تمييز الدعوة
هناك ضرورة ملحة للتمييز الروحي أكان على المستوى الشخصي أو الجماعي، كما يُعلم البابا فرنسيس. لقد سبق أن حذر الرسل المسيحيين الأوائل: “أَيُّها الأحِبَّاء، لا تَركُنوا إِلى كُلِّ رُوح بلِ اَختَبِروا الأَرواحَ لِتَرَوا هل هي مِن عِندِ الله. لأَنَّ كثيرًا مِنَ الأَنبِياءِ الكَذَّابينَ انتَشروا في العالَم” (1 يو 4: 1). إنّ روح الشرّ يهاجم كل واحد منا بنقاط ضعفه، بالنقاط التي لا يراها جيدًا أو حتى أحيانًا نكون عميانًا فلا نراها أبدًا. إنّ مساعدة شخص خبير هي غالبًا ما تكون قيّمة وضرورية من أجل التمييز بين العدو والروح القدس. والجماعة هي شبيهة بالإنسان أيضًا فهي تملك نقاط ضعفها.
لكن ما هو هذا التمييز؟
في مزمور 119: 66، نقرأ: “عَلِّمْني الحُكمَ الصَّائِبَ والمَعرِفَة فإِنِّي قد آمَنتُ بِوَصاياكَ”. فالإنسان يميّز تمييزاً، أن يحكم ويفصل ويغربل الخير من الشرّ، عمل الله من عمل الشرير؟ إنّ كلمة “روح” تعني قوة خارجة عن الإنسان، قد تكون سيئة أو خيّرة. يستقبله الإنسان ويتجاوب ويتعاون معه. أي إنّ الإنسان له علاقة بهذا الأمر سواء للخير أو للشرّ، وهي قوة تتمايز عنه، وهو يتعاون معها ولكنّه قادر أن يتحرر منها. هذا معنى صراع يسوع ضد روح الشرّ في الإنجيل، ويسوع عندما يصارع الشيطان فهو يصارع القوّة التي تسيطر على الإنسان. قال الرب يسوع وهو يتحدث إلى تلاميذه عن الفريسيين: “لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لِأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ” (متى 13: 11). لأن الشيطان قد “أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ” (كورنثوس الثانية 4: 4)، لذلك يجب أن يمنح الله النور للذهن البشري حتى نفهم الحق. من المستحيل الحصول على الحكمة بدون الله. فهو الذي يمنح التمييز أو يأخذه (أيوب 12: 19-21).
طبيعة التمييز الروحي
التمييز الروحي هو إذن وسيلة لمعرفة إرادة الله في حياتي الشخصية. فهي ليس كما هو مُعتقد أحياناً، نوع من التحليل النفسي، لأتعرف على ميولي ورغباتي ودوافع رفضي ومقاومتي لبعض الأحداث.
نحن نتكلم، في الواقع، عن التمييز الروحي، أي “بروح الله”. ولذلك فهي ممارسة للاستماع إلى الروح القدس الذي يدخل ويتصرف في تاريخي، وبالتالي أيضا في شخصيتي. الاستماع إلى الروح القدس الذي يتكلم فيّ وفي الآخر، ويكشف لي إرادة الآب ورغباتي الأعمق والأكثر أصالة. في كل ظرف توجد “كلمة” تدعو / تطلب / تسبب التمييز لاختيار الصالح الذي يجب القيام به: “اسأل الروح القدس دائمًا ما ينتظره يسوع منك في كلِّ لحظة من حياتك وفي كلِّ خيار عليك القيام به لكي تميِّز المكان الذي يحتلُّه هذا الأمر في رسالتك. ليتك تعرف ما هي تلك الكلمة، ما هي رسالة يسوع تلك التي يرغب الله في قولها للعالم من خلال حياتك. اسمح لذاتك بأن تتحوّل، واسمح للروح القدس بأن يجدّدك، لكي يكون هذا الأمر ممكنًا ولا تضيع هكذا رسالتك الثمينة. إنَّ الربّ سيُتمِّمها أيضًا وسط أخطائك وأوقاتك السلبيّة”.
بعبارة أخرى، فإن التمييز هو الاستماع إلى كلمة الله تلك التي لم يكتبها أحد من قبل. انها ليست قراءة الكتاب المقدس للعثور على كلمة “الحق”، مكتوبة هناك والتي يمكن أن تعكس ظروف حياتي الحالية. انها ليست مجرد الاستماع إلى التأمل، حيث أسمع أخيرا كلمة التي يبدو أن موجهة لي. هي كلمة خاصة جدًا، “غير مكتوبة” لم تُعلن من قبل، لا يزال يتردد صداها اليوم في الكنيسة، لكن لا يمكن العثور عليها في أي شخص آخر، هي لك وحدك فقط، وموجهة لك شخصيًا.
