إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

الخوف عند الأطفال

0 985

ترتبط الأم ارتباطاً وثيقاً بعالم الطفل الغامض وما فيه من شهوات ومشاعر، وتلعب دوراً هاماً فيه، فهي أقرب الناس إليه، عندها دفئهُ وقوام حياته، وإشباع رغباته، وهي التي تُعدّل رغباته البسيطة، وتعيّن أوقات التغذية والنوم لديه، لذا فهي التي تعطي الطابع الخاص لسروره وآلامه، وتغدو صلتها وثيقة بحاجاته وحركاته البدنية لذلك فقد اعتُبِرَت أولى العوامل المؤثرة في تربية الطفل. والطفل كأيِّ كائن حيٍّ آخر يخضع لنظام منسجم ذي فترات منتظمة، فدقات القلب، وسرعة التنفس، وتَعاقُب النوم واليقظة أمثلة تؤكد كلها ميل الحياة إلى الانتظام، ويترتب على الأم أن تساعد الطبيعة في هذا النظام الدقيق التوقيت، وتعمل على تنظيم النشاط التلقائي للطفل حتى يسود التوافق الطبيعي حياته، وبذلك نجد أن الطفل لا يتنازل بسهولة عن اعتماده على أمه، وما ينطوي على ذلك الاعتماد من لذة وسعادة، فالطفل الذي يرزق بأم حكيمة، واعية لا تُغدِق العطف عليه جزافاً، ولا تدعه يتحكم فيها أو برغباته الملحّة، بل تغرس في نفسه حبّ الاتصال بمن حوله، وتشجعه على ضرورة الاتصال بالعالم الخارجي، مِثْلُ هذا الطفل ينشأ حراً، غير مقيد بقيود تمنعه من تحقيق ذلك الاتصال والتواصل.

أما إذا فشل الطفل في التحرر من أمه فإن نموه الوجداني يقف عاجزاً عن توجيه حبه وإخلاصه نحو غيرها من الناس، وهكذا يظل مقيداً نحوها، مشدوداً إليها، غيوراً على حبها، خائفاً أن يقوم أحدهم بسرقة ذلك الحبِّ منه.

فما هو الخوف إذاً؟ وممَّ يخاف الطفل؟ وكيف يتولد ذلك الخوف لديه؟ وما الأثر الذي يتركه في سلوك الطفل؟…

من المعلوم أن الطفل ومنذ الأيام الأولى لولادته يستجيب لما يدور في محيطه الخارجي، فهو يحرك عينيه عندما يواجه نوراً ساطعاً، ويلجأ إلى الصراخ والإتيان بحركات دفاعية معينة، وتتصلب عضلاته حين يسمع أصواتاً عالية.

هذه الإستجابة أو هذا السلوك الذي يقوم به الطفل إزاء حادث يهدده يسمى ” خوفاً ” أو ذعراً، فالخوف هو مجموع الحركات، والصراخ، وتغيرات اللون، واتساع حدقة العين، وسرعة ضربات القلب مما يقترن بالخطر المفاجئ، هذه التأثرات الجسمانية بأكملها تمثل جهود الطفل للنجاة من خطر يهدد حياته، ولو استطاع لقام وباعَدَ بكل ما في وسعه بينه وبين ما يهدده، فالخوف باختصار هو التأثيرات الجسمانية التي تصحب الهرب أو التي يُستعاض بها عنه، وبعبارة أخرى الخوف هو غريزة الهرب.

إنًّ ردود الفعل أو الاستجابات البسيطة قد دُرست دراسة وافية من قِبل علماء النفس في معامل الحضانة الخاصة بذلك قبل أن تبدأ عوامل العالم الخارجي في تأثيرها على جسم الطفل الرضيع وعقله البسيط، ولقد دلت البحوث التي أُجريت في مثل تلك المعامل الخاصة على أنًّ الطفل الذي حِيل بينه وبين مؤثرات العالم الخارجي التي يتعرض لها غيره من الأطفال، سواء أكان بسبب إهمال الأمهات أم بسبب عنايتهن، إنًّ مثل ذلك الطفل لا يُبدي شيئاً من أعراض الخوف في الظلام عند ملامسته لأي شيء كان، كما دلت بحوث أخرى على وجود شيئين يبعثان الخوف في الطفل بغضّ النظر عن العوامل الخارجية وهما الضوضاء العالية وزوال ما يستند إليه الطفل، فإذا ما اقترن شيء ما بأحد هذين المؤثرين الأوليين نتج عنه الخوف في كل المناسبات التالية إذا ما تكرر ذلك بالاقتران بضع مرات.

