إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

الأبوة الروحية

2٬913

تحتل الأبوة الروحية مكانة مميزة في الأدب النسكي في الشرق والغرب على حد سواء، بالرغم من عدم تناوله بصورة واضحة في اللاهوت الكتابي. منذ القرون الأولى ظهرت في المجتمعات المسيحية الناشئة واليهودية أشكالاً من الأبوة الروحية وجدت في بعض شخصيات الكتاب المقدس سندًا لها وعضدًا.

يؤكد كاسيانو الروماني على هذه الفرضية بقوله: “ليس هناك طريقًا للخلاص أكتر أمانًا مِن كشف الأفكار الشخصية للآباء ومعرفة قانون الفضائل الذي أتبعه أولئك الآباء في حياتهم النسكية. هذا النهج يذكره الكتاب المقدس في مواضع كثيرة، وبصفة خاصة ما نجده في حياة صموئيل النبي. فقد دعاه الرب مرتين، وفي كل مرة كان يلجأ إلى عالى الكاهن، مُتبعًا تعاليمه ونصائحه ليعرف كيفَ يُجيب الرب”.

وهناك نص أخر يرجع إلى أحد النساك البيزنطيين في القرن العاشر: “أكد يسوع في حواره مع نيقوديموس على هذا التوجه بقوله: «الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لَكَ: ما مِن أَحَدٍ يُمكِنَه أَن يَرى مَلَكوتَ الله إِلاَّ إِذا وُلِدَ مِن عَلُ». تحدث الولادة من فوق متى خضع الشخص للآباء الروحيين. هكذا وِلدَ الاثني عشر تلميذًا من تعاليم يسوع، والسبعين رسولاً وِلِدوا من تعاليم التلاميذ الاثني عشر وأصبحوا أبناء الله الآب كقول الرسول بولس: “فقَد يَكونُ لَكم أُلوفُ الحُرَّاسِ في المسيح، ولكِن لَيسَ لَكم عِدَّةُ آباء، لأَنِّي أَنا الَّذي وَلَدَكُم بِالبِشارة، في المسيحِ يَسوع” (1 كورنثوس 4: 15).

لذا من الضروري التوقف عند بعض الشخصيات الكتابية لدراسة علاقتها باتباعها والصفات الأساسية للأبوة الروحية من خلال تحليل تلك العلاقات. أعتقد بصفة شخصية إن تلك الصفات هي أساسية أيضًا لعلاقة الأب الروحي مع تلاميذه في أي وقت.

الأبوة الروحية في العهد القديم

النموذج الأول للأب الروحي هو يوسف الذي أضحى وصيًا أبًا لفرعون، كما يصف الوحي الإلهي دوره: “جعَلَني وَصِيُا عِندَ فِرعَونَ، وسيِّدًا لِجميعِ أهلِ بَيتِهِ، ومُتسَلِّطًا على كُلِّ أرضِ مِصْرَ” (تكوين 45: 8). ساعدته حكمته وذكائه في تفسير أحلام فرعون، وبالرغم من صغر سنه، أصبح قائدًا وعُرف عنه إنه رجلٌ فيه روح الله (تكوين 41: 38).

لكن العلاقة الأبوية الروحية الأولى، بالرغم إنها لا توصف صراحة بهذا الوصف، كانت علاقة موسى ويشوع. فيشوع ابن نون: “كانَ خادِمُه يَشوعُ بنُ نُونٍ الشَّابُّ لا يُفارِقُ الخيمةَ” (خروج 33: 11). تبدأ تلك العلاقة الأبوية بتغيير موسى لاسم الصبي من هوشع ابن نون إلى يشوع (العدد 13: 16). أصطحبه معه عند صعوده إلى الجبل (ر. خروج 24: 13)، ويختار لقيادة الشعب من بعده، فيضع عليه يده ليحلَ عليه، كما يقول الوحي الإلهي، روحُ الرب، ويكتسب مهابة موسى ذاته لدي الشعب: “«خذْ يَشوعَ بنَ نُونٍ، فهوَ رَجلٌ فيهِ روحُ الرّبِّ، وضَعْ يدَكَ علَيهِ وأقِمْهُ بمَحضَرٍ مِنْ ألِعازارَ الكاهنِ والجماعةِ كُلِّها خلَفًا لكَ، واَجعَلْ علَيهِ مِنْ مَهابَتِكَ لتَسمَعَ لَه جماعةُ بَني إِسرائيلَ كُلُّها»” (العدد 27- 18-20).

