إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

أنت محبوب (3): أنت مُبارك

1٬186

كيف تكون بركة للآخرين؟

أنت ابنٌ حبيب للآب، أختارك مُنذ البدء لتكون “الابن الحبيب” لهدف أن تحمل البركة للآخرين. يطلب الله من إبراهيم أن يخرجَ من أرضه ويترك عشيرته لأجل أن يكون بركة لشعوب الأرض. كيف يكون بركة لقبائل الأرض وهو ليس بركة لعائلته؟

ليُصبح الإنسان بركة للآخرين عليه أولاً أن يكتشف ويؤمن بأنه مُبارك أولاً من الله!

دعني أتحدث قبل كل شيء، عما أقصده بكلمة “يُبارك”. إن كلمة بركة في اللغة اللاتينية تعني “يقول كلمة طيبة”، تعني حرفيًا: يقول (dicio) طيبًا (bene) بمني يقول قولاً طيبًا عن شخص ما. هذا مُعبِّر بالنسبة لي، فأنا في حاجة لسماع من يقول عني كلمات طيبة، وأعرف أيضاً أنّك الآن  تتملكك نفس الحاجة لذلك.

جميع البشر في حاجة إلى البَركة. ففي لحظات القلق والشعور بعدم الأمان فإن البركة هي أعظم تعبير عن الطمأنينة التي يمكن تقديمها لأولئك المتعبين من القلق وعدم الأمان. إنّها اكثر من أن تكون كلمة مديح أو تقدير، أكثر من مجرد إشارة إلى المواهب أو الأفعال الصالحة لشخص ما. إعطاء بركة هو تأكيد، قول: نَعَم، هذا الشخص ابنٌ حبيب. بل الأكثر من هذا: إعطاء بركة يخلق الحقيقة التي تتكلم البركة عنها. في عالمنا هذا، هناك الكثير من تعبيرات الإعجاب المتبادل، مثلما توجد أيضاً إدانات متبادلة كثيرة.  البركة تتجاوز الحد الفاصل بين الإعجاب والإدانة، بين الفضيلة والرذيلة، بين الأفعال الخيرة والأفعال الشريرة. البركة تلمس الصلاح البدائي الأول للكائن الآخر، وتمنح الحياة “لكونه الابن الحبيب.

أما جذر الفعل الأصلي لكلمة بركة في اللغة العبرية barukh تترجم حرفيًا: أن تنحني”. والاسم منها يعني “بَرَكَ” في اشارة إلى الركبة وإلى السجود، كما أن تقول “أن تحني الركبة”. ولهذا، فإنني إن باركتُ أحدًا بالحقيقة، فلستُ فقط أتمنى له أن يكون بخير، ولكني أنحني له، أخضع له. أعطي نفسي له. باختصار أصبح ضعيفًا أمامه بفعل حبي له.

عندما ننشد، “باركي يا نفسي الرب، فنحن نقبل بأن نلتزم ليس فقط بأن نقدم تسبيحنا لله ولكن أيضًا بأن نقدمَ أنفسنا له. عندما نطلب من الله أن يباركنا، فنحن نعترف بشيء أعظم، نحن نقر برغبة الله في أن يعطينا ذاته. ومن خلال تلك الكلمات، نحن نعترف بأن إلهنا على استعداد أن يظهر ضعيفًا لأجل شعبه بفعل حبه لهم.

أن تكون مباركًا من الله يعنى إنه يعلن لك أنك الابنُ “الوحيد” المحبوب والمختار والمبارك. لا يكتفي الله فقط بقول شيء طيب عنك، بالرغم من أخطائك المتكررة، بل يعلن أنك “المحبوب” لديه. قّبل الله أن ينحني أمامكَ، اختارَ أن يُصبح ضعيفًا لأجلكَ، فقك لأنه يُحبكَ.

الضعف في البركة

نعتقد إن الله يباركنا متى كانت أفعالنا طيبة. للأسف معظمنا يعتقد أن الله يعمل بحسب نفس القواعد التي في عالمنا -قدم خدمات لكي تربح خدمات-. مثل الطفل المدلل المشاغب الذي يرغب في لعبة ما، فتطلب منه الأم أن يُحسن سلوكه حتى تشترى له اللعبة، يتم بعض المهام لكي يحصل عليها. نفس الأمر على المستوى الروحي يصلي الإنسان أو يقوم بخدمات معينة في مقابل إن الآب سيقدم له ما يريد في تبادل نفعي من الخدمات. إن التفكير بهذه الطريقة يفقدنا تمامًا معنى أن نبارِك وأن نبارَك. يفقدنا حقيقة كوننا أبناء الله المحبوبين والمختارين والمباركين دون النظر إلى أفعالنا وسلوكياتنا في الحياة.