ويُطلق على حدوث الخوف هكذا بالترابط اسم”الردود الوجدانية الشرطية” وبشكل مبسط: ينطلق وينبعث انفعال الخوف الآن بشروط معينة ليس من الضروري أن تكون باعثة للخوف في أول الأمر، وبعبارة أخرى فالخوف من الكلب مثلاً هو الخوف من نباحه قبل أن يكون خوفاً من عضته.

الصوت العالي والخوف من السقوط، كلاهما مؤلم للطفل وغريزة المحافظة على النفس تُستثار في الطفل الذي يبذل بعض الجهد لإنقاذ نفسه. وبوجه عام نتوصل إلى أنَّ أي ألم أو حادث يعترض سبيل المحافظة على نفس الطفل يبعث الخوف لديه، ويستثير الحركات التي تقترن به، فالحركات الفجائية التي يقوم بها الطفل عندما يلامس أشياء تدب أو تزحف، أو تنطلق فجأة ليست حركات خوف في حد ذاتها، إنما هي حركات دفاعية لدرء الخطر أو الأذى المفاجئ، ويصحب هذا الخوف تلك الحركة لأنه ينبعث عن طريق الترابط أي باقتران حادثين لا يُشترط أن تكون بينهما علاقة، وإنما يتكرر حدوثهما سوياً، ومن المرغوب فيه أن تكون الارتباطات مفيدة في الحياة ومرغوباً فيها، بدلاً من أن تكون عائقاً لها.

على الوالدين أن يُكوِّنا من الارتباطات ما يريانه مفيداً ومرغوباً فيه، وأن يمنعا ما يعتبرانه غير ذلك، كثيراً ما نجد أنَّ الطفل يقبل الطعام من أمه، لكنه يرفضه من غيرها، كما نجده يندفع على شخص ما وترتعد فرائصه خوفاً إذا ما دُفع به إلى أحضان شخص أخر، وكثيرة هي الأشياء التي يخافها الأطفال لمجرد ارتباطها بأشياء أخرى. يخاف الطفل عندما يشعر بأنه مهمل، ويثور على من يقف حجر عثرة في طريق حبه وهذا أمر طبيعي للصغار والكبار على حدٍّ سواء، ولا يكون هناك شعور بالبغضاء في التربية الأخلاقية الأولى للطفل، وبالتأكيد لن يكون هناك شعور بالتسامح أيضاً، أي أنه تتكون في نفس الطفل قواعد بسيطة للمشاعر والانفعالات والأفعال بالنسبة للأشخاص الذين يراهم أخياراً أو أشراراً حسب الحالة.

وتدخل العقوبة حياة الطفل بأشكال مختلفة كلما كانت أعماله غير مرضية، فينتقل الخوف من العقاب ومن الشخص الذي يوقعه إلى الانفعالات والمشاعر المتأججة والمتقدة في نفسه لكنه لا يظهرها لعلمه بأنها محظورة، وبهذه الكيفية يتعود الطفل أن يخاف بعض نفسه، ويصبح خائفاً من هذه النفس.

في كتابه مشكلات الأطفال اليومية يقول مؤلفه الدكتور دجلاس توم :
“الخوف الذي يتصل بالتجارب الحقيقية في الطفولة، والذي لا بد منه للإبقاء على النفس وتوجيه السلوك وجهة يرضى عنها المجتمع، قد يكون أمراً ضرورياً، غير أنه مما يجب كل الوجوب ألاّ نسرف في إثارة هذه المخاوف، فإنَّ النوع النائي نفسه من الخوف إذا اتسع انتشاره أو زادت شدته أصبح عاملاً يُعجز نشاط الطفل ويعوقه”.

