتنا عن المسيح؟ المسيح هو: ” 3هُوَ بَهاءُ مَجدِ الله وصُورَةُ جَوهَرِهِ، يَحفَظُ الكَونَ بِقُوَّةِ كلِمَتِهِ” (عبرانيين 1: 3)، فهو صورة جوهر الله، فما هي فكرتك عنه؟ هو يقول عن نفسه: هو يقول عن نفسه: “أنا الخُبزُ، أنا أعطي ذاتي تمامًا للإنسان، أفقد هويتي الذاتية لأجلك. فجسدي هو مأكل حقيقي، عطية كاملة لأجلك، أنا خادمك، أنا أقل أهمية منك، أنا فقط لأجل أن تحيا.
الله هو المأكل الحقيقي للإنسان، نعتقد إن الإنسان ضعيف جدًا، الله يطلب منه مجموعة من الالتزامات الأخلاقية وفروض الطاعة. لكن الحقيقة إنه هو الذي يرغب في أن يعطي ذاته للإنسان. يتوسل إليك يسوع: أنا الخبز الحقيقي والمشرب الحقيقي، كُلّني (mangiami)! أتوسل إليك أن تأكلني، أتوسل إليك أن تغير فكرتك عني، فأنا لا أريد شيء منك، أنا أرغب في أن أكون معك، قوتك، حركتك، طاقاتك، أكون حياتك. كثيرًا ما نعتقد إننا نُقدم شيئًا لله، نعطى ونُكرس حياتنا له في حياة رهبانية، لكن الله خبز، طعام يفقد هويته الذاتية من أجلنا. هل نقبل هذه الحقيقة ولا نتراجع مثلما فعل تلاميذ كثيرون من الذي سمعوا يسوع في هذا المقطع. حقيقة غريبة وصعبة القبول لا تتناسب مع فكرتنا عن الله؟ فنحن نعتقد إننا لدينا شيء ما نقدمه لله، الله يطلب شيئًا ما منا، يطلب أن نتخلى عن أشياء، نترك عبادة الآهلة الكاذبة، لكن كل هذا لنكون على استعداد أن نقبل محبته تلك.
نخاف كثيرًا من الله لكن سر الإفخارستيا يقول لنا شيئًا مختلفًا تمامًا، شيئًا أكثر عمقًا. فلنغير أفكارنا عن الله التي ورثناها من آبائنا وثقافاتنا. هو فقط خبز، طعام، يُقدم ذاته في هذه الصورة المتواضعة جدًا، بسيط، شيء يفقد كل خواصه الذاتية، هويته، لأجلنا. الله قطعة خبز تستطيع أن تهضمها لتصير خاصتك. يقول لك يسوع لماذا تأكل أشياء قابلة للفناء، لماذا تخافني؟
في هذا المقطع الإنجيل يعلن يسوع عن سر تجسده بالكامل، فهو يخاطب الإنسان قائلا: “أرغب في أن أكون شيء واحد معك، أريد أن أكون خبزك اليومي، أقبلني أن أكون معك، داخل أنسجتك الحية، أترك نفسك لُتحب. إعتدت في حياتك أن للحب مقابل، تبادل بين شخصين، لهذا لا تستطيع أن تفهم حبي لك.
هكذا يُعلن يوحنا: “وكانَ يَسوعُ يَعرِفُ، قَبلَ عيدِ الفِصحِ، أنَّ ساعتَهُ جاءَت ليَنتَقِلَ مِنْ هذا العالَمِ إلى الآبِ، وهوَ الذي أحبَ أخِصَّاءَهُ الذينَ هُم في العالَمِ، أحبَّهُم مُنتَهى الحُبِّ”. أحب منتهى الحب، فيظهر يهوذا في المشهد، فيعلن يسوع إنه حبه إلى المنتهى، حتى يصل إلى يهوذا الذي بداخل كل منا. عندما يسيطر إبليس على قلب يهوذا ليُسلم يسوع إلى اليهود، يخلع يسوع ملابسه ويأتزر بمنديل ويغسل أقدام تلاميذه، وعندما يعترض بطرس: لن تَغسِلَ رِجليَ أبدًا! “إنْ كُنتُ لا أغسِلُكَ، فلا نَصيبَ لكَ مَعي”. اترك نفسك تُحب لهذه الدرجة.
فمن يأكل جسد ابن الإنسان يحيا إلى الأبد. ماذا يعني أكل الخبز؟ قبول حبه! كثيرًا من الناس تتقدم إلى الإفخارستيا لكنها لا يفيدها في شيء. ليس الإنسان هو خبز الله، لا يطلب الله منه شيء، لا يأخذ منه شيء. فيسوع هو الخبز الحقيقي الذي يعطي ذاته للبشر، هو خادم البشر، لا يُخفيه بعد، فلا تخاف الله أبدًا. يسوع هو الخادم.