عندما نعتقد أن الله يتفاعل مع البشر بحسب نظام المنفعة، يحدث أمر من اثنين: يبدأ البعض في تصديق أنهم يستطيعون أن يعملوا أعمالاً حسنة بالقدر الكافي الذي يمكنهم من أن يخاطبوا ود الله، وهذا خداع للنفس. البعض الآخر يدركون أنهم لا يستطيعون أبدًا أن يقدموا خدمات كافية يخطبون بها ود الله، يحاولون باستمرار، لكنهم لم يتعلموا أبدًا كيف يستقبولن برَكة الله ويفرحون بها. إنهم يعملون لكي يكسبوا حبًا هم بالفعل يمتلكونه، ويخافون من أن يخسروا حبًا لا يمكنهم أن يفقدوه. الحقيقة إننا كبشر لا نملك شيئًا نقدمه لله، الذي لا يهتم بإحصائية الأعمال الحسنة التي يعملها البشر، لكن أن يعرفوا ويؤمنوا أنهم أبناء أحباء مختارون مباركون ورسالتهم في العالم أن ينقلوا البركة لآخرين.

يكشف مثل الابن الضال مفهوم البركة من حيث كونه اختيار واعي بأن يُصبح ضعيفًا لأجل ابنه، معلنًا عن استعداده للمخاطرة بالرفض من جانب ابنه. يعود الابن بعد فترة زمنية طويلة قضاها خارج المنزل، فيحصل على بركة والده. لم تكن البركة كلمة قالها الأب، بل عانقه طويلا بصورة أعادت له هويته كابن حبيب، جوهرة نفيسة في عين أبيه، بالرغم من أخطائه. عَبَر الابن بتصرفه على مهما حدث في حياة الابن، سواء كانت صالحًا أم خاطئًا، ناجحًا أم فاشلاً، هامًا أم عديم القيمة، سواء كان بصحة جيدة أم لا، فهو مُحبوب جدًا وثمين للغاية. ذَكره أبوه من خلال الحضن الأبوي بِمَن يكون: هو الابن، المحبوب بعُمق. في الوقت الذي كانت فيه الأمور صعبة والحياة ثقيلة، يذكره الأب بأنه الابن الحبيب بمحبة لا حدّ لها. ينحني أمامه ضعيفًا ومخاطرًا بإمكانية رفض ابنه له، مستعدًا لتحمل ألم الرفض إن وقعت من جانب الابن، مُقدمًا ذاته للإنسان. إن تلقي بركة حضور الله هي أن تبتهج في الله، ليس لأنه يقدم لنا إحسانات، ولكن لأنه شاركنا بهويته الخاصة المقدسة، شاركنا في محبته الأبدية.

بالتجسد كشف الله عن رغبته في أن ينحني أمام البشر، ففي شخص يسوع المسيا، عانق الله أعمق درجات الضعف. فقد بارك الله خليقته بطريقة فريدة. وفي تقاطع عارضتين من الخشب مغموستين في الدم، أضبح المعنى الكامل للبركة واضحًا بشكل مؤلم. لأنه على أداة الإعدام الرومانية، خضع الخالق الكلي القدرة للألم عن عالم مُحطم وأعلن مرةً وللجميع، ماذا يعنى أن تكون بركة.

الله الذي ينحني ليغسل أقدام “جِبلته” الإنسان التي من خلالها كشف إلى أي مدي سيذهب في بركته لشعبه، إلى الموت على الصليب، لكي يخلص الآخرين.

كان الناس يلبسون “الساندال”، وكان الغبار على طرقات غير معبّدة. لهذا فرضت الضيافة على أهل البيت أن يقدّموا مياهاً لضيفهم حتى يغسل رجليه. ويقول مدراش مكيلتا حول خر 21: 2 بأن غسل أرجل السيد لم يكن مفروضاً على العبد اليهودي، وقد يكون الغسل علامة تقوى يقوم بها تلميذ تجاه معلّمه (رابي). ويبدو أن يسوع يلمّح إلى هذه العادة في آ 13- 14 (أنتم تدعونني معلماً وسيداً).

