إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

افرحي يا مريم

0 1٬033

“إفرحي”: هكذا يبدأ الملاك حديثه مع مريم. لماذا يطلب منها بأن تفرح؟ وما هو سبب الفرح؟ نفرح ونبتهج في مناسبات مختلفة، بتحقيق إنجاز ما، بولادة طفل، بمأدبة تضم أصدقاء ومحبين، برحلة كنا ننتظرها. فدواعي الفرح كثيرة ومتعددة. لكن في اللغة نطلق كلمة فرح على البهجة التي تصاحب الارتباط والزواج. فما هو سبب الفرح؟ ما الداعي لكل هذه البهجة وما يصاحبها من رقص وسعادة؟

الفرح هي مشاعر فياضة بالرضا والسعادة التي تنشأ عندما يشعر الإنسان بأنه محبوب ومقبول ومُقَّدر من الآخرين. هي أول كلمة أعلنها الأنبياء المبشِّرون بالمخلّص الصارخون أمامه معلنين مجيئه: “إبتهجي جداً يا بنت صهيون واهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملككِ آتياً إليك” (زك٩/٩). إنها الكلمة الاولى التي يوجّهها الله الى العالم، يوجّهها إلى مريم في اليوم الذي أتى فيه لهذا العالم. فالفرح هو علامة حضور الملكوت، علامة افتقاد الله لشعبه. علامة رجاء بأن الله قد افتقد شعبه: “قلت لكم هذا ليدوم فرحي ويكون فيكم فرحي كاملا”. الفرح إذن هو شعور يغمر قلب الإنسان بالسلام والرضا والسعادة لكونه محبوب، كونه مهم، كون إن هناك من يريد له الخير، نشعر إنها ليس عدد من البشر، ولكن أشخاص لهم كرامة وتقدير فريد ومحبة خاصة لا تتكرر مع شخص أخر. هكذا تشعر العروس بالفرح يوم زفافها لأن هناك من يحبها، من اختارها دون البقية الباقية من الفتيات، من فضلها، من رغب فيها وحدها كونها فريدة، مختلفة، مميزة، هي وحدها التي يرغب في أن يشاركها مسيرة الحياة. كذلك يفرح العريس بأن هناك من اختارته وقبلت دعوته وسط دعوات كثيرة، فهي تحبه هو، وتختاره وحده.ْ

إفرحي يا مريم، هكذا يطلب الملاك من الفتاة ذات السادسة عشر ربيعًا. يطلب أن تفرح وتبتهج لأن الملك أتٍ إليها، اختارها دون النساء، ليكون معها. من المؤكّد ان مريم تتهلل فرحاً طيلة حياتها. لكن الفرح وإن أليماً فهو لا يفارق حشاها. والفرح المتجذّر في الإيمان بأن الله يخلّص، أن الله حاضر هنا، هذا الفرح هو مُقدّمٌ لنا في كل زمان: عندما أستيقظ كل صباح يكون خلاص الله قد سبقني ليستقبلني. لذلك عليّ أن أندهش لكل يومٍ جديد، لأن الله أتى ليخلّصني ويخلّص العالم. من الصحيح انني لا أستطيع ذلك إنسانياً، لكن الروح القدس يستطيع ذلك فيّ: “إن ثمر الروح القدس هو الفرح والحرية” (غل٥/٢٢).

“يا ممتئلة نعمة”: ان الكملة الثانية من سلام الملاك وهي تفسر لنا سبب دعوته لمريم بالفرح. فهي ممتئلة نعمة. هي كآدم وحواء الذين خلقا في النعمة، بمعنى إنه نالا نعمة الحياة الإلهية في لحظة خلقهما، دعيا إلى حياة الله، حياة الكمال، كان لديهما في نفسيهما ما يفوق الطبيعة، بمعنى إنه كان لديهما المبدأ الإلهي الذي من الروح القدس في نظام السعادة الفائقة الطبيعة. هي كيوحنا المعمدان الذي نال هذه النعمة وهو بعد في بطن أمه، لكنه لم يُحبل به بلا دنس فقد كان حيًا قبل أن تأتيه هذه النعمة وتقدسه، أما مريم فمنذ اللحظة الأولى لحياتها. عندما جاءها الملاك ليبشرها بالحبل الإلهي كانت بالفعل: “ممتلئة نعمة” ومُهيأة كما يليق لاستقبال ابن الله في حشاها.

