ثلاث خطوات لمرافقة الدعوات
كنيسة اليوم في أشد الحاجة إلى عمل جاد ومنهجية واضحة بشأن مرافقة الشباب في مسيرتهم ومساعدتهم في اتخاذ خيارات صحيحة ومستقرة وقائمة على أسس ثابتة. هي خدمة تنطلق من دور الكنيسة كأم ومعلمة مهمتها الأساسية هي تربية بنين يتمتعون بحرية مسئولة كأبناء الله. هناك وقت لازم لتنشئة الأبناء حتى ينمو بصورة صحيحة. هذا الوقت هو وقت المرافقة الذي ترافق فيه الكنيسة أولادها لينتقلوا من الظلام إلى النور، من اليأس إلى الرجاء، من العقم إلى الخصوبة، كما صنع يسوع مع تلميذي عماوس.
نقترح هنا دليلاً لمرافقة الدعوات الشابة من ثلاث خطوات في إطار بحثها عن الله ودعوته الخاصة. يستند هذا الدليل على الارشاد الرسولي ما بعد السينودس للبابا فرنسيس CHRISTUS VIVIT المسيح يحيا.
من أين أبدا؟ ما هي الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها لمرافقة شاب (المُرافَق) أو مجموعة من الشباب أو المراهقين في طريق اكتشاف الدعوة “الكهنوتية أو الرهبانية”؟ كمثل التاجر في الإنجيل الذي اكتشف الكنز فباع كل ما يملكه لأجل اقتناه (متى 13: 45) أو الأخوين اللذان تركا الشباك والقارب على بحيرة طبريا (يو 1 ، 38) تبدأ الرحلة بالبحث والتخلي عن هذا الموقف المستقر والآمن ظاهريًا وقبول المخاطرة. نعم ولكن إلى أين؟ ما هو خط سير الرحلة؟
لكن قبل أن نبدأ لابد من الاشارة إلى شخصية المُرافِق نفسه لأن مرافقة الدعوات تتطلب وجود علاقة إنسانية دافئة بين المُرافِق والشباب الباحثين عن الدعوة أو المُرافَقين. يتطلب هذا أن يتمتع في القائم بهذه الخدمة بعض الصفات الخاصة، وفهم الآليات التي يجب اتباعها في خدمته. شخص يعرف الطريق جيدًا ليرافق آخر في طريق لا يعرفه.
“على أَنِّي عُدتُ لا أُبصِرُ لِشِدَّةِ ذلكَ النُّورِ الباهِر. فاقتادَني رُفَقائي بِاليَدِ حتَّى وَصَلتُ إِلى دِمَشق. 12 وكانَ فيها رَجُلٌ يُدْعى حَنَنْيا تَقِيٌّ مُحافِظٌ على الشَّريعَة، يَشهَدُ له جَميعُ اليَهودِ المُقيمينَ هُناك، 13 فأَتاني ووَقَفَ بِجانِبي وقالَ لي: يا أَخي شاُول، أَبصِرْ. وفي تِلكَ السَّاعة رَفَعتُ طَرْفي إِلَيه. 14 فقال: إِنَّ إِلهَ آبائِنا قد أَعَدَّكَ لِنَفسِه لِتَعرِفَ مَشيئَتَه وتَرى البارَّ وتَسمع صَوتَه بِنَفسِه. 15 فَإِنَّكَ ستَكونُ شاهِدًا له أَمامَ جَميعِ النَّاسِ بِما رأَيتَ وسَمِعت. 16 فما لَكَ تَتَردَّدُ بَعدَ ذلِكَ؟ قُمْ فاعتَمِدْ وتَطَهَّرْ مِن خَطاياكَ داعِيًا بِاسمِه” (أعمال 22: 11- 15).
في نص أعمال الرسل يصف بولس الرسول حنانيا الذي رافقه في مرحلة اهتدائه بهذه الصفات: تقي، مشهود له من قبل الآخرين. رجلٌ مدفوع من الروح القدس لخدمة الله حتى عطاء الذات. قاد حنانيا بولس لكي يبصرَ الطريق، وقف بجانبه وساعده ليفهم إرادة الله ومشيئته كاشفًا له خطة الله له. هناك منهج تربوي متكامل في النص السابق يكشف كيف أولى حنانيا اهتمام فريدًا بالشخص وكيف ساعده على تميز دعوته الخاصة ومساعدته في فهم ذاته وإرادة الله وتجاوز الصعوبات الداخلية والخارجية، محثًا إياه على الثقة بنفسه وعدم التردد في اتخاذ القرار.