وهكذا تواضع يسوع وأخذ “صورة العبد”. هذا ما نجده في كلمات لو 12: 37: “طوبى لأولئك العبيد الذين، إذا ما وافى سيدهم، وجدهم ساهرين. فالحق أقول لكم: إنه يشدّ وسطه ويتكئهم ويدور عليهم يخدمهم”. غسل الأرجل هو عمل تقوى وتواضع وهو أيضاً عمل حب. لا نجد شيئاً في طقوس عشاء الفصح ما يقابل مع غسل الأرجل. فهذا الغسل يتمّ حين يدخل الإنسان إلى البيت لا خلال الطعام. مما يدل على رغبة يسوع في أن يبارك تلاميذه قبل أن ينتقل من هذا العالم إلى أبيه: ” وهوَ الذي أحبَ أخِصَّاءَهُ الذينَ هُم في العالَمِ، أحبَّهُم مُنتَهى الحُبِّ… فقامَ عَنِ العَشاءِ وخلَعَ ثوبَهُ وأخَذَ مِنشَفَةً واَتَّزرَ بِها، ثُمَ صبَ ماءً في مَغسِلَةٍ وبَدأ يَغسِلُ أرجُلَ التلاميذِ ويَمسَحُها بالمِنشَفَةِ التي اَتَّزرَ بِها.” (يوحنا 13: 1؛ 4- 5) .

اضطربَ بطرس حين رأى ما يعمله معلمه. فمنذ آ 7، نرى أن يسوع أراد أن يعطي أكثر من أمثولة في التواضع يستطيع تلاميذه أن يفهموها. فقد أراد أكثر من ذلك، وهذا ما لا يُفهم إلا بعد أن تحلّ “الساعة” (رج 2: 22؛ 12: 16). قد يكون بطرس رأى عمق تواضع يسوع وحبه. ولكن آ 7 تشدّد على المعنى الأخير لغسل الأرجل: “ستفهم فيما بعد”. وتشير آ 8 إلى معنى أعمق: فغسل الأرجل هو من الأهمية بحيث إن التلميذ الذي يرفضه يخسر الميراث مع يسوع. يتحدّث النصّ لا عن روح الغسل بل عن ضرورة الغسل في ذاته. فيسوع لا يقول لبطرس: “إن كنت لا تسمح بأن تُغسل” (هذا يعني مشاركة بطرس). بل يقول: “إن كنت لا أغسلك”. هذا يتضمّن عملاً خلاصياً من قِبَل يسوع، لا مثلاً يُحتذى به.

إن لكلمة “ميراث” في آ 8 معناها العميق. الكلمة في الأدب اليوناني تعني المشاركة، المقاسمة. ولكنها في السبعينية تترجم “حلق” العبرية، وهي الكلمة التي تدلّ على ميراث يعطيه الله في أرض إسرائيل. كل قبيلة نالت حصّتها في أرض الموعد فكان ذلك ميراثها من عند الله (عد 18: 20؛ تث 12: 12؛ 14: 27). وحين تحوّل رجاء إسرائيل إلى الحياة الأخرى صوّر “الميراث” لدى شعب الله بكلمات من السماء. وكان الإستعمال الاسكاتولوجي للميراث للحديث عن الجزاء الأبدي، هكذا ينبئ يوحنا في سفر الرؤيا: “ومُقَدَّسٌ مَنْ كانَ لَه نَصيبٌ في القيامَةِ الأولى، فلا سُلطانَ لِلمَوتِ الثاني علَيهِم، بَل يكونونَ كَهنَةَ الله والمَسيحِ ويَملِكونَ معَهُ ألفَ سنَةٍ” (رؤيا 20: 6)، وأيضًا: “مَنْ غَلَبَ يَرِثُ كُلَ هذا، وأكونُ لَه إلهًا ويكونُ لِيَ اَبنًا” (رؤيا 21: 7) فمن ينحنى أمامه يسوع يباركه ويعطيه أن يَرثَ معه في ملكوته.

الجميع في حاجة للبركة

ليس كافياً أن نكون مُختارين، فنحن في حاجة أيضاً لبركة مستمرة تتيح لنا أن نستمع على نحو متجدد دائماً أنّنا ننتمي إلى إله يُحبنا، ولن يدعنا بمفردنا أبداً، بل وأيضاً تُذكّرنا دائماً بأن الحُب يقودنا في كل خطوة من خطوات الحياة. إبراهيم وسارة، إسحاق ورفقة، يعقوب، ليئة وراحيل، سمعوا تلك البركة فصاروا آباء وأُمّهات إيماننا. عاشوا رحلتهم الطويلة التي تخللها الألم في كثير من الأوقات بدون أن ينسوا إطلاقاً أنّهم مُباركين. يسوع أيضاً، استمع لتلك البركة، بعد أن عمّده يوحنا المعمدان في نهر الأردن. صوت آتٍ من السماء يقول: «أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت». كانت هذه بركة، وكانت هي البركة التي عضدت يسوع خلال كل أوقات الثناء والاتهامات، أوقات الإعجاب والإدانة، التي مرّ بها في حياته. مثل إبراهيم وسارة، يسوع لم يفقد إطلاقاً معرفته العميقة بكونه “ذاك المُبارك”.

