إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (8): حياة الشركة

0 1٬683

القديس باخوميوس

بينما ازدهرت الحياة التوحدية في مصر السفلى، ظهر نمطٌ آخر من الحياة النسكية الديريّة على يد القديس باخوميوس الذي احتل مكانًا بارزًا في تاريخ الكنيسة جمعاء لكونه أهم المؤسسين لنظام حياة الشركة. لا يمكن الجزم بالقول بأن باخوميوس هو أول من أَسسَ نظام حياة الشركة، لأنه من الثابت تاريخيًا أن تجمعات الرهبان ظهرت في وقت واحد تقريبًا في مناطق شتى من العالم المسيحي القديم. إلا أن النصوص والقوانين التي تركها باخوميوس وتلاميذه تاوضروس وأورزيسوس تجعله حقًا النموذج والمؤسس لهذا النظام من الحياة الرهبانية[1].

  1. النشأة والاهتداء

في نهاية القرن الثالث تقريبًا، وفي قرية قصر الصياد بمحافظة قنا، وُلد باخوميوس من أبوين وثنيين. اقتيد في العشرين من عمره بالقوة، مع غيره من الشباب، لينضم إلى قوات الإمبراطور قسطنطين الذي عزم على وأد تمرد ملك الحبشة عليه. كان التجنيد إجباريًا، شمل كل البلاد والقرى التي تخضع للإمبراطور قسطنطين. أقلعت المركب، حملت الجنود جنوبًا وحطت الحملة الحربية، في طريقها إلى الحبشة، في طيبة، ليعسكر الجيش هناك.  وكان عادة قادة الجيش أسر هؤلاء الشباب في معسكرات مغلقة، يسهر عليها الجنود في حراسة مستمرة خشية هروب أحدهم من الحرب. ظروف الأسر صعبة، فتحركت مشاعر بعض المسيحيين قاطني تلك البلدة، فذهبوا تحت جناح الليل حاملين طعامًا وشرابًا لأولئك الجنود التعساء. فحسنَ الأمر جدًا في نظر الشاب باخوميوس، وسأل عن هوية هؤلاء اللذين أَحسنوا إليه دون أن يعرفوه. فأخبروه بأن أولئك القوم مسيحيون، يقدمون أعمال الرحمة والمحبة تجاه الغرباء والمحتاجين كفريضة نابعة من إيمانهم.

تأثر باخوميوس بما سمعه عن إله المسيحيين وتعرف، وهو مازال وثنيا، على معاني المحبة الأخوية، فانبرى واعدًا الإله المجهول باتباعه متى تحقق رجاؤه بفك سجنه.  اِنتهت الحرب، فأَخلى الأمبراطور سبيل الشباب المأسورين لأجل قتال ملك الحبشة، فعاد الكثيرون إلى ذويهم، إلا أن باخوميوس لم يعد، بل جنح إلى الشمال، إلى قرية صانسيت (نجع حمادي) طالبا مشورة أحد الكهنة، كاشفًا رغبته في خدمة الآخرين، الذي أهله لقبول العماد.

لجأ باخوميوس إلى مقبرة، كانت قديما مخصصة لكهنة سرابيون، كعادة أجداده عند التفرغ للصلاة. لكن على خلاف الرهبان المتوحدين، لم ينعزل عن الناس، بل شرع مدة ثلاث سنوات في خدمة الفقراء والمرضى، خاصة عند تفشي وباء الطاعون في تلك القرية، فذاع صيته بين الناس. أتبع باخوميوس تقاليد أجداده المصريين، فلجأ إلى الصحراء للتفرغ للعبادة، لكن تأثره بعمل المحبة الذي قدمه بعض المسيحيين في طيبة، جعله يمزج ما بين التفرغ للعبادة والمحبة الأخوية. في ذلك الوقت من كان يريد أن يتفرغ للعبادة، عليه أن “يترك العالم” وينعزل في “البرية” بعيدا عن الناس. هذا التوجه لدى كافة النساك، حتى أن أنطونيوس الكبير، رئيس المتوحدين يبرر اختياره لهذا النمط، عند زيارته إلى تلاميذ باخوميوس، كما نقرأ في المخطوط القبطي ذي اللهجة الصعيديةS5: “عندما صرت راهبًا، لم تتواجد جماعات رهبانية، بل من أراد أن يصير راهبًا ينعزل في مكان قفر متعبدًا لله، لهذا صرت أنا أيضا متوحدًا[2].

  1. الخبرة النسكية مع بلامون

رغب باخوميوس في صقل خبرته النسكية الناشئة، وسار على هدى جميع النساك السابقين في طلب المشورة من أحد النساك الشيوخ. ساد تقليد بين النساك في ذلك الوقت، من رغب في أن يصبح ناسكًا عليه أن يجد مرشدًا روحيا يعلمه تعاليم الحياة النسكية ومعرفة الفضائل المسيحية وكيفية الصمود أمام تجارب أبليس. لم تضن البرية المصرية بالكثير من هؤلاء الشيوخ اللذين ساعدوا الشباب الراغبين في الحياة النسكية. وجد باخوميوس ضالته في ناسك يدعى بلامون، يعيش بالقرب من تلك القرية، وهو شيخٌ بَلغَ من التقوى مبلغًا، وأصبح نموذجًا ومثالاً يحتذى به، وكان كثيرون يقصدونه ويقيمون بالقرب منه حتى صار أبًا ومرشدًا لكثيرين، فذهب إليه وقرع باب قلايته، إلا أن الشيخ رفض طلبه ناصحًا إياه بأن يختبر نفسه جيدًا لأن الطريق وعرٌ. ثم عاد وقبِله وقضى معه سبع سنوات حتى سمع باخوميوس صوتًا، في قرية طفناسيه يطلب منه أن يبقى في ذاك المكان ويبني ديرًا لأن أناسًا كثيرين سيأتون ويصيرون رهبانًا لديه. فأسرع محدثًا معلمه بكل شيء. ففطن الشيخ أن تلميذه مدعو لنمط حياة جديد[3]، وساعده في بناء صومعته الجديدة في طفناسيه. وداوم كل منهما في زيارة الآخر حتى نياحة الشيخ بعد فترة مرض قصيرة.

