الحياة العاطفية (2): ما هو الحب
الإرشاد الرسولي “الله محبة”
موضوع المحبة والحب موضوع شائك لأنه يطال المساحة الأكثر دقة في الانسان: المشاعر والقلب والتعلّق وبذلك “الضعف” الذي يتضمنه الحب. من يحب يظهر ضعفه، فالحب يعني التضحية.
أصدر البابا بندكتوس رسالته الأولى عن “محبة الله” في عام 2006 وفيها حدد البابا مفهوم الكنيسة عن الحب.
الله محبة: من أقام في المحبّة أقام في الله وأقام الله فيه” (رسالة يوحنا الاولى 4: 16). هكذا يبدأ قداسة البابا رسالته الأولى. ويكمل ليقول: “لقد أمنا بمحبة الله” وهذه ميزة من ميزات الإيمان المسيحي صفة الله الاولى ليست لا القوة ولا القدرة ولا الابدية والسرمدية انما كيانه (وهي اكثر من صفة): المحبة. فيمكننا القول مع الإنجيلي يوحنا : “إن الله أحب العالم حتى إنه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”.
هنا نتأكد كيف أن علاقة المؤمن بالله ليست علاقة خوف ولا طاعة ولا انكسار بل علاقة حب وحب متبادل. الله يحب الانسان ويظهر له هذا الحب وينتظر بصبر طول جوابه الحر.
من يريد الوصول الى الملكوت: أي الى ملء السعادة ليس لديه سوى طريق الحب لأنها أثار لمست كيان الله في الانسان ولن يرى الانسان السعادة الاَّ متى عاش مع الله (مار اغسطينوس) أي أذا ما عاش الحب. فالله هو الحب.
قدم البابا الحب كما فهمته الديانات القديمة، وبنوع خاص اليونانية، وكما يرد في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد: المرادفات الثلاث للحب: Eros, Philea, Agapé (هنا يتجاهل حب الأهل لأولادهم Stergein) تغني كل منها مفهوم الحبّ وتشير إلى بعد معيّن من أبعاده. ولكنها تشكل خطر تجزيء الحب وكأنه عدة أنواع منفصم الشخصية بينما هو واحد ومدعو للتوحيد.
– الأولى Eros العشق واللذة (الحب الجسدي) تتسّم بطابع الهوى أو العشق المحتّم الذي لا يترك مجالاً للإرادة البشرية بل يتحكّم بها فينقاد الإنسان وكأن إرادة إلهية تجرّه إلى حيث لا يرد. الإنسان في الديانات اليونانية مسيَّر ومصيره بيد الآلهة. وبلغ استغلال الناحية الجنسية مداه الأقصى في هذه الديانات بما كان يسمى بالزنا المقدّس حيث تستغل “نساء الهياكل” كواسطة للاتحاد بالآلهة.
– أما الثانية Philea الصداقة فتنبع من اختيار شخصي لشخص معيّن يفضّل على الآخرين وتبنى معه علاقة صداقة متينة. انه الحب بمعنى الصداقة.
– والثالثة Agapé وتعني الشراكة بكل معانيها، شركة الحب والحياة مع الآخر أو الآخرين.
الكتاب المقدّس العهد القديم لا يستعمل إلا نادراً المفردة الأولى ويركّز على الثانية والثالثة، بينما العهد الجديد لا يستعمل أبداً الأولى ويركّز على الثالثة كتعبير عن الحبّ المسيحيّ الحقّ.
هنا يأخذ البابا موقف واضح ويقول أن الحب لا يتجزءا وهو واحد موحّد من ناحية قيمته لأنه متعلق بالانسان وكل ما في الأنسان هو نبيل.