أقول لكَ كلّ هذا الكلام لأنّني أعلم تمام العلم كم نحن، سواء أنا أو أنت، يُمكن أن نكون مُتقلِبي المزاج. نشعًر يوماً بأنّنا عظماء وفي اليوم التالي نشعر بأنّنا عدم. نمتلئ يوماً بأفكار جديدة وفي اليوم التالي كل شيء يكون كئيباً مُمِلّا. نعتقِد يوماً أنّه بإمكاننا أن نتحدّى العالم كلّه، لكن في اليوم التالي أصغر أمر يُطلب منّا يبدو هائلاً بالنسبة لنا. هذا المزاج المُتَقَلِّب يُبيّن أنّنا قد صرنا صُمّ لا نسمع البركة التي سمعها إبراهيم وسارة، إسحاق ورفقة، يعقوب، ليئة وراحيل ويسوع الناصري والتي ينبغي أن نسمعها نحن أيضاً. عندما ندع أنفسنا لأصغر المشكلات أن تعصفُ بنا، ونُصبح بمُنتهى السهولة ضحايا لعالمٍ يتلاعب بنا على هواه، لكن عندما نبقى سامعين للصوت العميق المُغري الذي يُباركنا، يمكننا أن نسير في دروب الحياة بحِسٍّ من السلامة المستقرة والانتماء الحقيقي لذواتنا.

الإحساس بكوني مُبارك، ليس في رأيي هو الإحساس الموجود فينا بصفة عامة. لقد عايشت أنت الكثير من الأوقات الصعبة، أوقات شعرت فيها بأنّك ملعون لا مُبارك. ويمكنني أن أقول الأمر عينه عن نفسي، ففي الواقع، أخشى القول بأنّ الكثير من الأشخاص يعانون من شعور عميق باللعنة. عندما استمع لما يقوله الناس أسمعها تلوم وتتشكّى بروح من الاستسلام السلبي. كثيرون ونحن أيضاً من بينهم، في بعض المرات، نشعر بأنّنا ضحايا لعالم لا يمكن تغييره، والأمور اليومية لا تُتيح لنا وسيلة معينة للتصدي لهذا الشعور بالعجز. في كثير من الأحيان ينتابنا الشعور بأنّنا ملعونين على نحو أسهل من الشعور بكوننا مُباركين، ويمكننا أن نجد الكثير من الحُجج لدعم ما نقول. قد نقول: <<تأمل ما يحدث في العالم: الناس الذين يموتون من الجوع، واللاجئون والأسرى والمرضى، والمنازعون … انظروا الى كل هذا الفقر والظلم والحرب … انظروا، التعذيب والقتل وتدمير الطبيعة والثقافة … تأملوا الصراعات المستمرة في علاقاتنا، في عملنا، في صحتنا وسلامتنا … >>. فأين هي، أين هي البركة؟ إنّ الشعور بانّنا ملعونين ينتابنا بسهولة، كما نُصغي بسهولة إلى الصوت الداخلي الذي يدعونا أشراراً، سيئين وفاسدين، لا قيمة لنا، لا طائل منّا، مصيرنا المرض والموت. أليس الأسهل بالنسبة لنا أن نعتقد أنّنا ملعونين بدلاً من الاعتقاد بأنّنا مباركين؟

لكنّني أقول لك مرة أخرى ، باعتبارك ابن الله الحبيب، فأنت مُبارك. كلمات طيبة قيلت لكَ وعنك – كلمات تنطق بالحق. اللعنات – الصاخبة، المثيرة للضجيج، الصارخة مهما تعالى صوتها، – لا تقول الحق. كلها أكاذيب، أكاذيب يسهل تصديقها، لكن تظل دائماً أكاذيب.

إن كانت البركة تقول الحق واللعنة تقول الكذب عمن تكون أنت وعمن أكون أنا، فنحن في مواجهة سؤال ملموس جداً: كيف نصغي للبركة ونتمسك بها ؟

إن كانت مسألة “كوننا مُباركين” ليست مجرد شعور، بل حقيقة تحكُم حياتنا اليومية، ينبغي أن نكون قادرين على رؤية واختبار هذه البركة بدون لبس ولا غموض. دعني أقدم لكَ اقتراحين للتمسك بمسألة “كونك مُبارك”. هذان الاقتراحان يتعلقان بالصلاة والحضور.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.