  1. تجربة العيش المشترك الأولى

عاش باخوميوس في صومعته بقرية طفناسيه، على مسافة قريبة من معبد دندرة الفرعوني، ناسكًا وحيدًا فترة من الزمن، حتى جاءه نساك يريدون أن يشاركوه تجربته الوليدة. بدأت التجربة بأخوه الأكبر يوحنا، ثم توالى توافد العازمين على المشاركة في التجربة. لا تخلو السيرة lk تسليط الضوء على الصعوبات الجمّة التي اعترضت تجربة باخوميوس الوليدةK لأن النساك لم يعتادوا العيش المشترك. وضع باخوميوس قانونًا مبدئيًا للراغبين في مشاركته: “أن يقيم كل نساك وحده، و يعمل ليقتات قوته من عمل يديه، على أن يضع ما يفيض عن حاجته تحت تصرف الآخرين“. ويلاحظ أن قانون باخوميوس المبدئي يجمع بين نمطي الحياة: حياة التوحد وحياة الشركة، فهو لم يرغب في فرض نمط حياة جديد على هؤلاء النساك القادمين إليه لئلا يفقدهم، فترك لهم مساحة يتصرف فيها المتوحد كما اعتاد العيش قبل أن يأتي إليه. ولكنه فرض شيئًا جديدًا لم يعتاده المتوحودون، هو أن يضع ما يفيض عن حاجته تحت تصرف الجماعة. فقبلاً كان كل منهم يعمل لقوت يومه بما يكفى احتياجاته، لكنه الآن سيعمل لنفسه وللآخرين. فسر بنفسه هذا الأمر لتلاميذه في وقتٍ لاحق، كما نقرأ في النص الأقدم لسيرته: “لم يصلوا إلى القامة التي يخدم كل منهم الآخر على مثال الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم التي كانت قلبًا ونفسًا واحدة”[4].

  1. تنظيم حياة الشركة الباخومية

لما زاد عدد الأخوة، واتسعت الخلية الرهبانية، قام باخوميوس بتنظيم ديره الصغير، عام 320 في طفانسيه، وأضحى هو ذاته المدبر الروحي والمالي للدير. اختار شخصًا ذي قامة روحية كبيرة ليقوم بمهمة بواب الدير، الذي يمكنه أن يقابل الزوار ويتحدث إليهم بلطف، وعَهدَ إليه بمهمة تربوية خاصة باستقبال طالبي الرهبنة والإشراف عليهم في منزل خارج أسوار الدير حتى يتم اختبارهم لدخولهم الدير.

حين وصل عدد الرهبان مئة، بنى باخوميوس ديرًا ثانيًا على مسافةٍ من طيبة. وفي غضون بضع سنوات، كان هناك تسعة أديرة في فابو وصانسيت وطومسون وباسترسون وتيكاسمين، كلّ ديرٍ يشبه قريةً صغيرة، يتألف من عدّة مَبانٍ، ويأوي كلّ مبنى حوالي أربعين راهبًا. خُصص كل مبنى “منزل” لفئة محددة، هناك منزل الحصادين، وآخر خاص بالمزارعين، وآخر بالنجارين، وآخر بالفرانين، والطباخين، ومستوصف المرضى. وعَيّن مسئولاً على رأس كل منزل[5]، سمى تقيًا، يرافقه مُساعد. ويحيط سور بمجمع المباني كله، في صورة قرية صغيرة.

وأسس القديس باخوميوس أيضًا ديرًا للراهبات الحبيسات نزولاً عند رغبة أخته، وجعله قريبًا من دير الرهبان، ولكنّه منفصل عنه بنهرٍ جارٍ، ولم يُسمح لأيّ راهبٍ باجتيازه إلا الكاهن الذي يحتفل باللتيورجيا للراهبات الحبيسات.

نظم باخوميوس لرهبانه قانونًا، يُعد هو الأول الذي ينظم الحياة المشتركة في تاريخ الحياة الرهبانية. أَسس القانون على روحانية أعمال الرسل، فارضًا المساواة الكاملة بين الرهبان في المأكل والملبس، والتخلي الكامل عن الممتلكات المادية ووضع كل شيء تحت تصرف الجماعة الرهبانية. ضمت القوانين التي ألفها باخوميوس 192 بندًا تكشف عن حذر مشرعها واعتداله. وكان يرأس كل دير أبّاتي، يطيعه الرهبان طاعةً كاملة.

حَّدد باخوميوس ثلاثة اجتماعات أسبوعية، يعطي فيها الأبّاتي التوجيهات الروحية اللازمة لتكوين الرهبان على نمط حياة الشركة، أحدهما يوم السبت والآخرين يوم الآحد. كما ترك حرية عقد اجتماعين آخرين يومي الأربعاء والجمعة لرؤساء المنازل متى رغبوا في ذلك حتى يعطوا توجيهاتهم العملية للإخوة اللذين يقودونهم.

  1. لماذا أنشأ باخوميوس نظام الشركة؟

لماذا توجه باخوميوس لتأسيس نظام حياة جديدة، بدلا من أعتناق النظام التوحدي المعروف في عهده؟ بتحليل الأحداث المتتابعة، خبرة باخوميوس الأولى مع المسيحيين جعلته يرى الدين الجديد نظامًا قائمًا على محبة الآخرين، حتى الأعداء. ولهذا لم يكن منطقيًا أن ينزوى باخوميوس في صومعة في باطن الصحراء، منعزلاً عن الناس منفصلاً عنهم كما كان يفعل المتوحدون في زمانه. صورة المسيحية التي قدمها أبناء طيبة لباخوميوس جعلته يرى الإيمان بالمسيحية يتطلب أن يصنع الإنسان خيرًا لآخرين، وهذا لا يتحقق إذا عاش ناسكًا متوحدًا في البرية. بالرغم من محاولة باخوميوس أن يعيش ناسكًا متوحدًا، على غرار أقرانه والسابقين له، إلا أنه لم يستمر طويلا، لأن النموذج الذي عرفه عن المسيحية، مازال غائبًا.

