كيف نفسر ظاهرة العدوانية لدي الأطفال
زادت الشكوى من تنامي ظاهرة العنف لدي الأطفال ويتساءل الكثير من المربيين عن كيفية التعامل مع مشاغبات الأولاد في البيت أو في المدرسة. في البداية يجب أن نتفق على أنه لا يجب أن نتوقف عند الظاهرة بحد ذاتها رغم كونها مزعجة لنا، بل يجب أن نتساءل: ماذا تعني هذه الظاهرة؟ عما تعبر؟ عدوانية الولد أمر يصدمنا بالطبع، يقلقنا، يُشعرنا بعدم الأمان. لذا يجب تخطى الظاهرة إلى الخلفية التي تنطلق منها وإلى الأسباب الحقيقة التي تؤدي إليها، عندئذ نصبح قادرين على معالجة هذه الظاهرة.
عبر ظاهرة العدوانية، أياً كان مدي إزعاجها لنا كمربيين، بل من خلال هذا الإزعاج عينه، يرغب الولد في أن يقول لنا شيئا، يوجه لنا رسالة. فالولد لا يخاطبنا بالكلام فقط، فكثيرا ما يعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة أو أنه لا يجرؤ على مصارحتنا بها. إنه غالبا ما يخاطبنا عبر سلوكه. فسلوكه له معانٍ ويُفرض علينا أن ندرك هذه المعاني، أن نتلقط الرسالة الصامتة الموجهة إلينا. فالسلوك العدواني هو إذن لغة تخاطب قد تتضمن المعاني التالية:-
• إني أعتقد أنه لا قيمة لي وأنه لا يمكني تأكيد ذاتي من خلال أشياء إيجابية، لذا ألجأ إلى المشاكسة لأفرض ذاتي بها وأكسب قيمة وسط زملائي.
• أو: إني أشعر بأنه لا أحد يهتم بي ولا يتعاطف معي فأحاول بالمشاكسة والعنف أن أضطر الكبار لأن يعترفوا بي ويقيموا لوجودي حساباً دائماً.
• أو: إني أعاني من تسلط العائلة أو المدرسة التي أحسها ساحقة لكياني، لذا تولد عندي شعور بالرفض تجاه كل رموز السلطة، بابا، ماما، الميس وغيرهم من المربيين.
عدوانية الولد ناتجة إذن من الإحباط. وقد أثبتت عدة دراسات نفسية، أشهرها دراسة دولارد، ارتباط العدوان بالإحباط، فلدي الولد حاجة طبيعية إلى الشعور بأنه موجود، بأنه معتبر، بأنه مأخوذ على محمل الجد. وإن من أهم الحاجات التي يؤدي خذلانها عند الولد إلى العدوان، إنما هي الحاجة إلى تأكيد الذات. فإذا ما أحس الولد بأنه فعلا معترف بوجوده، يكون قد أشبع حاجته إلى تأكيد ذاته. أما إذا لم تجد هذه الحاجة الحيوية لديه طريقها إلى الإشباع، فإننا نراه يعبر عن إحباطه بالعدوان والمشاكسة. فالعدوان هو طريقة تأكيد الذات، تعتمد الأسلوب السلبي بدل الأسلوب الإيجابي، يسعى من خلالها الولد إلى نزع اعتراف الآخرين بوجوده من خلال الشغب. ليس لأنه شرير، بل لأنه، في معظم الأحيان، لم يجد مجالاً آخر لتأكيد وجوده فاضطر إلى اللجوء إلى هذا الطريقة المتبقية له. ويسعى من خلالها أيضاً لينتقم، ربما لا شعوريا، من الذين لم يفسحوا مجالاً لتأكيد ذاته، فإنه بالمقابل يسبب لهم المتاعب.
نصل بالتالي إلى نتيجة أكثر إزعاجاً لنا كمربيين فعدوان الولد لا يعنيه وحده فقط، بل يتعداه إلى المحيطين به. هنا يجب أن نساءل أنفسنا: ألسنا مسئولين عن هذا السلوك المزعج الصادر من الولد؟ ألا يعبر هذا السلوك عن إحباط نلحقه به، ربما بدون أن ندري؟ هل نفسح فعلاً أمام الولد ليؤكد ذاته؟ هل نمط تعاملنا معه يترك له هذا المجال؟ فلن نتغلب على عدوانية الولد دون أن نعيد الثقة إليه بنفسه وقدراته وأن نهيئ الفرصة أمامه للتعبير عن نفسه وكيانه.
السلوك العدواني هو ثانياً اختبار من الولد لسلطة المربي. فالولد يضع بمشاكسته سلطة المربي أمام اختبار وينتظر ردة فعل المربي ليكيف على أساسها سلوكه مستقبلا. فإذا قابل المربي مشاكسة الولد بموقف ضعيف، متخاذل، يعتبره الولد بمثابة انتصار أحرزه على مربيه، مما قد يشجعه على الاستمرار في التحدي, كما أن موقف المربي الضعيف والمتخاذل يحبط لدي الولد حاجة خفية إلى سلطة تحميه من نزواته الذاتية وترسم له حدوداً واقية يرتاح إليها في قرارة نفسه ولو تمرد عليها في الظاهر, ويؤدي هذا الإحباط إلى قلق يثير العدوان من جديد. أما إذا قابل المربي مشاكسة الولد بعنف مضاد، ينم على ضعف الثقة بالنفس لدي المربي يتستر من خلاله بالعدوان على من هو أضعف منه جسديا واجتماعيا، فأن الحال سيكون أسوء لأن العنف سيرسخ لدي الولد خوفه من السلطة فيتخذ من عدوانها عليه ذريعة للاستمرار في سلوكه المشاغب والعنيف ليؤكد به رفضه لسيطرة السلطة عليه. الموقف السليم إذن يتطلب من المربي تحاشي التخاذل والعدوان، فيقابل مشاكسة الولد بحزم ممزوج عاطفة فيشعر أمامه الولد بأنه أمام قوة واثقة من نفسها ولا قدرة له على زعزعتها فيطمئن ويتنازل عن مشاغبته وعنفه. السلوك العدواني ثالثا ينبع أو يتغذى من الإحباط الذي يعاني منه الولد من جراء المنهج التقليدي المتبع في التعليم والتربية. هذا المنهج الذي يحكم على الولد بأن يكتفي بتلقي وترداد ما يُلقن من معلومات تنصب عليه من فوق دون أن تكون لم مساهمة فعلية في اكتسابها, دون أن يعبر عن رأيه وأفكاره فيشعر بذاته وقيمته.
أن تكون لم مساهمة فعلية في اكتسابها, دون أن يعبر عن رأيه وأفكاره فيشعر بذاته وقيمته.
هذا المنهج يجعل الولد يتشبث بموقفه العدواني أو العنيد لأنه يجده الأسلوب الوحيد الذي يؤكد به ذاته ويعلن للآخرين عن وجوده.
كيفيه مواجهة الظاهرة تربويا:
• عندما يتصرف الولد بعدوانية يجب أولاً أن لا نعاقبه وأن لا نهتم بمشاكسته لأن الاهتمام بسلوكه المشاكس وعقابه عليه يؤكد له أنه باستطاعته أن يبرز ذاته عبر عدوانيته وبالتالي نكون قد ثبتنا أسلوب التعامل الذي اعتمده لا شعوريا دفاعا عن كيانه. أما إذا تجاوزنا عدوانيته وقابلناه بحزم، دون انفعال (لأن انفعالنا يعطيه شعورا بأنه تمكن منا واستطاع أن يخرجنا من هدوئنا، إنه انتصر علينا)، دون عدوانية (لأن عدوانيتنا تمنحه مبرراً لعدوانيته)، فإنه يكتشف تدريجيا أن ليس كل شيء ممكنا، مما يسمح له من اكتشاف حقيقة ذاته وحقيقة الحياة. كما إن صلابة موقف المربي تمنح الولد شعوراً بالاطمئنان لأنها ترسم له حدوداً واضحة للتعامل. ومن الممكن في حالة تكرار سلوك الولد العدواني أن نلجأ إلى العقاب المعنوي، لكن بعد أن نتفق عليه معه في البداية.
• التركيز على مواهب الولد الإيجابية وتشجيعه مما يشعره بالتقدير من جانب المربي فتعود إليه الثقة بنفسه ويتلاشى مع الزمن شعوره بالتجاهل فلا يعود إلى العنف لإثبات وجوده. وإذا صدر من الولد تصرفا مقبولا، مهما كان صغيراً، فينبغي أن نظهره أمام الجميع ونشيد به. هكذا يكتشف الولد أن ما يسعى إليه من اهتمام وتأكيد للذات يمكن أن يحققه ويصل إليه بوسيلة إيجابية بدل عن الأسلوب السلبي القائم على العنف والتي لا تلقي اهتماما منا كمربيين.
• إتاحة الفرصة أمامه للتعبير عن رأيه ومخالفة رأي مربيه وإبداء معارضته صراحة. لأن هذا الأسلوب يوفر له فرصة تخطى المقاومة السلبية إلى المواجهة المكشوفة التي تعيد ثقته بنفسه وإنه موجود. وتحويل الفصل الدراسي إلى ورشة عمل ناشطة تعمل معا للوصول إلى المعلومة يحقق كثيرا هذا الهدف الذي يسعى إليه الولد المشاغب في أن يكون موجود وبأنه مأخوذ على محمل الجد ورأيه مقبول ومسموع لدي الآخرين.