ابنٌ عاق
في حياة فرنسيس أحداث كثيرة لكن يبقى حدث لقاءه مع أبيه أمام الأسقف حدث فريد في معناه. سمع فرنسيس صوت المصلوب وهو يناديه: “فرنسيس إذهب ورمم بيتي الذي تهدم”. بدأ في إعادة بناء الكنيسة المتهدمة وتوزيع أموال أبيه على الفقراء. غضب الاب وقام بشكواه عند الأسقف الذي حكم على فرنسيس بإعادة المال لابيه، هنا تصرف فرنسيس بطريقة غريبة للغاية وغير مفهومة: قال لأبيه: “سأعيد، ليس المال فقط، بل أيضا ملابسي، حتى الأن دعوتك أبي بطرس برناردوني، واليوم أقول بكل حرية أبانا الذي في السموات”.
تصرف غريب! هل يمكن وصف فرنسيس بأنه ابنٌ عاق؟ هل كان يكره والديه؟ هل من الممكن أن لشاب يفعل بابيه الذي قام بتربيته وتعليمه مثل هذا التصرف. كيف نفهم تصرف فرنسيس؟
لكي نفهم تصرف فرنسيس دعوني أقص عليكم قصة حقيقة حدثت من سنتين فقط. نعرف جميعًا الفنانة العالمية أنجلينا جولي، التي بالإضافة إلى أعمالها الفنية، هي مشهورة بأعمالها ومساعداتها للاجئين على مستوى العالم. في زيارة لها لإثيوبياعام 2009 تبنت طفلة إثيوبية سمراء تدعى، زهرة. اليوم تبلغ الطفلة 15 عام. تعاني أنجلينا جولي هذه الأيام من مشكلة كبيرة وهي ظهور الأم الحقيقية للطفلة والتي طالبت بابنتها. الغريب أن زهرة، أكدت على رغبتها في أن تعود إلى إثيوبيا، رغم حياة الرفاهية التي تعيشها، لتعيش مع أمها الحقيقية، الأمر الذي أثار مجموعة كبيرة من التساؤلات: وما الذي يربط الابنة بوالديها؟ هل المال لم يكفل لها السعادة؟ خاصة أن أنجلينا التي ربت الطفلة Zahra قد وفرت لها حياة الأساطير، والتي يحلم بها الكثير من الأطفال حول العالم. هل الأم هي التي تحمل وتلد فقط، أم أنها الأم التي تربي وتعتني وتسهر على مدى سنوات عمر الابنة؟
نشبه أخوتي الأحباء الطفلة زهرة، لقد وُلِدنا في عائلات رائعة وفرت كل شيء من حب، واهتمام، ورعاية لكن هناك شيء عميق داخل قلب الإنسان يظل يبحث عنه طول الحياة: يبحث عن أصله الحقيقي.
يقول مار شربل: “من قلب الله خرج الانسان والى قلب الله يعود”. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي جاء بنفخة حياة من الله، كان يسير مع الله ويحادثه فهو ابنه المدلل: “مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا” كلمات البسيطة تكشف أن قلب الله كأب حنون يوفر كل شيء لابنه. في نهاية سفر أشعيا النبي يظهر كأم تعتني بطفلها: “فَتَرْضَعُونَ وَعَلَى الأَيْدِي تُحْمَلُونَ وَعَلَى الرُّكْبَتَيْنِ تُدَلَّلُونَ”. الله هو أب، وأجمل بولس الرسول كل شيء في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس: “وَأَكُونَ لَكُمْ أَباً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ» يَقُولُ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (2 كورنثوس 6: 18).
عندما ألتقي فرنسيس بالمصلوب وجد فيه معنى حياته، لم يترك فرنسيس كل شيء من أجل الفقر، كما يقال في كثير من الأحيان، بل كان يسعى إلى أن يعيش ملء الحياة. في لقاءه مع المسيح وجد أخيرًا ما كان يبحث عنه فقرر أن يترك كل شيء آخر، أعده “نفاية” مثلما علم بولس: “إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ” (فيلبي 3: 8).