ويقول أيضاً:
” لا يجب كبت المواقف الانفعالية من أي نوع عند الأطفال، ومن الحكمة بعد أن يتعرض الطفل لإحدى التجارب المزعجة أن نشجعه على التحدث عنها كما يشاء، لأنه كلما تحدث عنها ظهرت له تلك التجربة أكثر ألفة وأقل غرابة”.

كما يقول في مجال آخر:
” يلعب التقليد دوراً هاماً في مخاوف الطفولة، فالأطفال لا يقلدون الكلام والأخلاق والآداب العامة لآبائهم فحسب، بل إن الموقف العقلي الذي يتخذه الطفل حيال أي موقف يغلب أن يكون موقفاً من المواقف التي رآها من أهله، فالأم التي تذعر ذعراً واضحاً من الحيوانات، أو الأماكن المظلمة، أو العواصف الهوجاء، والتي تنتفض ذعراً من الأصوات الحقيقية أو الوهمية يغلب أن تخلف هذه الميول في ولدها، لا عن طريق الوراثة، ولكن على شكل نموذج من السلوك يحاكيه الطفل محاكاة غريزية “.

إن العديد من أشكال الخوف ليست فطرية، إنما تُكتسب في سن مبكرة، وهي نافعة للطفل، ولازمة لحفظ الذات، وعامل هام في تكوين السلوك الذي يقبله المجتمع، ومن المحتمل والسهل أن يصير ويصبح الخوف فكرة طاغية متمكنة من عقل الطفل إن واظبنا على الإيحاء إليه بإمكان تعرضه للخطر.

وقد تكون المخاوف التي ذكرت ذات وجهين، فالطفل يخاف الظلام لأنه يعتبره من نوع الوحدة، يُترك فيها وحيداً بلا وقاية أو طمأنينة، وهو المكان الذي لا يرى فيه شيئاً، والذي يحتمل أن تجيء الأخطار فيه من كل الجهات، وهذا ما يسمى بالخوف من المجهول، لذلك نرى الطفل يصفر تصفيراً خفيفاً أثناء صعوده الدرج المظلم، أو يدق الأرض بقدميه ليحس بالطمأنينة والأنس من وقع أقدامه، وليطرد الخطر الكامن في الظلمة. وإذا أردنا أن نحول دون نشوء الخوف الذي هو من النوع هذا، وجب علينا أن نعوّد الطفل النوم وحده منذ البداية وقبول الظلام باعتباره حالة مقارنة للنوم الهادئ.

فالقصص الخيالية والخرافية عبارة عن الأشكال الجميلة التي يحاول بها الطفل التعبير عن آماله وشكوكه بالنسبة للراشدين المتصلين بحياته، وهي تشمل أغلب مخاوفه، فتجد فيها التنين والمردة، والوحوش التي تحولت إلى بشر. إن تلك القصص تغذي خيال الطفل لكنها لا تخلق له خيالاً، فالطفل يولّد القصص الخرافية بمحض طبيعته، وتنقية خيال الطفل من الأشياء المخيفة والمرعبة يتطلب العناية في تربيته منذ سنواته الأولى، وتعويده ضبط نفسه بوسائل غير شديدة الصرامة، تمنع نشوء ضمير قد يكون شبحاً مرعباً في حدِّ ذاته.

وخلاصة القول:
تنشأ مخاوف الأطفال بسبب ما يصادفونه في حياتهم من أخطاء في التربية، منها ما ترمي إلى حماية النفس وهي تنذر بالخطر، وتهيئ الطفل للفرار من الضرر، ومنها ما ينشأ عن احتكاك الطفل بالعالم الخارجي والمشرفين على نموه الخلقي، ذلك النمو الذي يتطلب خضوع السلوك لقواعد نظامية تؤدي إلى حياة اجتماعية منتظمة. فإذا جعلنا تنظيم السلوك كابوساً للطفل بالضغط عليه والحدّ من حرية دوافعه الطبيعية البدنية فلا بد أن نتوقع حدوث اضطرابات تأخذ شكل الثورة وضيق الخلق والخوف، هذا الخوف الذي ينشأ عندما يكون الطفل وجلاً من نفسه، مما يؤدي إلى انقسام شخصيته إلى قسمين: قسم طيب وآخر خبيث، ولا يلتئم هذان النوعان إلا بالنمو المنسجم ويكوّنان شيئاً جديداً هو الشخص المتزن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد