إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

العادة تقتل روعة الحياة!

1٬154

للكاتب الكبير نجيب محفوظ مقولة مشهورة في روايته الرائعة “السراب”: “قاتل الله العادة؛ فهي التي تقتل روح العجب والإعجاب فينا”.

عبارة تصف حال كلٍ منّا متى تعوّد على شيء، حتى إذا كان رائعًا جدًا وجميل. إذا اعتادنا على شيء سنصاب بالملل والسأم بعد فترة، ولن نرى مظاهر الجمال التي فيه. أتذكر وقت سفري إلى سويسرا، كنت أتحرك بالقطار الذي يقطع جبال سويسرا بغاباتها الخلابة ذات الألوان المتناسقة الرائعة. كنت وحدي الذي اتابع هذا المنظر الرائع والجميل، لأن كافة المسافرين كانوا غارقين في أفكارهم وهموهم وهواتفهم ولم ينتبهوا إلى جمال المشهد خارج القطار. توقعت أنهم قد ألفوا المنظر الخلاب ففقدوا روح الإعجاب به. تذكر كم كنتُ استخف باعجاب السائحين الأجانب ورغبتهم بالالتقاط صورً مع الحمير والمعيز في استراحة طريق سفاجا، عند الكيلو 85، كنت وقتها توقفت عن الإعجاب بتلك الحيوانات الرائعة فقط لأني اعتدت علي رؤيتها يوميًا. صدق كاتبا العظيم فالعادة تقتل فينا روح والإعجاب.

يذكرنا إنجيل اليوم، الأحد الرابع من الخماسين، بقصة المن الساقط من السماء، حين جاع الشعب فأنزل الله لهم خبزًا من السماء، لكن بعد فترة اعتادوا على طعمه، فسئموه قائلين: “لا شَيءَ أَمامَ عُيوننا غَيرَ المَنّ”، فتذمروا على الله قائلين: “«مَن يُطعِمُنا لَحْمًا؟ فإِنَّنا نذكر السَّمَكَ الَّذي كُنَّا نأكُلُه في مِصرَ مَجَّانًا والقِثَّاءَ والبِطِّيخَ والكُرَّاثَ والبَصَلَ والثَّوم”.صرخوا وبكوا فقد سئموا أكل المن. قتل الاعتياد اعجابهم بالمن فتذمروا على الله. استجاب الله لبكائهم وأعطاهم لحمًا كطلبهم، يقول الوحي الإلهي: “يُعْطِيكُمُ الرَّبُّ لَحْمًا فَتَأْكُلُونَ.  تَأْكُلُونَ لاَ يَوْمًا وَاحِدًا، وَلاَ يَوْمَيْنِ، وَلاَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَلاَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَلاَ عِشْرِينَ يَوْمًا، بَلْ شَهْرًا مِنَ الزَّمَانِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَنَاخِرِكُمْ، وَيَصِيرَ لَكُمْ كَرَاهَةً، لأَنَّكُمْ رَفَضْتُمُ الرَّبَّ الَّذِي فِي وَسَطِكُمْ وَبَكَيْتُمْ أَمَامَهُ قَائِلِينَ: لِمَاذَا خَرَجْنَا مِنْ مِصْرَ؟» (العدد 11: 18- 20).

الأشياء الرائعة والجميلة إذا اعتدنا عليها تصبح مملة ورتيبة، تقتل فينا روح الإعجاب وتطفئ روعة الحياة. التعود على شيء، حتى إذا كان مفيد ورائع فإننا سرعان ما نكرهه ولا نرغب فيه. روعة الحياة في التجديد والتغيير المستمر والتبدل. جميع أحداث الحياة المفاجئة رائعة، مهما كانت قاسية، صعبة أو مؤلمة. فالأحداث القاسية تزيد رصيد خبراتنا في الحياة، تجعلنا ننضج أكثر نفسيًا وروحيًا. الألم ضروري وبدونه لا نستطيع أن ندرك أن هناك شيء خطأ في أجسادنا يستلزم الفحص والعناية. الفشل مفيد للغاية لأنه يُعَلمنا تنظيم جهودنا في الطريق الصحيح. التجارب الروحية تجعلنا ندرك حيل إبليس وطرق أغوائه لنا، كذلك نقاط ضعفنا التي يستغلها روح الشر أفضل استغلال.

لذا لا يجب أن نقلق إذا تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال. كل شيء طيب وخير إذا نظرنا إليه بصورة مختلفة. التجارب خير، الألم خير، الصعوبات خير، تبديل الأحوال خير. لذا نصلي شاكرين دومًا ونقول: نشكرك يارب على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال.

التغيير هو سمة الحياة والخليقة. لقد أراد الله التنوع والتغيير في كل شيء، كما يقول بابلو بيكاسو: “الله فنان عظيم، فقد خلق الزرافة والفيل والنملة، وفي الواقع انه لم يسع ابدا لتتبع اسلوب معين بل بكل بساطة فعل ما كان يرغب في فعله”. خلق الله كل شيء متغير فتتبدل الفصول وأحوال الطقس ودورات الحياة. ما هو ثابت في  الكون هو “التغيير”، لذا عندما تتغير الأحوال، إلى الأحسن أو إلى الأسوء، فاشكر الله لأنه خير فالتغيير هو سمة الحياة، أما التعود على شيء، حسنًا أو سيئًا، فهو يقتل روعة الحياة.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.