في علاقة موسى ويشوع تظهر اللبنة الأساسية الأولى للأبوة الروحية: ينقل موسى ليشوع تعاليم الله ويُشدد عزيمته ويجعل منه رجلً شجاعًا عارفًا بوصايا الرب وتعاليمه: “فاَذهبْ إلى يَشوعَ وشَدِّدْ عزيمَتَهُ وشجعْهُ لأنَّه هوَ الذي يعبُرُ أمامَ هؤلاءِ الشَّعبِ ويُملِّكُهُمُ الأرضَ التي تراها” (ر. التثنية 3: 21- 28). مؤكدًا له إن الرب سائرٌ أمامه ويكون معه ولا يهمله ولا يتركه (ر. التثنية 31: 8). هذه هي كلمات الوحي: “أمَّا يَشوعُ بنُ نُونٍ فَمُلئَ روحَ حِكمَةٍ، لأنَّ موسى وضَعَ علَيهِ يَدَهُ، فأطاعَهُ بَنو إِسرائيلَ وعَمِلوا كما أمرَ الرّبُّ موسى” (التثنية 34: 9). الإنصات إلى يشوع هو كما الإنصات إلى موسى، وهذا هو جوهر علاقة الأبوة، هكذا يؤكد المدراش اليهودي: “تسلم موسى الشريعة على جبل حوريب، ونقلها إلى يشوع الذي نقلها إلى الآباء والأنبياء الذين بدورهم عملوا على نقلها إلى جماعة الشعب”.

من خلال علاقة موسى ويشوع نكتشف علاقة التصحيح الأبوي بين الأب الروحي وتلميذه. فعندما اعتراض يشوع على حلول نعمة التنبأ على ألدادَ وميدادَ اللذان بقيا، من السبعين شيخًا، في خيمة المحلة وتنبأ. طلب يشوع من موسى “ردعهما”. كان رد موسى على تهور تلميذه: “«أفَتَغارُ لأجلي أنتَ؟ ليتَ جميعَ أُمَّةِ الرّبِّ أنبياءُ يُحِلُّ الرّبُّ روحَهُ علَيهِم»” (العدد 11: 29). يُظهر الحدث بوضوح قيام الأب الروحي بتصحيح ردود فعل التلميذ المتهورة أحيانًا، مُظهرًا له أولوية إرادة الله، طالبًا منه أن تكون حياته ورسالته في ضوء محبة الله لكل الناس فلا تتغلب حماسته وغيرته على رحمته ورعايته لأفراد شعبه.

جانبٌ أخر من جوانب علاقة الأبوة الروحية يقدمها لنا الوحي الإلهي في رواية عالي الكاهن وصموئيل. تكشف النصوص المقدس إن عالي الكاهن كان يجد صعوبة واضحة في التمييز الروحي فلم يفطن إلى صلاة حنة القلبية وظنها سَكْرى لأنها كانت تحرك شفتيها دون أن تُخرج صوتًا. بعد أن سمع شكواها منحها بركته (ر. 1 صموئيل 1: 9- 18).

لدي عالي الكاهن ابنان ولكنه فشل في تربيتهما التربية الدينية السليمة. اعتبر صموئيل ابنا له عوضًا عنهما: “أمَّا صَموئيلُ الصَّبيُّ، فكانَ يَخدُمُ الرّبَّ بإشرافِ عالي” (1 صموئيل 3: 1). في زمن كان كلمة الله نادرة. الله لم يتوقف عن حديثه مع البشر، لكن غلاظة قلوب البشر هي التي تمنع الإنسان من الإصغاء المنتبه لصوت الله، لا يرغبون في قبولها وإتباعها في حياتهم. نادى الرب صموئيل لثلاث مرات وفي كل مرةٍ ينهض من نومه ويذهب إلى عالي الكاهن ليسأله «دَعوتَني، فها أنا». فقط في المرة الثالثة فطن الشيخ إن الله يدعو الصبي باسمه فقال له: «إذهَبْ ونَمْ، وإنْ دَعاكَ صوتٌ فَقُلْ: تكلَّمْ يا ربُّ لأنَّ عبدَكَ سامِعٌ» (1 صموئيل 3: 9). السمع هو في حد ذاته صلاة وبدونه لا يستطيع الإنسان أن يدرك دعوة الله له.

