إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

إناء الخل

0 277

يذكر يوحنا الإنجيلي ملاحظة غريبة جدًا وسط أجواء مشحونة بالألم والخوف والصراخ والدموع. هناك ثلاث أشخاص معلقين على الصليب، أحدهم مسمر بمسامير تخترق العظام، ينزف بفعل إكليل شوك وضع على رأسه وشق جنبه بحربة مسننة. تقف مريم وباقي المريمات ويوحنا بعيدًا يملء قلبهم الحزن والألم والخوف وهم ينظرون ويسمعون يسوع وهو ينازع الموت صارخًا: “: «إِلهي، إِلهي، لِماذا تَرَكْتني؟” وبالرغم من كل هذا  يكون ما يلفت نظر يوحنا هو أمر آخر تمامًا: “كانَ هُناكَ إِناءٌ مَمْلوءٌ خَلاًّ”. أمر غريب للغاية أن يلاحظ يوحنا إن هناك إناء مملؤء (جرة ممتلئة) بالخل في تلك الظروف الصعبة.

يقول القديس يوحنا: “كانَ يَسوعُ يَعلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ قدِ انتَهى، فلِكَي يَتِمَّ الكِتاب، قالَ: «أَنا عَطْشان».وكانَ هُناكَ إِناءٌ مَمْلوءٌ خَلاًّ. فوَضَعوا إِسْفَنجَةً مُبتَلَّةً بِالخَلِّ على ساقِ زوفى، وأَدنَوها مِن فَمِه”. عطش يسوع لأنه منذ وقت صلاته في بستان الزيتون فقد الكثير من سوائل الجسد، يقول الكتاب أن عرقه كان يتصبب كقطرات الدم، والاطباء يعرفون أنه عندما يخسر الإنسان كمية كبيرة من العرق فإنه يعطش. زاد العطش مع حمله الصليب الثقيل ونزفه لكثير من الدماء بفعل أكليل الشوك على رأسه وثقب يداه ورجله وطعنه بالحربة في جنيه. صرخ يسوع أنا عطشان فسقوه من إناء ممتلئ بالخل.

لماذا الخل؟ ولماذا كان تركيز يوحنا على إن الإناء الممتلئ بالخل؟

صرخ يسوع: “أنا عطشان”. بالطبع كان عطشان وبصورة شديدة للماء. لكن هناك عطش آخر ومعنى أكثر عمقًا لعطش يسوع.

في العهد القديم هناك أحادث مهمة ترتبط بكلمة “أنا عطشان”، ففي سفر التكوين 24 يرسل ابراهيم خادمه الأمين إلى الأرض التي خرج منها ليقف عند البئر ويطلب أن يشرب من الفتيات التي يجيئن ليملئن جرارهم بالماء. كانت وصية إبراهيم لخادمه تطلب الماء قائلا: “أَميلي جَرَّتَكِ حتَّى أَشرَب، فتَقول: اِشْرَبْ، وأنا أَسْقي جِمالَكَ أَيضاً، تَكونُ هي الَّتيِ عَيَّنتَها لِعَبدِكَ إِسحق” (تك 24). فحققت رفقة النبؤة فكانت هي زوجة اسحق. ذات الأمر يتكرر مع يعقوب ورحيل (تك 29) وموسى وصفورة (خر2). هو عقد زواج يبدأ بأن يطلب العريس أن يشرب وعندما تسقيه العروس تكون هناك وليمة يأكل العريس والعروس دليل على الترحيب بالزواج ثم يعقد الزواج. طلب المسيح من السامرية قائلا أ «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» لكنه لم يشرب، وعندما عاد التلاميذ أصروا أن يأكل، لأنهم يفهمون الكتاب « يَا مُعَلِّمُ، كُلْ» «أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟»، فكانت إجابة يسوع: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ». أراد التلاميذ أن يتأكدوا إنهم ليس أمام عقد زواج جديد تقبل فيه العروس أن تسقى العريس ثم تجلس معه على مائدة الطعام.

عندما علم يسوع إن كل شيء قد انتهي صرخ العريس في النهاية “أنا عطشان” ينتظر أن تقبل العروس أن تسقيه. الكنيسة هي عروس المسيح كما يعلمنا الكتاب. في رسالته إلى أهل أفسس يوصى بولس الرجال: “أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَاِ” (أف 5: 25). الكنيسة هي عروس المسيح التي يقول عنها سفر الرؤيا في النهاية: “مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا”. يصرخ المسيح للكنيسة قائلا أنا عطشان، فماذا نقدم له اليوم؟