في شرحه للأبانا يلخص القديس فرنسيس كل شيء: ” أَعطِنا اليَوْمَ خُبْزَنا كَفافَ يَوْمِنا: ابنَكَ الحَبيبَ، رَبَّنا يَسوعَ المَسيحَ، ذِكْرىً، وإِدْراكاً، واحتِراماً لِحُبِّهِ لَنا، ولِما قالَهُ لَنا، ولِما فَعَلَهُ، واحتَمَلَهُ مِنْ أَجْلِنا“.
الإفخارستيا والتذكر
عندما نحتفل بالذبيحة الإلهية، فإننا نُجدد ذكرى حبه لنا. الحب الذي جعله يتلاشى لأجل أن نحيا. إننا نؤمن بأن جسد المسيح ودمه هما علّة حياتنا هنا على الأرض وهناك في السماء. لذلك نحن في حالة قيامةٍ دائمة وليس في حالة موت. وحدها الخطيئة تُميت، وحدها الآلهة تُميت، وجسد الرب ودمه يُحييان. لهذا نحن نتذكر موت الرب، ونعترف بحدث القيامة ونبشر به، ونعيش حدث القيامة بما تهبنا الإفخارستيا من حياة تتواصل في المجد السماوي. نحن أبدًا مشدودون إلى تلك الحياة، لأن الإفخارستيا تفتح لنا الآفاق على الدهر الآتي وعلى المستقبل. بهذا التذكر إذا نحن نعيش التواصل مع المسيح، ونبشر به، حتى مجيئه.
هذه الكأس هي العهد الجديد لدمي
عندما نطق إرميا بعبارة “العهد الجديد”، في القرن السادس قبل الميلاد، التي تحمل في طياتها الانتفاضة على ما أصبح قديمًا، والرفض لما أصبح عقبة في وجه النمو والارتقاء في العلاقة مع الله، والتي رأى اليهود إنها دعوة تمس العهد الذي أعطاه الله على يد موسى. في الواقع كانت دعوة إرميا لم تكن لنقض العهد القديم، بل هي دعوة للتجديد: “وستأتي أيّامٌ أُعاهِدُ فيها بَيتَ إِسرائيلَ وبَيتَ يَهوذا عَهدًا جديدًا لا كالعَهدِ الذي عاهَدْتُهُ آباءَهُم” (إرميا 31: 31- 34).
اعتمد يسوع ذات العبارة في تأسيس الإفخارستيا. لقد أدرك أن بنى إسرائيل قد أهملوا جوهر العهد، وتعلقوا عن ضلال بمعناه الحرفي، فصاروا يلتزمون بالمظاهر وحسب، أما الروح فكان ميتًا. وهذا ما جعل العهد القديم غير فاعل، فكان لا بدّ من العهد الجديد.
ما هو العهد الجديد الذي أسسه يسوع بدمه؟
يعنى العهد القِرانَ والالتزام والرباط بين الله وشعبه، وهذا ما نقضه بنو إسرائيل وخانوه. عنه يتكلم هوشع بتوسع عن طريق الكلام على الخيانة الزوجية، أي خيانة إسرائيل لإله, التعلق والعبادة والسجود لآلهة غريبة. في يسوع المسيح جدد الله العهد، لهذا تكلم يسوع على “العهد الجديد”.
مضمون هذا العهد الجديد هو ارتباطٌ وثيق بين الله والإنسان، وهذا الرباط مختومٌ بدم يسوع. في العهد القديم، الدم هو الحياة، وبالتالي هو يخص الله مُعطي الحياة وسيدها. لذلك لم يَلعنَ الله آدمَ عند السقطة، لكنه لعنَ قايين عندما قتل، لأن الدم هو الحياة، وهي بيد الله وحده. هكذا، عندما أعطانا يسوع دمه أعطانا بذات الفعل الحياة والعهد الجديد.
ليس هناك سعادة أو ملء لحياة الإنسان إلا من خلال الله، معطي الحياة الجديدة. وحده “المأكل الحقيقي والمشرب الحقيقي” الذي يحقق دعوة الإنسان على الأرض. وبما إننا أبناء العهد، أبناء الإفخارستيا، فنحن بالتالي أبناء الأمانة والسهر، لأننا نحب من أحبنا أولا، ومن دون السهر لا يمكننا المحافظة على العهد وعلى الإفخارستيا ومفاعيلها العظيمة. إن الإفخارستيا هي التي تعطي الطاقة والقدرة لعيش الأمانة للعهد.
