إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

عيد دخول يسوع الهيكل

0 566

قداس اليوم العالمي الثامن والعشرون للمكرسين في مصر- كنيسة الجيزويت- القاهرة

نحتفل معًا في هذا الصباح بعيد دخول يسوع إلى الهيكل. وهو اليوم الذي اختاره البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1997 ليكون اليوم العالمي للمكرسين. هو عيد قديم بدء في القرن الرابع الميلادي وتحتفل به جميع الطوائف المسيحية وكان يسمى “عيد تطهير مريم”. أعتقد العالم اليهودي قديمًا أن الولادة سببًا لنجاسة تمنع الأم من ممارسة الشعائر الدينية لمدة أربعين يومًا، وبعد ذلك كان عليها أن تخضع لطقوس التطهير كما هو موصوف في سفر اللاويين (لاويين 12: 6.8). في عام 1969 ومع  الاصلاح الليتورجي للبابا بولس السادس تم تغيير اسم العيد إلى “عيد دخول يسوع إلى الهيكل”.

الهدف الرئيسي للعيد هو دخول يسوع إلى هيكله لأول مرة: كما تنبأ ملاخي النبي: “يَأتي إِلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه”. ويلتقي بشعبه الممثل في سمعان الشيخ وحنة النبية. يعلن ملاخي النبي أن اليوم الذي يأتي فيه رب الجنود، اليوم الذي سيدخل فيه السيد إلى هيكله هو يوم مرعب:  فمَنِ يَحتَمِلُ يَومَ مَجيئه؟ ومَنِ يَقوم عندَ ظهورِه؟”

لكن يحدث العكس تمامًا، يأتي السيد إلى هيكله وهو محمول على أيدي والدته ثم ينتقل إلى ذراعي سمعان الشيخ فيدفعه إلى أن يهتف بفرح: “الآنَ تُطلِقُ، يا سَيِّد، عَبدَكَ بِسَلام، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ.. نُورًا يَتَجَلَّى لِلأُمَمِ ومَجدًا لِشَعْبِكَ إِسرائيل”. قدمت العذراء مريم ابنها إلى الهيكل، وسط مئات من الناس المنشغلين بأمور كثيرة: الكهنة واللاويين بخدماتهم الطقسية. المصلين والحجاج الذين جاءوا من بلاد كثيرة للقاء إله اسرائيل. لكن لم يلاحظ أي منهم شيء، كان يسوع طفلاً مثل أي طفل آخر. فقط سمعان وحده رأى في ذلك الطفل الصغير والضعيف “مَسيح الرَّبّ” (آية 26). وحنة النبية، الذي اكتشفا حضور ملك المجد إلى هيكله المقدس بارشاد من الروح القدس.

كل منّا وقف يومًا ما، أمام هيكل الرب، وأعلن أنه يتعهد بأن يكرس حياته وكيانه بشكل دائم لاتباع المسيح. كل منّا مثل سمعان استلم الله الكلمة بفعل تجسده من مريم العذراء: كل منّا قال “نعم” أتجرد وأتخلي عن كل شيء لأمتلئ منك.  

اسمحوا لي أن أتأمل في ثلاث كلمات في إنجيل تقدمة يسوع إلى هيكله:

نُورًا يَتَجَلَّى لِلأُمَمِ: الكلمة الأولى هي النور. اعلن المسيح عن نفسه قائلا: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ». عندما يدخل السيد إلى هيكله، كل شيء يتغير، لأن نوره يكشف كل شيء، يكشف أفكار القلب وخبايا النفس: “لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ”.

في إعلان رائع لمستشفى د. مجدي يعقوب، تتردد أغنية بالكلمات التالية: “جَمِدْ قلبك.. النور مخلوق لعينيك”. يعكس الإعلان حقيقة إن العيون لا تبصر دون الضوء. يكشف الضوء الأشياء فتراها العين. أنت لا ترى في الظلام الدامس، دون الضوء لا يمكن لعينيك أن ترى شيئًا أبدًا. النور مخلوق لعين الإنسان. يكشف نور المسيح أفكار القلب وخفايا النفس ثم ينقيها بنارٍ، كما يقول ملاخي النبي:  “أَنَّهُ مِثْلُ نَارِ الْمُمَحِّصِ وَمِثْلُ أَشْنَانِ الْقَصَّارِ. فَيَجْلِسُ مُمَحِّصاً وَمُنَقِّياً لِلْفِضَّةِ”. يأتي السيد إلى هيكله، يأتي إلى أعماق قلوبنا كمكرسين بنار مطهرة ليحرق الشر الموجود داخل نفوسنا. الرغبات الرديئة، الأنانية. يجلس في هيكله ليمحص الفضة بالنار، حتى تزول عنها الشوائب وتصبح ناصعة يرى فيها وجهه القدوس، فيكون المكرس صورة له على الأرض، إلى الدرجة التي يعلن فيها بولس الرسول: “أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غل ۲۰:۲).

التطهير مؤلم، عبر سمعان عنه لمريم، أول تلاميذ المسيح، بأن كالسيف سينفذ إلى نفسك “وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة”. سيكشف النور كيان التلميذ لكنه لا ليشهر بنه ويكشف ضعفه أمام الناس، بل ليخلصه.

“يَنتَظرُ” الفَرَجَ لإِسرائيل. الكلمة الثانية هي الانتظار. انتظر سمعان وحنة النبية لسنوات طويلة. خدم سمعان في الهيكل وحمل مئات الأطفال بين يديه لاتمام طقوس التطهير في الهيكل. لم يستسلم لخيبات الأمل ولم يفقدا الرجاء أبدًا بسبب توالي الأيام والسنين ورتابة الحياة حتى رأت أخيرًا “عيناه الخلاص” (لو 2، 30). كذلك حنة النبية كانت تأتي للهيكل يوميًا دون كلل، دون التفكير في أنه وقت مهدر، وحياة ضائعة.

وقفنا جميعًا أمام المذبح يومًا ما وتعهدنا بالإخلاص لما تتطلّبه النذور الرهبانية وعيش ملء المحبة وخدمة الجميع. كانا ممتلئين حماس في ذلك اليوم ونحن نتعهد صادقين بالأمانة لتلك العهود، لكن مع صعوبات الحياة المكرسة يمكن أن تدفع البعض للاستسلام لخيبات الأمل.

علينا أن نتعلم من صبر سمعان وحنة النبية وأن نتمسك بالرجاء. أدعوكم أخوتي الأحباء إلى تذكّر نظرة الرب لنا. الله أمين في وعوده لنا، يرأنا جديرين بالثقة، اختارنا لنكون تلاميذه ورسله في العالم: “فأَقامَ مِنهُمُ اثنَي عَشَرَ لِكَي يَصحَبوه، فيُرسِلُهم يُبَشِّرون” (مر 3: 14). إذا اعتمدنا فقط على قدرتنا على التغلب على المشاكل، على ذكائنا، فإننا سنفشل.

فأَتى الـهَيكَلَ بِدافِعٍ مِنَ الرُّوح: الكلمة الثالثة والتي يمكن لها أن تمنحنا القوة لتحمل نار التطهير والرجاء فلا نستسلم لخيبات الأمل مع الصعوبات المتكررة هي دور الروح القدس في حياتنا كمكرسين! ما الذي يحركني كمكرس. سألنا البابا فرنسيس هذا السؤال العام الماضي وأكرره على حضراتكم: ما الذي يحرّكنا: الرّوح القدس أم روح العالم؟ هل الدافع لنا النتائج والنجاحات الباهرة، حتى في الأعمال الصالحة يمكن أن نخفي الدودة النرجسية أو الرغبة في البطولة.

ماذا نحمل بين ذراعينا؟ استقبل سمعان يسوع بين ذراعيه، نحن ماذا نحمل على ذراعينا؟ . وعندما لا تحمل يسوع، فإنّهما تحملان الفراغ وتحاولان أن تملؤهما بأشياء أخرى، لكن يبقى الفراغ. لقد امتلئ سمعان وحنة بالفرح وراحا يسبحان الله. إذا غاب الفرح والاندهاش أمام عجائب الله التي يصنعها فينا بصفة يومية فإن الحياة ستكون قاسية.

نحن أيضا اليوم، مثل سمعان، نريد أن نأخذ يسوع على ذراعينا كي نقدمه للآخرين، وسوف نحصل على هذا بالتأكيد إذا سمحنا لروح الله أن يقودنا علينا أن نكون: قادة منقادون لعمل الروح القدس. 

قد يعجبك ايضا
اترك رد