مراحل التمييز الروحي
سيكون تركيزي منصب فقط على التمييز في مجال دعوات المكرسين، وليس التمييز الروحي العام. هي العملية التي غنى عنها لأجل مساعدة الشاب في اكتشاف دعوة الله له. كيفية استماعه لصوت الروح، لتلك الكلمة الخاصة جدًا التي يوجهها روح الله له خصيصًا ولم يسبق أن نطق بها من قبل. كيف يستجيب للدعوة التي يوجهها الرب له؟
أولاً: تنقية القلب وشفاءه
يجب أن نسعى أولا إلى تنقية حقيقية، وشفاء القلب من كل الخطايا الشخصية والحاضرة في حياتنا. وهذا يعني فصل أنفسنا وتحريرنا من ميولنا الخاطئة، من عواطفنا الأنانية أو الفردية أو النرجسية، من أي وهم أو توقع زائف. لا مجال للتمييز الروحي والقلب والفكر مثقلان بالخطايا والميول الخاطئة التي تُستولى على قلوبنا وتؤثر بعمق على رغبته في الخير والحب.
ثانيًا: التأمل في كلمة الله وتفسيرها
أما المرحلة الثانية، المرتبطة جداً باللحظة السابقة، فهي التأمل في كلمة الله، أي انعكاس خطة الله على تاريخ الإنسان والتأمل المطول فيها، كما أبلغنا بها الوحي، وهو وارد في الإنجيل وفي الكتاب المقدس. التأمل في كلمة الله هو أنسب أرضية للتميّز الروحي. في حين يمكن تصور اللحظة الأولى على أنها تطهير أرض تحتلها أشياء كثيرة غير مجدية، فإن وقت العمل الثاني هذا يقودنا إلى عالم الله ومشاريعه.
هي مرحلة إدراك لسر الله في حياتي وتلك الرغبات والمشاعر والعواطف التي أقراها في داخلي في ضوء كلمة الله. مجموعة متنوعة من ”الرغبات والمشاعر والعواطف“ مثل: الحزن، والظلام، والامتلاء بالذات، والخوف، والفرح، والسلام، والشعور بالفراغ، والحنان، والغضب، والرجاء، والفتور، إلخ. أشعر بأنني منجذب أو غارق في اتجاهات متضاربة، لا يبدو لي أي منها الاتجاه الذي يجب أن أسلكه بوضوح؛ إنه وقت صعود وهبوط وفي بعض الحالات صراع داخلي حقيقي. يتطلب الإدراك إظهار هذا الثراء العاطفي على السطح وتسمية هذه المشاعر دون الحكم عليها. كما يتطلب أيضًا إدراك ”مذاق – الطعم“ الذي تتركه وراءها، أي التوافق أو التنافر بين ما أختبره وما هو في أعماقي في الداخل.
يحرك التأمل في كلمة الله التواصل مع ذاتي الحقيقية ورغباتي المدفونة، وفي نفس الوقت تتيح فرصة لأخراجها من أعماقي. تركز مرحلة الإدراك على قدرة الشخص على الإصغاء والتجاوب العاطفي مع كلمة الله، دون التهرب من جهد الصمت بدافع الخوف. إنها خطوة أساسية في طريق النضج الشخصي، خاصة بالنسبة للشباب الذين يختبرون قوة الرغبات بشكل مكثف وقد يشعرون بالخوف منها، وربما يتخلون عن الخطوات الكبيرة التي يشعرون بأنهم مدفوعون إليها.
في رواية صراع يعقوب مع الله. نلاحظ أنه عندما طلب يعقوب من الرجل أن يباركه (الآية 27). سأل الغريب يعقوب عن اسمه. ولهذا السؤال معنى روحي عميق. فعندما سرق يعقوب البركة، سُئل من أنت؟ كذب يعقوب وتظاهر بأنه عيسو.
ليس هناك علاقة مع الله الحي إلا عندما يكون الإنسان ذاته! عندما يعترف بنقائصه وخطاياه ويطهر نفسه بالتوبة. يحرك التأمل في الكلمة مشاعري ورغباتي الحقيقية وأسأل نفسي: هل أنا صادق مع نفسي والله؟ هل أرغب حقيقة في خدمته؟ هل هناك رغبات مدفونة مغايرة تدفعني لهذا الاختيار؟
لا يكفي أن نختبر مشاعرنا الحقيقية أمام كلمة الله، بل من الضروري “تفسيرها”، أو بعبارة أخرى أن أفهم ما يدعوني إليه الروح من خلال ما يثيره فيّ وفي قلبي. في كثير من الأحيان يتوقف الإنسان عند الشكل الخارجي للحدث الإنجيلي أو الكلمة ويقول “مذهلة ورائعة” لكن الأصعب أن نفهم أصل ومعنى الرغبات والمشاعر التي نشعر بها وأن نقيّم ما إذا كانت توجهنا في اتجاه بنّاء أم أنها تقودنا بدلاً من ذلك إلى الانطواء على أنفسنا.
