إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

أنت محبوب (2): أنت مُختار منذ البدء

1٬081

لكي نصير الأبناء الأحباء، ينبغي قبل كل شيء أن نُقرّ بكوننا مُختارين مُنذ البدء وقبل أن نُّولد. قد يبدو هذا غريباً في أول الأمر، بيد أنّ كوننا مُختارين هو أمر أساسي لكي نصير الأبناء الأحباء. يمكن أن نصير فعلاً الأبناء الأحباء متى عرفنا إننا مُختارين مُنذ البدء فعلا، لم نأتي صدفة إلى العالم، ولا تواجدنا في هذا الزمن وتلك الظروف المجتمعية عشوائيًا، ولا اختيارنا بالاسم لنشارك في حياة يسوع ذاته، الحياة المُكرسة، صدفة.

أرجو أن تُخاطب كلمة “مُختار” قلب كلّ واحد منّا، بل ينبغي أن تكون كلمة ذات مدلولات خاصة بالنسبة لنا. في كثير من الأحيان يعامل الناس المُكرس كشخصية “متميزة”، شخصية “ذات وضع خاص”، وكأن كلمة “مُختار” تعني “مُختلف”. في حين تأتي كلمة “مختار” في الكتاب المقدس بمعنى مُغاير تمامًا، كما حدث مع إبراهيم. لقد اختار الله آبرام، ليس لجعله شخصية “ذات وضع خاص”، بل لأجل هدفٍ سامي أعلن عنه بوضوح.

أنت مُختار منذ البدء

يُنظر عادة لكلمة مُختار على كون الشخص ذو مكانة خاصة، شخص مُتَفرد. عندما أقول إني مُختار من شخص ما فهذا يعني إن شخص ما لاحظ مدى تَفَرُّدي وأعرب عن رغبته في أن يعرفني ويتقرّب مني أكثر، ويُحبني.

عندما أقول أنّنا محبوبون، أعنى الذين اختارهم الله، أقصد بذلك أن أقول أنّ الله نظر إلينا، منذ الأزل، وينظر إلينا باعتبارنا كائنات فريدة، خاصة، وثمينة. من الصعوبة بمكان أن أشرح بشكل جيد المعنى العميق الذي تعنيه كلمة “مُختار” هذه، لكنّني أأمل أن يعرف كلّ منّا إنه، منذ الأزل، وأيضاً قبل أن يولد ويُصبح جزءٍ من التاريخ، كان موجوداً في قلب الله. بل بالأحرى قبل أن يرغب فيك والديك وقبل أن يعترف أصدقائك وأحبائك بمواهبك، وقبل أن يُشجِّعَك مُعلميك وزملائك وأرباب العمل، كنت “مُختاراً” فعلاً. عيون الحُبّ أبصرتك كحقيقة نفيسة، حقيقة ذات جمال لانهائي، وذات قيمة أبدية. عندما يختار الحُبّ، فإنّ اختياره يكون بحساسية كاملة تجاه الجمال الفريد لذاك الذي يختاره وهو يختاره بدون أن يشعر أي شخص آخر بأنّه مُستبعَد.

هنا نتطرق إلى سرّ روحاني عظيم: كوننا مختارين، لا يعني أنّ الآخرين مرفوضين. من الصعب جداً أن نتصور هذا الأمر في عالم التحديات والمنافسة الذي نعيش فيه. فجميع ذكرياتي عن لحظة اختياري مرتبطة بذكريات عن آخرين لم يتم اختيارهم. فعند اختياري لشيء ما، فهذا يعني أنه لم يتم اختيار أشخاص آخرين. عند لحظات تكريم شخص ما فهناك دائمًا دموع إلى جوار الابتسامات، وابتسامات إلى جوار الدموع. المنافسة والمواجهة كانت موجودة دائماً. كم من مرة شعرت بحاجتي لأنّ أقول لنفسي: <<حقيقة أنّك لم يتم اختيارك لا تعني أنك لا تصلح، ولكنها تعني فقط أنّ هناك من هو أفضل قليلاً>>.

