إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

العظة على الجبل 3

0 1٬112

كيف تُّحب من أساء إليك؟!

مت ٥/ ٤٣- ٤٨: «سَمِعتُم أَنَّه قِيل: «أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك». أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم، لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار. فإِن أَحْبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم، فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟ أَوَلَيسَ الجُباةُ يفعَلونَ ذلك؟ وإِن سلَّمتُم على إِخواِنكم وَحدَهم، فأَيَّ زِيادةٍ فعَلتُم؟ أَوَلَيسَ الوَثَنِيُّونَ يَفعَلونَ ذلك؟ فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل.

روي اليسوعي أنطونيو دي ميلليو قصة معبرة عن رجل اكتشف مصادفة النار عند احتكاك أغصان الشجر الجافة، فسعد بإكتشافه وذهب سريعا إلى كبار قبيلته وعرض عليهم أكتشافه المدهش، فلم تكن النار معروفة وقتئذ. استولى الدهش على جميع أفراد قبيلته من هذا الاكتشاف وعرفوا سريعا فوائده، فيمكنهم تدفئة أكواخهم الباردة، واستخدموها سريعا في طبخ مأكولاتهم، كان بحق اكتشافا غير حياتهم تماما. أرادوا مكافأة ذلك الرجل، فقرروا تنصيبه ملكاً عليهم، لكن الرجل لم يبحث يوما عن منصب، وكان يشعرإنه رحالة تكمن سعادته في التجوال في الأرض الواسعة، فغادر أرض قبيلته ليلاً حاملاً معه عصاه التي بها يُشعل النار. سار طويلاُ باتجاه الشمال حتى وصل إلى أرض تسكنها قبيلة أخرى. سرعان ما عرض أكتشافه المذهل لرجال القبيلة، خاصة مع السقيع الذي كان يكتنف المكان. حدث ذات الأمر واكشفت القبيلة فوائد النار، وفكروا في تكريم ذلك الوافد الجديد القادر على صنع المعجزات بتنصيبه ملكاً عليهم. شعر كهنة القبيلة الذين ينظمون عبادة الشمس نهارا إن هذا الرجل خطر على عقيدتهم ففكروا في التخلص منه فلا تضيع هيبتهم بين أفراد القبيلة. وسط الآراء المختلفة لأفضل وسيلة للتخلص منه، كالقتل والرجم والصلب وغيرها، أنبرى أكبر الكهنة سناً قائلا: “لماذا نحمل عبء دمه على روؤسنا، يمكنا التخلص من تأثيره على القبيلة”. سألوه: “أنت لا ترى أن كل القبيلة تعده صانع للمعجزات”. رد العجوز قائلاً: “فقط نأخذ منه العصى التي يشعل بها النار ونضعها أمام المذبح أعلى الجبل ونطلب من الجميع أن يقدمون الذبائح والصلوات المختلفة أمام هذا الاختراع العجيب الذي أرسلته الآلهه لنا، وبهذا نسلبه الأداة التي يتسخدمها في التأثير عن الناس”. استحسنوا رأي العجوز، وأخذوا العصي وأعلنوا إنها أدوات مقدسة أرسلتها الآلهة لنا، وتم وضعها على المذبح. يوميا دأب أفراد القبيلة على تقديم واجب الإكرام والتقديس للعصي التي على المذبح وتقديم الذبائح المطلوبة مع رفع الصلوات الواجبة، لكن لم يعد أحد يستخدمها في اشعال النار، وبقيت القبيلة كما هي تعاني من البرد الشديد ولم تستفد أبدا من هذا الاختراع العجيب.

تجسد الرب يسوع على الأرض ليشعل نار المحبة: “جئت لألقي ناراً على الأرض، وكم أتمنى أن تكون قد أشتعلت!” (لو ١٢: ٤٩). أين نار المحبة التي أشعلها الرب يسوع، فلم يعطينا الربُّ وصايا جديدة، أعطانا وصيةً واحدةً فقط: “وصية جديدة أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم أنا” (يو ١٣: ٣٤). وعندما سأله أحد الكتبة عن أعظم الوصايا في مر ١٢: ٢٨-٣٠: قال: أسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد. فأحبب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولي. الثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. ليس وصية أعظم من هاتين”.

لم يفعل المسيح شيئاً في حياته على الأرض سوي أن يُّحب الآخرين. أظهر محبته للعشارين، والزواني، والخطاة. أحب خاصته اللذين في العالم حتى بذل ذاته على الصليب من أجلهم. لكن تلاميذ المسيح اليوم هل يعيشون مثلما عاش وعلم. أما حول ذلك الاختراع العجيب إلى مجموعة من الطقوس والألحان ولم يعملوا به.

