إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

لا تزني (3): مستويات الحب

1٬262

نتحدث عن الوصية السادسة وعن قضايا خطيرة وجادة وحساسة للغاية لأن الأمر يتعلق بالحياة ذاتها. الوصية لا تتكلم عن أخلاقيات كما يبدو للوهلة الأولى، بل عن الحياة لأن لاتوجد حياة بدون حب، فأعمق احتياجات الإنسان هي أن يكون محبوبًا مرغوبًا فيه مطلوبًا من أخر. كل إنسان لديه عطش للحب، أعمق احتياجاتنا أن نكتشف إننا مرغوبين. نحن مخلوقين لأجل الحب، الوقود الذي يجعلنا التفكير العقلي السليم هو الحب، نحتاج لشخص يحبنا. نتقدم في العمر ويظل بداخلنا طفل يحتاج إلى حضن، يحتاج لأن يكون محبوبًا من آخر. الاحتياج للحب أكثر من الحاجة إلى الماء والهواء فالنفس البشرية لا يمكن أن تعيش دون حب.

مارتن بوبر: كتب هذا التشبيه، “هل رأيت مرة طفلاً رضيعًا ملقي على ظهره في فراشه يصرخ طلبًا لأمه. أن صرخات هذا الطفل طلبًا لحضور أمه لأن تسدد احتياجاته، حضور الأم هو حضور الحياة، وليس مجرد حضور شخص يسدد الاحتاجات، إذا لأحظت الطفل كيف لهذا الوجه الباكي المتوجع يتحول في لحظة إلى وجه باسم متهلل عند رؤية الأم. كلنا هذا الطفل، كبرنا وتعقدت مشاكلنا، كثرة احتياجاتنا ولكننا مازلنا ملقين على ظهورنا نصرخ طلبًا لعلاقة معها تحضر الحياة. الحياة لا يمكن أن تكون في الأشياء المادية أو العلاقات السطحية، إن داخلنا يصرخ طلبًا لعلاقة مع حبيب معه تحضر الحياة”.

في الاجتماع الأول الأول أشرنا إلى المقصود بالجسد وأن جسدنا كله مطبوع بالجنس. تكلمنا عن بعض الحقائق المهمة بأن الله ليس ضد الجنس أو المتعة وبينّا أن غرض الجنس هو الاتحاد الإنساني بين طبيعتين بشريتين يتوحدًا معًا.

في الاجتماع الثاني تكلمنا عن الفراغ الذي يخلق به الإنسان، فليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأكبر مشاكل البشر هي الوحدة التي تملء قلب الإنسان. فالجسد يعزل الإنسان عن الآخرين، بالرغم من إنه وسيلة اتصاله بهم. لكن الاتصال يظل قاصرًا لا يكفي للتغلب على شعوري بالوحدة التي وصفها الله بأنه ليس “جيدًا” أن يكون الإنسان وحده. كل مظاهر الاتصال بالآخرين، الكلام، النظرات، لغة الجسد، الحميمية، لا تكفي في التغلب على شعور الوحدة الذي يملء كيان الإنسان.

متى تنكسر القوقعة التي تفصلنا عن الآخرين: أعد الله منذ البداية الحل للمشكلة الأزلية للوحدة، وهي رسالة الإنسان الأساسية في الوجود. الحالة الوحيدة هي التي أسسها الله لمعالجة الألم الناشء من الوحدة هي الزواج. ففي الزواج تنكسر هذه القوقعة التي تفصلنا عن الآخرين، التي تسجن ذاتك وتشعر أنك تنطلق وتتحد بالفعل بالآخر: لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً. الحقيقية إن جسدنا كله مطبوع بالجنس وهي رسالتنا  في الحياة والوجود.

الحياة العاطفية

“الله محبة: من أقام في المحبّة أقام في الله وأقام الله فيه” (رسالة يوحنا الاولى 4/16)

هكذا يبدأ قداسة البابا رسالته الأولى. ويكمل ليقول: “لقد أمنا بمحبة الله” وهذه ميزة من ميزات الإيمان المسيحي صفة الله الاولى ليست لا القوة ولا القدرة ولا الابدية والسرمدية انما كيانه (وهي اكثر من صفة): المحبة. فيمكننا القول مع الإنجيلي يوحنا : “إن الله أحب العالم حتى إنه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”.