وإذا قارنا الموقفين، القديس أنطونيوس الكبير، والقديس باخوميوس، الأول قد تأثر كثيرًا بما سمعه في الكنيسة بنداء الرب للشاب الغني: “إذا أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع كل شيء لك وتعال واتبعنى” مت 19/21. ولأنه كان غنيًا، ترك كل شيء، كما نَصَ الإنجيل، واِنزوي بعيدًا متوحدًا، متفرغًا للصلاةِ والتأمل. استمر أنطونيوس في حياة العزلة لأنه اتبع جذريا مع سمعه من نداء الرب بأن يترك عالمه الحالي وينزوي متعبدا في مكان قفر ليكون كاملاً، مقتديًا بعادات الآباء بالتوجه إلى الصحراء متى أراد الإنسان التفرغ للعبادة. نص الإنجيل الذي سمعه أنطونيوس ألقى الضوء على ضرورة التخلي عن الممتلكات لبلوغ حياةِ الكمال، لذا اِختار نمط الحياة هذا. سمع أنطونيوس النداء داخل الكنيسة، في غمرة تأمل عقلي للنص الإنجيلي، أما باخوميوس، فكان وثنيًا، لا يعرف شيئا عن المسيحية. عَرف باخوميوس الكنيسة متجسدة في عمل محبة مجاني تجاهه وتجاه رفقائه الجنود التعساء. فما عرفه عن المسيحية يتنافى مع فكرة التوحد في الصحراء للتفرغ للعبادة. دفعته التقاليد الموروثة في العقل الجمعي المصري القديم إلى اللجوء إلى البرية أولا، لكن سُرعان ما تغلبت عليه دعوته الأولى بأن يخدم الله في كل إنسان.

قبل أن يتعلم باخوميوس مبادئ الفضائل المسيحية، أو قواعد الحياة الرهبانية، من معلمه الشيخ بلامون، تَعلم الأغابي الأخوية المجانية من قديسي طيبة الغير المعروفين. حدد عمل المحبة هذا اِختيارات باخوميوس المستقبلية وتوجهه النسكي، التي ارتكزت على المحبة وخدمة الآخرين. كان الأغابي بمثابة المبدأ والأساس لروحانية باخوميوس وللرهبنة الباخومية من بعده، في حين كان إيليا النبي، الباحث عن الله في البرية، هو النموذج ومبدأ حياة القديس أنطونيوس وتلاميذه المتوحدين من بعده: “كل من أراد أن يصير راهبًا عليه أن يقتدي بحياة النبي إيليا البار”.

ظهر المبدأ والأساس الذي اعتنقه باخوميوس في صلاته الأولى التي رفعها للإله المجهول: “إيها الإله الصادق والحقيقي وحدك، خالق السماء والأرض، (…) أيها الصالح إذا نظرت إلى مشكلتي وخلصتني من هذه المحنة، سأعبُدَك وأعمل مشيئتك، وأخدم كافة الآنام حسب وصيتك”[6]. ولهذا ينزوي في خبرته النسكية الأولى بعد نواله سر المعمودية، في مكان غير بعيد عن الناس على شاطئ النيل، مقدمًا خدماته للمسافرين، والغرباء العابرين بتلك المنطقة. وفي وقت تفشى وباء الطاعون في قرية صانسيت، ذهب باخوميوس لكي يخدم المرضى، فكان يقدم لهم كميات من خشب السنط (للتدفئة) يكون قد جمعها من الغابات بقرب القرية، ويقوم على خدمتهم إلى أن يشفوا. ويعكس هذا الموقف، رغبة باخوميوس في خدمة الآخرين منذ بداية حياته النسكية، بالرغم من اتباعه سُنن الآباء السابقين، بالانعزال في مكان قفر.

سبع سنوات من الحياة النسكية التوحودية مع بلامون لم تستطيع أن تطفىء الجمرة التي أشعلها سكان طيبة داخله، بأن يخدم الآخرين على مثال الجماعة المسيحية الأولى بأورشليم. خدمت تلك الخبرة النسكية باخوميوس كثيرًا فتأكد أن الرب يدعوه لحياة مختلفة، حياة شركة مع آخرين. اكتشف رويدًا رويدًا العلاقات مع الآخرين تنقيه وتجعله ينمو في الفضائل المسيحية. وبالرغم من أن السيرة الخاصه به تذكر بوضوح أنه أستقى نمط الحياة من الرب ذاته، إلا أنها لا تغفل عن ذكر تفاصيل معاناة باخوميوس في تأسيس هذا النمط من الحياة، الأمر الذي يشير إلى عمق المسيرة الروحية التي اتبعها ونضجت عبر خبرات حياتية واقعية.

  1. حياة الشركة الباخومية

في إطار تأَرِيخ نشاة الرهبنة المسيحية، توصل K.Heussi إلى إن إضافة باخوميوس لهذا التاريخ ذات بعد اقتصادي محض، أي متعلق بقدرته على تنظيم العمل داخل الدير. يشبه الدير في تنظيمه معسكرات العمل والإنتاج. عارض هذه الفرضية باحثون كثيرون اللذين أظهروا العمل في الأديرة الباخومية له بعد اقتصادي يتمثل في الحفاظ على استمرارية الجماعة الرهبانية، بالإضافة لكونه وسيلة من وسائل النسك تساعد الرهبان على اليقظة الروحية. في حين يرى H.Bacht باخوميوس لم يتوصل إلى نظام الشركة، الذي كان معروفا قبله في صورة تجمعات متفرقة في الصحاري المصرية، إلا أنه أعطى أساسًا قانونيا وتنظيميًا لم يكن معروفًا من قبل.

