دعوة إلى العمق (0): المقدمة
كان هناك مجموعة من السائحين يريدون أن يقطعوا طريق بين الغابات ليصلوا إلى وجهتهم، أصبح الممر الذي عليهم أن يسيروا فيه صعبًا وعرًا يمر خلال مستنقعات وأدغال وأشواك، وتعترضه عروق من الخشب وأصبح التقدم فيه عسيرًا.
وهنا انقسم السائحون طائفتين: طائفة قررت أن تواصل السير في الاتجاه الذي أخذوا فيه، وقالوا لأنفسهم وللأخرين إنهم لم يضلوا قط عن الوجهة الصحيحة، وهم لا شك واصلون إلى الغاية من رحلتهم. وطائفة قررت أنهم يجب أن يبحثوا عن الطريق لأن الاتجاه الذي يسيرون فيه قد تبين خطؤه، ولولا ذلك لبلغوا مقصدهم منذ زمن طويل، ولكنهم ليبحثوا عن الطريق يجب أن يسرعوا بقدر ما يستطيعون في كل اتجاه. وهكذا تفرق السائحون على حسب الرأيين: فريقا قرر أن يمضي قدمًا، وفريقًا قرر أن يتقدم في كل اتجاه.
وكان هناك رجل واحد لم يوافق على أيَّ من الرأيين، فقال إن ليس عليهم أن يتقدموا في الاتجاه السابق نفسه، أو يهرولوا في كل اتجاه أملاً في العثور على الطريق الصحيح، عليهم أن يقفوا ليفكروا في الأمر، وبعد أن يفكروا فيه يتبعون أحد السبيلين. ولكن المسافرين كانوا مهتاجين من جولانهم جزعين لحالتهم، شديدي الرغبة في تعليل أنفسهم بالأمل أنهم لم يضلوا، بل انحرفوا عن الطريق قليلاً وسرعان ما سيهتدون إليه؛ وكانوا قبل ذلك كله حريصين غاية الحرص على أن يهدئوا خوفهم بمواصلة السير، فأنكرت الطائفتان رأى الرجل، وعنفوه وازدروه وقال جماعة منهم إن هذه النصيحة هي خطة العجز والجبن والكسل.
وقال غيرهم: كيف نصل إلى غايتنا بالوقوف هنا والكف عن السير؟! وقال أخرون: هذا هو معنى أن تكون إنسانًا، لهذا منحنا القوة، ولكي نحارب ونصل، ونتغلب على الصعاب بدلاً من أن نخضع ونستكين.
ومهما قال الرجل الواحد الذي خرج على الجماعة إن السير في الاتجاه الخطأ لن يقربهم من غايتهم بل سوف يبعدهم عنها، وإن التقلب من وجهة إلى وجهة لن يبلغهم مقصدهم أيضًا، وأن الطريقة الوحيدة لبلوغ الغاية هي أن يستنبؤا الشمس والنجوم عن وجهتهم ثم يسيروا في هذه الوجهة، وإنهم كي يفعلوا ذلك يجب أن يقفوا- يقفوا لا ليجمدوا بل ليجدوا الطريق الصحيح ثم يتقدموا على هدى في هذا الطريق، ولكنهم ليفعلوا كَّلا من هذين الأمرين يجب عليهم أولاً أن يقفوا ويفكروا- مهما قال ذلك فإن أحدًا لم يصغِ إليه.
ومضت الطائفة الأولى في الاتجاه الذي أخذت فيه، وانطلقت الطائفة الثانية من ناحية إلى ناحية على غير هدى، ولكن إحداهما لم يقترب من هدفهم المشترك قليلاً ولا كثيرًا بل إنهم لم يخرجوا من الأدغال والأشواك، وما برحوا يتخبطون بينهما.
قصة العبقري ليو تولستوي تُنبهنا إلى ضرورة التوقف في مسيرة الحياة لنفحص أنفسنا وطريقنا في الحياة واختياراتنا ونمط حياتنا. فكما قال سقراط يومًا: “الحياةُ التي لا تفحصُ لا تستحق أن تُعاش”!! الحياة التي لا يتوقف صاحبها ليفحصها وليعرف أن يضع قدميه هي حياة هزيلة لا تستحق أن عاش.
لذا دعوتنا في هذه الخلوة الروحية هي للتوقف:
لماذا لا نقف؟ لماذا لا نأخذ وقت للتفكير في طريقنا؟ لماذا لا نُعيد تقيم الأمور ولنعرف الطريق الصحيح من خلال قراءة النجوم واتجاه الشمس؟ أول جهد وأهم جهد يجب بذله ليس الإسراع في التقدم في نفس الطريق، بل في الوقوف. فالوقوف وحده هو الذي يمكن أن يتيح لنا فهم موضعنا وكشف الاتجاه الذي يجب أن نتبعه لنبلغ السعادة الحقيقية.