ليس متمرد أو ابنٌ عاق. أنت ابن الله، ولا شيء يرضيك ابدًا إلا إذا عدت إلى قلبه الذي خرجت منه، وإلى حضنه. الحياة ضائعة، مهما كانت مباهج الحياة، هناك شيء جوهري مفقود نبحث عنه، بوعي أو دون وعي، لكنه حقيقي.
إذا كان الله أب: وَأَكُونَ لَكُمْ أَباً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ» فنحن جميعًا أبناء. فليكن فينا شعور الأبناء: أولاً الثقة الكاملة في الوالدين: لا يوجد ولد عند عودته من مدرسته يشك في أنه لن يجد غذائه جاهزًا، فهو يثق أن أمه تتولى كل شيء. لا يفكر، مثلا، أنه في الشتاء القادم يجب أن يهتم بشراء ملابس الشتاء، فهو يعرف أن والده يفعلان كل شيء أمره. ثانيًا: الإيمان بكل ما يقوله الآباء حتى لو بدأ غير معقول أو غريب. جلس يوما أخوين على شاطئ البحر وقت الغروب، وكان والدهما سبق أن شرح لهما أن الأرض تدور حول الشمس، فقال الكبير للصغير: كيف أقبل أن الأرض هي التي تدور ونحن نرى الأن الشمس هي التي تتحرك وتختفي خلف الجبل ويحل الليل؟ نظر إليه أخوه الصغير قائلا: “لا أعرف كيف، لكن أصدق بابا”. هناك عبارات نطق بها يسوع لن نفهمها الآن، لكن يكفي أن نصدقه ونؤمن به. قال يومًا أن هناك حياةٌ أبدية، كيف لا نعرف، إذا كانت لدينا قلوب الأطفال نؤمن ونصدق دون أن نرى ونلمس بأيدينا: «طوبى للذين آمنوا ولم يَرَوْا» (يو 29:20).
إذا كان الله أب: وَأَكُونَ لَكُمْ أَباً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ» يَقُولُ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فجميع البشر أخوة، أطلق على نفسه لقب “أخ” ورهبانه “أخوة” وقال: الرب أعطاني أخوة. نحن أخوة لأب واحد. بالامس أصدر البابا فرنسيس رسالته الجديدة بعنوان: “جميعنا أخوة” من أمام قبر القديس فرنسيس في عيده لتكون رسالة إلى العالم المتناحر المتصارع بأننا أخوة خرجنا من قلب أب واحد. أطلق فرنسيس على نفسه اسم “الأخ” ودعى رهبانه “إخوة” وفي بداية قانونه الرب أعطاني أخوة. جميعنا مدعو ليعيش هذه العطية حتى مع المختلفين معنا، حتى إذا لم يعاملنا الآخرين بالمثل، يطلب في قانونه أن يمتنع الرهبان متى عاشوا وسط الغير مؤمنين، عن أي جدال أو نقاش، بل يسعوا لخدمتهم بكل تواضع، وهذا ما صنعه الرهبان الفرنسيسكان بخدمة المجتمع المصري.
إذا كان الله أب: وَأَكُونَ لَكُمْ أَباً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ» يَقُولُ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فكل الخليقة أخوة وأخوات لانها خارجة أيضًا من قلب الله الخالق. البابا فرنسيس أصدر من سنتين “كن مسبحا” مستمدة أيضا من روحانية القديس فرنسيس بأن الأرض هي بيتنا المشترك وكل خليقة هي أخ وأخت. وصف أشعيا هذا الزمن الذي فيه تجتمع كل الخليقة بتناغم وسلام حيث يعيش الذئب مع الحمل ويبت النمر بجوار الجدث ويرعى العجل والشبل معًا ويضع الطفل يده في وكر الأفعي. السلام الذي يسود الكون في ظل وجود ملك السلام.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.