المُرافِق شخص تقي سبق له معرفة ذاته الحقيقية، دخل في علاقات كثيفة وناضجة مع الآخرين ومع العالم والخليقة. لديه خبرة كافية للحياة، لكنه قرر أن يسلم نفسه كليًا للروح القدس، مصغيًا لكلمة الله بصورة تسمح له لأن يعرف طرق الله وعلامات حضوره في حياة الأشخاص.
الاعتبار الأول هو للشخص:
أن أول الاعتبارات في مرافقة الدعوات هو شخص المُرافَق نفسه. يجب أن تكون علاقة مسئول الدعوات بالشباب الباحثين عن الدعوة هي علاقة إنسانية تتضمن نوع من الشركة للحياة اليومية التي تضمن ملاحظة ردود الأفعال والتوجهات التي تحكم السلوكيات اليومية، أكثر بكثير من التعاليم النظرية. نلاحظ كيف خاطب حنانيا بولس، بالرغم من علمه بالشر الذي صنعه في أوساط المسيحيين: وقالَ لي: يا أَخي شاُول. علاقة إنسانية دافئة تفتح أبواب من الثقة التي على أساسها يمكن للشاب أن يفتح قلبه ويكشف عما يريد أن يكون.
في علاقة المسيح مع تلاميذه نلمس عمله الدؤوب محاولاً أن يفتح أمامهم نافذة تمكنهم من تصور حقيقة الله والملكوت من خلال الأسلوب القصصي والحكي واستخدام التشبيهات والاستعارة المختلفة. أن يؤمنوا أنهم أبناء الله: “لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ” (متى 5: 45)، وأبناء الملكوت: “بَنُو الْمَلَكُوتِ” (متى 13: 38). من خلال حياة الشركة معه تمكن يسوع في أن يؤمن تلاميذه إنهم أبناء الله حقًا، مشاركين في بنوته هو الشخصية لله، هذا مع عبر عنه بوضوح كاتب الرسالة إلى العبرانيين، مستندًا على قول أشعيا النبي: “«هَا أَنَا وَالأَوْلاَدُ الَّذِينَ أَعْطَانِيهِمِ اللهُ» (عبرانيين 2: 13؛ ر. أشعيا 8: 18). هكذا يصنع المُرافِق مع مجموعته فهو ينقل إليهم، ليس بالتعليم النظري، لكن بمعايشة الحياة خطة الله الخاصة بالشخص ودعوته الفريدة، هكذا يعبر حناينا: إِنَّ إِلهَ آبائِنا قد أَعَدَّكَ لِنَفسِه لِتَعرِفَ مَشيئَتَه وتَرى البارَّ وتَسمع صَوتَه بِنَفسِه.
- ما قبل البداية:
لدى الشباب أسئلة جوهرية عن الحياة، والكثير منهم لديه رصيد خبرات جيدة وصنع أشياء صالحة كثيرة ولكن البعض منهم غير راضي عن حياته. يريد شيء أكثر، مثلما طلب الشاب الغني من يسوع: : «يا مُعلِّم، ماذا أَعمَلُ مِن صالحٍ لأَنالَ الحَياةَ الأَبَدِيَّة؟» أي، ما هو العمل الصالح الذي يجب أن أقوم به حتى أحصل على الحياة الأبدية؟ تأتي كلمة أبدية في اللغة اليونانية aionos αιώνος secolo يمكن ترجمتها حياة تستحق أن تعاش.
إن رغبة الشباب تلك هي الحالة المثلى لمرافقتهم وتمييز دعوتهم. يسعى الشاب إلى شيء مختلف مقارنة بالأشياء الكثيرة التي قام بها بالفعل. رغبة الإنسان في شيء أكثر من مجال خدمته التي يقوم بها أو الأعمال الصالحة التي ينفذها، هي لحظة مهمة للغاية للترحيب بالشاب. عندما يتذوق عدم الرضى بالرغم من العديد من الأشياء الجيدة التي قام ويقوم بها ويسأل مرة أخرى ويعبر عن عدم رضاه وتطلعه للمزيد.
