دعوة للعمق (2): دعوة للنظام
كانت دعوتنا، في اللقاء الأول، بضرورة التوقف لنفحص أنفسنا وطريقتنا في الحياة واختيارتنا التي اتخذنها في مسيرة حياتنا. الحياةُ التي لا تُفحص لا تستحق أن تُعاش. انصبت دعوتنا في الوصول إلى إجابة لهذا السؤال: أين نقف من مسيرة دعوتنا المُكرسة؟”.
تأملنا في لقاءنا السابق في دعوة بطرس الأولى، ولقاءه بيسوع الذي فيه غَيّرَ الربّ اسمه إلى كيفا، أي صخرًا، أو بطرسَ (petros) لأنك ستكون جزءً مني، أنا الصخرة (petra). أنت “أداتي المختارة” مُنذ البدء لكي تكونَ أيقونة الله الحاضرة في العالم والممثلة له. لم يفهم بطرس سبب تغيير الاسم إلا بعد القيامة، وعرفَ إنه مدعو لكي يكون جزءًا من الحجر الحي الكريم، الذي إذا اتكلَ عليه الإنسان لا يُخزى.
قدم يسوع هوية جديدة لسمعان، قدم له نسب لعائلة جديدة. ويقدم ذات الهوية والنسب لكل إنسانٍ مُكَرس: “وأَنتم أَيضًا، شأنَ الحِجارَةِ الحَيَّة، تُبنَونَ بَيتاً رُوحِياً فَتكونونَ جَماعَةً كَهَنوتيَّة مُقدَّسة”. كل مُكَرس هو أداة اختارها الله بعناية لكي يكون علامة حضوره وسط العالم.
يعود يسوع ليتلقي ببطرس في لقاء ثاني على شاطئ بحر الجليل، ويدعوه إلى ما هو أبعد من الهوية الجديدة، فيكشف له رسالته في الحياة: هذا ما نقرأه في إنجيل متى 4: 18- 20:-
“وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِياً عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ”.
يكشف الرب لبطرس في لقاءه الثاني عن الرسالة المُكلف بها في الحياة، عن سبب الوجود الحقيقي للإنسان: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ». عرضَ الربُّ على بطرس أن يشترك معه في بناء الملكوت. كل ملكوت بناه الإنسان سينهار ولن يبقي إلا ملكوت الله، ودعوة الإنسان الأساسية هي الاشتراك مع الله في بناء الملكوت.
خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، واستخدم الوحي الإلهي الكلمة العبرية “صورتنا- سِلَّمْ” التي لها معنيان: الأول بمعنى صورة تجسد شخص معين أو ظل. ليس هناك ظلٌ بدون حضور، حتما هناك شيء أو شخص.
هذا هو غرض الحياة هي أن أكون أيقونة الله، ظله في المجتمع والحياة التي أعيشها، أحمله في كينونتي وأعمل معه لتحقيق مشيئته. هذا ما يقوله الوحي: “وقالَ الله: «لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا وَلْيَتَسَلَّطْ على أَسْمَاكِ البَحرِ وطُيورِ السَّماء والبَهائِمِ وجَميعِ وحُوشِ الأَرض وجميعِ الحَيَواناتِ الَّتي تَدِبُّ على الأَرض» (تكوين 1: 26). يتسلط الإنسان تعنى أن يلعب دورًا في الوجود، فهو ممثل الله على الأرض.
الإنسان هو أيقونة الله الحية الحاملة لحضوره والممثلة له في العالم، لكن هذا الوضع إنهار بسقوط الإنسان في الخطيئة. فأصبح الإنسان يعيش من أجل نفسه ويريد أن يجعل كل شيء يعمل لصالحه. ضاع بعيد عن الغرض الذي خُلق من أجله، هذه الحالة من فقدان الغرض وفقدان الوظيفة هي اللي نسميها في اللاهوت المسيحي “الخطيئة”. فيه غرض واحد في النهاية هو أن أحقق مشيئة الله، هذا ما حققه المسيح طول مسيرته الأرضية، في تعاليمه، في غسله للأرجل، عاش ليفعل مشيئة الله. منذ صغره تعاتبه مريم يقول يسوع: “ألم تعلما أن أكون فيما لأبي”.
كسر المسيح وصية حفظ السبت بالرغم من معرفته أن أهم شيء لليهود هو حفظ السبت، مثل شفاء المقعد منذ 38 سنة، لماذا لم ينتظر ليوم الأحد، وحتى إذا كان الأمر ضروريا أن يشفي في السبت، لماذا يطلب من الرجل أن يحمل سريره ويمشى وهذا ممنوع في يوم السبت. لم يصنع مشكلة لنفسه فقط بل للرجل الذي طلب من حمل السرير لمخالفته للوصية مخالفة صريحة. عندما سألوه قال: “أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ، لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ.، لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ”. يقول يسوع لستُ أعمل من نفسي شيء، إلا ما ينظرُ الأب أن أعمله، فأنا أعمل مشيئته ومشيئته كانت ترغب في أن يُشفي هذا المسكين فصنع ما أراد.
في يوحنا 4، يقول لتلاميذه بعد حديثه مع السامرية: “طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ”. فالغرض الأساسي والغاية من وجود الإنسان هو أن يعمل مشيئة الله ويتم عمله. أصبحنا اليوم نسعى لعمل مشيئات الجسد، لا نعيش وفقا للوظيفة التي خلقنا إليها. نعمل كل شيء بصورة خاطئة، نحب أو نغضب أو نفرح خطأ. مشروع الخلاص الإلهي هو استعادتنا للغرض الذي خُلقنا من أجله، أن نكون ممثلين لله، حاملين له، محققين مشيئته. نصلي كل يوم في الأبانا: “أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوت لتكن مشيئتك كما في السماوات كذلك على الأرض”.
لم يفهم بطرس لماذا أعطاه الرب هوية جديدة ولا الغرض الذي من أجله خُلق. بقي طوال حياته مؤمنًا إن سمعان ابن يونا الصياد ويظهر المشهد الأخير، بعد القيامة وبعد أن ظهر له الرب بصفة خاصة كما شهد بولس في رسالته إلى الكورنثوسيون: “وأَنَّه تَراءَى لِصَخْرٍ فالاْثَني عَشَر” (1 كورنثوس 15: 5). إلا إن بطرس لم يفهم فلم يبرح قاربه ولم يترك شبكة الصيد، حتى التراءي الأخير للرب على شاطئ بحر طبرية حين قال له المسيح بصورة واضحة: «إِرْعَ حُمْلاني»” (يوحنا 21: 15).
1. إعادة تنظيم الحياة
إن التوقف لفحص الحياة يمكن أن يكشف لي لم أنتمي تمامًا إلى عائلة الله، ونمط حياتي لا يحمل حضوره وسط الآخرين. أن حياتي قلقة، وهناك زحمة للأفكار يمكن أن تصل بي إلى الفوضى الداخلية.
أعاني من حالة من عدم الاتساق الداخلي ونوعًا من عدم السلام مع النفس. فكوني مُكَرس يفرضُ عليَّ أن أكون متفرغًا لخدمتي، مُفرغًا من ذاتي. لكن الواقع أمرٌ مختلف، نؤمن بكل هذا على مستوى الفكر، لكن على مستوى السلوك في الحياة نكون بعدين بصورةٍ أو أخرى. ليس هناك اتساق بين ما نؤمن به وما نعيشه بالفعل في الحياة.
اللوغوس: القانون المُنظم كل الأشياء
يوحنا 1: 1- 4؛ 16: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ.2هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. 3 كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ.4فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ”. “14 وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً”.
كتب يوحنا إنجيله بعد سنوات طويلة من كتابة الأناجيل الإيزائية التي طرحت أسئلة كثيرة دون إجابات! ظهر يسوع فيها كالله الذي له سلطان غفران الخطايا ويُقيم الموتى فيمسك يد ابنة يايرس ويلمس نعش ابن أرملة نائين. إلا إنه إنسان يجوع ويشرب ويأكل وينام ويبكي وينمو في القامة والمعرفة. مَن يكون هذا الشخص؟
كتب يوحنا إنجيله للإجابة على هذا السؤال الجوهري فذكر في أول عدد الحقيقة: فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. ثم يُجمل القضية كلها في العدد 14: “وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً”. ثم يبدأ في ذكر البراهين التي تؤكد ما يطرحه: المسيح هو الكلمة الأزلي، الله ذاته، الذي خلق كل شيء في السموات والأرض، الذي أعطي الحياة والنور وهو الحق، هو القيامة وهو الباب الذي يؤدى إلى الحياة الأبدية. لذا لا يذكر إقامة ابنة يايرس وابن الأرملة بل يذكر إقامة لعازر المختلف تماما عن معجزات إقامة الموتى السابق ذكرها في الأناجيل الإيزائية. هو لا يمس يد الميت، ولا يلمس النعش، بل يقف بعيدًا وبكلمة واحد يُعيد خلق كل شيء. ميت أنتن واهترأت أعضائه الداخلية تماما فيُعيد خلق الإنسان من جديد لأنه هو فيه كانت الحياة، ويقول عن نفسه في هذه المناسبة: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يوحنا 11: 24).
فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ
كان اليونانيون يستعملون كلمة اللوغوس لدلالة على القانون أو المبدأ الذي ينظم كل الأشياء. فالكون متنوع للغاية وبه أشياء متضادة ومختلفة إلا إنها تُشكل معًا عالم واحد متناغم ومتسق بالرغم من الاختلاف. هناك اتساق وتناغم في حركة الكون فلا تصطدم الكواكب معًا. اخترع اليونانيون كلمة اللوغوس ليدلوا على القانون المنظم لهذا الانسجام في الكون والعقل، تصوروا إنه قانون منظم، لا شخص. أراد يوحنا أن يقول لليونانيين الموجه لهم إنجيله، هذا الذي يجعل الاشياء متسقة، ضابط الكل هو الله ذاته الذي أصبح بشرًا وحل فينا. لذا أجمل يوحنا رده على فلسفة اليونانيين بقوله: “كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ.4فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ” (يوحنا 1: 3).
ما يُنظم الأشياء ليس قانون أو مبدأ عام ولكنه شخص يسوع المسيح الذي يُحقق هذا التناغم بصفته خالق كل شيء وضابط الكل بقدرته. هو اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ الذي كان في البدء عند الله قد تجسد وحل بيننا: “وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً”.
في العدد 18: “اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ”. خَبَّرَ أي شرح من يكون الله. لقد أخترق الله الكون الذي أصابته العشوائية وفقد جماله الذي خُلق عليه. “الخليقة قد أخضعت للباطل” انتشر الموت والشر والمرض. عشوائية ضربت العالم بسبب فساد الإنسان كالسرطان الذي يضرب خلايا الجسم التي تعمل في تناغم وتناسق فريد خُلقت عليه. تأتي خلية ما تنقسم دون رادع وبسرعة غير محسوبة، تتصرف بعشوائية شديدة فيحدث خلل كامل في الجسم يؤدي إلى الاصابة بالسرطان والوفاة. هكذا صنع شر الإنسان وخطيئته بالكون فنزل الله، الابن الوحيد الذي به خُلق كل شيء، ليُعيد حالة الانسجام والترابط والاحاد.
2. اللوغوس: الكلمة المُنظم كل الأشياء
تجسد اللوغوس ليُعيد كل شيء إلى بهاءه الأصلي، إلى حالته الطبيعية. وُلدَ في خضم العشوائية التامة، وسط الحيوانات، في بيئة عدائية يحكمها حاكم غاشم، لم يكن هناك مكان آدامي يستقبله. عاش وسط عشوائية كبيرة هاربًا من بطش هيرودس، مطارد من الجميع، عذبوه وقتلوه. هكذا يصف أشعيا منظر المسيح وهو على الصليب: ” نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ، لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَه” (أشعيا 53: 2). كان الجمال المتجسد وسط القبح الذي يسود، اجتمع القبح والعشوائية على المصلوب المُعلق، كما لو كان يسحب من البشرية قبحها لكي يعيد إليها جمالها.
جميعنا يعيش في تلك العشوائية والتخبط الداخلي بين ما نفكر فيه وترتبط به مشاعرنا وإرادتنا. لا نعرف ماذا نفعل لكي نعيش في توازن وانسجام واتساق داخلي بين جسدي وروحي. إذا كنا مؤمنين بأفكار صحيحة، بمبادئ وتعاليم مسيحية طيبة وخيرة لكننا نجد إرادتنا تقودنا إلى شيء أخر تمامًا.
هكذا عبر بولس عن المشكلة: ” 15لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ”. “19لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. … 24وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟ 25أَشْكُرُ اللهَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا!” (رومية 7: 15- 24). يصرخ بولس قائلا: “وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ!” هنا لا يقول بولس ماذا ينقذني من جسد هذا الموت، من تلك الفوضى التي بداخلي، بل مَن يصرخ طالبًا معونة شخص وليس شيء يستعين به لوضع حد صراعه الداخلي.
يصرخ بولس في نداء لشخص فيقول: “(مَنْ) يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هَذَا الْمَوْتِ؟” شخص وليس تعليم أو عقيدة أو مبادئ تجعلني أعيش أفضل، بل شخص يمكن له تنظيم كل شيء داخلي، شخص يعرفني، لأنه خلقني واختارني قبل إنشاء العالم لأكون عنده قديس بلا عيب في المحبة. يعبر بولس عن عن احتياجه إلى اللوغوس فيخلصه من البعثرة الداخلية ويتوق إلى مَن سَيُعيد له الاتساق والانسجام والوحدة بين الروح والجسد. المسيحية حالة شفاء تعود بالإنسان إلى وضعه الأصلي، كأيقونة الله الحية الممثلة له والحاملة لحضوره في الحاضر والأبدية. مسيرة شفاء يعود فيها الإنسان إلى أصله المتسق الذي خُلق عليه. الحل أما تلك العشوائية والتضارب والصراع الذي يجعلنا لا نشعر بالرضى عن الحياة هو أن يتجسد شخص يسوع المسيح في حياتنا.
هذا هو الخبر المُفرح: “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً”. المجد المقصود هنا هو مجد كمال الشخصية كما خلقها الله قبل السقوط. عندما يحلُّ الكلمة ويتجسد في حياتي يُعيد الكمال لشخصي فأصبح كامل متسق في أفكاره ومشاعر وتصرفاته. كامل على مثال الله الكامل: “كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ” (متى 5: 48).
3. الدعوة للتغيير إلى تلك الصورة
عندما أسمح أن يتجسد الرب يسوع في حياتي ويحلُّ داخلي سأتغير وسأعكس أكبر قدر من مجد شخصية الله: “وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوح” (2 كورنثوس 3: 18). نتغير من مجدٍ إلى مجد إلى تلك الصورة عينها. مجد أدبي وأخلاقي، تعود إلينا جمال الشخصية، الشموخ والروعة والعمق وتعفف وشبع تلك شخصية الرب يسوع.
أترك الله يخترقني كما أخترق العالم في ملء الزمان، أتركه يولد فيَّ اليوم، أتركه يُشكلني فأصبح هيكله المقدس، أتركه ينظم تلك الفوضى الداخلية بين ما أفكر فيه وما أشعر به وما أسلكه في الحياة. إلا إن الله لن يفعل ذلك دون إرادتي الحرة التي تتجاوب مع رغبته في أكون هيكلاً للوغوس، للكلمة الأزلي.
أنت لست آنية من جماد في يد الفخاري الأعظم، تتشكل دون إرادة منها! نتطرف أحيانًا في فهم التصوير البلاغية للفخاري الذي يصنع أنيته الفخارية. فالإناء مسلوب الإرادة بين يدي الفخاري، لكننا ليسو جماد، يشكلنا الله بقدر تجاوبنا مع العمل الإلهي بإرادتنتا. لقد خلقنا الله أحرارًا في استخدام إرادتنا الشخصية. عندما يطلب بولس التغيير يقول: “وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ” (رومية 12: 2). هنا يشترط بولس أن يختبر الإنسان ما هي إرادة الله، أي لتفحصوا إرادة الله. الله لا يملي بمشيئته لكن الله يعمل على تغيير فكر الإنسان لأجل أن يرى الأمور بنظرة جديدة، يمتَحن فيها كل شيء ويميز هل يتوافق الشيء مع إرادة الله من عدمه. “الرب يسوع المسيح يريد أن أقود حياتي كما لو كان الرب يسوع هو الذي يقودها” فأنا لست شخص مسلوب الإرادة، لكن يريدينا أن ننمو روحيا وأن نفهم، بل أن نسير مع الرب في الحياة ونختار معا.
إذا أردت أن أحقق دعوة الله لي كمكرس، فأنا في حاجة إلى اعادة تنظيم الحياة، في حاجة إلى تحقق انسجام داخلي للفوضى، لتحقيق توافق بين إرادتي الشخصية وإرادة الله في حياتي. أتوقف لأسئل نفسي ماهي حياتي الآن بعد سنوات من دعوة الله لي؟ عبر بولس عن احتياجه إلى اللوغوس فيخلصه من البعثرة الداخلية ويُعيد الاتساق والانسجام والوحدة بين الروح والجسد.
اللوغوس المنظم للكون مستعد أن يحل فيك. أن يحل فيك هذا المجد: “(كولسي 1: 27): الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ. ”
نفكر كثيرًا وننشغل بالرسالة والخدمة، لكن ليس هناك رسالة دون أن يحل اللوغوس في حياتي. فالرسالة الأولى التي على المكرس أن يقدمها هي تبشير ذاته. في الرسالة الرعائية “الحياة المكرسة” يدعو البابا إلى الإقتداء بآباء الصحراء والذين نزحوا إليها رغبة في تطهير القلب من كافة ارتباطاته الدينوية ولترك مكانًا شاغلًا في القلب إلى الله ومجيء ملكوته. يقول البابا إن “هؤلاء النساك كانوا مبشرين بكل ما تحمل الكلمة من معاني، فتطهير الذات والاستجابة الغير مشروطة لمشيئة الله في حياة الشخص هي أول مراحل الرسالة الحقيقية. شهادة الحياة التي قدمها هؤلاء النساك شكلت لقرون طويلة أقوى وسائل التبشير المسيحي. والجدير بالذكر هنا المثل الذي قدمه أنطونيوس الكبير وآثره في حياة الكثيرين”.
الرسالة هي ثمرة علاقة شخصية مع الكلمة الإلهية، اللوغوس، قبل أن تكون عملاً يؤدى. فالمكرس يقوم بالرسالة من فيض اختباره الشخصي مع اللوغوس الحال فيه.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.