من أجل تفسير الرغبات والدوافع الداخلية، من الضروري أن يواجه الإنسان نفسه بصدق، في ضوء كلمة الله، وأيضًا مع المتطلبات الأخلاقية للحياة المسيحية، محاولًا دائمًا وضعها في الوضع الملموس الذي يعيشه. هذا الجهد يحث من يبذلونه على عدم الاكتفاء بالمنطق أو تفسيرات الآخرين، بل يسعى لإقامة حوار حقيقي مع الرب. هنا تظهر أهمية الارشاد الروحي عند شخص أختبر الإصغاء إلى الروح القدس في حياته. ما يقوم به المُرافِق هنا هو اتاحة الظروف المناسبة لكي يسمع الشاب الروح القدس في باطنه.
ثالثًا: الحكم أو تقييم أحداث الحياة
المرحلة الثالثة هي “الحكم”، سيكون من الأفضل أن نقول، بكلماتنا الخاصة، قراءة عميقة وواضحة وتقييم للأحداث الداخلية الروحية. هنا يتم التمييز للتفكير في الذات، حقيقية “الانغماس الكامل” في العالم الداخلي والسري لقلب الإنسان.
إنه ليس فقط انعكاساً نفسياً، بل تقييم شامل لحياتي الداخلية: أستطيع أن أرى، على سبيل المثال، التأرجح في داخلي بين الحماس والحزن، والأفراح والرفض، الاحتمالات والمخاوف… من كل هذا الواقع، أستطيع أن أقرأ تدريجيا أعمق الميول الداخلية لدي، وذلك لرؤية أصيلة، كما أنا حقا، أمام الله.
هي مرحلة شاقة تمتلئ بالعقبات والتجارب، هكذا يعلم بنى سيراخ: “يا بُنَيَّ، إِن أَقبَلتَ لِخِدمَةِ الرَّبِّ فأَعْدِدْ نَفْسَكَ لِلمِحنَة” (سير 2: 1). تلك هي القاعدة يجب علينا أن نستعد للعقبات التي سوف تظهر بشكل غير متوقع! هي مسيرة كالصعود إلى الجبل، تزداد صعوبة لكما صعدت فالعضلات لا تتحرك بشكل جيد، والتنفس يلهث، القلب يدق بصورة اسرع. هذا الطريق صعب في البداية والمرونة البدنية ليست لدينا لأننا نفتقر إلى التدريب!
العقبات الواضحة والمرئية
من بين العقبات بدءا ، بالإضافة إلى تلك المتعلقة بصورة أنفسنا (على سبيل المثال “ماذا سيفكر أصدقائي أو والدي”؟) الأكثر وضوحا يبدو لي ما يمكن أن نسميه الجهد المطلوب لأجل التخلي عن نمط حياتي المعتاد، أو توارد أفكار مثل “إني مازلت شابًا لم أتمتع بالحياة بالدرجة الكافية!”.
هذه الطريقة في التفكير، حتى لو لم تؤد بالضرورة إلى عواقب وخيمة، تنتج العجز العملي عن اتخاذ قرار يبدو إنه غير جذاب في بداية الطريق، وربما يتطلب أيضا التعب والمثابرة والالتزام. ويلاحظ أن معظم الشباب الباحثين عن معنى حياتهم، لا يتغلبون على صعوبة بدء الرحلة أو المجازفة الأولى، لأنهم يفضلون الراحة التي أعتادوها، فالتغيير مخيف أحيانًا.
نقص الثقة بالنفس
عقبة اخرى هي الشعور بأن الله لا يمكن أن يفكر بي، فأنا لا أصلح، ليس لدي أمكانيات التي تؤهلني. كل هذا يمنعنا المغامرة والرجاء في قوة الله التي تعمل فينا.
هناك أيضًا الخوف اللاواعي من أن هذا الطريق يتطلب الكثير من الجهد. ربما بعد ذلك الرب يجلب لي نداءات أخشى منها، سيطلب الله طلبات لن أتمكن من تحقيقها: “ماذا لو طلب مني أن أختار …؟”
عقبة أخرى نفسية: عدم وجود الشجاعة بقبول ضعفاتي وعيوبي الشخصية والنفسية والجسدية والتي تجعلني مترددًا في البدء. كيف أكرس حياتي وأنا أعاني من تلك العيوب. يتصور البعض بأن “واجب” الله أن يحررني من كل تلك العقبات متى أختارني لهذا الطريق، وهذا ما يعطل الكثير من الشباب عن إتخاذ القرار الصحيح.
الكثير من الشكوك
بالنسبة للبعض هي الشكوك حول الإيمان والله نفسه وأنا في كثير من الأحيان مسيحي غير ممارس وليس لي خبرات روحية كافية؟ ومن المؤكد أنها مشكلة حقيقية ويمكن أن تشل الخطوة الأولى، وهي الخطوة المتمثلة في المغادرة.
في الواقع، بمكن معرفة الله فقط عندما نحبه. لأن الله هو الحب؛ يمكن معرفته فقط متى تقدمت نحوه لأن الله ينتظر دائما ويديه مفتوحتان بحضن أبوي كبير ينتظر أن تخطو خطوتك الأولى، كما في مثل الابن الأصغر. عندنا ستجده مرحبًا، بل سيعطيك ذاته كليًا. الخوف من التحرك تجاه سيجعلني دائما في مكاني.