كانت الشريعة وقتئذ تحدد لقضاة اسرائيل قانون المعاملة بالمثل لتحقيق العدالة وتحديد نوع العقوبة التي يستحقها فاعل الشر: “إذا وقع ضرر فعين بعين، وسن بسن، ويد بيد، ورجل برجل، وكيا بكي، وجرحا بجرح، ورض برض” (خر ٢١: ٢٢- ٢٥). ولهذا الشريعة تأثيرا مزدوج: إنها تحقق العدالة وتُّحد من الانتقام. إلا أن الكتبة والفريسيين مدوا الشريعة التي يطبقها القضاة لتشمل العلاقات الشخصية واستخدموها لتبرير الانتقام الفردي. لم ينقض المسيح مبدأ العين بالعين لأنه مبدأ العدالة لكنه أكد إنه لا ينطبق على علاقاتنا الشخصية التي ينبغي أن تبنى على الحب. فواجبنا تجاه الذين يخطئون إلينا ليس الانتقام والثأر بل قبول الظلم بدون انتقام “لا تقاوموا الشر”.

أن نغلب الشر بالخير وبالمحبة. كان مجمل تعاليمه في ضرورة التخلص من كل أنواع الانتقام، سواء بالكلام أو بالفعل فنتطهر من كل مرارة في نفوسنا، ولا نسعى للانتقام الشخصي. قدم لنا هو نفسه مثلا في ضبط النفس وفي محبة الآخرين: “بذلت ظهري للضاربين ووجهي لم أستر عن العار والبصق وخدي للناتفين” (اش ٥٠: ٦).

يؤكد الرب يسوع في مرقص ١٢: ٣٣ أن ” محبة الله من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس، ومن كل القدرة، ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح”. فالله لا يقبل الذبيحة متى كانت هناك مرارة في النفس وهناك شهوة الانتقام مم ن أساء إليك. فالذبيحة تكون بقلب نقي تجاه الله والقريب.

في عاموس يوبخ الرب الإله الشعب قائلا: “أبغضت أعيادكم ورفضتها، ولا أرتاح لاحتفالاتكم، إذا أصعدتم لي محرقات وتقدماتكم لا أرضي بها، ولا أنظر إلى ذبائح السلامة من عجولكم المسمنة” (عا ٥: ٢١-٢٢). هذا الموقف المتشدد من الله سببه أن الشعب كان يدوس حق الفقير ويأخذوا منه ضريبة القمح. لهذا عَّلمَ الرب يسوع بأن المحبة أفضل من الذبيحة. فإذا قدمت ذبيحة على المذبح وتذكرت أن لأخوك عليك شيء فأترك قربانك على المذبح واذهب وصالح اخاك.

فسر الفريسيين الوصية التي وردت في لاويين ١٩: “لا تبغض أخاك في قلبك.. لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل تحب قريبك كنفسك”، إن المقصود هو شعب إسرائيل فقط لكن غير مقصود بها الآخرين. فالعدو ليس قريبا لي لأحبه. حرفوا الوصية التي أوصي بها إلى موسي: “تكون شريعة واحدة لمولود الأرض والنزيل النازل بينكم” (خر ١٢: ٤٩). أدان الرب يسوع إضافة عبارة “تبغض عدوك”، فقال أما أنا فأقول لكم: “أحبوا أعدائكم” لان القريب، كما شرح في مثل السامري الصالح في (لو ١٠: ٢٩- ٣٧) ليس بالضرورة أحد أبناء جنسي أو ديني، بل كل إنسان. علينا أن نحب الجميع محبة عملية مضحية متواضعة. يبحت أعداؤنا عما يضرنا، لكننا يجب ان نعمل ما هو صالح لهم، فهكذا عاملنا الله، لأنه ونحن أعداء مات المسيح لأجلنا ليصالحنا مع الله (رو ٥: ١٠).

الأعداء يبتهلون لتقع المصائب على رؤوسنا، ونحن يجب أن نطلب بركات السماء عليهم. يجب أن نصلي لهم، وهي قمة المحبة المسيحية. لأنه من المستحيل أن تصلي لشخص دون أن تحبه، ومن المستحيل أن تستمر في الصلاة لأجله بدون أن تكتشف أن محبتك له تنمو وتنضج. فالمسيح صلي لأجل معذبيه طول فترة الصلب.

ينقلنا الرب يسوع في هذه الوصية الجديدة من عدم مقابلة الشر بالشر إلى المحبة الإيجابية العاملة، كما كتب القديس أغسطينوس: “تعلم كثيرون أن يحولوا الخد الآخر لمن لطموهم، لكنهم لم يتعلموا أن يحبوا الذين لطموهم”. وكما يقول “ألفريد بلامر”: “مجازاة الخير بالشر عمل شيطاني، ومجازاة الخير بالخير عمل إنساني، أما مجازاة الشر بالخير فهو عمل إلهي”.

كل أشكال المحبة المتعارف عليها بين البشر، بالرغم من سموها وعظمتها ليست محبة خالصة، لأن شوائب الأنانية تشوبها. فقط محبة الأعداء التي يمكن اعتبارها خالصة تماما لأنها لا تشوبها أية أنانية. هي أصعب أشكال المحبة ولايمكنا بلوغها دون نعمة خاصة من الله. فإن كنا نحب الذين يحبوننا فقط، فلسنا افضل الناس، فلا نفعل شيء فوق العادة، لأن جميع البشر يحبون من يحبونهم. لكونك مسيحي فأنت غير عادي، أنت على مثال إلهك قادر بنعمته وحده أن تُّحب من أساء إليك: “كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل”.

قد يعجبك ايضا
اترك رد