هي نعمة لا تنزع منها أبدًا. ان هبات الله لا رجعة فيها، فحياتنا المسيحيّة تتحجّر غالباً لأننا نقول: لقد أعطاني الله هذه النعمة، ولم أتجاوب معها، فمن المؤكّد أنه استعادها منّي. في قلب إخفاقاتنا البشرية يحفظ الله عهده ويبقى أميناً لأنه: “لا يمكن أن ينكر نفسه” (٢ طيم ٢/١٣). ان الله لا يستعيد هباته أبداً فهو يتابع ببساطة بحثه عن الحب أيّا كانت طرقنا. فما أعطاناه في حينه يستمر في عرضه علينا اليوم عبر طريق أخر.

لم تكن مريم حذرة ولم تقل: إلامَ سيقودني كل ذلك؟ لقد قالت مريم نعم بالحريّة التامة وبثقة الطفل وبساطته. لم تتهرّب ولم تتكلّف طويلاً أمام الملاك، لم تلتمس أعذاراً باطلة كزكريا “أنا شيخ كبير، وامراتي طاعنة في السن”. ولم تخف كبطرس الرسول أمام الصيد العجيب: “إبتعد عنّي يا رب، فإنني رجل خاطئ”. مريم لم تفعل كل ذلك طيلة حياتها، بل ظلّت منذ البشارة وحتى النهاية، تردّد “نَعمَا” فتطيع وتسير في ليل الإيمان والمحن، إيمان يتجدّد ويكبر وينضج ويتفتّح عبر الصراعات والتجارب والالام.

أيمكننا القول أن مريم كانت مبرمجة ولم تكن حرّة؟ فنحن نلامس هنا نقطة رئيسة لكذبةِ كذاب العالم الحديث. فأكبر أكاذيب إبليس في عالمنا اليوم هي أن يوهمنا بأننا إذا ما استسلمنا لحبّ الله لِقَدرِ النعمة والرحمة المعدّ لنا فلن نكون أحراراً. فأين تتجذر الحرية المسيحيّة إذاً في النعمة أم في الخطيئة؟ وهل نكون أكثر حريّة عندما نكون خطأة أم عندما نكون في حال النعمة؟ إن بولس الرسول يعلن لنا في رسالته: “حيث يكون روح الرب تكون الحرية” (٢كو٣/١٧). هذه هي حرية مريم وهي المخلوقة الأكثر حرية بين بني البشر.

لقد أُعطينا الحريّة لنجيب الله بفرح وحب: “نعم” وأن نكون أحراراً يعني أن نستطيع قول نعم بكل حريّة لخلاص الله لا بخضوع شرعوي، إنما بدافع الحب.

ان مسيرة حياتنا اليوميّة لا تُبنى دائماً على القبول ولا على الرفض، بل للقبول مكان وللرفض مكان آخر. أما في مسيرة حياتنا مع الله فلم يعد هناك مكان للرفض بل للقبول أي “للنعم”. إن الله لا نخترعه بل نتقبّله. هذا لا يعني الإستسلام بل التسليم، أي أن أقبل بأن أضع حياتي بكل حريّة وإرادة بين يدي الله، لأنه ليس فقط محبّة، بل كامل الرحمة. فبقدر ما أصغي لكلمة الله وأقبلها بفرح، عنئذٍ أصبح مقراً لعمل الله الخفي. فتتلاشى في كياني مساحات الموت والخطيئة والخوف، فيتحقّق فيّ الخلاص كما في مريم ومن ثمّ الى جميع البشر.

قد يعجبك ايضا
اترك رد