إكرام جسد الرب ودمه
من يأكل جسد الرب ويشرب دمه، لا يحق له أن يسيء إلى أحد. إذا أسأنا من خلال قلة أمانتنا للعهد، ومن خلال عدم تذكرنا لما أرادنا الربُ أن نتذكر، فإننا نتناول دينونة لنفسنا، وكلام القديس بولس في هذا السياق واضح: “فليَمتَحِنْ كُلُّ واحِدٍ نَفسَهُ، ثُمَ يأكُل مِنْ هذا الخُبزِ ويَشرَب مِنْ هذِهِ الكأْسِ، لأنَّ مَنْ أكَلَ وشَرِبَ وهوَ لا يُراعي جسَدَ الرَّبِّ، أكَلَ وشَرِبَ الحُكمَ على نَفسِهِ” (1 كورنثوس 11: 28- 29). علما أن همّ القديس بولس الأساسي هنا هو الجماعة. ذلك يبدأ إكرام جسد الرب ودمه بمحبة أخي الذي أراه، وبالأمانة له وللجماعة، مع التأكيد على أن العيش كإخوة في الجماعة يجعلنا أهلا لتناول جسد الرب ودمه، وللنمو معًا في طريق الكمال.
من هنا البعد الجماعي لإكرامنا لجسد الرب ودمه، والبعد السلوكي الذي ينتج عن ذلك، لأن الإفخارستيا هي أيضًا مدرسة الفضائل، والقيم والأخلاق، مدرسة الشراكة، وهي التي تعلمنا أن محبة الآخر تتطلب منا أن يصبح الواحد فاديًا لأخيه كما الرب، وبهذا نكرم بذات الفعل سرّ الإفخارستيا المقدس.
ينبغي أن نضيف أن محبتنا للقربان تدفعنا إلى إكرامه أيضًا من خلال الوقت الذي نُمضيه في حضرته القدوسة، لهذا فإن القديسين يبقون مسمَّرين الساعات الطوال أمام القربان، سجودًا وتأملًا وعبادة.
الإفخارستيا في حياة المسيحي غاية وليست وسيلة، نحن نجاهد بالنسك حتى نصل إلى النهاية أي الاتحاد بالله بالإفخارستيا، لذلك الإفخارستيا هي صورة (إيقونة) لملكوت الله بها نتذوق مسبقًا هذا المجد الإلهي، وفي حديثنا هذا نحن لا ننظر إلى الإفخارستيا نظرة أحادية الجانب مقابل كل الأسرار الباقية بل كمال الأسرار كله يكون بالإفخارستيا، ولذلك لا نبالغ عندما نقول أن الكنيسة تتماهى مع الإفخارستيا. لأنها إيقونتان للملكوت في هذا العالم.
كيف نعيش الإفخارستيا؟
كيف نعيش القدَّاس الإلهيّ؟ هل هو مجرّد لحظة احتفال، أو تقليد متجذّر، أم مناسبة لنلتقي ونشعر بأننا أنجزنا واجباتنا أم أن هناك ما هو أعمق هذا؟
هناك بعض العلامات الملموسة جدًا لفهم كيفية عيشنا لسرّ الإفخارستيا؛ وفقا لتعليم البابا فرنسيس، علامات تخبرنا عما إذا كنّا نعيش الإفخارستيا بطريقة جيدة أم رديئة.
العلامة الأولى هي طريقتنا في النظر للآخرين وتقديرنا لهم. في الإفخارستيا يحقق المسيح بشكل دائم ومتجدد تقدمة ذاته لنا على الصليب. فكل حياته هي فعل مشاركة كامل في سبيل الحب؛ لذلك فهو أحب المكوث مع التلاميذ والأشخاص الذين كان يتعرف إليهم. كان هذا يعني بالنسبة له أن يشاركهم رغباتهم ومشاكلهم وما يقلق نفوسهم وحياتهم. والآن نحن، عندما نشترك في القداس الإلهي، نلتقي برجال ونساء من مختلف الأجناس: شباب، ومسنّين، وأطفال، فقراء، وأغنياء؛ بسكان محليّين وغرباء؛ بصبحة أسرهم أو بمفردهم… لكن سرّ الافخارستيا الذي أحتفل به، هل يحملني لأشعر بهم جميعًا بالحقيقة كإخوة وأخوات؟ هل يُنمّي هذا السرّ فيَّ القدرة لأفرح مع الفرحين وأبكي مع الباكين؟ وهل يدفعني للذهاب نحو الفقراء والمرضى والمهمّشين؟ هل يساعدني هذا السرّ لأرى فيهم وجه يسوع؟ فنحن جميعنا نشارك في القداس لأننا نحب يسوع، ونريد أن نشاركه، من خلال الإفخارستيا، آلامه وقيامته. لكن هل نحب إخوتنا وأخواتنا المعوزين كما يريدنا يسوع أن نحبهم؟ هل أقترب من الآخرين وأصلّي من أجلهم في شدائدهم؟ أم أني أقف أمامهم بلا مبالاة؟ أم ربما أني أكترث بالثرثرة: أنظر إلى كيف يلبس هذا وكيف تلبس هذه؟ للآسف كثيرا ما نقوم بهذا بعد القدّاس، ولا ينبغي أن نقوم به! بل علينا الاكتراث بالإخوة وبالأخوات المعوزين بسبب مرض، أو بسبب مشكلة.
