إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

كَزِقٍّ فِي دُّخَان

1٬266

لأَنِّي قَدْ صِرْتُ كَزِقٍّ فِي الدُّخَانِ. أَمَّا فَرَائِضُكَ فَلَمْ أَنْسَهَا (مزمور 119: 83)

الزَّقّ، والجمع زِقَاقٌ: هو وعاءٌ من جلد الماعز أو الغنم، يُجَزُّ شعرُهُ، ويخصص للشرب، فيملئ بالماء أو الحليب أو الخمر.  كان وسيلة البدو والرحالة والرعاة في حمل ما يلزمهم من ماء أو حليب في وقت السفر. كانت هذه الأوعية تُجفف، بعد غسلها، بطريقة مميزة جدًا، فهي لا توضع على النار لئلا تحترق، لكن توضع على مسافة مناسبة أعلى نار مشتعلة، لكي تُجفف وسط دخان النار المتصاعد من النار. الزق إذن له منظر كريه من الخارج، فهو أسود اللون بفعل الدخان، لكنه من الداخل يمتلء بالماء اللازم للحياة، أو بالحليب اللازم لغذاء الإنسان، أو الخمر التي تُفرح قلبه ورمز السعادة والبهجة.

كان داوود راعيًا للغنم وهاربًا من شاول، بالطبع يحمل معه زق لزوم الترحال، وكثيرًا ما رأي أو صنع بيده زقً من جلد حيوان. يجد نفسه محاصرًا من شاول الذي يريد قتله، فيصلي قائلاً: “مَتَى تُجْرِي حُكْماً عَلَى مُضْطَهِدِيَّ؟ الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ كَرُوا لِي حَفَائِرَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَأَفْنُونِي مِنَ الأَرْضِ”. هنا شبه داوود حياته بالزق الذي بين يديه، المتفحم من الخارج، لكنه يحمل في داخله حياة.

حياة كل منّا هي كالزِق، لا يعبر مظهرها أبدًا عن حقيقتها الرائعة من الداخل. من الممكن أن يكون الجسد معطوبًا من الخارج، مريضًا، عاجزًا، كريه المنظر، لكن في الداخل يحمل ماءً عذبًا، حليبًا وخمرًا.

الشكل في الخارج لا يعكس تمامًا حقيقة الداخل. قد يكون الخارج جميلاً والداخل جميلاً، أو يكون الخارج قبيح والداخل قبيح، أو العكس فلا يجب أن نعول على الشكل الخارجي. اِفحص الداخل، اِفحص الأعماق. شبه الرب الفريسيين أنهم قبور مكّلسة، من الخارج جميلة فهي مصنوعة غالبًا من الرخام الأبيض، لكن من الداخل فهي ممتلئة عظامٌ ورائحةٌ كريهة.

اهتم بالإناء الداخلي، فالخارجي سيتلاشى، سيفني ويزول، فالأهم هو الجوهر، الأهم هو الداخل. وبدلا من أن نبذل الجهود الجبارة لكي نحافظ على أشكالنا الخارجية والاهتمام بها، فعلى الأقل يجب أن نعطي جهد مماثل لما في داخل الإنسان لكي يظهر أيضًا جميلاً. الله لا ينخدع بالمظاهر والأشكال، وانما ينظر إلى الداخل، إلى العمق: “اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ.” (لو 6: 45)”. كان داوود في ضيقٍ من مطاردة شاول، لكنه داخليا كان يزداد جمالا ورحمة ومحبة لشاول بالرغم من اضطهاده. وعندما وقع شاول بين يديه في مغارة عدلام لم يشأ أن يقتله قال: “حاشا لي أن أمد يدي إلى مسيح الرب”. أظهر داوود ما في داخله في وقت شدته، أظهر عطفًا، حبًا وحنانًا لمضطهده.

يبقى الزِق في الدخان، لا يوضع في النار لئلا يحترق، لكن على مسافة أعلاها، لكي يجف بفعل الدخان المتصاعد. هناك صعوبات في الحياة: ألم، تجربة، فراق، غياب الأحباب، لكن الرب لا يسمح بأن التجربة تحرقنا، فقط الدخان الساخن يلفح حياتنا ويكسوها بلون أسودٍ قائم أحيانًا. الرب أمين فلا يدعنا نحترق لأمر ما، بل يحفظنا بعيدًا، على مسافة من الكسر والاحتراق اللهَ أَمِينٌ، الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ.” (1كو13:10). وقف داوود صلدًا أمام التجربة، لم ينجرف في مشاعر كراهية ضد شاول، لأنه كان نقيًا من الداخل. فقط عندما تلوث الداخل فكر في القتل وارتكب خطيئته الكبرى. كانت تجربة أخرى أقوى دعته إلى أن يطهر ما في الداخل، فصرخ قائلا: “قلباً نقيَّاً أُخلُق فيَّ يا اللهُ، وروحاً مُستقيماً جدِّد في داخِلِي.” (مَزمُور 51: 10) إن كلمة “أُخلُقْ” تأتي من الكلمة العبرية “بَرَا”، التي تعني “عملَ شيء من لا شيء”. يطلب داوود أن يصّب الله داخله ماءً نقيًا ليملء زِق حياته من جديد. يسأل الله أن يضع في داخله جوهر كياني لم يكن موجود من قبل، أو يطهر شيئًا قد تلوث تمامًا فلا يمكن تنقيته إلا بخلق جديد.

صّبْ يا الله داخلي ماءً طهورًا لكي أحيا بصورة جديدة.

صّبْ يا الله داخلي حليبًا صافيًا لكي أكُمل ما تبقى من العمر بصورة نقية.

صّبْ يا الله داخلي خمرًا جيدًا لكي يسعد قلبي العطش إلى الفرح.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.