نؤيد وجهة النظر الأخيرة، لكننا نرى أنها مبنية على الجانب القانوني والتنظيمي فقط، وأهملت الجانب الروحي والإنساني في حياة الشركة لدي الباخوميين. فتوقف H.Bacht طويلاً أمام السور الذي يحيط بالأديرة الباخومية وعده أفضل ما أضافه باخوميوس لتاريخ الرهبنة. فالسور يفصل الرهبان عن العالم الخارجي، ويعطي تصورًا جديدًا لفكرة “الهروب من العالم” لتصبح “الانفصال عن العالم“. تقاسم النساك الحياة الجماعية، ولكن احتفظ كل ناسك بحياته الخاصة بمعزل عن تدخلات الآخرين. من أراد أن يلتحق بأحد الأديرة الباخومية عليه أن يمر عبر البوابة الأساسية التي يشرف عليها أهم المسئولين، وفقا لنظام الشركة الباخومية، البواب، المعلم الأول للمبتدئين. وبالرغم من أن السور الذي استحدثه باخوميوس لم يكن معروفا من قبل، إلا أننا لا يمكن أن نعده خلاصة ما قدمه باخوميوس لتاريخ الرهبنة المسيحية.

إن ما قدمه باخوميوس فعليا هو تنظيمه لحياة الرهبان الجماعية، ما عرف لاحقا بحياة الشركة، تنظيمًا قانونيًا، روحيًا وإنسانيًا. اتحاد الرهبان بقلبٍ واحد ونفسٍ واحدة، على مثال الجماعة المسيحية الأولى بأورشليم أعظم ما قدمه باخوميوس لتاريخ الرهبنة. نظم باخوميوس حياة رهبانه بعد سلسلة طويلة من الخبرات والمحاولات التي خابت كثيرًا قبل أن يُكتب لها النجاح. اكتشف باخوميوس الجميع يشكلون جسد المسيح السري، أعضاء في الكرمة الحقيقة الواحدة، مترابطين ومتحدين، حتى قبل أن يؤمن بالمسيحية من خلال لقائه الأول مع مسيحيي طيبة، اللذين أغاثوه في وقت محنته. اختبر باخوميوس محدودية الحياة النسكية لأنها تقود الإنسان إلى روح فردية، يمكن أن تدفعه إلى الكبرياء والاكتفاء بالذات.

  1. تلاميذ باخوميوس: تواضروس وأورزيسوس
    • أورزيسوس

أورزيسوس لاهوتي حياة الشركة الحقيقي، الذي أثرى بكتاباته وتفسيراته الإنجيلية أُسس هذا النظام الرهباني. تولى المسئولية بعد نياحة باخوميوس وترك لنا رصيدًا ثريًا من التعاليم الروحية النسكية. إلا أن اهتمامه الروحي غلب على حُسن إدارته للأديرة، فقد زاد عدد الأخوة كثيرًا وبدأوا في الاتساع في امتلاك الحقول والبساتين وطغى الاهتمام بالماديات على الروحيات. أراد رئيس دير منخوسين، ويُدعى “أبولونيوس” أن يشترى لنفسه مقتنيات زائدة عن الحاجة بخلاف قانون الجماعة، فحدث شقاق بينه وبين أورزيسوس نتيجته انفصال الدير عن الشركة الباخومية. فتنحى عن قيادة الجماعة الباخومية تاركًا منصبه إلى تواضروس.

  • تواضروس

أشهر آباء الشركة بعد باخوميوس. ولد في عام 306 في قرية سين، في عائلة مسيحية غنية. منذ حداثته أظهر ميلا للحياة النسكية، وكان دائم التردد على بعض النساك في تلك المناطق للتعلم منهم. وفي إحدى الأمسيات استمع إلى أحد النساك الذي راح يقدم تفسيرًا للكتاب المقدس، تعلمها من القديس باخوميوس أثناء زيارته لدير طفانيس. الأخبار التي نقلها الناسك عن الحياة الباخومية وعمق معرقة باخوميوس جذبت انتباه الشاب الباحث عن الكمال. بتدبير من العناية الإلهية، أرسل باخوميوس أحد رهبانه إلى قرية سين لتدبير حاجات الأخوة، وفي طريق عودته تعرف عليه تواضروس الذي طلب أن يأخذوه معهم لكي يلتقي بالقديس باخوميوس، فرفض الأخ طلبه لحداثة سنه. لكن الشاب عقد النية ووطد العزم على مقابلة باخوميوس فتبع الراهب في سفره حتى وصل إلى طفانيس، وطرق باب الدير فقبله باخوميوس فرحا وضمه إلى رهبانه، بعد أن علم بقصته.

سريعا ما احتل الشاب مكانًا بارزا في قلب باخوميوس بسبب غيرته الواضحة وتقدمه في الفضائل، فأسند إليه مهمة قراءة وشرح الكلمة في اجتماع المساء. ومع نمو الأديرة الباخومية بعد سنوات قليلة دعا باخوميوس تواضروس ليصبح رئيسا لدير طفانيس. وفي عام 340 دعاه مجددًا ليصبح ذراعه اليمنى في إدارة جميع الأديرة الباخومية.

أظهر حنكة في إدارته لشئون الشركة الباخومية، وتوسع في إنشاء أديرة جديدة وترك بدوره رصيدًا جيدًا من التعاليم النسكية، وتزخر سيرة باخوميوس بالكثير منها –لأنها كُتبت في الغالب في عهد الأخير- إلا أنه مريضى بعد خدمة قصيرة وتنيح فعاد الأب أورزيسوس ليتحمل مسئولية حياة الشركة مرة أخرى.

  1. المبدأ والأساس لحياة الشركة

لعبت صورة مسيحيي طيبة دورًا محوريًا في توجيه قناعات باخوميوس نحو تأسيس نظام حياة الشركة. عرف باخوميوس أن الإنسان المسيحي مدعو أن يكون رسولاً للمسيح، فمسيحيو طيبة، الذين ساعدوه عندما كان بعد وثنيًا، كانوا رسلاً للمسيح لأنهم كانوا على استعداد لمشاركة الغرباء والمساجين كل ما يمتلكونه من زاد. عَمقتْ خبرته النسكية التوحدية، في بداية حياته، قناعاته بأن الإنسان المتوحد من الصعب عليه أن يعيش وصية المحبة للقريب، لأنه معزول عن باقي أخوته. يومًا بعد يوم نما إيمان باخوميوس بأنه داخل الجماعة فقط يمكن للمرء عيش وصية المحبة لله والقريب، وأن العلاقات الإنسانية وحدها هي الوسيلة المثلى للنمو الروحي. طور كل من تواضروس وأورزيسوس فكر باخوميوس اللاهوتي لحياة الشركة، وعدّا الجماعةَ المسيحية الأولى بأورشليم النموذجَ الأعلى الذي يجب أن تنظم عليه حياة الشركة الباخومية.