لقد اختارنا الربّ من سنوات لأجل أن نشاركه نمط الحياة التي عاشها على الأرض، كَرسنا لأجل أن نساهم معه في تأسيس ملكوت الله على الأرض، لنعلن للآخرين عن حضوره فينا. لقد اختارنا الله منذ البدء لنكون عنده قديسا بلا عيب، والله لا تخيب اختيارته أبدًا.
بدأنا المسيرة منذ سنوات، إلا إن الطريق وعرٌ جدًا، تصادفنا العقبات الداخلية والخارجية التي تعوق تقدمنا في المسير. هنا يجب أن نتوقف لنفحص حياتنا من جديد، لنعرف أين نضع أقدامنا.
مضمون هذه الخلوة الروحية هي فحص حياتنا المُكرسة ومسيرتنا الإيمانية لإتباع يسوع المسيح إلى أن نصل إلى العمق. عمق الإيمان المسيحي وعمق الدعوة الرهبانية التي دعينا إليها. سيرافقنا في هذه المسيرة القديس بطرس الرسول منذ بدء دعوته على شاطئ بحر الجليل إلى يوم ظهور المسيح الأخير له بعد القيامة على شاطئ بحيرة طبرية. حياة متقلبة ومترددة، صادفت صعوبات داخلية وخارجية لأن تصل إلى كمال دعوتها بعد القيامة.
دعى المسيح بطرس لأن يدخل إلى العمق، وكانت مسيرة شاقة ووعرة، أوقفه الرب أكثر من سبع مراتٍ ليفحص حياته ولينقله من مرحلة إلى أخرى حتى يصل في نهاية المسيرة بقوله ثلاث مرات: «يا سِمْعانُ بنَ يونا، أَتُحِبُّني حُبّاً شديداً؟» وفي كل مرةٍ كان رد بطرس: «يا رَبّ، أَنتَ تَعلَمُ كُلَّ شَيء، أَنتَ تَعلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ حُبّاً شديداً» عندها قال له الرب: «اِتَبْعني !» (يوحنا 21: 15- 19). فتبعه بصفة نهائية منذ ذلك اليوم حتى استشهاده.
أنتَ مُكَرس، مدعو على مثال القديس بطرس لاتباع المسيح. مدعو لتصبح “مسيحًا آخر”، لتعيش فتكون “الحياةُ عندك هي المسيحُ” كما عبر بحق بولس (فيلبي 1: 21). عندما تقبل المسيح سيدًا على الحياة فأنت لا تختار بعض أفكاره بل أن يصبح هو “عقلك”. يُصبح هو حياتك. . لا يمتلك المُكَرس إذن فكر ليس فكره، رغبةً ليست رغبته، مشاعر ليس مشاعره. كل ما يملكه المُكَرس يكون له، يُصبح المُكَرس بجملته ملكًا له.
عندها يكون المُكَرس عنوانًا للأشخاض البعيدين عن الله والباحثين عن الحق، الذين ربما لا يقرأون كلام الله، ولكنهم يقرأون حياة أبناء الله، المُكَرسين، فيصبحون ككلمة الله المتجسدة: “أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ” (2 كورنثوس 3: 2). هذا يضع علينا مسئولية خطيرة أن تكون حياتنا كبنى الملكوت إنجيل مفتوح ومقرؤ.
المسيحيون عندما يدخلون إلى العمق يتحولوا إلى قوة عظيمة تحطم الصخر. وكنار تحرق القش، ويكون لهم تأثير كلمة الله. الاحتياج إلى أشخاص مسيحيين دخلوا إلى العمق، ويعشون حياة مسيحية حقيقية الاحتياج ليهم أكثر من أي وقت. رافي زكاريس يقول: “نحن في جيل يسمع بعينيه لا بإذنيه ويفكر بمشاعره”. بعد أن بدأ عصر الفيديو، أصبح الناس يعيشون أكثر من 5 ساعات أمام الشاشات لمتابعة الفديوهات فأصبح أسهل كثيرًا أن يروا كلمة الله من خلال آخرين، وأسهل من أن يسمعوها مذاعة. الناس اليوم تريد انطباعات أكثر من مجرد كلمات، يريدون أن يروا من يترك فيهم انطباعات، أكثر من يسمعوا فكرة أو كلامًا.
الدخول إلى العمق يخلق لنا بنى الملكوت القادرين على أن يعملوا كلمة الله في قيادة الناس إلى معرفة الحق، وبالتالي يشتركوا في مشروع الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. يقبلون إلى معرفة الحق عندما يرون الحق معاشًا، والحق لا يعاش على الشواطئ بل في العمق.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.