المغارة الفارغة
ميلاد 2017
أكثر الأشياء التي تشد انتباهنا في عيد الميلاد هي: المغارة.
فكرة بسيطة للغاية يفهمها الجميع، حتى الأطفال. مذود للبقر يضجع فيه الطفل، فيما يسجد كل مِن مريم ويوسف بجوار الطفل، ومن حولهما ثور وحمار. مشهد بسيط للغاية يكشف عمق سر التجسد.
نعرف بالطبع أصل المغارة تاريخيًا، فقد كان القديس فرنسيس يرغب في أن يرى بعينيه المعاناة التي تحمّلها الطفل يسوع في يوم ميلاده، وهو محروم من الرعاية الضرورية المستحقة لطفلٍ مولود. أراد أن يصور فرنسيس المشهد كما وصفه الكتاب المقدس، كيف لم يجد الطفل مكان يستقبله، فنام على التبن بين الثور والحمار. هيئ فرنسيس مغارة غريتشو لتصبح بيت لحمٍ جديدة. أعد فرنسيس المذود ووضع فيه التبن واقتاد الثور والحمار ووضعهما حول المذود.
كان لِما قام به فرنسيس في تلك الليلة تأثيره الكبير على العالم، فحتى يومنا هذا لا يكون هناك احتفال بالكريسماس إلا وتزينه مغارةً تحتضن الطفل في مذود للبقر.
إلا إن هناك شيء ما في مذود فرنسيس الفقير لم ننتبه إليه ولعمقه الروحي. لم يكن في مغارة غريتشو سوى مزودٍ ممتلئ بالتبن و ثور وحمار فقط. لا وجود لمريم ولا يوسف ولا الرعاة ولا المجوس. والمفاجأة ولا حتى لتمثال الطفل يسوع. لم يضع فرنسيس طفلاً من البورسلين أو لم يصنع منحوتًا من خشبٍ للطفل ويضعه في المذود. كان المذود فارغًا تمامًا من البشر، فقط ثورٌ وحمار!!
وضع فرنسيس لوحًا خشبيًا فوق المذود، وصلي الكاهن فوقه القداس الإلهي، لبس فرنسيس ثياب الشمّاس ورتل الإنجيل، ثم وجّه للحاضرين كلمات ذكر فيها الملك الإلهي، ابن الله الكلمة، الذي قبل أن يولد فقيرًا في مذود. وكان الجمهور يشارك في القداس ويصغي لعظة فرنسيس، عن طفل بيت لحم. صلي الكاهن القداس كاملاً فتحول الخبز والخمر، إلى جسد ودم يسوع، إلى ابن الله بأكمله، ثم قدمه للحاضرين. صنع مذودًا فارغًا لكي يحل فيه ابن الله بذاته وبقوة لاهوته ونفسه وجسده ودمه. تعمد فرنسيس أن يترك المكان فارغًا لنملأه نحن بحضورنا.
يتفق ما صنعه فرنسيس مع التفسير الحديث لكلمة “مذود”، ففي الأناجيل تُشير إلى سلة من الخوص كان يُحمل فيها الطعام إلى العاملين في مناطق بعيدة عن المنازل. للمزارعين في الحقول وللرعاة في المراعي، وللبنائين في مواقع البناء، وللمسافرين في رحلة السفر. لذا يطلب المسيح من تلاميذه المرسلين: “لاَ تَحْمِلُوا كِيسًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيق” (لوقا 10: 4). في سلة حمل صبيّ، كما نقرأ في معجزة تكسير الخبر، سلة: “هُنا صَبِـيُّ معَهُ خَمسَةُ أرغِفَةٍ مِنْ شَعيرٍ وسَمكتانِ” (يوحنا 6: 9).
وفقًا لهذا التفسر فأن العذراء ولدت الطفل في منطقة جبلية قريبة من الرعاة، لم تجد مريم شيئًا تضع فيه الطفل سوى “المذود” الذي حملت فيه الخبز أثناء رحلة السفر الطويلة. جاء الرعاة فوجدوا يسوع مضجعًا في سلة الخبز: “وبَينْما هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ” (لوقا 2: 6- 7).
وُضع الطفل في المكان الذي يُحمل فيه الطعام. أصبح المسيح هو الطعام المقدم لهؤلاء الفقراء: “مَنْ أكَلَ جَسَدي وشَرِبَ دَمي فلَهُ الحياةُ الأبديَّةُ، وأنا أُقيمُهُ في اليومِ الآخِرِ. جَسَدي هوَ القوتُ الحَقيقيُّ، ودَمي هوَ الشَّرابُ الحَقيقيُّ. مَنْ أكَلَ جَسَدي وشَرِبَ دَمي يَثبُتُ هوَ فيَّ، وأثبُتُ أنا فيهِ” (يوحنا ٦: ٥٤- ٥٦).