هنا نتأكد كيف أن علاقة المؤمن بالله ليست علاقة خوف ولا طاعة ولا انكسار بل علاقة حب وحب متبادل. الله يحب الانسان ويظهر له هذا الحب وينتظر بصبر طول جوابه الحر.

من يريد الوصول الى الملكوت: أي الى ملء السعادة ليس لديه سوى طريق الحب لأنها أثار لمست كيان الله في الانسان ولن يرى الانسان السعادة الاَّ متى عاش مع الله (مار اغسطينوس) أي أذا ما عاش الحب. فالله هو الحب.

ووصية الحب الذي اعطاها يسوع لنا ليست وصية بمعنى الأمر أنما نتيجة طبيعية كجواب لحب الله الذي هو احبنا منذ البدء وبمعنى آخر هي تحقيق الذات، تحقيق كيان الانسان. إذا كان الانسان مخلوق على صورة الله ومثاله واذا كان الله حب فكيان الانسان الطبيعي هو الحب: لن يصل الانسان الى السعادة، الى التوازن، الى الوحدة بين حقيقة كيانه وتحقيقها إلا في الحب: من لا يحب لا يمكن أن يحقّق انسانيته.

يلفت النظر التحليل الذي يقدّمه قداسته عن الحبّ كما فهمته الديانات القديمة وبنوع خاص اليونانية وكما يرد في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد.

المفردات اليونانية الثلاثة التي تتكلّم عن الحبّ Eros, Philea, Agapé (هنا يتجاهل حب الأهل لأولادهم Stergein) تغني كل منها مفهوم الحبّ وتشير إلى بعد معيّن من أبعاده. ولكنها تشكل خطر تجزيء الحب وكأنه عدة أنواع :منفصم الشخصية بينما هو واحد ومدعو للتوحيد. هي ثلاث مستويات للحب متحدة ومترابطة والخطورة أن يحصر الإنسان نفسه في مستوى من تلك المستويات.

المستوى الأول: الجسدي Eros

-المستوى الأول هو الخارجي، الجسدي (الحب الجسدي أو Eros أو العشق واللذة) يتسّم بطابع الهوى والإنجذاب الجسدي أو العشق (الإفتنان) المحتّم الذي لا يترك مجالاً للإرادة البشرية بل يتحكّم بها فينقاد الإنسان وكأن إرادة إلهية تجرّه إلى حيث لا يريد. نقول “وقع في الحب”، يؤكد العلماء أن الحاجز الذي يفصل بيني وبين شخص آخر قد سقط. تلك القوقعة التي تفصلني عن الآخر تتحطم. تنشأ حميمية تُبنى على التصور والافتنان الجسدي والرغبة في التمتع الجنسي بالآخر. هناك نوع من الجنون يمتلك الشخص فيفقد السيطرة على ذاته. انفجار هرموني داخل الجسم يؤدى أحيانا إلى عدم النوم، وفقدان شهية الأكل والبكاء أو السعادة.

ثورة بركانية حيث يبدو الآخر كائن رائع، فريد ومميز جدًا، ترغب فيه بشدة، ويجذبك ويُثيرك للغاية. يسقط الحاجز بينكما. في لقاء العيون والنظرات يتبدل حال الإنسان تمامًا فيرجع إلى منزله الرهيب الذي يكرهه تجده يقول لك: “كم هو رائع هذا البيت”. أمه التي تصرخ دائما بعصبية شديدة يرى صوتها عذبًا. هناك فرح شديد لأن حالة العزلة ستنتهي، وسيخرج من القوقعة التي تفصله عن الآخر. يظهر الشخص كأنه يدخل إلى حياته فتحضر الحياة الحقيقية، يُشبع جوعه الكياني بأن لا يكون وحيدًا، فليس جيدًا أن يكون وحده.