لكن هل هذه الكلمات مُعزية؟ أم يبقي الشعور بالرفض قائمًا؟ حينما يتمّ اختيارك فإن هذا يعني عدم اختيار الآخرين، فهل تكون على دراية بمدى خيبة آمال الآخرين في أن يكونوا مكانك؟

إلاّ أنّ مسألة كوننا مُختارين باعتبارنا أبناء الله الأحباء، أمرٌ مُختلف اختلافاً جذرياً، فهو يشمل الآخرين، بدلاً من استبعادهم. وبدلاً من استبعاد الآخرين باعتبارهم أقل صلاحية، يُرحِّب بهم بتفرُّدهم الوحيد في نوعه. إنّه ليس اختياراً تنافسياً، بل اختيار رؤوف متعاطف. إنّها حقيقة يصعب على عقولنا سبر أغوارها، وقد لا تستوعبها على الإطلاق. إلا أنّ قلوبنا يمكن أن تنجح في هذا. في كُل مرة نُصغى لحديث عن “أشخاص مُختارين”، “مواهب مُختارة”، أو “أصدقاء مُختارين”، بطريقة شبه آلية يتوجه تفكيرنا نحو نُخبة، ويصعُب ألا نشعر بالغيرة، أو الغضب أو الاستياء. ليس نادراً أن تؤدي مسألة اختيار الآخرين إلى العدوانية والعنف وإلى الحرب.

لكنّني أتوسل إليكم ألاّ تخضعوا لمفهوم العالم عن كلمة “مُختار”. بل عليكم أن تتجرأوا على اعتبارها خاصة بكم حتّى وإن ظلت غير مفهومة على حقيقتها على الدوام. ينبغي أن تُثابروا على حقيقة كونكم “أولئك المُختارين”. هذه الحقيقة هي الركيزة الرئيسية التي يمكنك أن تبني عليها حياتكم كأبناءٍ محبوبين، عندما تفقدوا التواصل مع “كونكم المُختارين”، تتعرضون لتجربة رفضكم لذواتكم، وهذه التجربة تُقوّض إمكانية كُل نموكم كأبناءٍ أحباء.

إذ أنظر لما حولي وأتأمّل في أعماقي، أجدني غارقاً في أصوات كئيبة تقول لي: << ليس فيك شيء خاص، إنّك مجرد شخص بين الملايين من الأشخاص؛ حياتك ليست سوى مجرد فم آخر يتناول الطعام، واحتياجاتك ليست سوى مشكلة أخرى تضاف للمشاكل التي ينبغي حلّها>>. هذه الأصوات تتزايد قوتها دائماً، خاصةً في حقبة تتسم بالكثير من العلاقات المتقطعة. الكثير من الأطفال يشعرون بأنّهم ليسوا بمرغوبين في هذا العالم. غالباً ما يتوارى خلف ابتساماتهم العصبية السؤال: <<هل أنا مرغوب فيّ حقاً؟>>. عالمنا مليء بأناس تتساءل حول ما إذا كان من الأفضل ألا يولدوا أصلاً. عندما لا نشعر بأنّنا محبوبين من قِبَل من أعطانا الحياة، غالباً ما نُعاني، طوال مسيرة وجودنا بكاملها، من درجة معينة من الإحباط، الذي يؤدي بسهولة إلى الاكتئاب واليأس والانتحار أيضاً.

في خِضمّ هذه الحقيقة المؤلمة لأقصى حدّ، يجب أن تكون لدينا شجاعة المجاهرة بحقيقة كوننا المُختارين من قِبَل الله، حتي وإن كان عالمنا لم يختارنا. طالما كنّا نسمح لوالدينا، وإخوتنا، مُعلمينا وأصدقائنا والمغرمين بنا، أن يُقرروا ما إذا كُنّا مختارين أم لا، نجد أنفسنا متورطين في حبائل شِباك عالم خانِق، يقبلنا أو يرفضنا على هواه وطبقاً لحسابات المنفعة والتحكُّم. كثيراً ما يكون زعمنا هذا مهمة شاقّة، مجهود دائم مدى الحياة، لأنّ العالم مُصمِّم على اجتهاده في دفعنا صوب ظلمات الشكوك والازدراء، ورفض ذواتنا والكآبة. يحدث هذا لأنّنا كأشخاص نشعر بانعدام الأمان، متهيبين ونميل لإيذاء أنفسنا، يُمكن للقوى المحيطة بنا أن تستغلنا وتتلاعب بنا بمنتهى السهولة.