هذه هي المرة الأولى في تاريخ الكنيسة التي يتكلّم فيها بابا أو راعٍ كبير عن الحبّ ليعيد للمفردة المهمولة Eros اعتبارها ويصالحها إذا أمكن التعبير مع المفهوم المسيحي للحبّ Agapé. يرى قداسته ان الحبّ واحد ولو اختلف التعبير عنه (“Eros et agape – différence et unité”). انه نابع من الله الخالق الذي وضع منذ اللحظة الأولى للخلق هذا الميل الطبيعي بين الرجل والمرأة. “هذه المرأة هي عظم من عظمي ولحم من لحمي” “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، فيصيران واحداً”. وكما ان الإنسان خلق على صورة الله كذلك كل أعمال الإنسان ينبغي أن تعبّر عن هذه الصورة. وكما ان الله واحد وثابت ومستقرّ ونهائي في حبّه، كذلك ينبغي أن يكون الإنسان. والله يعبّر في الكتاب المقدّس عن حبّه للإنسان خليقته بتعابير ورموز بشرية. (العهد القديم: صورة الحبيب، العشيق، الزوج، الخطيبة… سفر نشيد الأناشيد) وفي يسوع المسيح يصبح هو نفسه إنساناً ليحبنا ويعبّر لنا كإنسان عن حبّه الكامل لنا. حبه (1) مجاني (2) حرّ و (3) محرّر، يحبّنا من (4) اجل خلاصنا.
يطرح البابا السؤال: “هل صحيح أن المسيحية قتلت الحب بمعنى ال Eros” ؟ ويجيب البابا على انتقاد الفيلسوف الإلماني نيتشيه عندما قال ان المسيحية أعطت للحبّ éros نوع من السم ليشربه. فيقول قداسته ربما الكنيسة انتقدت الحب بهذا المعنى وكأنها خائفة منه ولكنها قدّمت له الشفاء لينضج هذا الحب وينمو بنمو الشخص البشري ونضوجه وعيشه الحب الكامل.
اذا كان اليونانيين اعطوا لل Eros معنى عدم السيطرة والنشوة والسكر وضياع القدرة العقلية الانسانية فالمسيحية اعادة له كرامته اذ جعلته التعبير الأسمى للحب والاتحاد بين شخصين اعطوا وعد واحدهم للأخر بالبقاء متحدين بسر الزواج.
فالإنسان واحد وينبغي ان يسعى إلى توحيد ذاته، في هذه الوحدة يتلاقى الحب الجسدي مع الحبّ الروحي في ذات إنسانية صافية.
فالميل الطبيعي، إذا ما اعتبر من مكونات الإنسان وبالتالي من مكوّنات الحب عند الإنسان وتأقلم بالتالي مع المكوّنات الأخرى، يصبح ذا إيجابية هائلة: يحرّك الإنسان ويدفعه باتجاه الآخر ليصل إلى الله. أما إذا استبد هذا الميل الطبيعي لسائر المكوّنات الإنسانية وسيّرها على هواه أي عندما ينقسم الانسان يصبح هذا الحب كغريزة لا عقل لها ولا إرادة وبالتالي لا حرية. فيفقد قدسيته ويفسد الإنسان ويحدّه بالشعور الآني الزائل.
من هنا أذكّر بوحدة الانسان ضمن تناغم كل ابعاده الانسانية. وهو مدعو لتحقيق هذه الوحده.
من هنا، وبحسب قداسة البابا، فلا بد من مسيرة تنقية للحبّ ليصل إلى حالة الشفاء. هذه المسيرة تتطلّب تجرّداً عن الأنانية والتزاماً بكل ما هو إنساني إلى النضوج.
هي مسيرة لا تتوقّف بل ترافق الإنسان طوال حياته لتوصّله يوماً بعد يوم إلى النبل الإنساني. خلال هذه المسيرة ينبغي ان لا يفصل الجنس عن الحبّ ولا أن يهمل بل على الإنسان الساعي إلى النضوج ان يستجمع كل معطياته الإنسانية ويؤآلف بينها ليكون أي عمل يقوم به صادراً عن الكيان الإنساني الموحّد. الحب هو واحد (أنظر رقم 8 من الرسالة: في الواقع، الحب هو حقيقة موحّدة مع ابعاد متعدّدة – حدّد منها ثلاثة – احياناً يظهر بُعد من هذه الأبعاد بطريقة أقوى. حين ينفصل بعدين الواحد عن الآخر نصل إلى نوع من الكاريكاتور أو على الأقل واقع مجتزأ للحب. ونجد أن الكتاب المقدّس لا يصوّر عالم آخر مواز للعالم البشري ومناقض لحقيقة الأنسان الاساسية وهي الحب أنما يقبل الكتاب المقدس بالانسان بكليّته ويسعى لتطهير هذا الحب ويفتح أمامه أبعاد جديدة. هذه الحقيقة الكتابية يمكن التعبير عنها بنقطتين: صورة الله وصورة الانسان” (وفي الحالتين هما صورة الحب). يكمّل ويحقق هذه الصورة ويوحّدها تجسّد يسوع المسيح فيصبح الانسان موحّد بالله وموحّد بمحبته، مدعو لهذه الوحدة بين الحب الغرام والحب الصداقة والحب المحبة.
أنا أحب؟ … وهل أعرف ما هو الحب؟: وجب علينا التميز أولاً بين حب الإنسان لإنسان آخر وحبه أو رغبته بالأشياء التي تعطيه فرحاً وارتياحاً. فالحب المؤنسن أي الذي ينظر إلى الأخر انطلاقاً من إنسانيته لا يمكنه أن يكون بهدف الامتلاك ولا بغاية التلذّذ دون التفكير بخير وفرح ونمو المحبوب كما هي الحال بحب الأشياء! الحب الذي يدفع شخصين أن يرتبطوا ببعضهم وكأنهم شخص واحد (حب الغرام) أو الحب الذي يقرّب شخصين ليشعروا بالأمام والثقة والدعم المتبادل (حب الصداقة) أساسهما هو أن يكون هذا الانجذاب “حب مؤنسن”: أي أن أشعر أنني محبوب وأنني أحب وأن يكون همي أن يعيش الأخر نفس الحقيقة وبنفس الوقت أن احمل هم سعادة الاخر تماماً كما أنا! حامل هم سعادتي انا. هذا الحب يجعلني أفرح وأحب نفسي أكثر وأشعر أنني قريب من كل الناس ومن الله: أي يجعلني انساناً أكثر فأكثر – “يؤنسنني”.
حب الغرام
عندما يقول الحبيب لحبيبته أو الحبيبة لحبيبها، وللمرة الأولى: “انا أحبك”…: غالباً ما تكون انطلاقة الحب قبل الزواج نوعاً من الحب الذي لا يسيّره إلا الإعجاب والهيام بين شخصين لا يعرف بعد أحدهم الآخر المعرفة الكافية ليتمكنا من المحبة الحقيقية التي تشمل كل الأبعاد الإنسانية عند الحبيبين. أي أن أحب الآخر بكليته وكما هو أو أن أتقدم من الحب المؤنسن.
وعندما أقول له (لها) يوماً بعد يوم: “أنا احبك”: ما هو الحب الناضج؟ متى قلت لشخص أخر أنا أحبك قلت له حقيقتين: “أريدك أن تعيش إلى الأبد” و”أريد أن أبقى معك إلى الأبد”. أو بتعبير سلبي أقول “لا أريدك أن تموت” و”لا أريدك أن تبعد عني”. أي أريدك أن تصبح أبدي وأن يصبح حبي لك أبعد من الموت. وبنفس الوقت قلت له “أنا لك ولست لأخر سواك”. ولكن كلنا نعي أن هذا الطموح وهذه الرغبة لا يمكن أن تحقق أبدية هذا الحب ووحدته الاَّ إذا أعطيت قوة أقوى من قوة الإنسان يمكنها أن تغير هذا الحب البشري من الداخل. والمؤمن الذي يحب ويريد أن يصبح حبه مطبوع بالأبدية يتقدم من سر الزواج لأن السر بإيماننا المسيحي هو هبة الله التي تحوّل ما هو ! بشري ليصبح الهي. نعمة الله تحول بواسطة سر الزواح حب الرجل والمرأة البشري والمحدود ليصبح حباً الهياً أبديا يتخطى الموت. “فالنعم” التي ستقولانها والتي هي كلمة بشرية تتحول لتصبح ليس فقط “وعداً” بل “عهداً” بين حبيبين أمام الله ومعه. حينها يمكن للشريكين أن يقولان واحدهم للأخر: “أريدك أن تعيش إلى الأبد” و”أريد أن أبقى معك الى الأبد”. هذا ما يسميه القانوننين: وحدة الزواج وعدم انحلاله! واللاهوتيين يسمونه الأمانة الزوجية وديمومة الزواج.