وصف كارو ماريا مارتيني، خبرات عالي الكاهن الروحية مع الله بالضعيفة للغاية، لكن فقر خبرته الشخصية مع الله لم يمنعه من إتمام ما هو ضروري كأب روحي لصموئيل: دور الوسيط بين الله وابنه الروحي بالرغم من الضعف البشري. لعب عالي الكاهن دور الوسيط والمُيسر لأن تصل كلمة الله للصبي صموئيل ومساعدته في تميزها. مِن المهم أن يُدرك الأب الروحي ضعفه ويتحمل ذلك بمسئولية. لا يمنعه ضعفه الشخصي من خدمة الله وتلميذه الروحي، فمن خلا ل ضعفه يمر الرب صوته إلى التلميذ. يخضع عالي الكاهن لكلمة الله القاسية له ولأسرته التي يُعلنها الله بفم تلميذه صموئيل (ر. 1 صموئيل 3: 11- 14. 18) “فقالَ عالي: «هوَ الرّبُّ لِيفعَلْ ما حَسُنَ في عينيهِ». خضع صموئيل لإرادة الله حتى أضحى تلميذًا لتلميذه صموئيل (ر. 1 صموئيل 3: 19). فإذا كان الله اختار صموئيل فالفضل يرجع إلى عالي الكاهن الذي أعده وهيئه إلى ذلك اليوم “أنَّ الرّبَّ اَختارَ صَموئيلَ نبيُا” (1 صموئيل 3: 20).

المثل الثالث التي فيه يتضح بصورة جلية علاقة الأبوة الروحية في العهد القديم، تلك التي تقوم على تربية شخص ما وتعليمه ليُصبح تلميذًا يسير على خطى معلمه وهذا ما نجده في علاقة إيليا النبي وتلميذه أليشع. بعد لقاء إيليا مع الله على جبل حوريب، يدعو إليشع لإتباعه، مُلقيًا عليه رداءه، كعلامة ورمز لقوته الروحية والنبوية، في وقت كان الصبي أليشع يحرث أرضه. يُعد ما قام به إيليا هو المثل الوحيد والواضح لإتباع شخص ما لشخص أخر في العهد القديم. يُظهر الحدث قوة كلمة الله التي حملها إيليا في لقاءه على جبل حوريب، والتي تدفع الصبي لاتباع إيليا النبي، وتساند استجابته للدعوة بقوة. قام أليشع على الفور بترك كل شيء واتباع معلمه والعمل على خدمته: “ثُمَ قامَ وذهَبَ معَ إيليَّا لِيَخدُمَهُ” (1 ملوك 19: 21)، «هُنَا أَلِيشَعُ بْنُ شَافَاطَ الَّذِي كَانَ يَصُبُّ مَاءً عَلَى يَدَيْ إِيلِيَّا» (2 ملوك 3: 11)، وهذا يدل على حياة الشركة والحميمية التي كان تربط التلميذ بمعلمه. هنا نلاحظ إن الوحي الإلهي يُشير إلى كلمة “يَصُبّ” وليس “يتعلم” فالحياة العملية هي أثمن من الدراسة النظرية التي يمكن للأب الروحي أن يمنحها لتلميذه.

عَمِدَ آباء الصحراء إلى التركيز على تقاسم الحياة اليومية مع التلميذ هي النبع الذي منه تُستقى كافة التعاليم لأن الإنسان يتعلم من ملاحظة ردود الأفعال والسلوكيات المنظورة أكثر بكثير من الكلمات والتعاليم النظرية، لأن حياة الآب في هذه الحالة هي المدرسة التي يتعلم فيها التلميذ. “أبي، يكفي أن أراك” لذا لا يذكر الوحي الإلهي، بعد لقاء دعوة أليشع، أي تعليم محدد قام به إيليا تجاه تلميذه الجديد.