لماذا الخل؟

نقرأ في المزمور 69: 22: “جَعَلوا في طَعامي سَمًّا وسَقَوني في عَطَشي خَلاًّ. من الذي قدم الخل ليسوع؟ الجنود بالطبع فلم يسمح ليهودي أن يقترب من الصليب. كان الجنود يشربون الماء والخل بصورة يومية لأنه كان يحميهم من الأمراض ويقضي على البكتريا الموجود في الماء. كان مشروب الجنود وهو مزاقه حلو ويروي العطش أكثر من الماء الطبيعي. يتم عند خلط ثلاث ملاعق كبيرة من الخل مع الماء وتضاف البهارات والعسل لتحسين النكهة: وكان اسم المشروب “بوسكا”، وكان رخيص جدًا ودائمًا في متناول الجنود الرومان. لدينا روايات تاريخية عن الإمبراطورية الرومانية التي كانت فيها البوسكا تحظي بشعبية كبيرة وسط الجنود لأنها كانت قادرة على إرواء العطش أكثر بكثير من الماء.

كان الجنود يسخرون من يسوع لكن هناك واحد قام بتلك المبادرة المتمثلة في تقديم الإسفنجة المغموسة بالخل والماء لتخفيف آلام يسوع. هو عمل رحمة ليسوع الذي كان ينازع في تلك اللحظة. عمل رحمة صغير للغاية، قدمه الجندي.قدم نبيذ فاسد ممزوج بالماء. هل فكرت يومًا أن تروى عطش الرب؟

سعى الجندي إلى أن يريح الرب من العذاب. هل فكرت أن تريح الرب، تعطي الرب ما يريحه. هل الرب يتعب؟ فعلا! الرب تعبان كثير، ولو بدت هذه غريبة لكنها كتابية. يقول الكتاب المقدس: “لقِد اسْتَخْدَمْتَنِي بِخَطَايَاكَ وَأَتْعَبْتَنِي بِآثَامِكَ” (أشعيا 43: 24). في سفر ملاخي: “لَقَدْ أَتْعَبْتُمُ الرَّبَّ بِكَلاَمِكُمْ” (ملاخي 2: 17). كلامنا تعبت الرب، حياتنا وأفعالنا تعبت الرب، تعبان من أعمالنا وأفكارنا من صلواتنا من تسبيحنا لأننا لا نرنم من القلب. ولأننا لا نصلى من القلب “هذا الشعب يكرمني بشفتيه أما قلبه فبعيد عنه” تعبان الرب من عبادتنا الشكلية الفارغة.

كيف نستطيع أن نريح الرب؟

الإناء (الجرة) مملؤ بالخل، بنبيذ فاسد وغير صالح ممزوج بالماء. الغريب إن الآناء ممتلئ عن آخره، هكذا لاحظ يوحنا الرسول. الكنيسة عروس المسيح وأعضاء الكنيسة اليوم. لا تملك أن تقدم للمسيح خمرًا نقيًا غير فاسد، كل ما يمكن أن تقدمه هو خلا ممزوج بالماء. في أول آيات يسوع يحول الماء إلى خمرًا جيدة، والخمر في الكتاب المقدس هي رمز للحب. لا يمكن أن نقابل ونعامل بالمثل من أحبنا وبلغ به الحب إنه قدم جسده ودمه لأجل خلاصنا: “«هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ. 25اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ بَعْدُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ» (مر 14: 24- 25).

قام الجندي بتقديم اسفنجة ممتلئة خل، نبيذ فاسد. قبل يسوع هذا الحب “الناقص” وجعله خاصته. بؤسنا وحبنا البائس يسوع يشربه، يذوقه ويشعر بقساوته، لكنه لا يرفضه. في الواقع، إن قبولها يوحّدها بالحب الكامل والمجاني الذي يعبّر عنه بتقديم نفسه عنا للآب وإرادته، حاملًا كأس الآلام.

لا نفكر في انجازات كبيرة وأعمال إنسانية ضخمة، حتى لا نشعر بالعجز عن القيام بها لانه لا قدرة لنا عليها. فنرضخ ونستسلم وندخل في نفق الموت بإرادتنا. المسيح يقبل كأس ماء بارد يقدم للآخر، شرط تنفيذه باسم يسوع. ولمجد يسوع وليس مجدنا الشخصي. كثيرون يريدون ويقررون السير على خطى الرب ولكن الكثير منهم أيضاً يتراجعون عن المضي قدماً ظنا منهم أن الالتزام مستحيل!!

لكن الرب لم يطلب من المؤمن العمل فوق قدرته، بل تقديم كأس ماء بارد بحب لأحد العطاش. نعم هذا هو المطلوب العمل البسيط، الصغير، غير المكلف، غير المتعب، العادي جداً جداً جداً…

صنع الجندي وقدم شيء بسيط، غير كامل، لأن الله وحده هو الكامل. يكفي أن تقرر وتلتزم في عمل ولو بسيط. “لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ.” (مر 9: 41).

قد يعجبك ايضا
اترك رد