أنّ المعركة الروحية العظيمة تبدأ – ولا تنتهي أبداً – مع التأكيد بكوننا “مُختارين”. حتّى قبل أن يرانا أي كائن بشري، أبصرتنا عيون محبة الله. حتّى قبل أن يسمع بكاءنا وضحكاتنا أي كائن كان، استمع لنا إلهنا الذي كُلّه آذان صاغية. وأيضاً حتّى قبل أن يُحادثنا أي شخص في هذا العالم، كان صوت المحبة الأزلية يحادثنا فعلاً. قيمتنا الثمينة، وتفرُّدنا وفرديتنا لم يُعطِها لنا أولئك الذين نلتقيهم في نطاق الزمن – في نطاق فترة وجودنا الزمنية الوجيزة – بل أعطاها لنا ذاك الذي اختارنا بمحبّة لانهائية، محبّة موجودة منذ الأزل وتدوم إلى الأبد.

هكذا وصف بولس الرسول المعركة الروحية التي مَر بها، مع ملاحظة فترة شبابه الذي كان فيه عنيفًا مضطهدًا للكنيسة، مُؤكدا على كونه مُختارًا من الله قبل أن يولد: “ولكِنَ الله بِنِعمَتِهِ اَختارَني وأنا في بَطنِ أُمِّي فدَعاني إلى خِدمَتِهِ” ( غلاطية 1 : 15). آمن بولس بأنه مُختار من البطن، قبل أن يُولد، مِن الله. هكذا إرميا والكثيرين في الكتاب. فقبل أن يرانا أي كائن بشري، أبصرتنا عيون محبة الله.

في نشأة الكنيسة كان أشهر الألقاب التي دعي المسيحيون بها لقب “المختارين.” لقد درجت هذه التسمية، واستعملها يسوع وتلاميذه، حتى إننا نجد أنفسنا مضطرين للاعتراف بأنها كانت تسمية دارجة ومقبولة، ولم يكن المسيحيون الأولون في حاجة لمن يفسّرها لهم. إننا نقتبس آيات من العهد الجديد كأمثلة كافية لتبرهن على هذه الحقيقة: “أفلا ينصِف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً؟” (لوقا 18: 7)، “من يشتكي على مختاري الله؟” (رومية 8: 33)، “فالبسوا كمختاري الله…” (كولوسي 3: 12)، “لكن لأجل المختارين الذين اختارهم قصّر الأيام” (مرقس 13: 20، وقارن متى 24: 22). تقول الآية إن الرب سيقصّر أيام الضيق من أجل “المختارين الذين اختارهم.” إن صيغة هذا الفعل، كما هو في الأصل اليوناني، تدلّ على أن الاختيار جرى في الماضي وتشدد على الفاعل الذي اختار لا على الأشخاص الذين اختارهم، فيكون المعنى “إن الله سبق فاختارهم، واختارهم لنفسه”.

يُكلم الله من إبراهيم قائلاً له إنطلق “لكِ لَكا” إلى عمق ذاتك واكتشف مَن هو الله، وكيف أحبكَ واختارك مُنذ الأزل. كانت مسيرة إبراهيم مسيرة روحية شاقة عَرف في نهايتها بأنه “المحبوب” من الله. مسيرة إبراهيم هي المسيرة الروحية كل إنسان فيعرف إنه “المحبوب” المُختار من الله مُنذ البدء والذي سبق فاختاره بنفسه قبل نشأة العالم. أنت مُختار مُنذ البدء وقد اختارك الله بنفسه، تلك مسيرة هذه التأملات:

كيف يمكننا التواصل مع حقيقة “كوننا مُختارين”

كيف نختبر في حياتنا الروحية هذه الحقيقة، إننا “محبوبون كأبناء لله” وسط عالم يُشعرنا بالرفض. فإن الأمر يتطلب جهادًا روحيًا صعبًا. فهل هناك قواعد للسلوك في هذا الجهاد؟ لذا، سأحاول تحديدها وشرحها.

أولاً، عندما تشعر إن هناك مشاعر رفض من الآخرين لكَ، عندما يتكلم الآخرين بالكثير من الأكاذيب بشأنك فتشعر بالمهانة، يجب عليك أن تقول لنفسك: <<هذه المشاعر، مهما كانت قوية، لا تخبرك عن ذاتك الحقيقية. فالحقيقة الثابتة حتّى وإن كنت غير قادر على الإلمام بها الآن تماماً،  هي أنّك ابن اختاره الله، عزيزٌ  في عينيه، وقد دعاك ابن حبيب مدى الأبدية ويعانقك بحنان في حضنه عناقاً لا نهاية له>>. الاختيار دائمًا مجّانيًا: “لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ، لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي”.