عندما صعد إيليا في مركبة من نار إلى السماء، بقي أليشع يصرخ: «يَا أَبِي يَا أَبِي، مَرْكَبَةَ إِسْرَائِيلَ وَفُرْسَانَهَا!» عندها نال التلميذ: «لِيَكُنْ نَصِيبُ اثْنَيْنِ مِنْ رُوحِكَ عَلَيَّ» (2 ملوك 2: 9)، وهو النصيب المُحدد في الشريعة للابن البكر عند تقسيم الميراث الأبوي (ر. التثنية 21: 17). نال أليشع نصيب الاثنين من روح إيليا بعد أن حصُل على ردائه (2 ملوك 2: 13). يتحول أليشع من تلميذ إلى أب كل إسرائيل، الذين رأوه يشق مياه الأردن برداء إيليا فصرخوا “«قَدِ اسْتَقَرَّتْ رُوحُ إِيلِيَّا عَلَى أَلِيشَعَ» (2 ملوك 2: 15). فالأب الروحي ينقل روحه، المرتبط بروح الله ذاته، إلى تلميذه.

من خلال ما سبق يمكن استخلاص بعض المفاهيم الأساسية للأبوة الروحية كما تظهر في العهد القديم:

  1. هي علاقة أبوة يُصحح فيها الأب من توجهات تلميذه
  2. هي علاقة أبوة يلعب الأب دور الوسيط بين الله وابنه الروحي بالرغم من ضعفه البشري
  3. هي علاقة أبوة ينقل فيها الأب روحه، المستمد من علاقته مع الله إلى تلميذه.

الأبوة الروحية في العهد الجديد

يبدأ العهد الجديد بعلاقة أبوة تظهر ملامحها في علاقة يوحنا المعمدان بيسوع، الذي يصفه بالآتي خلفه: “إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي” (يوحنا 1: 15. 30)، وهو مصطلح فني يعكس علاقة التلمذة بين المعلم والتلميذ (ر. مرقس 1: 14- 17 دعوة التلاميذ الأوئل وتكرار كلمة «هَلُمَّ وَرَائِي». . يبدو إن يسوع كان تلميذًا للمعمدان لفترة من الوقت، حتى وقت اعتماده في نهر الأردن. 

في علاقة يسوع مع تلاميذه نلاحظ الشرط الذي وضعه المسيح لاتباعه: “وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ” (مرقس 3: 14). ليؤكد ما سبق الاشارة إليه في علاقة إيليا بأليشع من ضرورة شركة الحياة اليومية التي من خلالها يتعلم التلاميذ، من خلال ملاحظة ردود الأفعال والتوجهات التي تحكم السلوكيات اليومية، أكثر بكثير من التعاليم النظرية. يخاطب المسيح تلاميذه بقوله: “يَا بَنِيَّ”، “يا أبنائي” (ر. مرقس 10: 24) أو “يَا غِلْمَانُ” (ر. يوحنا 21: 5) الأسلوب الذي انتهجه يوحنا من بعده عند مخاطبته للجماعة المسيحية الناشئة (ر. 1 يوحنا 2: 1. 12. 28؛ 3: 7. 18؛ 4: 4؛ 5: 21). كانت علاقة يسوع مع تلاميذه هي علاقة عمل صبور للغاية محاولاً أن يفتح أمامهم نافذة تمكنهم من تصور حقيقة الله والملكوت من خلال الأسلوب القصصي والحكي واستخدام التشبيهات والاستعارة المختلفة. أن يؤمنوا أنهم أبناء الله: “لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ” (متى 5: 45)، وأبناء الملكوت: “بَنُو الْمَلَكُوتِ” (متى 13: 38). من خلال حياة الشركة معه تمكن يسوع في أن يؤمن تلاميذه إنهم أبناء الله حقًا، مشاركين في بنوته هو الشخصية لله، هذا مع عبر عنه بوضوح كاتب الرسالة إلى العبرانيين، مستندًا على قول أشعيا النبي: “«هَا أَنَا وَالأَوْلاَدُ الَّذِينَ أَعْطَانِيهِمِ اللهُ» (عبرانيين 2: 13؛ ر. أشعيا 8: 18). استكمل التلاميذه ذات الأسلوب مع الجماعة المسيحية الأولى، ثم الآباء الكنيسة الأوائل، إلى أن نصل إلى التقاليد الرهبانية التي رأت في “الأباتي” صوت المسيح، كما هو الحال في قانون الرهبنة البندكتية.