هذا ما صنعه فرنسيس، هيئ مذودًا، لم يضع فيه شيء سوى التبن، ثم صلى الكاهن القداس الإلهي، فتحول الخبز الموضوع إلى ابن الله الحي ذاته، فقدمه فرنسيس للحاضرين. يقول الشيلاني في وصف الحدث: “في هذا المكان حيث أكلت الحيوانات التبن في زمن مضى، يستطيع الناس اليوم أن يتناولوا جسد الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، والذي يغذّي نفوسهم ويقدّس أجسادهم وهو سيّدنا يسوع المسيح الذي بذل نفسه بحبّ غير متناه لأجلنا، وهو مع الآب والروح القدس يحيا ويملك ممجّداً للأبد وإلى دهر الداهرين، آمين” (شيلانو 1: 85- 86).
“الكلمة صار بشرًا وحل فينا”
تواضع ابن الله فأصبح خبزًا يؤكل ليتحد بنا: “مَنْ أكَلَ جَسَدي وشَرِبَ دَمي يَثبُتُ هوَ فيَّ، وأثبُتُ أنا فيهِ”. المسيح يدعونا لأن نثبت فيه ويثبت فينا. يدعونا لكي يتقاسم معنا حياتنا البسيطة، ليتألم لأجل ألامنا، ليفرح مع أفراحنا. فقط أن نقبله أن يكون معنا. يولد المسيح فينا، في قلوبنا، تُطَّعِم حياته حياتنا، إلى الدرجة التي يمكن أن نقول فيها بإيمان: “فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ” (غلاطية 2: 20). يأتي عندما نقبله متضرعين: “ماراناتا تعال أيها الرب يسوع” (رؤيا 22: 20).
قال الملاك لمريم ثلاث كلمات فقط، ثلاث كلمات مطلقة: “إفرحي“، “لا تخافي“، “ستلدين، أي تعطين حياة جديدة”. كلمات تصل إلى أعماق كل الوجود البشري. ماذا كانت إجابة مريم على الكلمات الثلاثة؟
- “إفرحي“: ليس تحية قالها الملاك -تمت ترجمتها بمعنى خاطئ تمامًا، ومؤخرًا تم تصحيحه في الطبعة اليسوعية الحديثة- لكن تقريبًا أمر حتمي: أفرحي، كوني سعيدة، إبتهجي، لأن الرب معكي. تحمل الكلمة عمق اللقاء مع الله المتجسد: الفرح. قربنا من الله يحمل لنا الفرح لأننا نشعر إنه يحبنا ويحتضننا. فرح متجدد كل يوم متى كان الرب معنا. لا يقول الملاك: صلي، إركعي، إعملي هذا وإتركي تلك. ببساطة أفرحي يا مريم. أفتح نفسك للفرح، كما تفتح النافذة للشمس. يقترب الله ليداعبك، يعانقك، كما تعانقك الشمس في يوم بارد. يأتي الرب ليعانقك، يأتي ليحمل لك بشرى سارة. هكذا يطلب الملاك من الرعاة أن يفرحوا “ها أنا أبشركم بخبرعظيم يفرح له جميع الشعب: ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب” (لوقا 11:2) كذلك فرح المجوس “لما رأو النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا” (متى 2: 10).
- “لا تخافي” فأنت ممتلئة نعمة، ممتلئة من الله، لقد أنحنى الرب عليكي، أحبك، أشرق بنوره عليكِ. لديك اسم جديد: المحبوبة للأبد. أنت ممتلئ نعمة، فالرب معك لماذا تخاف. إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ (مزمور 27: 3). جميعًا محبوبين منذ الأزل، أخيار وأشرار، كبار وصغار، كل شخص ممتلئ من النعمة بفضل العماد. لكن هل جميعًا ممتلئين نعمة مثل مريم؟ نعم، لأن الله أحبنا أولاً، وقدم ذاته كخبز يؤكل. لا نستحق أن يحل الله فينا، ولا أن ينصب خيمته بيننا، فقط أن نقبله، وعندما نقبله نصير أولاد الله: أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله” (يوحنا 1: 12).
- “ستلدين، أي تعطين حياة جديدة” الله يبحث عن أمهات. عن أشخاص يقبولنه فيتحولون إلى أيقونة ناطقة باسمه، لعلامة حضوره وسط الناس. فلنساعد الله في أن يتجسد في هذا العالم، في أن يجد مكان له من خلالنا، نحن الذين قبلوه فصارا أولاد الله. لنحفظ كلمته كمريم، وننقل البشرى السارة مثلها.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.