هناك اهتمام بكل ما هو رومانسي، بالأغاني والأفلام والمقتطفات من مشاهد رومانسية. نطلق على هذا المستوى الحب! لكنا مخطين جدًا! لأن هذا المستوى هو مستوى سطحي جدًا، مستوى فسيولوجي غريزي. يبدو الشريك في العلاقة كفرح الحياة الحقيقية، الذي معه تأتي السعادة الكاملة والمُنتظرة.

الأمر يتعلق بالطريقة التي ينظر من خلالها الإنسان إلى العلاقة مع الشريك. ينظر من خلال الحواس فقط. لكن المشكلة إننا من خلال الحواس لا نرى الواقع كما هو بالفعل. فمثلا من خلال عينيك أنت لا ترى الواقع كما هو بالفعل بل جزء منه. فحواسنا هي انتقائية، لا يمكن لها أن تكون شاملة للواقع. فعندما ينسى الزوج مثلا تاريخ معين تغضب الزوجة لا لأنه نسى التاريخ، بل ما يحمله التاريخ من ذكرى مهمة، أي بالعاطفة التي يحملها التاريخ. عندما تقرأ مثلا فأنت لا تقرأ كل الحروف التي أمام عينيك، بل الدماغ البشري يُسرع في قراءة ما تشير إليه الحروف وفقا لرصيد الكلمات التي تعرفها سلفًا.

ما الأمر؟ أننا نعيد بناء الصور من القليل من التفاصيل بصورة غير واعية تمامًا. نفس الأمر يحدث في الحب الجسدي، الأيروس، يظهر الشخص رائع، غير عادي، أستثنائي، القادر أن يُغير حياتك تمامًا. لكن هذا الانطباع خاطئ. ببساطة أن ما يمثله هذا الشخص يتناسب ويتوافق مع رغباتك العاطفية الدفينة. يظهر الشخص كجواب مثالي لتطلعاتك الدفينة دون أن تدري. شخص يسد الفجوات العاطفية فتشعر بالفرح الذي كنت تنتظره وتأمل فيه. هذا هو انفجار السعادة أمام شيء يشبه الدواء الشافي، الحل النهائي لحياتك. لكنه وهم لأن الشخص لا يكون أبدًا الحل النهائي لحياتك، الشخص هو دائمًا المشكلة، وليس الحل. إذا قدم شخص نفسه حلا، فإنها تخلق علاقات من شأنها أن تكون خطيرة جدًا، هي علاقات تبعية، علاقات خطرة ونتائجها كارثية.

إذا كان الشخص هو الحل لمشاكلك، لا يمكنك العيش بدونه. من هذه النقطة على، علاقتك ستكون علاقة صعبة جدا تقوم أساسا على التهديد، والخوف من فقدان الآخر. إنها مرحلة أنانية، وهي موجهة بحماس نحو الآخر لأن الآخر يقدم المتعة المطلوبة كثيرا. الآخر يقدم نفسه كمتعة تُشبع شيء دفين في أعماقي. الآخر يقدم نفسه كشيء مرغوب فيه، مشتهى ومحبوب.

هذه مرحلة الأنانية، يبدو وكأنه الحب، ولكن أنا لا أقول لك أنها مرحلة خاطئة، علينا أن ننتبه. إنها مجرد مرحلة جزئية غير كاملة، وهذا يتطلب، من الضروري، نبدأ من هذا، ولكن لا يمكن أن يكون كافيا. لا يمكننا الزواج على هذا الأساس، لأنه مستوى مبني على الإحاسيس القابلة للتغيير دومًا. الزواج على موجة العاطفة، مستندين على حب الإيروس، على الانجذاب الجسدي الجنسي سيخلق فوضى لأن العاطفة تتغير. هو حب انتقائي مهدد بالانهيار  لأنه قائم على تطلعاتي الدفينة التي أحملها في داخلي. فأنا متغير مع الوقت واكتساب خبرات جديدة، فتتغير تطلعاتي مع الوقت والشريك لا علاقة له بهذه التطلعات.

ما المشكلة؟ سألقي الضوء على أثنين: الأول هو تجربة الاعتقاد بأنّ الشخص الآخر هو كل شيء، كل ما أبحث عنه، كل ما يوافق تطلعاتي. هذه حالة استحواذ. الثاني، عدم التمكن من رؤية إنسانية الشخص الآخر، فهو مجرد وسيلة لإشباع غرائزنا. هذه هي الشهوة الرديئة. ثم أنّ هذين الوهمين لا يختلف الواحد منهما عن الآخر كما يبدو للوهلة الأولى. إنّما الواحد هو انعكاس لصورة الآخر.