“أنا احبك” ولكن مع الوقت…: لقد تكلمنا عن النعمة التي تدخل الحب بالأبدية ولكن هذه النعمة ليست فعل سحر! نعمة الله تعمل معي يداً بيد وهي تحترم حريتي وخاصة محدوديتي وهذا كله يعني أن نعمة الله التي حولت حبي من حب بشري إلى حب الهي لا محدود لم تحوله مرة واحدة لحظة الزواج بل هي تحوله يومياً ومدى العمر. الحب الزوجي المبارك هو حب ينمو يوماً بعد يوم بنعمة الله وتفاعل الحبيبين معها.
ما هي صفات الحب الحقيقي؟ الحوار، التضحية، الخصوبة، الأمانة، القبول بضعف ومحبة الأخر ومحبته كما هو، كي يكبر، الانفتاح على الروح العائلي وعلى المجتمع، عيش حضور الله ومعنى الصلاة والتأمل. لم يعد الثنائي اثنان ولا حتى اثنان مع أولاد بل عائلة تعيش من محبة العائلة الثالوثية الالهية. الوعي من قبل كل طرف بأنه لا يمكنه أن يعرف الآخر معرفة كاملة: الآخر هو سر الهي أدخل فيه بعلاقة لا تنتهي حتى الموت. الحب الصادق يعترف أن الكمال ليس من هذا العالم وأن لكل إنسان نقائصه ويبقى الحب “صورة” عن الحب الألهي أي غير كامل. لذلك يكون الحب مسيرة للتقرب من ملء الحب الألهي، المطلق: أن أحب يعني أن أضع أملي وثقتي بالمحبوب بشكل دائم طوال العمر.
حب الصداقة
مختلف عن حب الغرام رغم أنه يشاركه بما هو أساسي: يمكن أن يكون مع شخص من نفس الجنس أو من الجنس الأخر. ما هي صفات حب الصداقة:
يحمل هم الأخر، فيه امور كثيرة من الحب الذي يربط الحبيب بحبيبته انما هو محرّر اكثر: ليس حب حصري ولا يعد بالبقاء سوياً الى الأبد، يسمح بدخول حب صداقة أخر عليه ويسمح للأخر أي يكون لديه صداقات اخرى. لا يعرف الرغبة بالاتحاد الجسدي، ليس عهد امام الله بمعنى السر انما هو مسيرة وعود. فيه الأمانة، الحضور ولكن مساحة الحرية التي يحفظها هي اكبر بكثير من مساحة الحرية التي يحفظها حب الغرام.
(موضوع حب الصداقة الذي ابعد لفترة طويلة من الحياة المكرّسة لدرجة أنه تهم احياناً بتأثيره السلبي على العلاقة الجماعيّة وحتى على العفة لدرجة أن بعض التعاليم الروحيّة أطلقت عليه تسمية “الصداقات المميزة أو المشبوهة amitié particulières)) ولكن اليوم نجد أن موضوع الصداقة هو أمر مؤنسن ومساعد للتوازن شرط أن يبقى مميز بصفات حب الصداقة ولا يصبح مشوَّه ومشوِّه.
يمكننا أن نعيد لذاكرتنا الصداقات الجميلة التي عاشها عدد كبير من القديسين. ولنتذّكر كلام يسوع: أعدوكم اصدقاء (يوحنا 15/15).
للحب ابعاد وانواع كثيرة ولكن تبقى ثماره مشتركة: الفرح بالعيش والنضوج بالعطاء. يمكننا أن نتكلّم عن أنواع الحب التي يعيشها المؤمن في حياته: الحب الأخوي في الجماعة، المساعدة، التعاضد، الصلاة بروحانيّ’ شراكة القديسين… (الكنيسة، فريق الصلاة، فريق العمل، العائلة…)
(يتبع)