بالرغم من تأكيد المسيح لتلاميذه بأن لا يتخذوا أحد أبًا: “ولا تَدْعوا أحدًا على الأرضِ يا أبانا، لأنَّ لكُم أبًا واحدًا هوَ الآبُ السَّماويٌّ” (متى 23: 9). إلا هذا التأكيد يدخل في نطاق مبالغة اليهود في اطلاق مصطلح الأبوة الروحية على كافة المعلمين الروحيين في ذلك الوقت، لذا لا يجب قراءة هذا لنص بصورة حرفية، وإنما من خلال المعنى العام المقصود بأن أصل كل أبوة روحية أو جسدية هو الله الآب ذاته، وكل أبوة روحية كانت أم جسدية هي مشاركة في أبوة الله. وبهذا المعنى يحذر يسوع الشاب الغني بقوله: “لا صالِـحَ إلاّ واحدٌ” (متى 19: 17)، الله وحده. لكنه لم يمتنع عن الحكم على الإنسان كصالح متى شارك في صلاح الله، كذا فالأبوة والروحية تجد أصلها في أبوة الله وتهدف إلى أن تصل بالمؤمن إلى اكتشاف كونه ابنًا محبوبًا مختارًا من الله، كما فعل المعمدان الذي قاد التلاميذ إلى المسيح ثم خرج من المشهد، لأنه يجب أن ينقص حتى ينمو المسيح في علاقته مع المؤمن. وهذا هو جوهر الأبوة الروحية.

يؤكد بولس الرسول في رسائله المختلفة على جوهر الأبوة الروحية هذا والذي استمده بدوره من حنانيا الذي اهتم به وعَمَده بعد أن ظهر له يسوع في طريق دمشق (ر. أعمال 9: 10- 19؛ 22: 12- 16). كما إنه احتاج أن يرافقه بربابا في مسيرة إيمانه دافعًا إياه رويدًا وريدًا داخل الجماعة المسيحية الناشئة في أورشليم (ر. أعمال 9: 26- 30؛ 11: 22- 30)، ودعمه في رحلته التبشيرية الأولى (ر. أعمال 13: 1- 15. 40). بولس الذي لم يتقابل مع المسيح شخصيًا في حياته الأرضية، نُقلت إليه حياة يسوع وتعاليمه بأكملها من خلال الآخرين، عاشها بعمق وفاعلية، ثم قام هو بتسليمها إلى آخرين.

عبر بولس في رسائله المختلفة عن أبوته الروحية لبعض أبناءه الروحيين: تكلم عن أنسيمُسَ: “اَبني أونِسيمُسَ الذي ولَدتُهُ في الإيمانِ وأنا في السِّجنِ” (فليمون 10). وعن تيطس: “إلى تيطُسَ اَبني الحَقيقيِّ في إيمانِنا المُشتَرَكِ” (تيطس 1: 4). ويستخدم كلمات خاصة لوصف علاقته الأبوة بتيموثاوس: “ولذلِكَ أرسَلْتُ إلَيكُم تيموثاوُسَ، اَبني الحبيبَ الأمينَ في الرَّبِّ” (1كورنثوس 4: 17؛ 1تيموثاوس 1: 2. 18؛ 2 تيموثاوس 1: 2؛ 2: 1). ويقول عنه أيضًا: “وأنتُم تَعرِفونَ خِبرَتَهُ وكيفَ خَدَمَ البِشارَةَ مَعي خِدمَةَ الابنِ معَ أبيهِ” (أفسس 2: 22).

تُدخلنا الآية السابقة لموضوع جوهري بالنسبة لبولس الرسول في علاقته مع الجماعة المسيحية التي أَساسها: تتعلق أبوته الروحية وترتبط بخدمة بشارة الإنجيل، دون أن يتجاهل ويلغي الرباط البشري الموجود بينه وبين أبناءه الروحيين، لكن أساس العلاقة وأصلها هو خدمة إنجيل ربنا يسوع المسيح. يظهر هذا بوضوح في أقدم رسالته، الرسالة الأولى إلى تسالونيكي.