الرغبة في العلاقة الحميمة

أفترض أنّنا جميعاً عرفنا تلك الأوقات من الاستحواذ عندما يصبح شخص ما موضوعاً لكل رغباتنا، رمزاً لكل ما رغبناه دائماً، تلبية لكل ما نريده. ما لم نتوصل إلى أن نكون واحداً مع تلك الشخصية، تبدو لنا الحياة خاوية وخالية من المعنى. إنّ هذا الشخص موضوع حبنا يملأ البئر العميق للحاجات التي نكتشفها فينا. نفكر فيه طوال اليوم. لقد عرف شكسپير كيف يُعبِّر بطريقة جيدة جداً عن هذه الحالة: “الجسد نهاراً وليلاً يتابعها مستسلماً، وذهني لحالي ولحالكِ لا يجد سلاماً[1]“. يصير المحبوب بمثابة إله، نضعه مكان الله.

في سفر صموئيل الثاني، يُجسد أمنون هذه الرغبة الشديدة في ثامار، “إني أحب ثامار أخت أبشالوم أخي”. أحب أمنون ثامار جدًا، أحب جمالها وجسدها لا إنسانيتها وشخصها، أو أحب أن يشبع شهواته بجمالها، وإذ كانت أخته لم يستطع أن يتزوجها (لا ١٨: ٩)، وظّنَّ أنها – دون سواها – هي سر سعادته، وحسبها الوحيدة التي تقدر أن تملأ كل فراغ فيه. وإذ نال منها تحقيق شهوته لم يجد في داخله شبعًا كما كان يظن، لذا أبغضها، وكانت بغضته لها أكثر من حبه السابق لها. (2صمو 13: 1- 19).

بالطبع، ما نعبده هو شيء نحن اختلقناه بأنفسنا، إسقاطاً من ذاتنا. قد يجتاز كل حُبّ بمثل هذه المرحلة من الاستحواذ الذي بدون وعي. العلاج الوحيد هو الحياة مع المحبوب يومياً، واكتشاف إنّه ليس الله، بل مجرد ابن من أبناء الله. الحبّ يبدأ عندما نُشفى من هذا الوهم ونجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام شخص واقعي فيه انعكاس لرغباتنا.

        في الواقع، ما الذي نسعى إليه في كل هذا؟ ما الذي يثير هذا الاستحواذ؟ أستطيع الحديث عن نفسي، فأقول إنّ ما كان يتوارى خلف اضطراباتي العاطفية العارضة، غالباً ما كان رغبة في العلاقة الحميمة: الرغبة في أن يكون الوضع  وضع واحد بكليته من أجل الآخر، تتلاشي كل الحدود بيني وبين الآخر، أضيع فيه، أن أصل إلى شركة محضة وكُلّية معه. أكثر من كونها شهوة جنسية، أعتقد أنّ الجزء الأكبر من البشر يبحثون عن الحميمية، بمعنى الارتباط الداخلي. إن كان علينا أن نجتاز محن عاطفية، فمن الضروري أن نعترف بحاجتنا إلى الحميمية.

إنّ مجتمعنا مبني حول خرافة الاجتماع الجنسي كتتويج لكل حميمية. هذه اللحظة من الرقّة والحنان والاتحاد الجسدي الكامل هي تلك التي فيها تتحقق الحميمية الكاملة والشركة المُطلقة. كثيرون لا يعرفون هذه الحميمية، إمّا لأنهم غير متزوجين، أو لأنّ زواجهم ليس سعيداً، أو لأنّهم كهنة أو رهبان. وقد يصل أمرنا إلى الشعور بكونناً مُحبطين ظُلماً فيما نحتاجه بأعمق ما يكون. يبدو استغلالاً سيئاً: كيف يمكن لله أن يحرمني من إشباع رغبة تضرب جذوراً عميقة بهذا الشكل في كياني؟