يُعد نموذج الجماعة المسيحية الأولى بأورشليم نموذجًا إنسانيًا، بالإضافة إلى كونه نموذجًا عقائديًا وكتابيًا، لكونه يرتكز على مبدأ: يرتبط الإنسان بعلاقة رأسية مع الآخر الأسمى وهو الله، وأفقية مع إخوته البشر. اهتم النساك بعلاقتهم الرأسية مع الله وتغاضوا عن ما يربطهم أفقيا مع باقي البشر. عاشوا وصية المحبة الأولى تجاه الله، وتغاضوا عن الوصية الثانية الخاصة بمحبة القريب. جاء باخوميوس لُيعيد التوازن للإنسان في علاقاته، رأسيًا مع الله، وأفقيًا مع إخوته. استلزم هذا أن يعمل الإنسان على تغيير قناعاته ويجتهد في ضبط مشاعره ورغباته، فأن يعتنق رؤية جديدة ويرنو إلى طموحات مغايرة. عَمد باخوميوس على إحداث تغيير في عقلية النساك المتوحدين طالبى الانضمام لأديرته، لاعتناق  فكره الجديد، وذلك بالتخلى عما اعتاده الشخص من عادات نسكية تقتضي الانزواء بمعزل عن الآخرين، واعتياد أمر مغاير بضرورة الانفتاح على الآخرين.

النموذج الذي قدمه باخوميوس ليس نموذجًا تربويًا فقط يهدف إلى تعديل العادات النسيكة التي اعتادها الفرد، بل هو أيضًا نموذج قائم على فكر لاهوتي جديد يتطلب أن يقتدي الشخص بمشاعر رسل المسيح، أي اتباع يسوع ضمن مجموعة من التلاميذ راجين في الخلاص الجماعي. هناك إذًا ثلاث أبعاد أساسية في النموذج اللاهوتي الإنساني الذي قدمه باخوميوس:

  • اتباع المسيح

البعد الأول: المبدأ والأساس لآباء الشركة الباخومية لا يرتكز فقط على اُسس لاهوتية وكتابية، بل أيضا على قيم إنسانية أساسية. كل إنسان، مثل المسيح، منذ البدء وقبل أن ينشأ العالم، هو في حضن الله الآب، وسيعود إليه مجددًا، بعد فترة اغترابه في الأرض. على الإنسان إذن أن يقاتل ضد الشر في هذه الحياة، لا أن يفوز بالأبدية كمكافأة لصراعه هذا، بل للحفاظ على موطنه السماوي بعد فترة اغترابه في الأرض.

الراهب الباخومي مدعو لاتباع يسوع طوال حياته داخل الدير، والسير معه والعمل بوصاياه إلى تحمل الآلام معه والاستعداد لتقدمه الذات من أجله ومقاسمته مصيره على الصليب. للوصول إلى هذا المبدأ اهتم آباء الشركة الباخومية بتربية الرهبان على التحرر من كل العوائق التي يمكن أن تعوقهم ليصبحوا رسلاً للمسيح المصلوب. منهج تربوي متكامل يقوم على التأثير على القناعات العقلية لطالب الانضمام إلى حياة الشركة، بأن يترك حياته السابقة ويقتدي بالمسيح المصلوب. هي مرحلة الاهتداء والتي فيها يتخلص الشاب من كل ما كان يؤمن به قبل دخوله إلى دير الباخوميين، ويؤمن بأنه أصبح رسولاً للمسيح. بعد مرحلة الاهتداء تأتي مرحلة التخلي عن قِيمُه التي كان يعيش وفقا لها في العالم، يتخلى عن حقوقه الطبيعية، عن أفكاره الشخصية، عن عاداته السلوكية، عن انشغالاته واهتماماته الدنيوية التي تُثقل قلبه.

تُنظم القوانين الباخومية مظاهر التخلي المطلوبة من كلٍ شخصٍ يرغب في اِعتناق حياة الشركة: “إذا حضر أحد الأخوة إلى الدير للرغبة في الرهبنة وترك العالم، فإنه لا يدخل إلى الدير بل يبقي عدة أيام خارج الدير ثم يخبر البواب رئيس الدير بذلك. وعلى هذا الأخ أن يتعلم الصلاة الربانية، ويحفظ ما أمكنه من المزامير. ويتم اختباره بدقة لئلا يكون قد صنع شيئًا رديئًا وبسببه يريد أن يدخل الدير أو يكون عليه عقاب لأي سبب. ويتم اختباره للتأكد من قدرته على ترك أقاربه الجسديين وكل ممتلكاته[7]“.  فطالب الرهبنة يجب أن يتم اختباره في مدى قدرته على التخلي عن العالم وترك عائلته وكل ممتلكاته المادية. والمقصود بالتخلي لدي الباخوميين هو التحرر الداخلي من كل تعلق بالعالم وبالرباطات الجسدية، للاشتراك في حمل الصليب في هذه الحياة، للاشتراك معه في مجده في الحياة الأبدية. وفقا لنص القانون السابق الإشاره إليه، يمكن تحديد ثلاثة أوجه للتخلي وفقا للباخوميين، اثنين سابقين للالتحاق بحياة الشركة، أما الثالث فهو يرافق الراهب الباخومي طيله حياته النسكية.

  • التخلي عن الخيرات المادية

ميّز التخلي عن الخيرات المادية اتباع المسيح طوال تاريخ الحياة الرهبانية، لكنه يأخذ شكلاً جديدًا مع الباخوميين، فهو تخلي عن الخيرات المادية في سبيل وضع تلك الخيرات لصالح الجماعة الباخومية كلها. يفوق تخلي الباخوميين هنا تخلي المتوحدين في شأن الخيرات المادية، فالمتوحدون مضطرون للاحتفاظ ببعض الأشياء المادية تضمن لهم الاستمرار في الحياة. وفقا للباخوميين ولا يمتلك الراهب أي شيء، ولو نذر يسيرا، لأن كل شيء يوضع تحت تصرف الجماعة الرهبانية ككل. ينص قانون باخوميوس الخاص بآداب المائدة على: “غير مسموح للرهبان أن يأكلوا من الثمار المتساقط تحت الشجر، ولكن عليهم أن يجمعوا ما يجدونه متناثرًا على الطريق ويوضع في مكان معين. لا يحوز لمَن يوزع الطعام على الأخوة الذين يجنون الثمار بأن يذوقه بل يحمله للمسئول الذي يعطيه بنفسه كما يعطي الباقين. غير مسموح لأي أحد أن يأخذ من ثمار الحديقة بخلاف نصيبه الذي يأخذه من المسئول عن الحديقة عند توزيع المحصول على كل الإخوة”[8].