العلامة الثانيّة، والفائقة الأهميّة، هي النعمة أن نشعر بأننا نلنا الغفران ومستعدون للمغفرة. أحيانا قد يسأل أحدكم: “لماذا علينا أن نذهب إلى الكنيسة، طالما أن الذين يشاركون في القداس الإلهي هم عادةً خطأة كالآخرين؟” وهو اعتراض نسمعه بين حين وآخر! في الواقع، إن من يحتفل بسرّ الافخارستيا لا يحتفل به لأنه يعتبر نفسه أفضل من الآخرين أم لأنه يريد أن يُظهر نفسه أفضل منهم، وإنما لأنه يعترف دائمًا بحاجته ليُقبل ويولد من جديد من رحمة الله المتجسدة بيسوع المسيح. فإن كان هناك بيننا من لا يشعر بحاجته لرحمة الله، أو لا يشعر بأنه خاطئ، فمن الأفضل له ألا يشارك في الذبيحة الإلهيّة! فنحن نذهب إلى القداس لأننا خطأة ونريد أن ننال مغفرة الله، وأن نشترك في فداء يسوع، وغفرانه. فـ”فعل التوبة” الذي نتلوه في بداية الذبيحة الإلهية ليس مجرد “إجراء شكليّ”، وإنما هو فعل توبة حقيقيّ! فأنا خاطئ، واعترف بهذا، وهكذا استهل القداس! فعلينا ألا ننسى أبدًا أن عشاء يسوع الأخير حدث في “الليلة التي أُسلم فيها” (1 كو 11، 23). ففي ذلك الخبز وذلك الخمر اللذين نقدمهما ونجتمع حولهما تتجدّد في كل مرة تقدمة جسد المسيح ودمه لمغفرة الخطايا. لهذا علينا الذهاب للقداس بتواضع، كخطأة يمنحهم الرب المصالحة.
أما العلامة الثمينة الأخيرة فتُقدم لنا من العلاقة بين الاحتفال الإفخارستيّ وحياة جماعاتنا المسيحيّة. علينا أن نتذكر دائمًا أن الإفخارستيا ليست شيئًا نقوم به نحن؛ فهو ليست تذكارنا لما قاله يسوع وفعله. لا! إنها حقًا عمل المسيح! فالمسيح، الحاضر فوق الهيكل، هو الفاعل. إنها هبة من المسيح الذي يحضر بيننا ويجمعنا حوله، ليغذينا بكلمته وحياته. وهذا يعني أن رسالة الكنيسة وهويتها تنبعان من هنا، من سر الإفخارستيا، ومنه تتخذان دائمًا شكلهما. لذا فاحتفال قد يبدو جميلا وبلا عيب من الناحية الخارجيّة، ولكن إذا لم يقدنا نحو اللقاء مع يسوع المسيح، فهو مهدد بعدم حمل أي غذاء لقلبنا وحياتنا. بينما يريد المسيح، من خلال الإفخارستيا، أن يدخل في وجودنا ويملأه بنعمته، فيكون هكذا في كل جماعة مسيحية تناغم بين الليتورجيا والحياة.
إن القلب يمتلئ بالثقة والرجاء عندما نفكر بكلمات يسوع التي يكررها في الإنجيل: “مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير” (يو 6، 54). لنعش الإفخارستيا إذًا بروح إيمان، وصلاة، بروح مغفرة وتوبة، وفرح جماعي، مهتمين بحاجات إخوتنا وأخواتنا المعوزين، وكلنا يقينٌ بأن الرب سيتمم ما وعدنا به: الحياة الأبدية. ليكن هكذا!