نعرف إجابة يسوع على طلب الشاب الغني، اشار أولاً إلى التقليد، إلى الوصايا، على وجه الخصوص إلى وصايا مساعدة القريب ، ومحبته ومحبة الأب والأم. لكن سؤال يسوع عن الوصايا، أو الأعمال الجيدة التي يقوبها الشاب الغني فتحت أمامه أبوابًا جديدة، فهو لم يصل بعد إلى عمق تلك الأعمال الجيدة: “قيل لك”لا تقتل”، لكني أقول لك مَن غَضِبَ على أَخيهِ …؛ سَمِعْتُم أَنَّه قيل .. لكني أقول لك..”. أراد يسوع من الشاب أن يتعمق أكثر ويقول أنه في تلك التجارب “الجيدة” (والعديد منها) ، لم تكن خبرات وصلت بك إلى العمق والرضى. ما هي تلك الخبرة التي تمنح الإنسان الرضى، تعطيه حياة تستحق أن تعاش؟ الجواب الحاسم هو شخص يسوع. المسألة ليست مسألة أعمال صالحة فقط، بل علاقة مع الصالح وحده، مع الخير الوحيد الذي يجعل الإشياء صالحة حقًا.
لذلك فتمييز الدعوات يعني مساعدة الشباب على الانتقال من الاكتفاء بالأعمال الصالحة إلى البحث عن الصالح وحده، من الأعمال الخيرة إلى الخير الأسمى. مرافقة الدعوات تعني مساعدة الشاب من البحث عن الأشياء الصالحة وفعلها والالتزام بها، إلى شخص يسوع المسيح، الخير الأسمى. مساعدة الشاب لا ليسأل من أنا ويجد الإجابة على هذا السؤال، بل ليسأل “أنا لمن؟”
- البداية من الواقع:
من أين نبدأ؟ في الجملة الأخيرة لواقعة الشاب الغني يقول متى الإنجيلي: “فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ” هذه هي نقطة البداية في مجال العمل مع الدعوات الشابة. الإصغاء إلى حزن الشباب الذين يأتون للحديث معنا. لماذا أنت حزين؟ الحزن نعمة والاحباط نعمة فهو يدفعنا للعودة. كم عدد الشباب الذين لم يعودوا قادرين على تحمل الحزن. إنه انهيار كل الأصنام التي هي أعمال صالحة. ووجدوا أن “العمل” لم يعد محتملاً ، لأنهم في الواقع كانوا يبحثون عن شيء آخر.
هنا يأتي دور الإصغاء الفعال للشباب الغير قادرين على احتمال والاكتفاء بالأعمال الصالحة والخدمة التي يقدمونها في الكنائس. في البداية نشير شرط مهم في عملية الإصغاء إلى الآخر، كما أشار إيرك فروم في كتابه فن الإصغاء، وهو جانب الإصغاء إلى الذات. كيف للمُرافِق في أن يفهم الشباب ويساعدهم على اكتشاف دعوتهم الخاص إذا كانت الأداة التي ستعمل والتي ستقرر مجهولة بالنسبة إليه. هكذا وصف إريك فروم الأمر: “نحن المرشد، والقائد لهذا الـ “أنا” الذي يتصرف على نحو ما لنعيش في العالم، ونكوّن القرارات، ونولي الأولويات، وتكون لنا قيم. فإذا كان هذا الـ “أنا”، هذا الفاعل الأساسي الذي يقرر ويفعل، لا نعرفه كما ينبغي فإنه ينجم عن ذلك أن كل أفعالنا، وكل قراراتنا قد تمت بحالة نصف عمياء أو بحالة نصف متيقّظة”. هذا يدفعنا إلى العودة مرة أخرى للكلام عن شخصية المُرافِق وطرق اختياره في الإيبارشيات!!