التخلي الذي يقوم به المبتدئ على باب الدير لا يتوقف عند دخوله وانضمامه لحياة الشركة، بل يرافقه طيلة حياته داخل الدير. التخلي مسيرة حياة داخل الأديرة الباخومية، فعلى الراهب أن يتخلى عن كل شكل من أشكال الفردية في إطار الجماعة الرهبانية.  وقانون الشركة يتيح لكل راهب الإمكانيات ذاتها، ويوضع كل شيء تحت تصرف الكل، ولا يسمح لفرد أن يقتني أكثر من غيره.

  • التخلي العاطفي

ضرورة أخرى لاتباع المسيح هي التخلي عن العائلة وأقرباء الجسد للاقتداء بالمسيح المصلوب، هكذا يعلم تواضروس تلاميذه: “الذي يأتي إلى أبواب الدير لكي يكرس حياته لله فإن البواب سيكون مسئولا عن رعايته، فترة من الزمن، يدربه فيها على كل ما هو نافع لحياته ويقوده إلى قانون الحياة الأبدية. وعليه أن يترك والديه وإخوته وجميع أقاربه الجسديين، وكل مسرات هذا العالم، ولا يلتقى أباه الجسدي إذا حضر ليطلبه، بل يعلن له البواب على فم الراهب المتبدئ، بأنه منذ الآن لا تأثير جسدي، ولا مَن يتسلط عليه بناء على قرابة الجسد، بل يخبره بأن الجميع إخوته[9].  المقصود بالتخلي هنا ليس كراهية العائلة أو نبذها تمامًا، بل ألا يكون للعائلة تأثير على اختيارات الراهب وقراراته. بدارسة المخطوطات الباخومية نلاحظ تشددًا في موقف التلميذ تواضروس عن ما علمه باخوميوس مؤسس حياة الشركة وصاغه من قوانين. فالقوانين لم تمنع زيارة الأقرباء بالجسد للرهبان، بل نظمت كل هذا بصورة دقيقة للغاية، نظمت القوانين منهجية اللقاء، وكيفية التصرف إذا جلب الزائر طعامًا معه، ومتى أراد المبيت بالدير إذا كانت رحلة سفره شاقة، وكيفية رعاية المرضى منهم. يمكن تفسير تشدد تواضروس عن باقي آباء الشركة بخلفيته النسكية التوحدية التي لم تفارقه كثيرًا، بالرغم من اختلاف مفهوم التخلي الذي عاشه عما تنص عليه القوانين الباخومية وتعاليم القديس باخوميوس.

  •  التخلي عن الذات

تخلي الراهب الباخومي عن الخيرات المادية ورباطاته الأسرية قبل دخوله حياة الشركة ضروري ليؤهّل إلى ما هو أكثر عمقًا وألمًا، التخلي عن الذات. والمقصود بالتخلي عن الذات هو التخلي عن كل شيء، أن ينسى الإنسان نفسه، ولا يهتم برغباته الذاتية، مثل تقدير الذات والطموح الإنساني الطبيعي في سبيل الآخرين. والتخلي الأخير لا يقوم به الإنسان مرة واحدة على باب الدير، مثلما الحال في التخلي عن الخيرات المادية والرباطات الأسرية، ولكنه اِختيار مستمر طوال الحياة. يعتمد هذا التخلي على الاختيار الحر لأمور الحياة اليومية، صغرت أو كبرت، ليتوارى فيه الإنسان ويقدم الإخوة على ذاته.

على الراهب الباخومي الاجتهاد دوما للمحافظة على زخم دعوته الرهبانية، ويسهر على نفسه ويراقبها جيدًا حتى لا تتسلل إليه روح العالم، ويسعى إلى الوصول إلى الكمال الإنجيلي على مثال الرسل، مستخدما الوسائل النسكية المتاحة ضد الأخطار الخارجية والداخلية. فالرغبة في امتلاك شيء مادي أو الحصول على تقدير معنوي، أمثلة للأخطار الخارجية التي يتعرض لها الراهب. أما الأخطار الداخلية فهي قبول الأفكار والتخيلات ضد العفة الواجبة، أو التشوق إلى مسرات العالم الذي تركه عند ولوجه بوابة الدير.

  • المحبة الأخوية

البعد الثاني: تحتل المحبة الأخوية مكانًا بارزا في الروحانية الباخومية. فإذا كان اتباع المسيح قاسمًا مشتركًا بين النساك المتوحدين والباخوميين، كما سبق الإشارة، فإن آباء الشركة يتفردون عن غيرهم في أن اتباعهم للمسيح لا يكون منفردًا، بل وسط جماعة من الأخوة تعيش المحبة الأخوية. فالناسك المتوحد يتفرغ لأمور العبادة: الصلاة والصوم والسهر الليلي، منعزلا عن البشر، في حين يمارس الراهب داخل الأديرة الباخومية الأمور التعبدية ذاتها في إطار جماعة الرهبان معا ويخدم كل منهما الآخر. يعيش في إطار شركة مع آخرين، يتقاسم معها كل شيء: الخيرات المادية، الخيرات الروحية، التطلع إلى رجاء واحد بأنهم سيخلصون معا، كجماعة واحدة، جماعة القديسين. عندما يلتحق الراهب بدير الباخوميين لا يبحث هنا عن آبً روحيًا يعلمه الحياة النسكية ويكون له مرشدًا في إطار سعيه للقداسة فترة من الزمن، كما كان يفعل النساك المتوحدون، ثم يتركه لينعزل وحده في صومعة خاصة به، لكنه ينضم إلى جماعة من الأخوة يعيشون معا في محبة أخوية.