أعتقد أنّ كل إنسان، متزوج أو أعزب، راهب أو علماني، يجب أن يتعلم أن يقبل محدوديات الحميمية التي يعيش فيها. الحلم بشركة كاملة هو خرافة تؤدي ببعض الرهبان إلى الرغبة في الزواج، والكثير من المتزوجين يرغبون في البقاء مع شخص آخر. بالتأكيد الحميمية الحقيقية والسعيدة هي أمر ممكن فقط لو اقتبلنا حدودها. نستطيع أن نعكس على الأزواج خيال حميمية كاملة ورائعة، لكنها في الحقيقة مستحيلة، لكنها مجرد انعكاس لأحلامنا. راينر ماريا ريلكه قد أدرك أنّه لا يمكن أن تكون هناك حميمية حقيقية لدي زوجين بدون أن يعترف كل منهما بأنّ الآخر، بطريقة أو بأخرى، يظل منعزلاً. كل إنسان يحتفظ فيما حوله بجزء من العزلة لا يمكن إلغائها.

إنّ الزواج الناجح هو ذلك الذي يجعل فيه كل من الطرفين شريكه حارساً على عزلته ويوليه هذه الثقة، بأكبر قدر ممكن… ما أن نفهم ونتقبل، حتى فيما بين البشر الأكثر تقارباً، أنّه توجد باستمرار مسافات لا نهائية، حينئذ يمكن أن تتطور حياة رائعة جنباً إلى جنب، لو توصلنا إلى محبة تلك المسافة التي تتيح لكل شخص أن يرى بالإجمال ملامح الآخر مظللة تحت سماء واسعة[2].

لا يمكن لأحد أن يوفّر الإشباع التام لرغباتنا. هذا الأمر لا نجده إلا مع الله وحده. روان ويليامز، وهو متزوج ورئيس أساقفة كانتربري، كتب: “الإنسان يصبح رشيداً وأميناً عندما يعي بعدم قابلية رغبته للعلاج: العالم مكون بحيث لا يمكن لأي شيء أن يُعطي للمرء هوية بلا نقائص ومتحققة تماماً[3]“. أو، نذكر ما كتبه چان ڤانييه: [ الألم والعزلة] محنة متأصلة في بشريتنا، حيث أنّه لا شيء في حياتنا يمكن أن يُشبع تماماً متطلبات القلب البشري[4].

من الممكن بالنسبة للمتزوجين أن تكون لديهم حميمية رائعة ما أن يتقبلوا كونهم حراساً على عزلة الآخر، كما يقول ريلكه؛  ولكن أيضاً بالنسبة للذين مثلنا غير متزوجين أو الملتزمين بالبتولية، من الممكن اكتشاف حميمية مدهشة وعميقة مع الآخرين. “الحميمية” كلمة أصلها اللاتيني يعني كون المرء في علاقة مع ما هو موجود في أعمق أعماق شخص آخر. نذر العفة يتيح للرهبان إمكانية لا تُصدّق للحميمية مع الآخرين. إنّ واقع عدم وجود نوايا مكبوتة وإمكانية تقديم حُبّ ليس آكلاً ولا استحواذياً يجعلهم يستطيعون حقاً الوصول إلى قلب حياة الأشخاص.

خطر تأليه الذات

بالأقطاب المضادة للاستحواذ الذي يُشكل وضع الشخص الآخر في محلّ الله، هناك خطر جعل الشخص الآخر مجرد كيان خاضع، شيء ما لإرضاء الغرائز الجنسية. الشهوة تغلق العينين فلا ترى الآخر من حيث كونه كيان شخصي، هش، ولا ترى أحواله الإنسانية. في حين أن العفة تفتح العينين فتجعلنا نرى أنّ ما هو أمامنا جسد جميل بالفعل، ولكن هذا الجسد هو كيان، وليس مجرد شيء.

تلقائياً ما يتوجّه التفكير في الشهوة باعتبارها عاطفة جنسية لا يمكن التحكم فيها، رغبة جنسية جامحة. بل أنّ أغسطينوس أسقف هيپونا، الذي عرف هذا المجال جيداً، يعتقد بأنّ الشهوة تنشأ من رغبة السيطرة على القريب أكثر من كونها رغبة جنسية. الشهوة تعتمد على الرغبة في زيادة قدرتنا على التحكم إلى حدّ تحويل الذات إلى إله، وترتبط بالسلطة أكثر من ارتباطها بالجنس.