“معْ أنَّهُ كانَ لَنا حقًّ علَيكُم لأنَّنا رُسُلُ المَسيحِ. ولكنَّنا حنَونا علَيكُم حُنُوَ الأُمِّ على أولادِها، حتى إنَّنا تمنَّينا لو نُشارِكُكُم في حياتِنا، لا في بشارَةِ الله وحدَها، لأنَّكُم صِرتُم أحبّاءَ إلَينا… كُنَّا لكُم كالأبِ لأولادِهِ كما تعرِفونَ، فوَعظناكُم وشجَّعناكُم وناشَدناكُم جميعًا أنْ تعيشوا عيشَةً تحقُّ لله الذي يدعوكُم إلى ملكوتِهِ ومجدِهِ.” (1 تسالونيكي 2: 7- 8؛ 11- 12).

بولس هو أب وأم في نفس الوقت لتلاميذه الروحيين، مقدمًا لتلاميذه ما أختبره في حياته وعاشه بالفعل. قدم بولس لتلاميذه الروحيين حصيلة ما أختبره هو شخصيًا من أبوة الله معه وحنانه  هكذا يصف الأمر: “فأنتُم تذكُرونَ، أيُّها الإخوةُ، جَهدَنا وتعَبَنا، فكُنَّا نُبشِّرُكُم بشارَةَ الله ونحنُ نعمَلُ في اللَّيلِ والنَّهارِ لِئلاّ نُثقِّلَ على أحدٍ مِنكُم” (1 تسالونيكي 2: 9). بعكس الذي يضع أحمالا على الآخرين لا يستطيع هو أن يعيش وفقًا لها، كما علم الرب في حياته: “يَحزِمونَ أحمالاً ثَقيلَةً شاقَّةَ الحَمْلِ ويُلْقونَها على أكتافِ النّاسِ، ولكنَّهُم لا يُحَرَّكونَ إصْبَعًا تُعينُهُم على حَمْلِها” (متى 23: 4).

القوة الدافعة للأبوة الروحية إذن هي الرغبة في نقل الاختبار الشخص الذي مر به الشخص في علاقته مع الله للآخرين، أن يكون إنجيل مقرؤ أمام أعين تلاميذه. يتطلب هذا معركة روحية لكي لا يحيد الأب الروحي عن الهدف الذي وضعه لنفسه أن يكون إنجيلاً مقرؤاً للآخرين. هكذا يصف بولس الأمر في رسالته إلى غلاطية: “أبنائي الذينَ أتَوَجَّعُ بِهِم مرَّةً أُخرى في مِثلِ وجَعِ الوِلادَةِ حتى تَتكوَّنَ فيهِم صورَةُ المَسيحِ” (غلاطية 4: 19). يؤكد بولس بهذا المبدأ الأساسي للأبوة الروحية وهي معاناة الأب الروحي وتوجعه لأجل أن يُصور المسيح في حياة تلاميذه. سيأتي اليوم الذي ينمو فيه الابن الروحي ويوُلد من رحم المعاناة بعد أن يتشكل فيه صورة يسوع المسيح عندها يجب أن ينسحب ليترك المسيح يقود تلميذه إلى عمق الحياة معه.

الخاتمة:

يُلخص Pierre Lenhardt جوهر الأبوة الروحية بقوله: “كما إن الإنسان الجسدي لا يستطيع أن يقبل الحياة دون والدين، كذلك لا يقبل أيضًا كلمةالله وتعاليم الحياة الروحية بدون أب روحي مُؤسس ومُتجذر في إنجيل ربنا يسوع المسيح. فالمسيحي مدعو لقبول الحياة “الروحية” مِمَن يملك إعطائها، والذي بدوره ينقلها لِمَن يأتي بعده. عكس أورجينوس هذا الجوهري في تعليقه على الرسالة الأولى لكورنثوس بقوله: “لنأخذ مثلا وقدوة من بولس الرسول الذي عَلمَ تيموثاوس الذي تلقى من بولس كل التعليم فذهب بعدها إلى النبع ذاته الذي استقى منه بولس فأضحى مساويًا لبولس.

“لا يولد المسيحي بل يُصبح” كما قال ترتليانوس، بواسطة الأب الروحي أو الأم الروحية الذين عرفوا كيفية قيادته، في نور الروح القدس، بصبرٍ وحب وبحرية كاملة لحياة المسيح، وحياة الله: “فَمِنهُ كُلُّ أُبوَّةٍ في السَّماءِ والأرضِ” (أفسس 3: 15).

المرجع الأساسي للمقال:

Enzo Bianchi: La paternità spirituale per crescere nella fede.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.