الإصغاء فن لا يمكن للمُرافِق أن يرتجل فيه بل يتعلمه بصبر وتنمو خبرته فيه يومًا بعد يوم. المرافقة ليست مساعدة نفسية هي تتطلب قبل كل شيء صلاة مطولة خاشعة حتى يتمكن من “التمييز المصلي” للرب وللآخرين. ثم يأتي عنصر الوقت الذي يجب أن يشعر فيه المُرافَق أن وقتي له: الوقت الذي يحتاج إليه للتعبير لي عمّا يريد. هذا الاصغاء هو ما يصنعه الربّ عندما يبدأ بالسير إلى جانب تلميذي عمّاوس ويرافقهما في قسم كبير من الطريق التي هي في الاتّجاه المعاكس للطريق الصحيح (را. لو 24، 13- 35)… يشير هذا الاصغاء المتنبّه والمجّاني إلى المكانة التي يكنّها الشخص الآخر لنا، أبعد من أفكاره وخيارات حياته” (المسيح يحيا 292).
يلاحظ في تعليم البابا فرنسيس (ويظهران جليًا في كتاب فن الإصغاء لإيرك فروم) ضرورة توافر شرطين أساسين في الإصغاء، الأول: هو أكثر من فهم ما يقوله الشاب، بل ان ما يقوله يمكن أن يفتح عيني أنا، كمُرافِق، إلى التخلي عن وجهة نظري الجزئية والغير كافية وعن الطرق التي أراها مناسبة للشخص لأن الحلول نفسها ليست صالحة في جميع الظروف، وما كان مفيًا في إطار ما قد لا يكون مفيدًا في إطار آخر (أفرحوا وابتهجوا: 173). الثاني: هو الثقة بالشاب الباحث عن الدعوة، فساعده لكي يتمكن بالتصريح برأيه وخبراته وتطلعاته دون الحكم عليه أو أن يشعر بأنه يزعجني أو يتعبني بحواره.
- مساعدة الشاب لعيش الحاضر:
يقع على عاتق المُرافِق ضرورة حمل الشباب على عيش حاضره. ينشغل الشباب كثيرًا بأمور كثيرة تدوره حوله لكن لا يعيش حاضره بصورة كافية. يشير الإنجيلي لوقا إلى دعوة المسيح للبعض لاتباعه، لكن الجميع يقدم أعذارًا: “دعني أذهب وأدفن أبي أولاً … نعم ، لكن علي أن أودع أهلي بيت أولاً …”. لم يرفض هؤلاء الشباب دعوة يسوع، لكن كان هناك شيء أكثر إلحاحًا. شيء يجعلهم لا يعيشون حاضرهم، لديه أمور ملحة تخرجهم من حاضرهم والذي، وفقًا لآيات الإنجيل، علاقتهم بالمسيح. “تعال ، اتبعني! تعال ورائي!”.
ماذا يترتب على هذا الوضع؟ ما الذي يعدينا إلى الوجود لأنفسنا؟ إنه ليس شيئًا ولكنه شخص. الطريقة الوحيدة لتكون حاضرًا لنفسك هي ملء حضور يسوع في حياتك والعلاقة مع. تخرجنا أمور ملحة وتجعلنا خارج الحاضر (العالم الافتراضي مثلا) لم يعد أحد في الوقت الحاضر، نحن مركزون في مكان آخر. نحن نعيش ما يسميه آباء الصحراء منفي القلب ، لنقول إن أصعب شيء في العالم هو أن تكون حاضرًا لنفسك. لذا فأن أول آليات المرافقة هي لإعادة الناس إلى الحاضر.
الاعتبار الثاني: التمييز
في الإرشاد الرسولي “اِفَرحوا وابتَهِجوا” يقول قداسة البابا فرنسيس: “لقد أصبح الاستعداد للتمييز في أيّامنا هذه أمرًا ضروريًّا بصورة خاصّة. فالحياة الحاليّة في الواقع تقدّم إمكانيّات هائلة من الأمور التي يمكننا القيام بها أو التي تُلهي، والعالم يقدّمها كما لو كانت كلّها مؤهّلة وصالحة. والجميع معرّض، ولكن بالأخصّ الشبيبة، لخطر “التنقّل” المستمرّ. فمن الممكن الانتقال بالتزامن، بين شاشتين أو ثلاثة، والتفاعل في الوقت نفسه مع سيناريوهات افتراضية مختلفة. دون حكمة التمييز، يمكننا أن نتحوّل بكلّ سهولة إلى دُمى ترضخ للميول الحاليّة” (167).
التمييز يعني “الاستماع إلى صوت” الروح الذي يتكلم فيّ وفي الآخر، ، ويكشف لي إرادة الآب ورغبتي الأعمق والأكثر أصالة. في كل ظرف توجد “كلمة” تدعو / تطلب / تسبب التمييز لاختيار الصالح الذي يجب القيام به: ” اسأل الروح القدس دائمًا ما ينتظره يسوع منك في كلِّ لحظة من حياتك وفي كلِّ خيار عليك القيام به لكي تميِّز المكان الذي يحتلُّه هذا الأمر في رسالتك. ليتك تعرف ما هي تلك الكلمة، ما هي رسالة يسوع تلك التي يرغب الله في قولها للعالم من خلال حياتك. اسمح لذاتك بأن تتحوّل، واسمح للروح القدس بأن يجدّدك، لكي يكون هذا الأمر ممكنًا ولا تضيع هكذا رسالتك الثمينة. إنَّ الربّ سيُتمِّمها أيضًا وسط أخطائك وأوقاتك السلبيّة”.
إن التمييز هو ترك مساحة لعمل الروح داخل قلب الشاب، لذا ما يقوم به المُرافِق هنا هو اتاحة الظروف المناسبة لكي يسمع الشاب الروح القدس في باطنه. مساعدة الشباب الباحث عن الدعوة بأخذهم إلى الصحراء وإن التشويش الموجود في الحياة لا خوف منه متى تعلم الإنسان الثقة في الله، كشعب إسرائيل التائه في البرية. الصحراء أيضًا مكان ممتلئ بالتجارب والوحوش والصراعات والأخطار، كما نجد في إنجيل مرقس فيرافق الشاب على كيفية الثقة في كلمة الله بعد انفصاله عن الأشياء الملحة في حياته. تلك الكلمة التي لا يمكن سماعها إلا عندما تهدأ كل الكلمات والأصوات الأخرى. هناك أيضًا خبرات أخرى مهمة كالجبال والمسيرة والعلية والتدريبات الروحية المختلفة.
- العلاقة الإنسانية مع الشاب
يكون التمييز الروحي ممكنًا إذا كان الاثنان (الذي يميز ومن يرافق) يتصلان ببعضهما البعض “مثل الآب والابن” أو أقله مع أخٍ أكبر، فلا يمكن تحقيق التمييز فقط من خلال النظر إلى الذات ولكن من خلال الآراء التي تأتي من خارج الذات. هناك حاجة لدي الشباب في مشاركة مساحات من حياتهم الشخصية مع آخر يمثل بالنسبة لهم مصدر للثقة والأمان. عندما يتعامل المُرافِق بمشاعر أبوية حصيلة فهمه لدوره كأب روحي لبعض الآبناء. لقد سبق أن أختبر هو شخصيًا كونه ابن لقامة روحية رافقته في الطريق. في المثل الذي أشرنا إليه سابقًا (حنانيا وبولس) نلاحظ كيف اختبر بولس احتواء حناينا له (يا أَخي شاُول.. بالرغم من معرفته مع مَن يتكلم) ودعمه له بأن يكشف له أن الله قد سبق فاعده لهذه المهمة (إِنَّ إِلهَ آبائِنا قد أَعَدَّكَ لِنَفسِه… )، وتشجيعه له بأن سيكون شاهدًا (ستَكونُ شاهِدًا له أَمامَ جَميعِ النَّاسِ) ثم محاولة مساعدته أن يتغلب على خوفه وتردده قائلا في النهاية (فما لَكَ تَتَردَّدُ بَعدَ ذلِكَ؟ قُمْ فاعتَمِدْ..)