إذاً الخطوة الأولى للتغلب على الشهوة ليست إبطال الرغبة، بل إعادة تأهيلها، تحريرها، اكتشاف أنّها لا تتعلق بموضوع بل بشخص. إن الكثير من الفضائح المحزنة في مسألة الاعتداء الجنسي على الأطفال ارتكبها كهنة ورهبان لا يستطيعون مواجهة العلاقات الرشيدة. كان بإمكانهم فقط السعي فقط إلى علاقات يمتلكون فيها السلطة والتحكم. كان يريدون البقاء بعيداً عن التعرض للخطر.

إنّ الوهمين الاثنين، الشهوة والاستحواذ، يمكن أن يبدو أنّهما مختلفان للغاية، لكن أحدهما هو انعكاس للآخر. في الاستحواذ المرء يجعل من الشخص الآخر إلهاً، وفي الشهوة يجعل من ذاته إلهاً. في الحالة الأولى ينخفض أمر المرء إلى اللاحيلة، إلى انعدام القدرة، وفي الثانية يتقدم بزعم السلطة المطلقة. هكذا، العفة تقوم على الحياة في العالم الواقعي، على رؤية الآخر على ما هو عليه، ورؤية ذاتي كما أنا عليها. نحن لسنا آلهة، ولا مجرد كُتل لحمية. نحن كلنا أباء الله. في لحظة معينة عندما تعرف الشخص بصورة أفضل ستكتشف إنه ليس استثنائي، لا يخلو من العيوب، غير مميز وستكتشف أكذوبة إنه ليس له مثيل.  هذه هي المرحلة الأولى الإنجذاب الجسدي والجنسي، حب الإيروس.

المستوى الثاني: حب الصداقة Philea

المستوى الثاني حب الصداقة  Philea التي تنبع من اختيار شخصي لشخص معيّن يفضّل على الآخرين وتبنى معه علاقة صداقة متينة. حب على مستوى أكثر عمقًا من الجانب الجسدي، يمتد إلى النفس. علاقة تذهب إلى المستوى النفسي، لا تنجذب فقط إلى جسده، بل إلى فكره، منهجه في الحياة، معالجته للأمور وقوله للأشياء. مع هذا الشخص يمكنك أن ترتبط بطريقة رائعة. هناك انسجام فكري وعاطفي. أي أن هذه المرحلة الثانية هي مرحلة أكثر نفسية. هذا هو ما نسميه الأكثر شيوعا الوقوع في الحب. قبل أن كان جذب قوي جدا، وهذا هو الحب الموجه إلى الكيان الإنساني والشخصي للشريك.

عند هذه النقطة تجد أنك تريد أن تبقي مع هذا الشخص دائمًا، تشعر إنه يُكملك كإنسان. إنها مرحلة أكثر موضوعية، حيث أنها ليست أن كنت لا ترى عيوب الآخر، ولكن تحبه بالرغم من تلك العيوب. وهناك الكثير من المزايا. أحب هذا الشخص. هذا الشخص هو بالضبط ما أريد بجانبي. مع ما أحب أن تفعل الأشياء التي أحب أن أقول الأشياء التي أريد أن أعرف كل شيء: الوقوع في الحب. أكثر عمقا، مما يعني ضمنا معرفة الآخر بطريقة ما، أكرر، أكثر موضوعية. كثير من الناس يتزوجون على هذا الأساس.

هذه هي الحميمية الحقيقية التي يكون معناها الدخول في علاقة حب مع الأخر والشعور انني أستطيع أن أشاركه كل ما لدي وأقاسمه كل ما لدي وأنتظر منه المعاملة بالمثل.

– أن أشعر أنه يمكنني أن أقاسمه كل أفكاري وأسراري وبنفس الوقت بأني ليس مُجبرٍ على اتمام ذلك. (وهذا هو فرق مهم بين الحب الغرام وبين حب الصداقة).