  1. Heussi قدم بحثًا في عام 1936 مؤكدًا بأن نموذج جماعة الرسل الأولى لم يكن دافعا لاختيارات باخوميوس منذ بداية حياته الرهبانية. تبنى هذه الفرضية باحثون كثيرون بعده متشككين في أن يكون هدف باخوميوس منذ البداية تأسيس نظام الشركة، بل توصل إليه رغبة منه في تلافي المشكلات التي صادفها هو شخصيًا في نظام المتوحدين. إلا أن باحثين كثيرين أمثال: . A. Veilleux و H. Bachi عارضوا هذه الفرضية، مؤكدين أن باخوميوس لديه فكرة واضحه على أن جماعته مختلفة عن جماعات المتوحدين، وحاول تأسيس هذا النظام منذ اهتدائه للمسيحية ولكنه صادف صعوبات جمة بسبب عدم اعتياد النساك العيش معا[10].

نتفق من جانبا مع الفرضية الأخيرة لسببين أساسيين: الأول دعوة باخوميوس ومدى تأثره بعمل المحبة الذي قدمه مسيحيو طيبة وهو سجين. عندما أراد أن يصبح راهبًا لم يكن معروفا وقتئذ طريقا آخر سوى مسلك النساك المتوحدين في الصحاري. وعندما حانت له الفرصة طبق ما عزم عليه، بالرغم من الصعوبات التي واجهته. فعلى مقربة من أنطونيوس كان هناك رهبان عديدون اللذين التفوا حوله طالبين مشورته الروحية، إلا أنه لم يؤسس حياة شركة مماثلة لما أسسه باخوميوس. رفض الأخير هذا الشكل، لأنه كان يرغب في شيء آخر مختلف تماما، يريد حياة شركة كاملة بين الرهبان، أن يصيروا جسدًا واحدًا ونفس واحدة، على غرار جماعة الرسل في أورشليم.

السبب الثاني من وجهة نظرنا في رفض فرضية اكتشاف باخوميوس حياة الشركة رويدًا رويدًا، يرجع إلى التركيز الشديد من جانب تواضروس وأورزيسوس في تعاليمهم على روحانية الحياة الجماعية المستمدة من سفر أعمال الرسل. سعى تلاميذ باخوميوس، أمام صعوبات العيش المشترك أو نزعة التملك التي سيطرت على بعضهم بعد نياحة باخوميوس، إلى تذكير الرهبان بأفكار المؤسس، التي تتمحور جميعها حول الحياة الجماعية. يقدم تواضروس في تعليمه الثالث فكرًا لاهوتيًا رائعًا للحياة الجماعية، مُذّكرًا مستمعيه بروحانية حياة الشركة، داعيًا للمحبة الأخوية بين الرهبان عند وقت تأسيس باخوميوس هذا النظام الرهباني. في هذا التعليم، يربط تواضروس بين حياة الشركة الباخومية وحياة الرسل الأوائل، وفي هذا الربط دلالة على رغبته في العودة إلى نمط حياة قد تم تطبيقه بالفعل. لهذا يتحدث تلاميذ باخوميوس عن: “العودة إلى الجذور” للمحافظة على قانون الحياة المُستلم من باخوميوس. 

  • الخلاص الجماعي

البعد الثالث: تُعد فكرة الخلاص الجماعي للجماعة الرهبانية هي الفكرة اللاهوتية الجديدة التي قدمها الباخوميون. فمن أراد أن يصير باخوميا عليه أن ينفصل عن العالم، متخليا عن الممتلكات المادية وعن أسرته بالجسد، ويصبو إلى الخلاص الجماعي لكل أفراد الشركة. فالمحبة التي أرادها باخوميوس أن تجمّع رهبانه لم يكن قاصرا على الانفتاح على الآخرين وخدمتهم، طمعا في الوصول إلى الكمال المسيحي الشخصي، أو نجاة نفسه من الهلاك الأبدي، ولكنها محبة عملية تقود إلى البحث عن خلاص الجميع. قدم باخوميوس خلاصة فكرته اللاهوتية في تعاليمه التي أوردته سيرته، خاصة المخطوط البحيري: “الراهب الذي يسلك بكل طهارة وطاعة واتضاع وخضوع، ولا يعثر أحدا من الإخوة بكلمة يقولها أو فعل يأتيه، فإنه لا شك سيصير غنيًا في المُلك الإلهي الذي لا يفنى ولا يضمحل. أما الراهب المتواني الذي يتسبب في عثرة الآخرين، فالويل له لأنه سيخسر نفسه، وضيقات كثيرة ستحل عليه، علاوة على أنه سيحاسب أيضًا عن النفوس التي تسبب في عثرتها وسقوطها[11].

فمن أراد أن يُقاسم آباء الشركة حياتهم، عليه أن لا يسعى إلى التقدم في الفضائل المسيحية كما كان يفعل النساك المتوحدون، بل عليه أن ينتبه أيضا إلى النمو الروحي لإخوته. هكذا يعلم أورزيسوس تلاميذه: “هناك بعض من الناس يظنون أنهم يحيون حسب ناموس الله ويقولون لذاواتهم ما يصنعه الآخرون لا يهمنا. إننا نريد أن نخدم الله فقط ونكمل وصاياه وأن ما يصنعه الآخرون، من إهمال وخطيئة، لا يهمنا. فإن هؤلاء يحثهم حزقيال النبى قائلا: «ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم. ألا يرعى الرعاة الغنم». (…) بعد أن نقدم حسابًا عن حياتنا نقدم حسابًا عن أولئك المسئولين منا. وليس هذا بخصوص رؤساء المنازل فقط، بل أيضًا رؤساء الأديرة وكل أخ آخر في موقع المسئولية، لأن وصية الكتاب هي هذه: احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تتموا ناموس المسيح. (…) إن الله أعطانا وديعة خلاص أنفس الإخوة، ولذلك علينا أن نجاهد معهم لكي نحصل على المكافأة في الأبدية[12].

درس A.-J. Goehring بصورة وافية فكرة الباخوميين عن الخلاص الجماعي لأعضاء الجماعة وتوصل إلى أن نص المخطوط البحيري، وهو الأقدم تاريخيًا، يعكس فكر باخوميوس اللاهوتي عن الخلاص الجماعي، في حين تُظهر المخطوطات اليونانية الأكثر حداثة، تحويرًا في هذا الفكر. ففي كتابات الأسقف آمون، الذي قضي وقتا داخل الأديرة الباخومية وقت رئاسة تواضروس، كتب رؤيته عن الشركة الباخومية جاعلا إياها حركة رهبانية داخل رحم الكنيسة المدافعة عن الإيمان القويم ضد الهراطقة. في هذه الرسالة غياب فكر باخوميوس الخاص بالخلاص الجماعي، وتركيزًا على الفضائل الفردية. ساوى آمون بين الباخوميين والنساك المتوحدين في السعى نحو القداسة الشخصية. لكن عند ذكره لرؤية القديس باخوميوس لجهنم، وبالرغم من سعيه الظاهر إلى إظهار باخوميوس كمدافع عن الإيمان القويم للكنيسة ضد الهراطقة، تعرض في متن روايته لخلاصة فكر باخوميوس الحقيقي بقوله: “وفيما كنت أصلي، حدث أني اختطفت، ورأيت كل ما هو تحت السماء وكأنه ليل، وسمعت صوتًا من كل اتجاه يقول هنا الحق، ورأيت كثيرين يجرون في كل اتجاه نحو هذا الصوت، ورأيت كثيرين يتعبون الصوت في الظلام وواحدًا يقود الآخر. ورأيت في الناحية الشرقية مصباحًا متبتًا في مكان عالٍ ومضيئًا مثل نجمة الصبح“. يوضح بصورة رؤوية باخوميوس فكرته اللاهوتية. مجموعة قليلة من الرهبان ترى النور، في حين أن الآخرين لا يرون شيئا لأنهم غارقون في الظلام، إلا أنهم يصلون إلى النور في النهاية بفضل تمسكهم معا، واحد خلف الآخر، يثق به ويتهدي بخطواته، إلى أن يصل إلى النور. مَن لا يتشبث بأخيه سيهلك في الظلام، أي لن يصل إلى الخلاص.

ساهم سعى المتوحدين إلى القداسة بصورة فردية في إعلاء شأن الفضائل الشخصية والكاريزما الخاصة للنساك، إلى الدرجة صُّور فيها الرهبان الأوائل كالأبطال اللذين يملكون قدرات ومواهب خارفة للطبيعة. جاء باخوميوس بصورة مختلفة تماما للقداسة، فهى في متناول الجميع شرط اتحادهم معا برباط المحبة، وأن يهتم كل فرد بخلاص الآخر. فالإنسان لا يصل إلى الخلاص وحده، وإنما بفضل محبته للآخرين وتعاونه معهم ومساندته لهم واهتمامه بهم. فمبدأ الباخوميين، كما سبق الإشارة، هو “يجب علينا نحن الذين نحيا في الشركة أن نتحد بعضا ببعض بالمحبة المتبادلة، حتى نستحق أن نكون تابعي القديسين في هذا العالم، ويكون لنا نصيب معهم في الحياة الأخرى“.

لا يلغي تأكيد الباخوميين على الخلاص الجماعي اختلاف المواهب الروحية والفروقات الفردية بين الرهبان. فنجد اهتماما واضحا بقيم الفرد ومسيرته الروحية وفضائله الشخصية. فهناك تجانس وتناغم بين السعى الفردي إلى القداسة والبعد الجماعي للخلاص، هكذا نقرأ في سيرة باخوميوس: “عندما يرغب أخ في الزهد، وحاول آخر أن يمنعه رغبة في الحفاظ على نظام الدير، فإنه يخطأ (…). فإذا رأيت أخًا أكثر فضيلة منك، فبجله وأكرمه أكثر من ذاتك، لأن الله قد أعطاه خمس وزنات فاجتهد أن يضاعفها ليجعل منها عشر وزنات. في حين أعطاك الله وزنتين، فاجتهد أن تربح مثلهما”[13].

كالجماعة المسيحية بأورشليم، فأن التوق إلى الخلاص الجماعي تم التعبير عنه، داخل الأديرة بالباخومية، من خلال التعضيد والتعاون المشترك والخدمة المتبادلة. كل راهب في خدمة الآخرين، والآخرين في خدمة الراهب. يَخدم الراهب إخوته من خلال سهره وانتباهه الروحي لمسيرة إخوته، وتعضيدهم روحيا وتقديم النصح والإرشاد الأخوي لهم، بهدف السعي لخلاص الأخ.

[1] H. BACHT, La loi du “retour aux sources”. (Des quelques aspects de l”déal monastique pachômien), in Mabillon, 51(1961), pp. 6-7.

[2] S5: Lefort, pp. 268-269.

[3] تصور مخطوطة سيرة باخوميوس دعوته بصورة متدرجة تكتمل مرحلة بعد مرحلة. في فقرة 8 تتحدث عن رؤية، وفقرة 17 هناك صوتا من السماء، وفقرة 22 هناك رؤية لملاك يحادث باخوميوس.

[4] S1: Lefort, p. 4.

[5] في أوجه إزدهار الحياة الباخومية كان يسكن كل قلاية ثلاث رهبان، وكل إثنتي عشرة قلاية تكون بيتًا، وكل أربعة بيوت تكون قبيلة، وكل عشر قبائل تكون ديرًا

[6] Ag p.8; G1 4: Halkin, p. 4.

[7] Pr. 49: Boon, p. 25.

[8] Pr. 5: Boon, p. 10.

[9] Teod. Cat. 3, 17: Lefort, p. 58.

[10] H. BACHT, Antonius und Pachomius. Von der Anachorese zum Cönobitentum, in: B. STEIDLE, Antonius Magnus Eremita, in: SA 38, Roma 1956, pp. 90-95.

[11] Bo 105: Lefort, p. 135.

[12] Ors. Lib. 8. 11: Boon, pp. 113 e 115.

[13] Am, p. 536.

قد يعجبك ايضا
اترك رد