لذا ليس غريبًا أن يمارس بولس تلك المنهجية فيرافق آخرين ويعتبرهم أبناء روحيين له يقول عن تيموثاوس: “اَبني الحبيبَ الأمينَ في الرَّبِّ” (1كورنثوس 4: 17)؛ “وأنتُم تَعرِفونَ خِبرَتَهُ وكيفَ خَدَمَ البِشارَةَ مَعي خِدمَةَ الابنِ معَ أبيهِ” (أفسس 2: 22). تتعلق أبوة المُرافِق بخدمة بشارة الإنجيل، دون أن يتجاهل ويلغي الرباط البشري الموجود بينه وبين أبناءه الروحيين، لكن أساس العلاقة وأصلها هو خدمة إنجيل ربنا يسوع المسيح. “معْ أنَّهُ كانَ لَنا حقًّ علَيكُم لأنَّنا رُسُلُ المَسيحِ. ولكنَّنا حنَونا علَيكُم حُنُوَ الأُمِّ على أولادِها، حتى إنَّنا تمنَّينا لو نُشارِكُكُم في حياتِنا، لا في بشارَةِ الله وحدَها، لأنَّكُم صِرتُم أحبّاءَ إلَينا… كُنَّا لكُم كالأبِ لأولادِهِ كما تعرِفونَ، فوَعظناكُم وشجَّعناكُم وناشَدناكُم جميعًا أنْ تعيشوا عيشَةً تحقُّ لله الذي يدعوكُم إلى ملكوتِهِ ومجدِهِ.” (1 تسالونيكي 2: 7- 8؛ 11- 12).
القوة الدافعة لأبوة المُرافِق إذن هي الرغبة في نقل الاختبار الشخص الذي مر به الشخص في علاقته مع الله للآخرين، أن يكون إنجيل مقرؤ أمام أعين تلاميذه. يتطلب هذا معركة روحية لكي لا يحيد المُرافِق عن الهدف الذي وضعه لنفسه أن يكون إنجيلاً مقرؤاً للآخرين. هكذا يصف بولس الأمر في رسالته إلى غلاطية: “أبنائي الذينَ أتَوَجَّعُ بِهِم مرَّةً أُخرى في مِثلِ وجَعِ الوِلادَةِ حتى تَتكوَّنَ فيهِم صورَةُ المَسيحِ” (غلاطية 4: 19). يؤكد بولس بهذا المبدأ الأساسي وهي معاناة المرافق وتوجعه لأجل أن يُصور المسيح في حياة تلاميذه. سيأتي اليوم الذي ينمو فيه الابن (المُرافَق) ويوُلد من رحم المعاناة بعد أن يتشكل فيه صورة يسوع المسيح عندها يجب أن ينسحب ليترك المسيح يقود تلميذه إلى عمق الحياة معه.
- فهم المشاعر الداخلية
توفر علاقة الأب بالابن علاقة شركة وثقة تسمح للشاب بأن يكشف مشاعره وأفكاره واحلامه بصورة سلسلة دون تحفظ فهو يعلم أنه محبوب من المُرافِق ومهم بالنسبة له. هذا أمر مهم جدًا لأن التمييز يعني إدراك وتفسير ليس فقط الأفكار الإيجابية والخيرة التي يفكر فيها الشاب كخدمة أفضل يمكن أن يقوم بها بل الأفكار الشريرة أيضًا. التمييز يتطلب أن يدرك الطرفان الخمر الجيدة الآتية من الله أو من روح العالم وروح الشرير. هذا هو التمييز: التعرف على المشاعر الداخلية وتفسيرها واختبارها. فجميع قرارات الإنسان تكون مدفوعة من دوافعه ورغباته ومخاوفه فيجب التعرف علي مصدرها هل من الله أم من الشرير، خمر جيدة أم من روح العالم وإبليس لأنّ قوّة الشرّير تقودنا إلى عدم التغيير، إلى ترك الأمور على حالها، إلى اختيار الجمود والصلابة، فنمنع الروحَ بالتالي أن يعمل فينا. إننا أحرار، بحرّية يسوع، لكنّه يدعونا لنفحص ما في داخلنا –رغبات، قلقا، مخاوف، تطلّعات- وما يحدث خارجنا –”علامات الأزمنة”- كي ندرك طرق ملء الحرّية: “اختَبِروا كُلَّ شَيءٍ وتَمسَّكوا بِالحَسَن” (1 تس 5، 21).