– هي المعرفة انني أهل أن أَحب وأن أُحب, والثقة التامة أن هذه الحقيقة قد تحققت مع هذا الشخص بالذات. وهذا الحب ليس نتيجة جمال أو ثروة أو ميزة محدّدة: أنا محبوب لأني أنا! وهو يحبني لأنه هو!

– هي ايضا الرغبة بالوقوف امام الأخر دون اللجوء الى أقنعة ولا الى حماية أو ضمانة. هناك نوع من عدم الخوف من المجهول أمام من نحب أو نرغب بعيش الحميمية معه رغم عدم الضمانات والحمايات الخارجية. هذا ما نسميه “الثقة”.

– حينها لا يشعر فقط الشخص بالامان بل يسعى ايضا بمشاركة صعابه وضعفه دون خوف. بمعنى آخر: مشاركة ما هو شخصي وحميم، احلامه، اماله، مخاوفه. اسمى الافكار وانبلها. في هذه اللحظات يزول الخوف والغم.

هذه الحميمية والشعور بالأمان وبالحب ليست محصورة باشخاص محدّدين ولا بخيار حياتي واحد بل تعاش بوسائل عديدية: العلاقة مع الله، بالعلاقة الزوجية وبالعلاقة بين الاصدقاء: اساسها الثقة، التضحية، المشاركة ولكنها تختلف من طريقة تعبير الى اخرى.

كل انسان مدعو الى عيش هذه الحميمية التي تعكس صورة الله في الانسان أي ما وضعه الله منه في الانسان: ما وضعه من حقيقة عيش الحب داخل الثالوث.

من ناحية اولى، ليس المتزوجون وحدهم مدعوون لهذه الحميمية. ومن ناحية ثانية، حتى الحميمية الجنسية بين الرجل والمرأة لا تستهلك كل الحميمية التي يحتاجها الانسان! فالحميمية تتخطى العلاقة الجنسية.

وهنا نجد مكان نذر العفة وحب الصداقة وحب الانسان لله. المتزوج الذي لا يعيش هذه الابعاد يبقى منتقص من ناحية عيش الحميمية حتى لو عاش التعبير الجنسي مع الشريك. كل انسان بحاجة لشخص يعيش معه هذه الحالة التي يمكن ان نسميها صداقة، التي تسمى عيش الحميمية أو عيش الحب.

على كل الاحوال، هذه الحميمية لا يحصل عليها الإنسان بالسعي ورأها بالعكس، هي نوع من الهبة التي تصله كنعمة نتيجة العيش العفوي والمحب وخاصة نتيجة التضحية وعدم السعي وراء الشيء.

هذا المبدأ الإنجيلي لا يفهمه دائماً علم النفس الذي يتمسّك غالباً بمبداء الانانية والتي تفرض السعي، مهما كلف الأمر، لخير يراه صاحبه ضروري لتوازنه. من هنا، قد يسعى الانسان الى حميمية باللقاء مع شخص اخر بينما عندما يصل اليها يجدها غير كافيه.

عندما يقول الحبيب لحبيبته أو الحبيبة لحبيبها، وللمرة الأولى: “انا أحبك”…: غالباً ما تكون انطلاقة الحب قبل الزواج نوعاً من الحب الذي لا يسيّره إلا الإعجاب والهيام بين شخصين لا يعرف بعد أحدهم الآخر المعرفة الكافية ليتمكنا من المحبة الحقيقية التي تشمل كل الأبعاد الإنسانية عند الحبيبين. أي أن أحب الآخر بكليته وكما هو أو أن أتقدم من الحب المؤنسن.