كل إنسان ضعيفٌ ومحدودٌ جدًا، فهو تراب: “فأنتَ تُرابٌ، وإلى التُّرابِ تعُودُ” (تك 3: 19)، فكيف يكون مُختارًا ومحبوب من الله، خالق كل شيء؟ هو كالعشب ضعيف، كما يشبهه الكتاب المقدس: “الإنسانُ كالعُشْبِ أيّامُهُ، وكزهرِ الحقلِ يُزهِرُ. تعبُرُ رِيحٌ فلا يكونُ، ولا يُعرَفُ مَوضِعُهُ مِنْ بَعدُ” (مزمور 103: 15- 16)، وحياة العشب قصيرة وضعيفة لأنه: “في الصَّباحِ ينبُتُ ويُزهِرُ وعِندَ المساءِ يَذبُلُ ويَيْبَسُ” (مز 90: 6)، فكيف تكون له تلك المكانة الرفيعة لدي الله؟ يسأل كل منّا نفسه: مَن أنا حتى يختارني الله ويحبني؟ ولماذا لا يختار غيري الأكثر كفاءةً وموهبةً؟ أنا هشٌ وضعيفٌ فكيف أكون “الابن المحبوب” لله؟

بالرغم من ضعف الإنسان وحدوديته إلا إنه “مخلوقٌ” على صورة الله ومثاله، يتذكره الله دون جميع المخلوقات الأخرى، كما نقرأ في المزمور الثامن: “ما الإنسانُ حتى تذكُرَهُ؟ اَبنُ آدمَ حتى تَفتَقِدَهُ؟ ولو كُنتَ نَقَّصْتَهُ عَنِ الملائِكةِ قليلاً، وبِالمَجدِ والكرامةِ كَلَّلتَهُ. سَلَّطْتَهُ على أعمالِ يدَيكَ، وجعلْتَ كُلَ شيءٍ تحتَ قدَمَيهِ” (مزمور 8: 4- 6). ويقول لنا كتاب الحكمة: ” خلَقَ الله الإنسانَ لِحياةٍ أبديَّةٍ، وصَنَعَهُ على صورتِهِ الخالِدةِ” ( حك 2، 23؛ راجع سير 17، 3). لذا اختاره الله وأحبه ودعاه لمشاركته حياته الأبدية. خُلق الإنسان لكي يكون شريكًا في حياة الله نفسه، في حياة حب الثالوث الأقدس. هذه الدعوة العظيمة كانت رفيقة أناشيد المسيحيين الأولين كما يذكرنا بولس الرسول: “فاَختارَنا فيهِ قَبلَ إنشاءِ العالَمِ لِنكونَ عِندَهُ قِدِّيسينَ بِلا لَومِ في المَحبَّةِ” (أفسس 1: 4). اختارنا قبل إنشاء العالم.

يدعو القديس غريغوريوس النيصي الإنسان لكي يفكر بـ “كرامته الملوكية” التي تسمو على كل خليقة. فما من خليقة مرئية تستطيع أن توازي كرامة الإنسان المخلوق على صورة الله. لذا يقول للنفس المؤمنة: “أنت وحدك خُلقتِ على صورة الطبيعة التي تفوق العقل، خُلقتِ صورةً للجمال الذي لا يفسد، ووسمًا للحقيقة الإلهية، وعاءً للحياة الطوباوية، صورة للنور الحق، الذي بالنظر إليه تصبحين مماثلة له، إذ أنك تقتدين بذلك الذي يشع من خلالك بواسطة الشعاع المنعكس في طهارتك.

رغم أن الإنسان جزء من العالم المخلوق، إلا أنه “مختصر للكون كله” كما يذكر هنري دو لوباك الذي يبين عظمة الإنسان مستشهدًا بنص قديم لإسحق ديلا ستيلا الذي يحث الإنسان بهذا الشكل: “ادخل إلى قلبك. ففي الخارج أنت مثل حيوان، على صورة العالم؛ لهذا يُعتبر الإنسان كونًا مصغرًا. أما في الداخل، أيها الإنسان، فأنت صورة الله، لهذا تستطيع أن تتأله”.