لا يتعلق الأمر برؤية ما إذا كان ما نقوم به جيدًا أم سيئًا ، بل يتعلق بتدوين ما يحدث داخلنا حتى بدون علمنا، من أجل التقدم أكثر فأكثر نحو مزيد من الشفافية. لا يوجد تقدم روحي حقيقي إذا لم ندرك العالم الذي نحمله في الداخل.
الاعتبار الثالث: الاهتمام لما يريد الشاب أن يكون
إن لمرافقة الدعوات هدفين أساسين، الأول: مساعدة الشاب في اكتشاف عمل الله في حياته. والثاني: مساعدته في إعطاء إجابة محددة، حرة ومسئولة، عن نداء الله له.
للوصول إلى الهدف الأول على المُرافِق أن يساعد الشاب في اكتشاف وجود الله وعمله في حياته، وذلك بالتعرف على نداءات الله من خلال حياة الشاب اليومية. يعبر الكثير من الشباب على رغباتهم بالتكريس أو الخدمة الكهنوتية يمييز المُرافِق إلى عمق اجابته على السؤال: ماذا تريد؟
ليس الإجابة السطحية واللفظية بل اجابات الأفعال والاختيارات الملموسة واليومية. يرافق الشاب في هذه المرحلة على ضوء كلمة الله التي تكشف له عمل الله في حياته ودعوته الفريدة له باتباعه. هذا ما وفره حنانيا لبولس بقوله: إِنَّ إِلهَ آبائِنا قد أَعَدَّكَ لِنَفسِه لِتَعرِفَ مَشيئَتَه وتَرى البارَّ وتَسمع صَوتَه بِنَفسِه. لقد كشف حنانيا ليولس عن خطة الله الذي أعده ليكون رسوله، والتي عبر عنها بوضوح في رسالته غلاطية: “وَلَكِنْ، لَمَّا سُرَّ اللهُ، الَّذِي كَانَ قَدْ أَفْرَزَنِي وَأَنَا فِي بَطْنِ أُمِّي ثُمَّ دَعَانِي بِنِعْمَتِهِ، أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ” (غلا 1: 15- 16). ما فعله حنانيا أن وجه نظر بولس ليفكر ويتأمل في خطة الله له الأمر الذي وصل بالأخير لأن يرى أن الله دعاه من بطن أمه، بالرغم من حياته السابقة واضطهاده للمسيحيين الأوائل.
يتحقق الهدف الثاني متى ساعد المُرافِق الشاب على اعطاء اجابة، حرة ومسئولة، على دعوة الله له. من الضروري الانتباه إلى أن الشخص هو الذي يبني نفسه بنفسه، لذا على المُرافِق أن يعمل على تكونيه في “كيفية” القيام بهذا الاختيار ولا يملئ أو ينصح ولا يفرض مسارًا بعينه لأن الأشخاص أحرار ودعوة الله هي فريدة جدًا لكل شخص على حدة. في هذه المرحلة. يعمل فقط على تحفيزه مظهرًا قدرته على الاختيار الواعي والصحيح. ” لأن التمييز الجيّد، في النهاية، هو مسيرة حرّية تنير الواقع الفريد لكلّ شخص، تلك الحقيقة التي يملكها، والتي هي شخصيّة، والتي وحده الله يعلمها. لا يمكن للآخرين أن يفهموا تمامًا ولا أن يتوقّعوا من الخارج كيف ستتطوّر” (المسيح يحيا: 295).
كما على المُرافِق أن يتعلم وقت الانسحاب حتى يسمح للشاب بحرية مواصلة الطريق دون ضغوط: ” يجب أن يختفي في مرحلة معيّنة ليسمح له بمتابعة المسار الذي اكتشفه. يختفي كما يختفي الربّ من أنظار تلميذيه، تاركا إياهما وحدهما مع لهف القلب الذي يتحوّل إلى دافعٍ للانطلاق لا يمكن مقاومته (را. لو 24، 31- 33). وعند عودتهما إلى الجماعة، ينال تلميذا عمّاوس التأكيد بأن الربّ قد قام حقًا (را. لو 24، 34)، (المسيح يحيا: 296).