وعندما أقول له (لها) يوماً بعد يوم: “أنا احبك”: ما هو الحب الناضج؟ متى قلت لشخص أخر أنا أحبك قلت له حقيقتين: “أريدك أن تعيش إلى الأبد” و”أريد أن أبقى معك إلى الأبد”. أو بتعبير سلبي أقول “لا أريدك أن تموت” و”لا أريدك أن تبعد عني”. أي أريدك أن تصبح أبدي وأن يصبح حبي لك أبعد من الموت. وبنفس الوقت قلت له “أنا لك ولست لأخر سواك”. ولكن كلنا نعي أن هذا الطموح وهذه الرغبة لا يمكن أن تحقق أبدية هذا الحب ووحدته الاَّ إذا أعطيت قوة أقوى من قوة الإنسان يمكنها أن تغير هذا الحب البشري من الداخل. والمؤمن الذي يحب ويريد أن يصبح حبه مطبوع بالأبدية يتقدم من سر الزواج لأن السر بإيماننا المسيحي هو هبة الله التي تحوّل ما هو ! بشري ليصبح الهي. نعمة الله تحول بواسطة سر الزواح حب الرجل والمرأة البشري والمحدود ليصبح حباً الهياً أبديا يتخطى الموت. “فالنعم” التي ستقولانها والتي هي كلمة بشرية تتحول لتصبح ليس فقط “وعداً” بل “عهداً” بين حبيبين أمام الله ومعه. حينها يمكن للشريكين أن يقولان واحدهم للأخر: “أريدك أن تعيش إلى الأبد” و”أريد أن أبقى معك الى الأبد”. هذا ما يسميه القانوننين: وحدة الزواج وعدم انحلاله! واللاهوتيين يسمونه الأمانة الزوجية وديمومة الزواج.

“أنا احبك” ولكن مع الوقت…: لقد تكلمنا عن النعمة التي تدخل الحب بالأبدية ولكن هذه النعمة ليست فعل سحر! نعمة الله تعمل معي يداً بيد وهي تحترم حريتي وخاصة محدوديتي وهذا كله يعني أن نعمة الله التي حولت حبي من حب بشري إلى حب الهي لا محدود لم تحوله مرة واحدة لحظة الزواج بل هي تحوله يومياً ومدى العمر. الحب الزوجي المبارك هو حب ينمو يوماً بعد يوم بنعمة الله وتفاعل الحبيبين معها.

ما هي صفات الحب الحقيقي؟ الحوار، التضحية، الخصوبة، الأمانة، القبول بضعف ومحبة الأخر ومحبته كما هو، كي يكبر، الانفتاح على الروح العائلي وعلى المجتمع، عيش حضور الله ومعنى الصلاة والتأمل. لم يعد الثنائي اثنان ولا حتى اثنان مع أولاد بل عائلة تعيش من محبة العائلة الثالوثية الالهية. الوعي من قبل كل طرف بأنه لا يمكنه أن يعرف الآخر معرفة كاملة: الآخر هو سر الهي أدخل فيه بعلاقة لا تنتهي حتى الموت. الحب الصادق يعترف أن الكمال ليس من هذا العالم وأن لكل إنسان نقائصه ويبقى الحب “صورة” عن الحب الألهي أي غير كامل. لذلك يكون الحب مسيرة للتقرب من ملء الحب الألهي، المطلق: أن أحب يعني أن أضع أملي وثقتي بالمحبوب بشكل دائم طوال العمر.

حب الصداقة مختلف عن حب الغرام رغم أنه يشاركه بما هو أساسي: يمكن أن يكون مع شخص من نفس الجنس أو من الجنس الأخر. ما هي صفات حب الصداقة:

يحمل هم الأخر، فيه امور كثيرة من الحب الذي يربط الحبيب بحبيبته انما هو محرّر اكثر: ليس حب حصري ولا يعد بالبقاء سوياً الى الأبد، يسمح بدخول حب صداقة أخر عليه ويسمح للأخر أي يكون لديه صداقات اخرى. لا يعرف الرغبة بالاتحاد الجسدي، ليس عهد امام الله بمعنى السر انما هو مسيرة وعود. فيه الأمانة، الحضور ولكن مساحة الحرية التي يحفظها هي اكبر بكثير من مساحة الحرية التي يحفظها حب الغرام.

[1]  وليم شكسپير، سوناتا 27، إلتروپيا، ريچيو إيميليا 1988، ص 35.

[2]   ر. م. ريلكه، السابق ذكره

[3]   ر. ويليامز، أيقونات مفقودة. تأملات في الفجيعة الثقافية، تي أند تي كلارك، إيدنبورج 2000، ص 153.

[4]   چ. ڤانييه، لنعانق بشريتنا،EDB، بولونيا 2000، ص 9.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.