ثانياً، الله لا يندم أبدًا على اختياره لك مُنذ البدء، ولا يخيب رجاءه أبدًا في اختياراته، فيجب أن لا تسمح لعواطفك وأحاسيسك وأهوائك أن تدفعك نحو رفض ذاتك. فأنت عزيزٌ وذو قيمةٌ نفيسة في عيني الله. عندما ظهر يسوع لبولس على طريق دمشق، كشف أن اختيارات الله لا تخيب أبدًا مهما كان خطأ الإنسان، يقول لحنانيا: “فقالَ له الرَّبّ: «اِذهَبْ فهذا الرَّجُلُ أَداةٌ اختَرتُها لكِي يَكونَ مَسؤولاً عنِ اسْمي عِندَ الوَثَنِيِّين والمُلوكِ وبَني إِسرائيل”. لم تكن أداةٌ مؤقته وليدة ظروف خاصة، بل اختارها مُنذ البدء، لأجل هدفٍ سامي عبر عنه بولس بقوله: “ولكِنَ الله بِنِعمَتِهِ اَختارَني وأنا في بَطنِ أُمِّي فدَعاني إلى خِدمَتِهِ. وعِندَما شاءَ أنْ يُعلِنَ اَبنَهُ فيَّ لأُبشِّرَ بِه بَينَ الأُمَمِ” ( غل 1 : 15 – 16 ).

شيئًا واحدًا يمنعُ الإنسان من الخطأ هو أن يكتشف إنه “محبوبٌ للغاية” من آخر يثق فيه ويبقي بجواره بالرغم من أخطائه. لم يندم الله على اختياره لإبراهيم لداود، لبولس، لبطرس بالرغم من الأخطاء التي ارتكبها هؤلاء في مسيرة حياتهم. يُحب الله الإنسان دون النظر إلى أخطاءه، دون أن ينتظر اهتدائه، فهو يحبه مُنذ البدء.

ينبغي أن يُمارس كل منّا “كونه مختارًا” باستمرار في حياته، بمعني أن يشكرَ الله. تقول لله “شكراً” على أنّه اختارك، وتقول “شكراً” لجميع الذين يُذكِّرونك بأنّك مُختار. الشكر والامتنان هو السبيل الأكثر خصوبة وإثماراً لتعميق وعيك بأنّك لست مجرد “صُدفة”، بل اختياراً إلهياً. من المهم أن نضع في حُسباننا أنّه في مرات عديدة تُتاح لنا سُبلاً لإظهار عرفاننا وامتناننا لكننّا لا نستخدمها. عندما يُتلطف معنا شخص ما، عندما تتهيأ لنا ظروف طيبة، عندما تُحلّ مشكلة، حينما تُستعاد علاقة مقطوعة، فتلك دوافع ملموسة جداً لتقديم الشكر: فكُن شاكراً ممتناً بالكلام، بالورود، برسالة، ببطاقة ملونة، بمحادثة هاتفية أو بمجرد لفتة مودّة.

ثالثًا، حينما نمارس حقيقة كوننا مُختارين ونتعامل بها باستمرار، سنكتشف سريعاً في داخلنا رغبة قوية في أن نكشف للآخرين مسألة “كونهم مُختارين”. وبدلاً من شعورنا بأنّنا الأفضل، الأثمن أو الأكثر تقديراً من الآخرين، معرفتنا بأنّنا مُختارين تفتح عيوننا على واقع أن الآخرين مُختارين أيضاً. هذا هو الفرح العظيم بكوننا مُختارين: اكتشاف أنّ الآخرين مُختارين أيضاً. في بيت الله منازل كثيرة. هناك موضع للجميع – موضع فريد وخاص. ما أن نؤمن بعمق بكوننا ذوي قيمة نفيسة في عيني الله، نُصبح قادرين على التعرف على قيمة الآخرين النفيسة وموضعهم الفريد في قلب الله. عندها سنكتشف سبب اختيارنا، واختيار الآخرين أيضًا.

من المستحيل التنافس مع محبة الله، فمحبة الله محبة تشمل الجميع – كل واحد بتفرُّده. فقط حين تمسكنا بموضعنا في محبة الله، نستطيع أن نختبر هذا العناق الإجمالي، هذا الحب الذي لا يعرف المقارنات، ونشعر بالأمان والاطمئنان، لا مع الله فحسب، بل أيضاً مع إخوتنا وأخواتنا جميعاً. كلّ منّا تم اختياره ليكون سبب بركة للآخرين، علامة حضور الله وسط شعبه.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.